قضية منحت شاعرا بهذا المستوى لا بد ان تكون قضية عادلة
شهادات في موت محمود درويش:
2008/08/12
دمشق ـ بيروت ـ لندن ـ القدس العربي من انور بدر وناظم السيد وحسامالدين محمد استقبل الوسط الثقافي في سورية نبأ وفاة الشاعر العربي الكبير محموددرويش بألم واحساس حاد بالفجيعة فالشاعر كان ذا اهمية استثنائية وتأثير كبير علالشعراء والمثقفين السوريين االقدس العربيب اتصلت ببعض منهم وكانت هذه الشهادات: الجماهيري النخبوي شوقي بغدادي ( شاعر) لا يوصف هذا الموت كما يوصف موت الآخرين،فالنكبة ليست وطنية فحسب، وإنما هي فنية جمالية بالدرجة الأولى، وإذا كان هناك شاعرفي العالم استطاع أن يوحد بين قضيته الأم وبين فنه الشعري الرفيع فلا شك أنه محموددرويش أولاً ومحمود درويش ثانياً... ولعله بين الشعراء العرب هو الأوحد والأقدر علىأن يكون جماهيريا ونخبوياً في آنٍ واحد، لقد جاء زمن الآن، وخاصة في السنواتالأخيرة، أن غرق عرب فلسطين في مستنقع النزاعات الدموية بين الأخوة الأعداء، وهكذاتضاءل لديّ الأمل، كما لدى كثيرين، بأن هناك خلاصاً لهذه المحنة، ولكن ما أن يظهرديوان جديد لمحمود درويش أو أن نقرأ له قصيدة جديدة أو قديمة حتى يشعر الواحد مناأن هذه الشعلة الضعيفة الواهنة من الأمل قد توهجت من جديد واستعادت بريقها بفضلجمال الشعر وحده. وهكذا صار على محمود درويش أن يقوم بعبء إعادة الثقة إلى النفوسالبائسة وحده، ولم تعد تصريحات هذا الزعيم أو خطاب ذاك القائد قادرة على صنع شيء،لقد بتّ أنا شخصياً في السنوات الأخيرة، وأكاد أقول ذلك حزيناً، لا يربطني وثاقعاطفي حميمي قوي بالقضية الأم إلا عبر محمود درويش ومن خلال شعره، كنت أستطيع أنأقنع الأجانب والمتشككين العرب بأن قضية منحتنا شاعراً بهذا المستوى الجمالي الرفيعلا بد أن تكون قضية عادلة وأن نكون معها. من يستطيع الآن بعد موت محمود درويش أنيقوم بهذا الدور؟ أي شاعر عربي استطاع أن يكون في الأراضي المحتلة وفي القاهرة وفيبيروت وفي قبرص وفي اليمن وفي كل المنافي والمطارات والمرافىء، أي شاعر استطاع أنيكون هو نفسه دائماً الذي يغني للمسيرة الصعبة في كل منحنياتها وصعوباتها ومآزقهابنفس الحنجرة الصافية والوجدان العميق سوى محمود درويش. افتقدناك محمود درويشوكأننا نفتقد هذا الرباط الحميم بالقضية، فمن يُعيدها إلينا سواك؟ هل يعيدنا محمودعباس أو هنية أو مشعل؟ من مِن هؤلاء قادر أن يعيدنا وهو يناضل ليثبت أن الآخرين علىخطأ وهو وحده على صواب؟. محمود درويش وحده كان على صواب، ولكنه مات الآن، وها نحنالآن نبدوا وكأننا أيتام على مائدة القضية التي أخذت بعيدا عنّا، فمن يعيدها إليناأو من يعيدنا إليها؟! موت جيل بكامله برهان علوية (مخرج سينمائي) حين مات محموددرويش أحسست أن جيلاً بكامله مات. ربما الآن يمكننا أن نكتب تاريخ درويش. الآنيمكننا أن نتأمل فيه وفي نتاجه، وذلك بعدما ذهب جسده وأخذ معه ما أخذ. الموت يمنحنتاج شخص ما نكهة أخرى. الموت يأخذ الجثة، لهذا أقول إنه ارتاح الآن. هكذا قلت عنيوسف شاهين الذي غادرنا أخيراً. العظماء يرتاحون حين يموتون.
