كتاب البيع وسائر المعاملات - بن جبرين - شرح كتاب بن حنبل
أخصر المختصرات في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل
شرح الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين
كتاب البيع وسائر المعاملات
مواضيع :
1/ شروط البيع
2 / أقسام الخيار
3 / ربا الفضل
4 / ربا النسيئة
5 / بيع الأصول وبيع الثمار
البيع
شروط البيع
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: كتاب البيع وسائر المعاملات
ينعقد بمعاطاة وبإيجاب وقبول بسبعة شروط: ـ
الرضا منهما، وكون عاقد جائز التصرف، وكون مبيع مالا، وهو ما فيه منفعة مباحة، وكونه مملوكا لبائعه، أو مأذونا له فيه، وكونه مقدورا على تسليمه، وكونه معلوما لهما برؤية أو صفة تكفي في السلم، وكون ثمن معلوما، فلا يصح بما ينقطع به السعر.
وإن باع مشاعا بينه وبين غيره، أو عبده وعبد غيره بغير إذن، أو عبدا وحرا، أو خلّا وخمرا صفقة واحدة صحَّ في نصيبه وعبده، والخل بقسطه، ولمشترٍ الخيار.
ولا يصح بلا حاجة بيع ولا شراء ممن تلزمه الجمعة بعد ندائها الثاني، وتصح سائر العقود، ولا بيع عصير أو عنب لمتخذه خمرا، ولا سلاح في فتنة، ولا عبد مسلم لكافر لا يعتق عليه.
وحرم ولم يصح بيعه على بيع أخيه، وشراؤه على شرائه، وسومه على سومه.
فصل: والشروط في البيع ضربان:
صحيح: كشرط رهن وضامن وتأجيل ثمن، وكشرط بائع نفعا معلوما في مبيع كسكنى الدار شهرا، أو مشتر نفع بائع كحمل حطب أو تكسيره، وإن جمع بين الشرطين بطل البيع.
وفاسد: يبطله، كشرط عقد آخر من قرضٍ وغيره، أو ما يعلق البيع كبعتك إن جئتني بكذا، أو رضي زيد.
وفاسد: لا يبطله كشرط أن لا خسارة، أو متى نفق، وإلا رده ونحو ذلك.
وإن شرط البراءة من كل عيب مجهول لم يبرأ.
--------------------------------------------------------------------------------
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
نعرف أن علماء هذه الأمة اعتنوا بالعلوم الشرعية، وَأَوْلَوْها اهتمامهم، وبيَّنوا أن الشرع الشريف شامل لكل ما يحتاج إليه من أمور الدين، ومن أمور الدنيا، وأنه ليس خاصًّا بالعبادات، بل يدخل في ذلك المعاملات، ويدخل في ذلك العقود، ويدخل في ذلك الجنايات، وما أشبهها، فليس هناك شيء يحتاج إليه إلا والشرع الشريف قد بينه ووضحه.
ثم إن الأولين كانوا يجمعون علم العقائد مع علم الأحكام؛ وذلك لأن العقائد تعتبر هي أساس علم العبادات، ولا تصح العبادات إلا إذا صحَّت العقائد التي هي التوحيد الكوني، والتوحيد العلمي، كما فعل البخاري حيث قدَّم كتاب العلم، وكتاب الإيمان قبل كتاب الأحكام، الطهارة وما بعدها، وكذلك فعل مسلم حيث قدَّم كتاب الإيمان، وكذلك ابن ماجه حيث قدَّم أيضا كتاب الاعتقاد، أو الإيمان.
ثم إن كثيرا من العلماء أفردوا كتاب العقائد والتوحيد، وجعلوه بكتب خاصة؛ وذلك لأهميته؛ ولأنه يخرج الخلافُ فيه من الملة؛ فألَّفوا فيه مؤلفات خاصة مثل: كتاب "السنة" للإمام أحمد، و"السنة" لابنه عبد الله، و"التوحيد" لابن خزيمة، و"التوحيد" لابن منده، و"السنة" لابن أبي عاصم، و"السنة" للخلال، و"الإيمان" لابن أبي شيبة، و"الإيمان" لأبي عبيد القاسم بن سلام، و"الإيمان" لابن منده، و"الشريعة" للآجري وأشباهها.
ولما أنهم أخرجوا كتب العقائد بقي من الشريعة نوعان: نوع سموه "الأحكام" ونوع سموه "الآداب" فأما الآداب فإنها: آداب المسلم في إسلامه، فيما يتعامل به مع إخوانه، وفيما يتعامل به مع جيرانه، وما أشبه ذلك.
