الحركات الثورية . ومن منطلق هذه المسؤولية القومية حاربت الثورة الأحلاف الاستعمارية التي كانت تريد إبقاء المنطقة تحت نفوذها وخرجت من هذه المعركة ظافرة حيث وأدت حلف بغداد في مهده وما لبث أحرار العراق أن أطاحوا في ثورة 14 تموز ( يوليو 1958 ) بالنظام الملكي العميل في بغداد ذاتها . كما جندت ثورة يوليو كل إمكاناتها لنصرة ثورة الجزائر التي انطلقت في 1 نوفمبر1954 لمحاربة الاستعمار الفرنسي والتي ماكان لها أن تنتصر ذلك الانتصار المجيد لولا هذا الإسهام الفعال والمساندة التامة . وبالطبع لم يكن هذا مفصولا عن مساندة عموم الحركة الناشطة لتحرير أقطار المغرب العربي كله كما هو معروف . كما ساندت وساهمت في الثورة ضد الاستعمار الانجليزي في جنوب اليمن وعمان والخليج العربي حتى حمل عصاه ورحل فعلا واستقلت هذه الأقطار . وقبل هذا وذاك تبنت ثورة يوليو ثورة الشعب الفلسطيني ضد الغاصب الصهيوني وحضنت مقاومته وقدمت لها كل دعم من تدريب وسلاح ومعسكرات ومحطات إذاعة وجندت لخدمة القضية الفلسطينية إعلامها وديبلوماسيتها وكل نفوذها الدولي . ولقد كان هذا النشاط الثوري الذي لم يكل ولم يهدأ السبب المباشر للعدوان الثلاثي عام 1956 الذي شنته انجلترا وفرنسا واسرائيل لإخماد شعلة الثورة العربية التي انطلقت من القاهرة . ولكن هذا العدوان واندحاره كان اللمسة الأخيرة الحاسمة التي أوصلت المد القومي إلى أوجه , فتلاحمت الجماهير العربية وطلائعها وحركاتها القومية بثورة 23 يوليو وأصبح عبد الناصر زعيم الأمة وقائد ثورتها ورمز عروبتها . وكانت أولى ثمار هذا المد العظيم تحقق أول وحدة في تاريخ العرب الحديث بين مصر وسوريا في 22 فبراير 1958 . وبقدر تعاظم هذا الدور القومي , تكالبت القوى الاستعمارية واستطاعت فعلا إحداث نكسات مؤلمة في مسيرة النضال العربي تحت القيادة الناصرية .. فكان نجاح مؤامرة انفصال سوريا عن دولة الوحدة التي تشاركت في نسجها الدول الاستعمارية المتضررة من البركان الثوري الذي أطلقته ثورة يوليو في المنطقة العربية والدول الرجعية الخائفة على عروشها بعد أن سحب جمال عبد الناصر منها ولاء شعوبها والقوى الإقطاعية والرأسمالية في سوريا التي استشعرت الخطر على مصالحها بعد قرارات يوليو الاشتراكية عام 1961 والأغرب من هذا قوى اليسار التقليدي التي كانت تنظر إلى الثورة وإنجازاتها بعين الريبة والتشكيك وأيضا بعض القوى القومية التي كانت قد انسحبت من دولة الوحدة وأعماها خلافها معها عن رؤية أن الذي طعن هو هدف الوحدة الذي هو مبرر وجودها أصلا . ولكن رد الثورة وقائدها كان التمسك باسم الجمهورية العربية المتحدة كرمز للوحدة والتحدي , وتعميق خط الثورة السياسي والاجتماعي بإصدار ميثاق العمل الوطني كنظرية عمل تسترشد بها الثورة وجماهيرها في مسيرتها الصاعدة , وكان دعم ثورة اليمن في شطره الشمالي للتخلص من نظام الإمامة المتخلف وفي شطره الجنوبي حتى تحرر من ربقة الاستعمار البريطاني , وكانت استجابته لمشروع الوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق عام 1963 رغم تجربته السلبية مع تلك القوى التي كانت تحكم القطرين المذكورين آنذاك ؛ فلما انهار ذلك المشروع الوحدوي بسبب ذات المواقف التي ساهمت سابقا في انهيار الوحدة الرائدة من قبل تلك القوى ذاتها , طرح عبد الناصر الحركة العربية الواحدة كطريق لتحقيق الوحدة العربية . وكانت نكسة يونيو 1967 أخطر تلك الضربات التي حاولت كسر الثورة الناصرية وإسقاطها أوعلى الأقل حصرها داخل مصر , ولكن عبد الناصر , وهو يعيد بناء جيشه لمعركة التحرير ويخوض حرب الاستنزاف المجيدة , ظل يؤكد على قومية المعركة ويسعى لبناء الجبهة الشرقية ضد العدو الصهيوني , وظل ينادي القدس قبل سيناء , وظل يحرض المقاومة الفلسطينية على رفض ما يضطر لقبوله لأسباب تكتيكية , وعندما شرع النظام الأردني بالبطش بها في أيلول الأسود 1970 نهض لنصرتها وإنقاذها رغم إسفافها في الهجوم عليه , ولفظ أنفاسه الأخيرة شهيد فلسطين والقضية القومية . ولم يقتصر هذا الدور القومي لثورة 23 يوليو على هذه المعارك المباشرة والتعبئة الإعلامية وإنما نهضت لتساهم في دفع عجلة التنمية والتقدم في كل الأقطار العربية إيمانا منها بوجوب بناء قاعدة تحتية متينة تكون الأساس الصلب الذي ينهض عليه صرح الوحدة العربية , فأرسلت البعثات التعليمية من كل المستويات والخبراء في كل الميادين إلى الجزائر واليمن والخليج العربي وإلى كل قطر عربي يحتاج إلى مثل تلك الخدمات , وفتحت جامعاتها للطلبة العرب من كل مكان وبلا حدود , ودربت الضباط العرب في كلياتها العسكرية , ووضعت خبراتها الإعلامية والعلمية والإدارية بتصرف أي قطر عربي يطلبها . كما عملت على تنشيط وإنشاء منظمات المجتمع المدني العربية القومية كالاتحادات المهنية والنقابية العربية كاتحاد المحامين العرب واتحاد الصحفيين العرب والاتحاد الدولي للعمال العرب وغيرها التي لعبت أدوارا هامة في دعم القضايا العربية مثل الموقف التاريخي لاتحاد العمال العرب في قضية الباخرة كليوباترا , ولقد حرص جمال عبد الناصر على الالتقاء دوريا بهذه المنظمات الجماهيرية القومية واتخذها منبرا لإعلان كثير من مواقفه القومية الهامة كدعوته لقيام الحركة العربية الواحدة التي أطلقها في اجتماع المؤتمر العام لاتحاد المحامين العرب 1963 . كان أسلوب ثورة 23 يوليو في ممارسة دورها القومي بحد ذاته إسهاما كبيرا في مسيرة العمل القومي حيث اتخذ مستويين في التنفيذ فرضتهما الطبيعة المزدوجة لنظامها ؛ كونها دولة قطرية مركزية عليها التزامات تجاه كيانها ونظامها وتجاه بقية الدول العربية وتجاه بقية دول العالم محكومة بالقواعد الدولية المقيدة من جهة , وكونها ثورة ذات رسالة قومية تسعى إلى تغيير الواقع العربي بما في ذلك محاربة الأنظمة المعيقة لهذا التغيير من جهة أخرى . ولكن هذا الأسلوب في كلا مستوييه كان يصدر عن استراتيجية واحدة هي الالتزام بالأهداف القومية العليا وفتح الطريق لتحقيقها , وفي كل الأحوال مصلحة الأمة العربية الراهنة والمستقبلية .. وإن كان يحدث أحيانا بعض التداخل أو التضارب أو التجاوز في عمل الأجهزة المنفذة هنا أو هناك . 