لا أعرف المجاملة. محمود درويش شاعر كبير بالطبع، لكن هذا كلام لا قيمة له.
شعر محمود درويش شعرمعاصر، شعر اشبابيب. ما معنى أن يكون قرّاؤه من الجيل الشاب؟ هذا السؤال دليل علىموقع درويش في الشعرية العربية.
من يحرس اصورة الشاعرب من بعدك؟ أنطوان شلحت (كاتب من فلسطين) عندما أحيا محمود درويش أمسيته التاريخية في مدينة حيفا في أواسطشهر تموز/ يوليو 2007، قال عبارة بليغة لا تزال أصداؤها تتردّد إلى الآن فحواهازإنّ الشعر هو المرافعة النوعية المجانيّة للدفاع عن الحياة وعن حقنا في أن نحياحياتنا كما نريدها، ببداهة وحرية وسلام، وهو دفاع عن الروح والذاكرة الجمعيةوالهوية، دفاع عن الحبّ والجمال وعمّا في أعماقنا من موسيقى خفيّة وفرحس. برسم هذهالعبارة يمكن القول إن أكثر ما سيبقى منه هو قدرة نصّه الشعريّ على الاحتفاظ بصفاءصورة الشاعر في الذهنية الثقافية، تلك الصورة التي باتت تعتريها شوائب كثيرة من فرطزتهافت الشعراءس وبتأثير زالفوضى غير الخلاقةس في المنابر التي أمست تشكل السبيلالراهن إلى الانتشار السريع. واختصارًا للمواصفات فإني أقصد تحديدًا الصورة التييمكن استمدادها من إدوارد سعيد في وصفه للمثقف عمومًا، وأساسًا قوله إنّ هدف المثقفالمتوخّى هو اتشييد بنية ثقافية كاملة'، أولاً ودائمًا. إنّ البنية الثقافيةالمشيّدة هنا ترتبط بنصّ الشاعر وبهاجسه الوجوديّ. وتنهض على عنصر المعرفة، إمكانهاومصادرها وطبيعتها. وإنّ ما يلفتنا أكثر شيء هو إسهام درويش الخاصّ في شأن إمكانالمعرفة، ذلك الإسهام الذي يراوح بين القول بذلك الإمكان وبين الشكّ فيه. ولئن كانتوكيد إمكان المعرفة عادة ما يتبدى في نصّه عن طريق التجربة والخطأ، لا بمنأى عنإعمال العقل، فإنّ عنصر الشكّ فيه ينطلق من اتخاذه منهجًا للوصول إلى المعرفة، منجانب الشاعر. وبذا يدرأ النصّ الشعريّ عن ذاته وجع الارتطام بذلك الشكّ المذهبيّالذي يشكل الوسيلة والغاية في الآن نفسه، ترجيحًا لاعتماده كوسيلة لا أكثر.
ومنالخطأ عدم الالتفات إلى حقيقة أن تجربة درويش لا تفتقر إلى ما يؤسس لهذا المشروع،منذ أرضه الأولى. وقد تكفي عودة سريعة إلى تلك الأرض لإثبات ذلك. ففي سنة 1961 نشردرويش أول زشهادة ذاتيةس له عن الشعر في مجلة زالجديدس الحيفاوية. وبمراجعة ما جاءفيها يمكن تأصيل مشروعه الشعري على قاعدة الحاجة إلى تجديد العلاقة بين الشاعرالفلسطيني، الذي بقي في وطنه، وبين كل ما هو أساس في الثقافة العربية والثقافةالعالمية. إنّ هذا الأساس يشكل لحمة المعرفة وسداها.