وهذا النوع مستحسن عقلا، ووارد شرعا، ومع ذلك فإن أهل الجاهلية كانوا يحبذون العمل به، يمدحون أهله؛ لذلك أخرج هذا النوع في مؤلفات خاصة مثل: "الأدب المفرد" للإمام البخاري، و"الآداب" للبيهقي، و"أدب الدنيا والدين" للماوردي، و"الآداب الشرعية" لابن مفلح وما أشبهها، يتكلمون فيها عن الفضائل كالصدق، يعني: آداب الأخلاق، وحسن الخلق، وما يتصل به، وأضداد ذلك، ذم الكذب، وذم سوء الخلق، وكذلك مدح الكرم، وذم البخل، ومدح الأمانة، وذم الخيانة، وما أشبه ذلك، فمنه ما يكون معتمده الأحاديث كما فعل النووي في "رياض الصالحين" وكذلك المنذري في "الترغيب والترهيب" ومنه ما يتعدى إلى الآثار والأشعار وما أشبهها، كما فعل ابن حبان في "روضة العقلاء" وكل هذا لا شك أنه علم مفيد، وأن التأدب به يفيد مَن تعلمه، وتخلق به، ولكنه لا يضلل به، ولا يخرج من الملة، وإن كان يمدح به في التزكية، ويقدح ضده في العدالة، وترد به الشهادة، وما أشبه ذلك.
فجعلوا هذا العلم خاصا، وفيه مؤلفات خاصة، وأدرجه بعضهم في المؤلفات العامة، فالبخاري جعل في كتابه (صحيحه) "كتاب الأدب" وكذلك مسلم، وكذلك أبو داود، والترمذي، ونحوهم، وأُفْرِد هذا النوع بكتب خاصة، وما ذاك إلا لأهميته، ولاختلاف الآراء فيه، وما بقي إلا الأحكام التي يتعلق بها حُكْمٌ مِن صحة أو فساد، وسموا هذا الاسم بـ "علم الأحكام" أو بـ "علم الفقه" وهو ما أُلِّف فيه في المذاهب الأربعة وغيرها، وأكثر العلماء من التأليف فيه في كل مذهب، وفي المذهب الحنبلي أول من ألف فيه الأبواب "الخرقي" صاحب المختصر، وقبله الذين يؤلفون يعتمدون على أشياء خاصة، كالذين كتبوا في مسائل الإمام أحمد، حيث قسموها أو بوبوها، ولكنهم أضافوا إلى الأحكام غيرها.
ولما كتبوا في هذا النوع الذي هو علم الأحكام الفقهية قسموه إلى أربعة أقسام: قسم العبادات، وقسم المعاملات، وقسم المعاقدات، وقسم الجنايات، وبدءوا بقسم العبادات؛ لأنها حق الله على العبيد؛ ولأن منها ما هو فرض عين؛ ولأنها حق الله تعالى فلا بد من معرفته.
ثم إنهم قسَّموها إلى أربعة أقسام على ترتيب أركان الإسلام، فبدءوا بالصلاة، ثم الزكاة، ثم الصيام، ثم الحج، هذا هو ترتيب أكثرهم، وأضاف كثير منهم الجهاد، وجعلوه ركنا سادسا كما فعل ابن قدامة في "المقنع" ومن تبعه من بعده، فرتبوها على ترتيب هذه أركان الإسلام، بدءوا بالصلاة إلا أنهم قدموا شرطها عليها، وهو الطهارة؛ لأن الشرط يتقدم المشروط، وانتهوا من الصلاة وما يتعلق بها، ألحقوا بها أيضا الجنائز؛ لأن أهم ما يُعمل في الجنائز الصلاة على الميت، فألحقوها بالصلاة.
وبعد ذلك ذكروا الزكاة؛ لأنها قرينة الصلاة بكتاب الله، وبعد ذلك ذكروا الصيام، فإنه الذي جاء في الأركان بعد الصلاة، والزكاة؛ ولأنه فرض عين على مَن كُلِّف، وبعد الانتهاء منه ذكروا كتاب الحج؛ وذلك لأنه من أركان الإسلام، وأخروه؛ لأنه لا يجب إلا في العمر مرة واحدة، ولا يجب إلا على المستطيع، وبعد ذلك ذكروا الجهاد؛ لأن الصحيح أنه من فروض الكفاية، وإن كان قد يصل إلى فرض العين في بعض الأحوال، ولما انتهوا من كتاب العبادات وقسمها بدءوا في المعاملات؛ وذلك لأنه أهم شيء يحتاجه الإنسان في حياته تحصيل القوت والغذاء الذي به قوام حياته، ومعلوم أن الإنسان لا بد له من غذاء يتقوَّت به، وهو الأكل والشراب والكسوة ونحوها، وذلك يتوقف على تحصيل المال والكسب.
وقد عُرِف أن أنواع الكسب كثيرة، المكاسب التي يكتسب منها المال فمنها: الحِرَف اليدوية كالصناعات من حِدادة، ونجارة، ونساجة، وحجامة، وهي فئة، ومثلها أيضا الصناعات الحديثة، وصناعات الأدوات والمكائن، وما أشبهها، وما تحتاج إليه من هندسة ونحو ذلك، فهذه من أنواع المكاسب التي ينشغل بها خلق كثير، ومنها أيضا الحرف اليدوية مثل: البناء والحفر، والغرس، والتكسب بمثل ذلك كخياطة وغسيل وما أشبه ذلك، هذه أيضا من المكاسب التي يتكسب بها.
وكذلك أيضا تربية المواشي وتغذيتها، والتكسب من ورائها، وكذلك غرس الأشجار واستثمارها، والتكسب من ثمارها أكلا وتجارة وما أشبه ذلك، وكل هذه تعرف بالتجربة، ويحتاج في معرفتها إلى تعلم مبادئها، وليس لها أحكام من الأحكام التي يُعرف بها حل أو حرمة إلا الأشياء العامة من تحريم الغش فيها والخيانة والمخادعة وخلف الوعد، وما أشبه ذلك.
