فهذه المهمة الرسالة التي تضطلع بها الحركة القومية العربية وتجسدها في حوار الاديان والثقافات هي التي تعزز من الطابع الانساني للحركة القومية، وتحررها من شبهات العنصرية او العرقية، بل تدفعها اليوم، كما في الزمن الغابر ، لان تكون مساهمة رئيسية في الحضارة الانسانية الكونية، فتحرص على ان يكون خطابها انسانياً لا تشوبه أي مفردات تعادي الشعوب مهما كان رفضها للدوائر الحاكمة فيها، ولا تجافي امما حتى ولو حمل زعماء هذه الامم مشاريع معادية لامتنا، بل هي في نضالها ضد سياسيات هذه الدوائر الحاكمة لا تسعى لتحرير العرب من مخاطر الهيمنة والاحتلال فحسب، بل تسهم في تحرير تلك الشعوب نفسها من تلك السياسات واكلافها، لان شعباً يستعبد شعباً آخر لا يمكن ان يكون حراً.
ولعل في المقاومة العراقية الباسلة المثل الحي والدليل القاطع على ان العراقيين في مواجهتهم للمحتل الامريكي والبريطاني والغربي انما يعجلون في تخليص الشعوب الامريكية والبريطانية والغربية من سياسات تدفع بابنائهم الى الموت المجاني خارج بلادهم، وتدفع باقتصادهم للترنح بسبب مغامرات حكامهم غير المحسوبة، بل انما يعجلون بانقاذ قيم الامريكيين ومثلهم من التشويه الذي الحقتهم بهم سياسات هذه الحكام.
ان مهمة التكامل بين هذه الحلقات او الدوائر جميعها، والاحترام العميق لخصوصية كل منها، بدءاً من الانسان – الفرد وصولاً الى الرابطة الانسانية الكونية لا يمكن ان تضطلع بها الحركة القومية العربية الحديثة اذا لم تؤكد على عمق ترابطها بالديمقراطية والشورى، وان تسقط نهائيا من ادائها او خطابها او ممارساتها ذلك المنطق الذي يستخف بالديمقراطية او يقفز فوقها، او يؤجل استحقاقاتها، او يتنكر لها بحجة الاهتمام بقضايا اخرى اكثر اهمية.
الحركة القومية والديمقراطية
فالديمقراطية بوجهيها السياسي والاجتماعي ليست مجرد هدف نسعى الى الوصول اليه في احد الايام، بل هي ممارسة نحياها كل يوم في علاقة المواطن بالمواطن، والجماعة بالجماعة، والقطر بالقطر، والامة بالامم الاخرى، وهي ايضا آلية نحتكم اليها في ادارة شؤون بلادنا، وفي ادارة العلاقات بين مكونات مجتمعنا، وفي رعاية الخصوصيات التي تتوزع بين ظهرانينا، بل في تعبئة الجهود والطاقات لمواجهة تحديات خارجية كانت ام داخلية، عسكرية كانت ام سياسية، اقتصادية كانت ام اجتماعية.
فالديمقراطية اذن ليست هدفا من اهداف مشروعنا الحضاري النهضوي فقط، بل هي ضمانة الوصول الى الاهداف الاخرى، وبالتالي فهي ملح الحركة القومية العربية الذي يمنحها القدرة ان تكون، كما هي بالتعريف، حركة جامعة لكل ابناء الامة ومكوناتها، واطارا ناظما لعلاقة الامة بداخلها والخارج، ومصدر الحيوية الهائلة داخلها والشلال الذي تتدفق عبره كل مصادر الطاقة الكامنة في الامة.
ولقد اثبتت تجارب انظمتنا القومية التحررية انها رغم عظمة ما انجرته على غير صعيد، ورغم سلامة المواقف القومية والتحررية التي اتخذتها في وجه مطامع الاعداء ومشاريعهم، فان عيب النقص في الديمقراطية الذي شابها كان في احيان كثيرة عقب اخيل الذي مكن سهام الاعداء من النيل منها، والا كيف نفسر ان هم جمال عبد الناصر بعد حرب 1967 كان محصورا بامرين رئيسيين الاعداد العسكري لازالة اثار العدوان، والاعداد السياسي الداخلي القائم على بناء نظام ديمقراطي تعددي يتنافس فيها حزبان على خدمة مصر وشعبها.
ان التأكيد على تعميق المضمون الديمقراطي للحركة القومية العربية ليس شرطا من احد عليها، بل هو شرطها على نفسها، به تحقق تقدمها، وتغلق الثغرات بوجه اعدائها، بل به تحظى على الحيوية والقدرة لانجاز مشروعها النهضوي.
واذا كان للديمقراطية جملة مواصفات بات الاتفاق عليها شاملا كاطلاق حرية التعبير المسؤولة، والعمل النقابي الجمعوي التعددي والمستقل غير المرتهن للخارج او غير المراهن عليه، وكالاحتكام الى صناديق الاقتراع، والتداول السلمي للسلطة، والفصل بين السلطات، وتحقيق المحاسبة والشفافية، فان المواطنة تكاد تكون حجر الزاوية الرئيسي في هذا النظام، لا سيما في امة شديدة التنوع كامتنا، حيث لا يجوز ان يتميز المواطن عن سواه في الحقوق او الواجبات.
المواطنة
مع مفهوم المواطنة هذا، الذي هو الترجمة الدستورية والسياسية لمفهوم العروبة الديمقراطية الجامعة، لا يستقيم الحديث عن اقلية دينية او مذهبية او عرقية خصوصا في منطقة تسكنها اكثريتان، كما قال يوما الامام المغفور له الشيخ محمد مهدي شمس الدين – رحمه الله – اكثرية عربية فيها المسلم وغير المسلم، واكثرية مسلمة فيها العرب وغير العرب.
ومن هنا ان مفكراً عربياً كبيراً كالدكتور احمد صدقي الدجاني – رحمه الله – قد نحت مصطلح "الاقوام" لكي يقي من خلاله الفكر القومي العربي الحديث من مخاطر الانزلاق الى الحديث عن الاقليات بكل ما تعنيه الكلمة من احساس بالتفوق لدى البعض، واحساس بالدونية لدى البعض الاخر.