إذا استعدنا جوهر الثقافة،وفقًا لبيير بورديو، فإنها أنساق (سيستامات) رمزية لها وظيفتان: الأولى- وظيفةمعرفية، حين يستخدمها الإنسان كأداة معرفية لبناء الواقع الاجتماعي بطريقة موضوعيةتعبّر عن منظومة معرفية تتألف من المدركات والمعاني والقدرات التي تمكن الفرد منفهم عالمه والتعامل معه. والثانية- وظيفة اجتماعية، حين تستخدمها القوى المهيمنةكأداة لفرض علاقات السيطرة الاجتماعية والسياسية في المجتمع.
ومن الواضح أنّ فيتجربة درويش ما يشفّ عن انحياز صاحبها إلى ناحية الوظيفة المعرفية للشعر والثقافةعمومًا. وهو انحياز جعل شعره يكشف مكنونات اللانهاية.
يا للخسارة! فاضل الربيعي (روائي وكاتب من العراق يقيم في سورية ) شكلت تجربة محمود درويش الشعرية من منظورالنقد الادبي اكبر تطور واهم تطور حصل في الشعر الحديث في العالم العربي قاطبة. لقدنقل محمود درويش الشعر دفعة واحدة من مجاله النخبوي ال مجاله الشعبي ولكن دون انيسقط بالشعبوية. اعط مذاقا جديدا للشعر العربي الحديث. مع تجربة محمود درويش لم يعدحت بالنسبة لأبسط الناس حت الاميين منهم يجادل حول اهمية الشعر العمودي وافضليته علالشعر الحديث او ان الشعر الحديث غامض وغير مفهوم ذلك ان شعر محمود درويش اصبح فيمتناولهم وبوسعهم ان يغرفوا من نبعه من دون اي احساس بأنه من عالم منفصل عن عالمهموكل ذلك لأن محمود درويش جمع بين القدرة الفذة عل التقاط ما هو شعري في الحياة وبينالاقتراب من الناس دون تكلف او تصنع.
اليوم صباحا كان في منزلي نجار بسيط لايقرأ ولا يكتب وكان اثناء عمله يتابع تقرير الجزيرة عن موت محمود درويش وسمعته وهويردد بحزن: يا للخسارة مات محمود درويش وعندما سألته: وهل تعرف محمود درويش؟ قال: نعم. صحيح انني لا اقرأ ولا اكتب ولكن قصائده ترن ال الآن في اذني ثم قال: سجل اناعربي! الا يعني هذا ان محمود درويش تمكن من احداث اختراق هائل القوة والمعن بمعادلةالعلاقة بين الشاعر والجمهور. لا احد يجادل في روعة شعره وجمال صنعته ولا فيالتقنيات الحديثة التي يستخدمها ومع ذلك كان قريبا من نبض الناس لأنه كان شاعرالمقاومة بحق والبشر وهم يواجهون مصاعب الحياة يفهمون افضل من المثقفين معن كلمةمقاومة لأنها تعني لهم كل شيء ان يقاوموا الموت والجوع والنسيان والفقر والالم وهذاما جسدته تجربة محمود درويش. انه صوت عصرنا الجديد الذي سيصدح دوما في اناشيدالعودة وكأنه هو من سيقرع اجراسها وليس احدا سواه.