لكن أهم شيء في المعاملة هو البيع والتجارة؛ فلذلك اعتنوا بهذا النوع الذي هو قسم التجارة، فابن ماجه في سننه قال: "كتاب التجارات" والبخاري قال: "كتاب البيوع" وكذلك مالك وأبو داود ومسلم وغيرهم قالوا: "كتاب البيوع" وبعضهم قال: "كتاب البيع" وسبب تخصيصهم واعتنائهم بالبيع أن فيه مخالفات، وفيه شروط، وفيه أخطاء كثيرة، وتدخل الشرع في أموره فأحلَّ أشياء، وحرَّم أشياء، ففيه أنواع الربا، وفيه النهي عن الغرر، وما أشبه ذلك.
ولا شك أن هذا من أهم الأمور التي يحتاج إليها، أي: من الأمور المهمة في هذه الحياة، ولا شك أن الكسب الحلال له تأثير في الغذاء، وتأثير في حفظ الحياة الطيبة، وأن الكسب الحرام له أيضا تأثير في العبادت، والمعاملات؛ ولذلك ورد في حديث: لا يدخل الجنة لحم نبت على سحت وفي رواية: كل لحم - أو كل جسد- نبت على سحت فالنار أولى به والسحت هو الحرام الذي ذم الله اليهود به، قال تعالى: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ أي: للحرام، وقال تعالى: وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وفسر أكلهم هذا بقوله في آية أخرى: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ فإن هذا من السحت.
وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن أكل الحرام سببٌ لرد الدعاء في قوله: إن الله طيِّبٌ لا يقبل إلا طيِّبا، ثم ذكر الرجل يطيل السَّفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام؛ فأنى يُستجاب له؟*! يعني: أنه لما تغذى بالحرام رد الدعاء منه مع ذكر الأسباب الكثيرة التي تكون سببا في إجابة الدعاء؛ فلذلك يتأكد على المسلم أن يبتعد عن أكل الحرام، وأن يحرص على أكل الحلال، ولا شك أن له تأثير عجيب في إجابة الدعاء.
ذكروا قبل نحو سبعين أو ثمانين سنة أن رجلا في بعض القرى القريبة كان مُستجاب الدعوة، يأتي إليه المريض، فينفث عليه؛ فيشفى بإذن الله، ويدعو له، فيستجاب دعاؤه، ثم إنه استُحْضِر إلى هذه البلاد، وقيل: إنه يتعاطى سحرا أو نحو ذلك، فلما اختبر أخبر بأنه لا يأكل إلا حلالا، وأن والده خلَّف له بستانا من كسب يده، وأوصاه بألا يأكل إلا منه، وأنه توقف عليه، فهو ينفق عليه بجزءٍ منه، ويتغذى بجزء منه، ويبيع بيعا صحيحا بعضه، ويشتري بما يبيعه منه حاجاته الأخرى الضرورية.
ويشهد لذلك أيضا حديث في صحيح البخاري، حكى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن رجلا رأى سحابة، وسمع صوتا فيها يقول: اسق حديقة فلان يقول: ثم إن تلك السحابة تقدمت قليلا، وأمطرت في شعب، فتبع سيله حتى وصل إلى حديقة، وفيها رجل يصلح الماء، فسأله فإذا هو ذلك الرجل الذي سُمِع اسمه من السحابة، وأخبر بأنه يقسم إنتاجها ثلاثة أقسام، قسما يتصدق به، وقسما يرده فيها ينفق به عليها، فرحمه ربه بهذا التصرف الحَسَن، وأرسل هذه السحابة لتسقي حديقته
وكذلك أيضا ذكر لنا بعض مشائخنا في بعض القرى تأخر المطر عن زمانه، وخيف على بعض الأشجار والثمار الكساد أو الموت واليبس، ولم يقدروا على الاستسقاء إلا بأمر عام من الحكومة، ثم إن أحدهم استسقى وحده، ومعه أولاده وأخوه، صلى ركعتين في صحراء قريبة من بستانه، ولما صلى ركعتين رفع يده ودعا ودعا وقلب رداءه أو كساءه، وقلب أهله أرديتهم، ولم يمكث إلا يوما واحدا حتى جاءت سحابة، وسقت بستانه حتى روي، ووصل إلى جاره، ولم يسق إلا خمس نخلات، ثم وقف.
هذا من آثار الغذاء الطيب، من آثار الكسب الحلال إجابة الدعوة، ولا شك أن كلما فشا الحرامُ، وكثر تداوله كان ذلك من أسباب رد الأدعية، وعدم الاستجابة، وهكذا أيضا إذا فشت المعاصي، وكثرت المخالفات.
