وردةٌ لا تذبل :: ( قصة قصيرة )
:: وردةٌ لا تذبل :: ( قصة قصيرة )
محمد مصطفى عبد المجيد ( أبو الفرج )
إهداء إلى زوجتي ..
ونحن بعدُ في أول الطريق ..
وردةٌ لا تذبل
( قصة قصيرة )
انتهت من قصِّ حكاية قبل النوم على مسامع ( وفاء ) الصغيرة ذات الخمس سنوات ، والتي تزامن نومُها مع نهاية القصة بعد أن أخذت تدافع النوم الذي كان يداعب جفنيها أثناء سماع القصة ، وكأنه يريد أن يحرمها من سماع انتصار البطل في نهاية القصة .
بسمة ارتسمت على شفتي أمها .. أخذت تملأ عينيها بمشهد البراءة النائمة ، وكأنها ترتوي بالنظر إلى فلذة كبدها وأنيستها في هذا المنزل .. هذا المنزل الذي لا تعرف جدرانه منذ سنوات إلا ( وفاء ) وأمها ..
قامت بهدوء سائرة على أطراف قدميها إلى باب الحجرة .. التفتت لتلقي نظرة على أميرتها الصغيرة النائمة ..
مرَّ بخاطرها ..
بسمته تداعب مخيلتها كأنها حلم جميل ..
نظراته الحانية .. كلماته الرقيقة ..
تذكرت يوم أن كان يحتضن يديها بين يديه و .. ويحلم ..
نعم .. يحلم معها ..
يقرآن القرآن سويًّا .. تحوطهما الملائكة فرحين بهما ..
فرغ من قراءته .. التفت إليها وقال : أريد أن أحيا بالقرآن يا شريكة العمر .. أتعينيني ؟
نظرت إليه وقالت : معك إن شاء الله .. أعاهدك أن نحيا ونموت لله ..
خرجت من حجرة ( وفاء ) الصغيرة متجهة إلى غرفة المعيشة .. فتحت أحد الأدراج وأخرجت منه كتابًا قديمًا .. ألقت جسدها الذي أنهكته الأحزان والآلام على أقرب مقعد لها .
فتحت أولى صفحات الكتاب .. قرأت أول إهداء كتبه لها بخطه :
إهداء إلى زوجتي الحبيبة .....
- جئتُ لكِ بهذا الكتاب ، أعطيني قلمًا لأكتب لك إهداءً ..
تناولت من يديه وردة رقيقة ، وأمسكت الكتاب وطالعت عنوانه .. فتحت حقيبتها باحثة عن قلم .
فتح الصفحة الأولى .. أمسك القلم ..
إهداء إلى زوجتي الحبيبة
لا يلزم أن يكون طريق السعادة مفروشًا بالورود ..
ولكن قد تعتريه بعض الأشواك
زوجك
ناولها الكتاب .. تعلقت عيناها بتلك الجملة التي ذيل بها إهداءه .. ورود وأشواك ! .. بدت على وجهها الحيرة ..
نظر إليها قائلًا :
كثير من الناس يظن أن طريق السعادة طريق رحب واسع مفروش بالورود ، فإذا وقع به بلاء في هذا الطريق ظن أنه قد ضل الطريق .. بل قد يظن أنه سار منذ البداية في الطريق الخاطئ .. ولم يدرك هؤلاء أن طريق السعادة به أشواك .. بل كثير من الأشواك ..
سكت قليلًا ونظر إليها .. ما زالت عيناها متعلقتين بتلك الكلمات .. رفعت عينيها لتلتقي بعينيه .. أردف قائلًا :
الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر .. هكذا قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .. وبالرغم من أنها سجن ـ عزيزتي ـ إلا أن المؤمن سعيد بربه عز وجل .. ويجب أن يعلم أن طريق الحق هو طريق السعادة ، ولو مر بالشوك وآذاه .. فهو يمر على الشوك في سعادة .. ومن أشد ما يسعد المرء أن يجد مؤازرًا له في هذا الطريق يشد من أزره ويدفعه للأمام .. فهلَّا كنتِ ؟
نظرت إليه وعبرة تترقرق في عينيها .. حاولت أن تمنعها لكنها أبت إلا أن تجري على وجنتيها ..
كانت المرة الأولى التي تسمع منه هذه الكلمات .. كان دائمًا يحدثها عن سعادة الورود ، ولم يحدثها من قبل عن سعادة الشوك ..
حبيبتي .. إن من لوازم الحب في هذا الطريق ألا يستسلم أي من الطرفين .. وإن اشتد الألم من الأشواك .. وألا يدفعه طول الطريق وقسوته إلى أن يتخلى عن رفيق دربه .. وهذا عين الوفاء ..
نحن على طريق بلاء وامتحان .. ألم يُبتلَ الأنبياء والمرسلين ؟ فكيف لا يُبتلى أتباعهم ممن ورثوا عنهم وظيفتهم وهي دعوة الخلق وتعبيد الناس لربهم ؟
انظري إلى الوردة التي بيدك .. كم هي جميلة ورقيقة .. ولكنها ستذبل يومًا ما .. أما الوفاء ـ حبيبتي ـ فهو الوردة التي لا تذبل .. مهما كان البلاء ومهما كانت الشدة يبقى الوفاء زاهيًا لا يذبل بحال ..
هلَّا كنتِ ؟
الدنيا منغَّصة .. وأَنَّى لحياة الورد أن تستمر .. سرعان ما أدمته الأشواك لأنه قال ربي الله وقال للناس اعبدوا ربكم ..
نظر إليها ، ونطقت عيناه : ها هو الشوك يا رفيقة الدرب .. فهل أنتِ على وعدك ؟
لملمت حروفها المبعثرة .. خرجت منها كلماتها المرتجفة :
أنتظرك .. وأنا على العهد ..
كانت آخر كلمات سمعها منها ، ثم كابد ظلمات سجون الدنيا ، بينما كان جنينٌ يتحرك في ظلمات أحشائها ..
مرت عليها الأيام .. وضعت وليدتها الصغيرة التي لم يشأ الله لأبيها أن يحملها بين يديه عند ولادتها ..
سمَّتها ( وفاء ) ..
مرت الأيام .. الشهور .. السنون ..
كبرت ( وفاء ) أمام عينيها يومًا بعد يوم ..
تُلقي على مسامعها قصص البطولة عن أسلاف أبيها الذين باعوا الفانية بالباقية ..
وتُترع فؤادها بالقرآن الذي عاهدت من قبلُ أن يكون نبراسها الذي تحيا وتموت عليه ..
أخذ الشيب يدب في رأسها يومًا بعد يومٍ ..
ذبلت الورود التي أهداها لها في بداية طريقهم ..
وبدأت أيضًا زهرة شبابها في الذبول ..
بينما ظل الوفاءُ في قلبها وردةً لا تذبل ..