بلاغة الموت صباح زوين (شاعرةومترجمة من لبنان) هل هذا هو سرير الغريبة الذي بحثت عنه يا محمود درويش؟ أم هوسرير الغريب، أنت الغريب عن الأرض وعن سرير طفولتك وأحلامك؟ ذهبت عن الدنيا وأنت فيسرير العمليات القاسية، ذهبت عن أحلامك وأنت في سرير الغربة، والغريبة كانت دائماًأحلامك عن أرضك القريبة البعيدة. وهل مت يا محمود في رمز الغربة أم في واقعها؟ هلمت لشدة رمزية علاقتك بالأرض، أرضك الأولى والأخيرة، أم مت لفرط ما تغربت عنها وآخرغربة كانت تكساس، كانت غرفة باردة في أحد المستشفيات البعيدة عن تراب أقدامك وشجرالزيتون والتلال والهضاب المتعرجة؟ ألا يدل السرير بذاته على المكان الحميم والسريللعشق، إنما يدل كذلك على المرض والعجز؟ سريرك في تكساس لم تتحمله فقررت الذهابعنا، أنت الذي لطالما بحثت عن سريرك، أنت الغريب في سرير الأفول، أنت الذي لم تأبَسوى أن تنقش القصيدة لوحةً أبدية على جدار الذاكرة، وبعد زوال الجسد، لن تبقى سوىقصيدتك التي حفرتها عميقاً في جدارية أرضك المتغربة أو التي غربت عنك غصباً أنتالدائم الغربة، والذي مع ذلك حاولت ألا تغرب. إنما هذه هي أصول العشق يا محمود ،العشق للأرض الذي حملك إلى رؤية السر والسريرة في قصيدتك المتغربة والعاشقة. وعشقكلا يُحصر ضمن حدود الحب المادي والمباشر، بل يتجاوز تلك الحال إلى بلوغ الصوفيةالصرفة؛ أليست الصوفية وقبل كل شيء عشقاً غريباً وسرياً، والسرير هو مكان سريةالعشق وسرية المرض؟ أنت مرضت عشقاً بالأرض الغريبة ثم مرضت حزناً على الأرضالمتغربة، ولم يبق لك سوى أن ترى في الرحيل خلاصاً لمعضلة الكلمات التي نهشت جسدكوروحك كما الغربة التي نهشت معنى أرضك. ألم تتوجه إلى الله بهذه الكلمات وأنتالراغب في الانتهاء : اإذا كنت آخر ما قاله الله لي، فليكن نزولك نون الـبأناب فيالمثنىب. ا حلمت بأنك آخر ما قاله الله لي حين رأيتكما في المنام، فكان الكلامب. هلحبك للكلمة هو الذي أخذك في غفوتك الأبدية على سرير المرض وأنت الذي حلمت بسريرالعشق لتلك الأرض الغريبة والحميمة، تلك الأرض المعلنة والسرية، تلك الحالةالثنائية التي تراها أمام ناظريك؟ وهل أردت الرحيل عن واقع الأرض إلى الحلم بها عندالله وفي غربة السماء؟ هل الغربة التى أنشدتها هى حدسك بالأفول، أفول جسدك لتبقىأنت في سرية السرير الأول، حيث حلمك الذي لم يكتمل؟ هل أصبحت اليوم في قلب االنونبوهل بلغت اليوم آخر الكلام، أي، منتهاه؟ اهذا هو اسمك، قالت امرأة، وغابت في الممراللولبي. أرى السماء هناك في متناول الأيدي (...) واللاشيء أبيض في سماء المطلقالبيضاء. كنت ولم أكن (...) أنا وحيد في البياض (...) عزفت عن جسدي وعن نفسي لأكملرحلتي الأولى إلى المعنى، فأحرقني وغاب. أنا الغيابب. اأنا الأولى، أنا الأخرى،وحدّي زاد عن حدّي وبعدي تركض الغزلان في الكلمات لا قبلي ولا بعديب. الا أُحِسُّبخفَّةِ الأشياء أو ثقل الهواجس. لم أجد أحداً لأسأل: أين اأينيب الآن؟ إني مدينةُالموتى، وأين أنا؟ فلا عدمٌ هنا في اللا هنا... في اللا زمان، ولا وُجُودُ وكأننيقد متُّ قبل الآن... أعرفُ هذه الرؤية وأعرفُ أنني أمضي إلى ما لست أعرفُ . رُبَّماما زلتُ حيّاً في مكانٍ ما، وأعرفُ ما أريدُ'.