والحاصل أن العلماء اهتموا في هذه الكتب بالكسب الحلال، فذكروا شروط البيع، والشروط فيه، والخيار، والربا، والتحذير منه، أو تنويعه، وكذلك بقية المعاملات إلى أن ذكروا أنواع المكاسب التي يحصل منها كسب المال، ومنها الفرائض، والوصايا، والعتق، وبنهاية العتق يكون قد انتهى قسم المعاملات التي فيها كسب المال بأي طريق من الطرق، وبعدما أن انتهوا من هذا القسم عرفوا أن المسلم إذا حصل على قوته، وعرف كيف يكسب المال، وعرف وجوه المكاسب المباحة، فلا بد له بعد ذلك من أمر آخر ألا وهو النكاح، فإنه أيضا من الضروريات في هذه الحياة، وإن لم تكن الضرورة إليه مثل الضرورة إلى الغذاء الذي هو القوت الذي هو ضروري في كل يوم مرة، أو مرات.
لما انتهوا من المعاملات بدءوا بالقسم الثالث، وهو قسم النكاح، ويسمى العقود والمعاقدات، وأدخلوا فيه الخلع، والطلاق، والإيلاء، والظهار، واللعان، والعِدَد، والنفقات؛ لأنها من تمامه، وإن كانت لها تعلق بالقسم الثاني الذي هو المعاملات، وبعدما انتهوا من هذا القسم، فالعادة أن الإنسان إذا تمت عليه النعمة -نعمة المأكل، والمشرب، والمسكن، والملبس، والمنكح- فلا بد أن يكون عنده شيء من التعدي، لا بد أن يتعدى، طبع الإنسان الأشر، والبطر، والاعتداء على الغير؛ فجعلوا بعد ذلك قسما رابعا هو خاتمة أقسام الفقه، وهو قسم "الجنايات" الذي هو الشجاج، والقصاص، والديات، وما يتصل بها، وكذلك الحدود التي حددها الشرع عقوبة على المحرمات، كحد الزنا، وحد السرقة إلى آخرها، وألحقوا بذلك أيضا القضاء؛ لأنه لا يُحتاج إليه إلا عند كثرة الجنايات، وكثرة الخصومات، وختموا بالإقرار الذي يكون سببا للحكمِ بما أقر به.
فهذه أقسام الفقه، هكذا قسَّم فقهاء الحنابلة، لكن هناك كثير قدموا وأخروا في هذه الأقسام من المتقدمين والمتأخرين، ولكل اجتهاده، نعود فنقول: البيع هو أكثر ما يستعمل في المكاسب، وذكروا أن اشتقاقه من الباع، الباع هو ما بعنا اليدين إذا مدتا، سمي بذلك لأن المتبايعين يمد كل منهما باعه يعني: يده بالأخذ والإعطاء، فالبائع يمد يده بالسلعة، والمشتري يمد يده بالثمن، وعرفوه بأنه عقد أو معاملة لأخذ شيء من السلع بثمن معلوم، والعقد والمعاقدة بين اثنين، بين المشتري والبائع، ولا بد فيه من الصيغة التي يصح بها، الصيغة ذكروا أن له صيغتين: ـ
صيغة قولية، وصيغة فعلية، القولية هي الإيجاب والقبول، والفعلية هي المعاطاة من البائع أو المشتري.
فالصيغة القولية: أن يقول البائع: بعتك، ويقول المشتري: قبلت، بعتك الثوب بعشرة، ويقول المشتري: قبلته أو رضيت به، هذه هي العادة أنه لا بد من إيجاب و قبول، ثم لا بد أن يكون الإيجاب هو المتقدم، وقيل: يصح تقدم القبول، فإذا قال -مثلا-: اشتريت الكتاب منك بعشرة، فقال: قد بعتك، صح ذلك ولو كان القبول متقدما، وكذلك إذا قال: بعني هذا الكتاب بعشرة فقال: خذه بها، صح ذلك.
واختلفوا في تأخير الإيجاب، أو في تأخير القبول، فلو -مثلا- أنه قال: بعتك كتابا بعشرة، سكت المشتري ساعة أو ساعتين، ثم قال: قبلت، الصحيح أنه يجوز ذلك وينعقد، وكذلك -مثلا- لو اشتَغَل بكلام الأجنبي لو قال: بعني هذا الكتاب بعشرة، فسكت البائع، ثم انتقل إلى كتاب آخر، فقال: بعني هذا المصحف -مثلا- بعشرين، ثم بعد ذلك قال: قد بعتك الأول بعشرة، فلا حاجة إلى أن يقول: قبلتُ؛ وذلك لأنه قد بدأ بسومه من قبل، ثم ذكروا له صيغة المعاطاة، صيغة فعلية، وهي أن يمد إليه السلعة، ويمد الثمن إذا كان قد عرف ثمنها، لو كان مكتوبا على الكتاب ثمنه، أو على الكيس ثمنه، فمد الدراهم، ولم يتكلم، فأخذها البائع، ومد إليه السلعة، ولم يتكلم واحد منهما، تسمى هذه صيغة فعلية، تستعمل في الأشياء التي عُرف ثمنها.