1- فعلى مستوى الدولة : كانت الحركة تتم تحت شعار وحدة الصف العربي وتنطلق من الاستفادة من مؤسسات العمل العربي المشترك الموروثة كالجامعة العربية وأجهزتها حيث كان لمصر الناصرية دور بارز في تطويرها إلى أقصى حد ممكن يتجاوز دورها المرسوم بالأصل لتكريس الدول القطرية إلى التعاون بما يخدم القضايا العربية ولاسيما في مجال الصراع العربي الإسرائيلي , فكانت وراء استحداث مؤتمرات القمة كأعلى مستوى لاتخاذ القرار , وكانت وراء إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية لتمثيل شعب فلسطين في المحافل الدولية وإحباط المحاولات التي كانت تجري لطمس اسم فلسطين من قبل الصهيونية والقوى الاستعمارية . ولقد كان لهذا التحرك دوره البارز بعد عدوان 1967 ولاسيما في مؤتمر الخرطوم حيث ألزمت الدول العربية بتقديم الدعم المادي لدول المواجهة – مصر الثورة أساسا – في مواجهة العدو الصهيوني , وحيث أقرت اللاءات الشهيرة ( لاصلح ولا تفاوض ولا اعتراف باسرائيل ) كخطوط حمراء لا يتم تجاوزها . 2- مستوى التحرك الثوري : وهو المستوى الاستراتيجي والأهم , وكان يجري تحت شعار وحدة الهدف , وابتدأ بدعم كل الحركات العربية الثورية والقومية والتعاون معها كما رأينا , وانتقل إلى درجة أعلى بالدعوة إلى وحدة القوى الثورية ضمن حركة عربية واحدة تكون أداة النضال العربي في تحقيق أهدافه , ثم بدأت ترجمة هذا التوجه بإعداد جيل ثوري قومي من خلال معسكرات للشباب العربي ودورات وبرامج حوارية وتثقيفية يتم من خلالها فرز نويات طليعية من كل الأقطار العربية تتحرك في ساحاتها وبين قواعدها الشعبية من أجل إقامة هذه الحركة المنشودة . وفي اكتوبر 1965 تم تكليف أمين الشؤون العربية في الاتحاد الاشتراكي ورئاسة الجمهورية لتجسيد هذه الحركة في تنظيم قومي يبنى بتؤدة وعناية من خلال الطلائع العربية الشابة التي صقلت في معارك النضال القومي في ساحاتها , ولقد أثرت نكسة يونيو 1967 على وتيرة بناء هذا التنظيم ولكنه استطاع تحقيق لقاءه القومي الأول بما فيها مشاركة الأمين المساعد للتنظيم الطليعي في مصر في خريف عام 1969 , إلا أن الضربة الأليمة التي هزته فيما هزت من مؤسسات ثورة يوليو كانت انقلاب مايو 1971 التي قطعت مسيرة هذه الثورة الرائدة في قلب الأمة العربية وكانت بداية الإنهيار الكبير الذي لانزال نعيش تداعياته . لقد مثلت ثورة 23 يوليو بقيادة جمال عبد الناصر نقلة استراتيجية هائلة في حركة النضال القومي العربي , ولقد تحققت هذه النقلة النوعية من خلال الإنجازات الأساسية التالية : 1- حسم عروبة مصر وتصحيح المعادلة المختلة التي كانت سائدة ( عروبة بلا مصر , ومصر بلا عروبة ! ) 2- وفرت للدعوة القومية وحركتها اقليمها القاعدي المطلوب والمفتقد . 3- وفرت للحركة القومية القيادة التاريخية المؤهلة للزعامة والتي استقطبت الأغلبية الساحقة من الجماهير العربية على امتداد الوطن العربي بأسره . 4- نقلت الدعوة القومية من مجال النخبة الضيق لتصبح مطلبا جماهيريا بطول الوطن العربي وعرضه. 5- أعطت للقومية العربية مضامينها الاجتماعية والتحررية بعد أن كانت دعوة مثالية مجردة , وربطتها ببقية أهداف النضال العربي ربطا جدليا . 6- بينت العلاقة الجدلية التكاملية بين العروبة والإسلام بعد أن كانا موضع تضاد من قبل القوى التي كانت ترفع راياتهما . 7- نقلت القومية العربية من المجال النظري المجرد إلى حيز التطبيق العملي من خلال التجارب الوحدوية التي أنجزت والمعارك التي خيضت بغض النظر عن النجاح أو الفشل . والآن , وبعد مرور هذا الوقت الطويل على رحيل هذا القائد العظيم والانقلاب على نظامه الثوري في قلب الأمة العربية مصر , وتردي الوضع العربي إلى هذا الدرك الذي نحن فيه ؛