أبلغ من أن أقول أنا عنه ،الشاعر هو الأبلغ وقالها قبل أن يرحل. أي بلاغة هي بلاغة الموت هذه، بلاغة الرؤياقبل أوانها وكأنها في أوانها. إنها رحلة الدرويش الدوّار الذي توصل إلى مخاطبةالموت بلغة القلب في سدى التاريخ وسدى الحياة. مخاطبة الموت في مواجهة الأناالحاضرة الغائبة، الغريبة والراكضة كالغزلان في مروج القصيدة الخالدة. نعم ، قدتتساءل اليوم أين أنت، لكنك قلت إنك تعرف وإنك حيّ. لا تزال كلمتك هنا، وهي ستمضيإلى حيث تعرف، ولا تخف عليها. إنك اليوم الواحد وليس المثنى، والبياض يلفك إذ هومكانُ منتهى الحضور.
نهايةً، إذا استوقفني كثيراً الكلام على السرير، مستوحية منكتابك اسرير الغريبة'، فلأنك غادرتنا على أحد الأسرة الغريبة.
مكانة تاريخيةهاشم شفيق (شاعر من العراق يقيم في لندن) الشاعر الفقيد محمود درويش كان من الشعراءالكبار الذين لا يتكررون عل مد قرون طويلة فهو يمكن ان يوصف بالمتنبي وابي تماموابي العلاء المعري فهو من هذه السلسلة الكبيرة التي سيخلدها العصر والتاريخ علمرور الازمنة.
محمود درويش سيبق بالتأكيد حيا مثل هؤلاء الكبار يعيشون بينناويضيفون برؤيتهم الثاقبة مسارات جديدة للقادمين من الاجيال الجديدة.
شعر محموددرويش لا يمكن حقا ان يوضع في خانة محددة فهو شعر انساني وشمولي وفيه معان كبيرةودلالات عميقة جسدها بشكل ازلي مما بوأه هذه المكانة التاريخية للشعر العربي الحديثوالمعاصر.
محمود درويش ليس شاعرا كبيرا فقط بل كان انسانا كبيرا وصديقا عظيماللشعراء من الاجيال التي لحقته. كانت تربطني به علاقة حميمة وجميلة منذ تعرفت عليهفي بغداد عام 1976 عندما جاء لأحد مهرجانات المربد وظلت علاقتي به متميزة وجيدة، حتحين اقامتي في بيروت كنت اتردد عليه في مجلة االكرملب واعطيه قصائدي وكان يأخذهاوينشرها دائما في المجلة وكان يبدي ملاحظات عل الشعر والشعراء وكانت له رؤية ثاقبةوعميقة في الشعر المكتوب والمعاصر الحديث. وتكررت لقاءاتي مع محمود في باريس وفيعمان عندما كنت ازورها آخر مرة التقيت به في عمان ودعاني ال غداء وكان معي الشاعرطاهر رياض وذهبنا ال مطعم خارج عمان واحتسينا الشراب الابيض الذي كان يفضله. كنتعائدا من كردستان وكنت احمل هدية له وهو مزمار كردي وأحبه وعزف عليه قليلا لأننيكنت اعرف انه يحب هذه الآلات الموسيقية الرقيقة. التقيت محمود في القاهرة اثناءمهرجان امل دنقل وكنا دائما نلتقي عل العشاء والغداء والقينا في امسية واحدة وكانمتواضعا حين وضع اسمه في آخر القائمة ووضع اسمي في اول القائمة وكان ذلك تواضعاكبيرا منه بالنسبة للشعراء الجدد واللاحقين عليه، وما كان يعزل نفسه او يعطي نفسهميزة تضعه في خانة اخر بل كان مندمجا مع الشعراء وكان يسهر ويتفكه وينكت وكان جميلابكل معاني الكلمة. وكنت اتصل لأطمئن عل صحته بين الفينة والاخر ومرات كنت اكتب عنهوآخر مرة كتبت عنه مادة سميتها ابورتريه لمحمود درويشب وعن ديوانه اجداريةب الذيانتصر به عل الموت وحقق مسألة الازل.