إذا أتيت إلى الخباز فإنك تدفع إليه ريالا، ويمد إليك أربع عادة دون أن يتكلم واحد منكما، وهكذا أيضا بقية المعاملات التي لا يحتاج فيها إلى مماكسة، أثمانها معروفة، ومثلها أيضا الأجرة إذا كانت محددة أجرة السيارة إلى مكان معين فتسمى هذه معطاة، ذكر أنه يشترط له سبعة شروط، فأشار إلى أنها لا بد منها: ـ
الشرط الأول :
التراضي منهما؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: إنما البيع عن تراضٍ أي: لا يكون إلا عن تراضٍ، يخرج المغصوب إذا أخذت منه سلعته بدون اختيار منه، فإن البيع باطل؛ وذلك لأنه لم يسمح بها، ولم يرض بذلك الثمن، إما أنه بحاجة إلى سلعته، سيارته -مثلا-، أو بيته، أو ثوبه، وإما أن الثمن قليل الذي بذلوه له؛ لذلك اشترط التراضي، قال تعالى: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُم أي: عن رضا من الطرفين، كذلك أيضا لو ألزم المشتري وأكره ليشتري هذه السلعة، وألجئ إلى شرائها، وهو لا يريدها لا ينعقد البيع، فلا يجوز إكراه البائع، ولا إكراه المشتري لا بد من الرضا؛ وذلك لأن المكره ليس مختارا، بل ملجأ إلى ذلك.
وقد اختلفوا في بيع التجزئة، والصحيح أنه لا ينعقد إلا إذا كان ذلك للمسافر كما إذا كثرت الديون على إنسان، وأكرهه الحاكم على بيع بيته، أو سيارته -مثلا-، أو سلع لضمان أداء دَيْنِه، فإن هذا إكراه بحق.
الشرط الثانى:
أن يكون الأخذ جائز التصرف، سواء أن كان هو البائع أو المشتري، فإذا كان سفيها، أو صغيرا، أو محجورا عليه، أو مملوكا فلا ينفذ تصرُّفه، أجازوا الشيء اليسير في الصغير، الصغير الذي دون العاشرة أو نحوها إذا جاءك -مثلا- بريال، أو خمسة ريالات، وطلب حاجة معروفة، وأعطيته، فإن هذا عادة ينقضي؛ لأنه في الغالب يتسامح فيه.
وأما إذا جاء بمال كثير كخمسين، أو مائة، فالأصل أن أهلَه لا يولونه مثل هذا فلا بد أنه أخذها من غير رضا، فلا يجوز أن ينفذ بيعه وشرائه، وهكذا -مثلا- لو أخذ كيسا، أو ثوبا له قيمة، أو كتابا له قيمة، وجاء به ليشترى فالعادة أن أهله لا يوافقون على توكيله على هذا، فلا بد أن يكون العاقد جائز التصرف، يأتينا -إن شاء الله -في باب الحجر متى يجوز تصرفه؟.
الشرط الثالث:
كون المبيع مالا، وهو ما فيه منفعة مباحة، فلا يجوز بيع ما ليس فيه منفعة، أو فيه منفعة، ولكنها محرمة مثل الخمر الذي ذكره الله: وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وكذلك إذا كانت المنفعة المباحة ليست مباحة مطلقا، كالكلب فإنه وإن كان فيه منفعة الحراسة، أو الصيد، لكنها منفعة خاصة محتاج إليها.
وكذلك الحشرات ليس فيها منفعة، فإذا كان فيها منفعة خاصة، فإنه يجوز بيعها مثل: بيع النحل، فإنه يستخرج منه العسل، فيجوز بيعه، وإن كان من الحشرات التي هي شبيهة بالذباب، ومثل بيع دودة القذ، فإن نسيجه يستعمل حريرا ينتج منه الحرير، مثله مثل العنكبوت إلا أنه أرق وألين، فيأخذ هذا النسج، وينسج منه ثياب لينة رفيعة الثمن، فيجوز بيع نسجه، ويجوز بيع الدود نفسه.
وأما بقية الحشرات فلا يجوز بيعها، وكذلك ما لا منفعة فيه، الذي فيه منفعة مباحة، ولو كان حرام الأكل مثل الحمر، الحمار الأهلي منفعتُه مباحة، والناس يحتاجون إليه للحمل عليه وركوبه عادة، وإن كان غير مأكول، فبيعه متعارفٌ عليه.
الشرط الرابع:
كون المبيع مملوكًا للبائع، أو مأذونا له فيه، يخرج أن يبيع ما ليس في ملكه، فلا يبيع شاة غيره، ولا بيت غيره، ولو كان أخاه لأبيه وأمه إلا إذا كان موكَّلا مأذونا له في البيع، فإنه يقوم مقام صاحب المال، وكذلك لا يشتري لغيره، فلو أعطاك إنسان -مثلا- أمانة ألفا، أو عشرة آلاف اعتبرها أمانة، ولا تقل: سوف أشتري له به سلعا، أو أشتري بها أرضا، أو دارا، ولو كانت رخيصة، أحفظها له حتى تسلمها، ولا تقل: إن هذا أنفع.
ولا يجوز لك أن تبيع شاة غيرك حتى ولو جاء إنسان محتاج، وسوف يدفع فيها ثمنا كثيرا، وتقول: أبيعها لأجل المصلحة، لأجل هذه المصلحة التي ليس لها نظير، فلا يجوز ذلك، وما ذاك إلا أنه في هذه الحال قد لا يرضى، قد تكون حاجته أشد إلى تلك الشاة، أو إلى ذلك الثوب، أو ذلك الكيس، أو ما أشبه، فالحفظ لهم أولى.
لو -مثلا- اشتريت شاة، ونويتها لزيد بدرهم عندك له، ثم قبلها زيد، أو كان عندك له دراهم، وعرفت أنهم بحاجة إلى شاة، ورأيت شاة مناسبة، واشتريت تلك الشاة بدراهمه، فإن رضي فهي له، وإن سخط لزمتك أنت، ولا يقبلها صاحبها البائع إلا إذا أخبرته، وقلت: إنى اشتريها من زيد، وقد لا يكون موافقا؛ لأنه غائب عندي له دراهم، فإذا لم يرضها فإنَّ صاحبها يقبلها؛ لأنك أخبرته بأنك لا تشتريها لنفسك، وإنما لغيرك، لإنسان عندك له مال، وهو لم يرض، أما إذا كان حاضرا، واشتريت بماله، وأقرك، وانتهى العقد، ففي هذه الحالة الساكت وهو يرى تصرفك، الصحيح أنه يلزمه ذلك، وإذا تم البيع فليس له الرجوع، وليس لصاحبها أن يُلْزَم بها.
والحاصل أن هذا يعتبر من الشروط المشهورة، وهو كون البائع مالكا للعين، أو وكيلا لتلك العين مأذونا له فيها.
الشرط الخامس:
القدرة على التسليم، يُخرج ماذا؟ إذا كان لا يقدر على تسليمه، فإنه لا يصح العقد، مثَّلوا ببيع الجمل وهو شارد، عادة أنه إذا شرد لا يستطيعون اللحوق به، توجد عندهم الخيل، ولكن قد لا تدركه، وقد تدركه ولكن يغلب الفرس بقوته، ربما صدمها وسقطت؛ من أجل ذلك قالوا: لا يباع وهو شارد، يمكن في هذه الأزمنة يدرك بالسيارات، وإن كان قد يسلك طريقا صعبة لا تسلكها السيارات، إذا كانت فيها شعاب، أو أشجار، وحجارة، ومرتفعات، ومنخفضات، وهو الجمل قد يصعد الجبال، قد يسرع السير، قد يصعد المرتفعات، ولا يهمه؛ فلذلك لا يصح بيعه حتى يقدر على تسليمه.
وكذلك أيضا العبد الآبق الهارب، لا يجوز بيعه أيضا؛ لأنه غير مقدور على تسليمه، وهكذا أيضا بيع الطير في الهواء، ولو أَلِفَ الرجوع كالصقر -مثلا-، والبازي، والباشر التي تعلم لأجل الصيد بها، منه إذا كان طائرًا في الهواء، فالعادة أنه لا يفهم، إذا قيل له: ارجع ما يدري، ولا يرجع، وإن كان أهله يشيرون إليه إشارات فينزل بها، ولكن ليس ذلك مطردا؛ فلذلك لا يجوز بيع الطير في الهواء، وهكذا الطيور المأكولة، ولو مر بك حمام، أو كان في طريقه في السماء، فلا يجوز أن تقول: أبيعك يا فلان خمسًا من هذا الحمام سأرميها، وأسقطها، وليس ذلك في إمكانك، وليس ذلك بملكيتك، ولو كنت معتادا أنك تصيب إذا رميت، فلا يجوز بيعه وهو في الهواء، وكذلك السمك في البحر، فالعادة أنه يكون بعيدا، وقد يهرب إذا نزل عليه أحد يصيده، فلا يجوز بيعه في هذه الحال، هذه أمثلة.
الشرط السادس:
أن يكون معلوما لهما برؤية، أو صفة تكفي في السَّلَم، المبيع لا بد أن يكون مرئيا، أو موصوفا بصفة توضحه، فالمرئي في الجمل تشاهده تنظر فيه، ومثل الثوب تقلبه، ومثل كذا ترفعه، تنظر فيه، ومثل الكتاب تقلب ورقاته وتعرفه، فهذا بيعه صحيح بعد رؤيته وتقليبه، والغائب لا بد من صفته وصفا دقيقا، لا يكون معه اختلاف، وصفا يكفي في السَّلَم.
يأتينا في السلم أنه لا يجوز السلم في الأشياء التي لا تنضبط بالوصف إن كانت ستدخلها صناعات يدوية، فعلى هذا لا بد أن يكون منضبطا بالصفة، ثوب من صفته كذا وكذا، نوع القماش كذا وكذا، طوله كذا، عرضه كذا شاة صفتها كذا، ولونها كذا، سمينة، وسط، أو هزيلة، وسنها كذا وكذا، كذلك -مثلا- فيما ينضبط بالصفة من الأحذية -مثلا-، والكتب، والرماح، والسيوف، والأقمشة بأنواعها، والحبوب، والثمار التي توصف، وتنضبط بالصفة كعشرين صاعا من بُرٍّ من نوع كذا وكذا، أو من تمر لا شك أن هذه تنضبط بالصفة.