مات وترك لنا الموت لنجربه غسان جواد (شاعروصحافي من لبنان) مات محمود درويش، خبر عاجل على التلفزيون: اوفاة الشاعر الفلسطينيمحمود درويشب.. للوهلة الأولى أحاطت الصدمة المكان ولفّت أرجاء كياني. لم يكن محموددرويش صديقاً، التقيته مرّات قليلة وأجريت معه حواراً تلفزيزنياً واحداً، لكن لاأعلم لماذا شعرت بخسارة شخصية كأنما الخبر متصّل بأحد أفراد أسرتي.
هل الشعررابطة دم وقرابة؟ لماذا رجفت أصابعي ويداي وقلبي حين عرفت النبأ؟ أظنني راهنت علىالشعر، كنت أعرف أن محمود في حالة حرجة وأجرى عملية جراحية، وأنها نجحت ثم سرعان ماتدهورت حالته، لكن لم يتبادر لذهني لحظة أنه قد يموت. الأرجح أني ظننت الشعر تعويذةضد الموت، وحجاباً في وجه ملاك القبض على الأرواح، وأي شعر؟ شعر الوطن والبندقيةوالحب والحرب والحصار والأمل والفرح فوق جثة الألم والمصاب، شعر أحمد العربي، وتلالزعتر وحاصر حصارك.. شعر الجدارية ولا تعتذر عما فعلت، وأحد عشر كوكباً، ولماذاتركت الحصان وحيداً، وأي كتابة؟؟ أثر الفراشة وكزهر اللوز أو أبعد، وحالة حصار. ماتعاشق من فلسطين ولم يحجبه الشعر عن قبضة الموت. يموت الشاعر ولا ينتظر منا أننرثيه، لقد رثى قبلنا شعراء وتحدّث عن أثرهم الأدبي والفني.. ثم ماذا؟ لحق بهم لكييأتي آخرون ويكتبوا عنه وعن الأثر الذي تركه في الحياة من شعر وأدب ولعب باللغةومفرداتها.. موت الشاعر، يا لها من لعبة مملة ومضجرة، يا لها من تسخيفللحياة.
أن يموت محمود درويش يعني أننا جميعنا سنموت، لقد سبقنا فقط، وترك لناكتبه وبعض الضحك والمصافحات والأمسيات.. ترك لنا الموت كي نجربه بدورّنا.
إغفرلنا أننا سنعود بعد قليل إلى أنفسنا ناقصين فادي عزام ( كاتب من سورية) 1- اليومفقط تم احتلال فلسطين، أنجز احتلال فلسيطن بموت محمود درويش. بحقيقة موت محموددرويش اكتمل فقدان فلسطين، هذا ليس مجازا يفرضه رحيل درويش، ليس مرثية لشاعر وانسانعرف كيف يعلمنا جميعا معنى أن ننتمي لفلسطين دون كلمات كبيرة وثورة حتى النصرونرتهن لخطاب مناور مُفخم متخم بالصراخ والضجيج وفقير بالحب والاحتفاء بالذي لايموت.
2- لا يمكن أن نرثيه لا يمكن أن نبكيه لا يمكن أن نقر برحيله لا يمكن أننصدق آخر قصيدة إنه هناك في عتمته الباهرة سيعود إلينا حاملا دهشة أخرى يصفعنابورده وأقماره الحليبية وحديثه عن أنثى عبرت به قبل قليل. في موت درويش نحن منيستحق الرثاء. 3- لم نكن نملك سوى فيروز وضوء قمري غامض والرغبات السرية بأن نكونأحرارا وقصائد درويش وأشرطة مرسيل خليفة والشيخ امام، كان محمود صديقنا يجعلنانلتقي بسرعة نطل من كلماته على شرفات الوقت ونجلس في فوهتة ونلعب بألوانه، كاندرويش يجعل من حياتنا أقل وطأة وأكثر بحبوحة واتساعا، كان محمود حاضرا أبديا وسطركامنا كوشم سري يقول لنا دائما فوق هذه الأرض ما يستحق الحياة . 4- رقش عبد الرزاقشبلوط جدارن غرفته في الدويلعة بشتاء ريتا الطويل، كلمات درويش هي ما كانت تهطلعلينا، كلما اختنقنا نتنفسه، وكلما أصيب القلب بعطب نتبلسم بكنوز الحب نبحر معهنتزود منه كي نقول ما لا يقال نتعلم منه معنى الاحتفاء ببدايات الحب، ونهاياته معنىأن نكون مناضلين ثوريين يساريين أصحاب قضايا عادلة يعني أن نعرف كيف نحب أولا. كاندرويش معلم الحب الأول وشاعر الحب الأول. 5- أن أسمع من سعاد في باريس خبر موتدرويش، لم يكن مفاجأة. كان عبد الباري عطوان قد باح لنا منذ شهر بذلك. يومها تذكرتشاعراً من شباب فلسطين عندما دخل محمود في عمليته الأولى كتب (يا الله دع لنا محموددرويش). نعم ماذا بقي لفلسطين وآخر الرحلين محمود درويش بعد رحيل ادوارد سعيد؟الفلسطينيون اليوم أصبحوا فعلا أيتاما. قالت سعاد لي لا أصدق أن المتعة الوحيدةالمتبقية لي في الحياة قد صودرت مني اليوم، لا أصدق أنه لم يعد هناك ديوان جديدلدرويش سأنتظره. في يوم موت محمود درويش لا أجد سوى عبارة تأبينه لإميل حبيبي ( إغفر لنا أننا سنعود بعد قليل إلى أنفسنا ناقصين). 6- (وهو الآن في غيابه، أقلموتاً منا، وأكثر منا حياة) هذا ما قاله درويش في أربعين الماغوط. هل كان يرثي نفسهفي كل الشعراء الذين سبقوه؟ هل كان يعرف أننا في غيابه سنكون أكثر موتا منه وأقلحياة منه هو من لم تتسع له الأرض فحجز موعدا نهائيا مع التاريخ والمستقبل مع الغيبوالسماء ليقربنا منها أكثر ويكتب عنا ولنا من هناك؟ 7- حاور الموت وحوّله إلى شيءأليف خفيف مثل سحابة تمر فوق الجليل، هذا العاشق من فلسطين هو من قال (الحب مثلالموت وعد لا يرد ولا يزول) هذا العاشق السرمدي الأبهى والأجمل والأنقى دمغنا نحنجيل ما بعد هزيمة 67 بلوثة لن ننفك منها أبدا، نحن جيل محمود درويش لسنا جيلالهزيمة لأننا استطعنا رغم كل السود أن نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلا ونحبونعشق الحياة ونغنيها وننحاز للحياة كما وصفها وكتبها ورواها، نحن جيل محمود درويشلم نحزن حين كتب الحصان ليس وحيدا ولم نقل درويش تغير بل شعرنا كم نحتاج نحن أننتغير ولا ننهزم مرتين، وأخذنا من سرير الغريبة زوادتنا للسنوات العجاف وأحببناريتا بمقدار ما أحببنا البندقية ولم ننس أمهاتنا ولم نحترق لنضيئهن ونأخذ مهنتهنالجميلة، نحن جيل ما بعد الهزيمة ننتمي لمحمود درويش العاشق أولا المحب أولاالانسان أولا ثم المناضل لأنه بدون أن يكون المرء محبا وانسانا وعاشقا لا يستحق أنيكون مناضلا. 8- لن تقرأ هذه الكلمات. لا اريد أن أقول أحبك فأنا لم ألتق بك سوىمرتين، مرة كنت برفقة خمسة عشر محباً آخر في ملعب الجلاء في دمشق، كيف استطعت يادرويش أن تجعل الابرة تسمع رنتها قبل أن تبدأ بالكلام؟ كيف حج الناس في دمشقليحددوا موعدا مع عاشق دمشق الأنبل؟ كيف تفقدك السحب الخفيفة في الشوارع القديمةوهي تسير حافية حافية فما حاجة الشعراء للوزن والقافية، تتبع رائحة كلماتك وأنتترتل في دمشق تتنفس دمشق مثلما تنفست فلسطين وبيروت. أكاد أجزم وأكاد أعرف لماذاأوصيت الأطباء أن لا يجعلوك تعيش على التنفس الاصطناعي. 9- وداعا يا درويش نقبلكونبكي أنفسنا. درويش الشعراء وليُّهم سامح كعوش (شاعر فلسطيني من لبنان) محمود يادرويش الشعراء، ووليهم، يا مطر فلسطين على صحراء العرب لتخضرّ بالشعر أو لتنطفئنجمتها الأخيرة، وتوق العرب يحتضن الزهر في مرابع فلسطين لتتحرر بأحمر الشوق الغالبعلى قوانين الحدود وقيودها، وينجرح بالسلك الشائك يحاصرك بدمعتين ومليون مفردة لايكتبها إلا قلمك.