الشرط السابع الأخير :
كون الثمن معلوما؛ وذلك لأنه أحد العوَضين، والعوض لا بد أن يكون معلوما للمتعاقدين، فالثَّمن عِوَض يبذله المشتري، فلا بد أن يكون معلوما، معلوما بالعدد، ومعلوما بالنوع، فإذا كان -مثلا- في البلد عملات مختلفة، فيها -مثلا-: جنيه سعودي، وجنيه مصري، وجنيه سوداني، فلا بد أن تقول: بمائة جنيه وتعينها، وإذا كان في البلد ريال سعودي، ويمني، وقطري، فلا بد أن تحدد الريال الذي تبيع به من أي العملات هو، وإذا كان فيها -مثلا- دينار كويتي، ودينار بحريني، ودينار أردني، فلا بد أن تحدد لأي الدنانير هو.
وهكذا إذا كان فيها عملتان مختلفتان، فإذا كان فيها دينار، ودولار، فلا بد أن يحدد البيع بأيهما، فلا يقول -مثلا-: بمائة، ويسكت، بل لا بد أن يبين النوع بمائة دينار، مائة دولار، مائة ريال، وهكذا الثمن يجب أن يكون معلوما.
وكذلك أيضا العدد أن يقول: عشرين، ثلاثين، مائة، وما أشبه ذلك، فلا يصح بما ينقطع به السعر، أي: بما تقف عليه السلع، إذا قال -مثلا-: أنا جلبت هذه الأكياس فخذ منها عشرة بالسعر الذي أبيع به في السوق، ما ينقطع به السعر، يوجد خلاف، ولعل الأقرب أنه جائز إذا كان السعر عادة معين، ومنعه من ذلك مخافة أن يكون البيع مجهولا، أو تكون السعر في السوق متفاوتا، فقد يبيع كيس بمائة، وقد يبيع كيس بتسعين، وقد يبيع آخر -مثلا- بمائة وعشرة؛ فلذلك لا بد أن يحدد السعر.
يقول: "إذا باع مشاعا بينه وبين غيره بغير إذن شريكه، أو باع عبده وعبد غيره صفقة واحدة، أو باع عبدا وحرا صفقة واحدة، أو خلا وخمرا صفقة واحدة صحَّ في نصيبه من المشاع، وفي عبده، وفي الخل بقسطه، ولمشترٍ الخيار" إذا لم يبع صاحبه القسم الثاني، وتسمى هذه مسائل تفريق الصفقة، وهي التي تصح الصفقة في بعض البيع دون البعض.
مثال: عندنا الصورة الأولى: إذا كان لكم أرض مجموعها ثمانمائة، مشتركة بينك وبين زيد، ثم إنك جاءك إنسان، وقال: بعني هذه الأرض بمائة ألف فبعتها بمائة ألف، شريك ما وكَّلك، وغائب لم يحضر، ولم يدري ففي هذه الحال إذا جاء شريكك، وقال: لا أوافق، فإن المشترى يأخذ نصيبك، وهو نصف الأرض -أربعمائة-، أو يردها ويقول: لا أريد إلا الجميع، له الخيار في ذلك، وحيث إنك بعت نصيبك من هذه الأرض، فإن لشريكك أن يشفع عليك، فيأخذ نصيبك، ويعطيك الثمن الذي بعت به.
كذلك إذا بعت عبدك وعبد غيرك، إما عبدٌ واحدٌ مشترك بينكما فبعته، وشريكك لم يقبل، وإما عبدان، إنسان يريد أن يشتري عبدين، فبعت عبدك، وعبد زيد صفقة واحدة -مثلا- بعشرة آلاف، ثم امتنع صاحب العبد من بيعه، فإن المشتري له الخيار، أن يأخذ عبدك، أو أن يرد الجميع، ويقول لك: لا أريد إلا الاثنين، وكذا لو أخذ شاتين مثلا، شاة لك، وشاة لزيد، قال: لا أريد إلا شاتين، فبعت شاتك، وشاة زيد، ولم يرض زيد، فإن البيع يصح بشاتك، ولا يصح بشاة زيد إلا برضاه، وإذا لم يرض فإن للمشتري الخيار.
وكذلك لو باع ما لا يحل مع ما يحل: عبدا وحرا، أو خلا وخمرا، الحر لا يجوز بيعه، والخمر لا يجوز بيعها، فإذا باعها -مثلا- بألف -مثلا- خلا وخمرا، صح في الخل؛ لأنه منتفع، وهو مباح، ولم يصح في الخمر، ولمشتر الخيار، لو كان المشتري يعتقد أن كليها خل، ووجد أن أحدهما خمر.
يقول: "ولا يصح بلا حاجة بيع ولا شراء ممن تلزمه الجمعة بعد ندائها الثاني" لقوله تعالى: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ المراد بالنداء النداء الثاني الذي عند جلوس الإمام، فإذا نودي للصلاة بالنداء الثاني حرم البيع والشراء، ومن باع واشترى، فالبيع باطل، قال تعالى: وَذَرُوا الْبَيْعَ أي: اتركوا البيع، والنهي يقتضي الفساد.
استثني صاحب الحاجة إذا كانت الحاجة ملحة، شديدة بأن يكون -مثلا- هو بحاجة إلى ثوب يستتر به في الصلاة، يفاجأ بمن يبيعه امرأة أو نحوها، فإنه يشتري ذلك ويصح، وكذلك لو اشترى -مثلا- طعاما وكان جائعا شديد الجوع جاز شراؤه؛ لأنه مضطر، أما مَن لا تلزمه الجمعة كالمرأة والصغير فإنه لا حرج في بيعه أو شرائه بعد النداء.
أما سائر العقود فتصح، عقد النكاح يصح بعد النداء -نداء الجمعة-، وكذلك عقد الوقف، وعقد الخلع، وعقد العتق؛ لأنه ليست في جنس البيع، ولا تدخل في مسماه، لا يصح بيع ما يستعان به على معصية، فإذا عرفت -مثلا- أن إنسانا يشتري منك عصير العنب ليعمله خمرا حرم عليك بيعه، أو يشترى منك عنبا ليعصره ويعمله خمرا حرم عليك أن تبيعه؛ وذلك لأنه مساعدة له على المنكر، والله تعالى يقول: وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ
وكذلك السلاح في فتنة بين المسلمين، إذا عرفت -مثلا- أنه يشتري منك هذا السيف ليقتل به مسلما، أو هذا الرصاص، أو البارود ليقاتل به المسلمين فحَرُم عليك أن تبيعه، وما ذاك إلا أنه يقتل به بريئا، فإذا بعته أعنته على منكر.
وكذلك لا يجوز بيع عبد مسلم على كافر إذا لم يعتق عليه، أما إذا عتق عليه كأبيه، أو أخيه، أو ابنه فيصح، إذا أسلم عبد وكان سيده مسلما، فإنه لا يجوز أن يباع على كافر إلا إذا كان الكافر ممَّن يعتقه إذا اشتراه؛ لأن العبد إذا اشتراه أبوه عتق، أو اشتراه ابنه عتق، أو اشتراه أخوه أو عمه أو خاله يعتق عليه، فأما إذا كان لا يعتق عليه لكونه ابن عمه -مثلا- أو ابن خاله فلا يجوز بيعه عليه؛ وذلك لأن فيه إهانة للمسلم، قال الله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا إذا تولى عليه وهو مسلم، فلا بد أنه يؤذيه، ولا بد أنه يهينه ويمتهنه، ويشق عليه.
يقول: " ولا يصح بيعه على بيع أخيه، وشراؤه على شرائه، وسومه على سومه" ورد في النهي قوله -صلى الله عليه وسلم-: لا يبيع بعضكم على بيع بعض لا يبيع المسلم على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه وصورة ذلك: إذا رأيت جارك باع ثوبا بعشرة، أشرت إلى المشتري، وقلت: ردَّه وأن أبيعك مثله بتسعة؛ فيردَّه لأجل رخص الثمن، وكذلك لو رأيت جارك اشترى شاة، أو سمنا، وباعه ذلك المالك بمائةٍ -مثلا-، ثم إنك رغمته فأشرتَ إلى البائع، وقلت له: استرجع شاتك أو دهنك، وأن أشتريها منك بأكثر، أنا أدفع لك في الشاة مائتين، أو مائة وخمسين، وكذلك في الدهن ونحوه، حمله ذلك على أن استعاد تلك السلعة طمعا في هذا الثمن الذي زدته عليه، لا شك أن هذا فيه ضرر للمسلم، العلة في ذلك أنه يسبب العداوة والبغضاء بين المسلمين؛ لأنك إذا أفسدت عليه صفقته حَقَد عليك، قد باع هذا الثوب بعشرة بيعا جازمًا، ولما باعه أشرت إلى المشتري، وقلت: إن أعطيك مثله بتسعة فخذ ثوبك، ورد عليه الدراهم، ولا يدري ما السبب، عرف أن السبب كونك أنت جاره، ومع ذلك أفسدت عليه هذا المشتري.
وكذلك أيضا الشراء على شرائه عرض عليه ثمن، فاشتراه على شرائه عرض عليه سمن فاشتراه بمائة، وقبل أن يتفرقا دعوت صاحب السمن، وقلت: استرجعه السمن، وأن أعطيك مائة وعشرة؛ فاستعاده، لا شك أن هذا يعتبر أيضا يعتبر ضررا؛ لأنه قد جزم على الشراء، قد اشترى -مثلا- هذا السمن بمائة، فأنت أفسدت عليه العقد، وطالبته بمائة وزيادة؛ فتكون بذلك قد أبطلت عليه تجارته، أو أضررت به.
والحاصل أن هذا أو ونحوه من جملة ما جاء الشرع لينهى عنه، يعني: الأشياء التي فيها ضرر للطرفين، والعلة في ذلك ما يسببه من العداوة والبغضاء، والحقد بين المسلمين، وإثارة الشحناء بأن يقول: فلان كلما اشتريتُ شيئا لمز صاحبه، وزاد علَيَّ، أو اشتراه من صاحبه بعدما اشتريته، كلما بعت على أحد الزبائن أشار إليه، واجتذبه إليه، فهو مضار بى، يحرص على أن يفعل كل ما يضرني، لا شك أن هذا مما جاءت الشريعة بالنهي عنه حتى يكون المسلمون إخوة متحابين في ذات الله.
الشروط نقرأها غدا، ونكمل بعدها -إن شاء الله-.