الماذا تركتنا وحيدين كحصان أبيكب يا محمود، يا سليل أبيك ولاأحد سواه، يا يتيم الأمة في اغترابك وغيابها إلا عن قليل أمل وكثير ألم، ولماذاتتبعت اأثر فراشتكب لتحترق بنارها ونور الشعر؟، أيها الحاضر اليوم وغداً كما أنت،وكما كنت، أيها الشاعر حقاً في شكل شعرك الواقف كالرصاصة في لحم القصيدة، تجرحهالتشبه فلسطين، وتكونها.
ها أنت الآن أكثر وضوحاً وصراحةً من قبل، ها أنت الساطعتماماً كهذا الصباح الوحيد، في عتمة القلب، وقلة حيلة الشعراء، في قولك السؤال: اماحيلة الشعراء يا أبتي غير الذي أورثت أقداري إن يشرب البؤساء من قدحي لن يسألوا منأي كرمٍ خمري الجاريب.
نعم لا يسأل الذين يقرؤونك من أي كرم أتيت بعنب شعرك،لكنهم يعلمون تماماً أنك ابن طولكرم، ونابلس، وجنين، والقدس، وكل فلسطين، وطول هذاالكرم امتداد لمسيرة الشعب العربي محتفياً بحضورك الساحر، المشاغب، الراغب، المثيرللدهشة حدّ الانهمار.
ولأنك كتبت بالنار، يا فينيق فلسطين، لم يعطوك حيزاً فيانوبلب كرمهم، ولو أنك جحدت فضل النار لكرّموكَ وعظّموك وبكوْك طويلاً، كما نبكيكالآن نحن الأيتام واللئام من الشعراء العرب الحاسدين والمحبين لك، أيها الرائع أنت،والجميل أنت، والنبيل أنت، ولا يكفيك انهمار الدمع ولا سخاء الكلماتالعابرة.
نعم وأنت القائل والكاتب والماثل كأنك الآن: الملمتُ جرحكَ يا أبيبرموش أشعاري فبكت عيون الناس من حزني، ومن ناري وغمست خبزي في التراب وما التمستُشهامة الجارب.
ها أنت الآن تغمس جرحك في جراحنا لتنكأها، لتغسلها بملح بحركالبعيد، حبرك على جدران المدن الهاربة منك وأنت تعدّها، واحدةً فواحدةً فواحدةًكأنها تتزوجها، تعاشرها، تعاقرها خمرة شعرك ونبيذ دمك الفلسطيني المسفوك يومياًكأنه فرض صلاة. ها أنت الآن تغمس خبزك في الموت، صديقك منذ سنوات تنبئنا بقربه منكحدّ التوحّد بك، كأنك كنت تعلمه وتتعلم منه، قبل قليل قلت: اأعلم أن الوحش أقوى منيفي صراع الطائرة مع الطائر، ولكنني أدمنتُ، ربما أكثر مما ينبغي، بطولة المجاز'،نعم أيها الجميل أدمنت وأدمنّا هذا النوع من البطولات، حتى موتك الآن يأتي مجازاً،كأنه غيبوبة قليلة، لا تطول، أو هو الذهاب في رحلة المسافر ننتظر عودته القريبة، أوهجرة الطائر جنوباً ليعود مع الربيع، لتعود إلينا وتبقى، وتبقى، وتبقى.