ويذكر رفاق عبد الناصر وكتاب سيرته ، أنه فى الإسكندرية شارك فى إحدى المظاهرات ، وتلقى بضع ضربات بعصى غليظة على وجهه؛ الأمر الذى أخره عن تأدية امتحانات آخر العام ، وأن هذه المظاهرة كانت بداية اشتغاله بالسياسة، وهو لا يزال طالباً بالمدرسة الثانوية (11) ، حيث انفعل بحالة الغليان التى كانت تعانى منها مصر وقتئذ ، حيث كانت تناضل من ناحية لإلغاء التحفظات الأربعة التى ضمت تصريح 28 فبراير ، وجعلت الاستقلال الذى حصلت عليه مصر بمقتضاه مجرد حبر على ورق ، ومن ناحية أخرى كان الصراع محتدماً بين القصر والأحزاب المصرية حول دستور 1923 ، الذى عطله إسماعيل صدقى ، وأصدر بدلاً منه دستور 1930(12) .
على أية حال انتقل عبد الناصر بعد ذلك من مدرسة رأس التين إلى المدرسة الفريدية، حيث واصل دراسته عامين ، وفى سنة 1933 انتقل مرة أخرى إلى القاهرة ، بعد انتقال والده إليها ، حيث واصل دراسته فى مدرسة النهضة الثانوية بحى الظاهر التى أصبح رئيس اتحاد الطلاب بها (13) .
واستقرت الأسرة بحى باب الشعرية ، بجوار مسجد الشعرانى، وحسب رواية صديق طفولة عبد الناصر ، وأخوه فى الرضاعة، حسن النشار(14) ، فإن مكتبة هذا المسجـد ، وكـذا الكتـب التى كان يستعيرها جمال عبد الناصر من أساتذته ستمثل مصدراً مهماً مـــن المنابـــع التى نهـل منها عبد الناصر فى هذه المرحلة المهمة من تاريخه ، حيث كان يقضى بمسجد الشعرانى ساعات طويلة يقرأ ، وكانت مكتبة المسجد تضم العديد من كتب الدين والسير والتاريخ، أتى على معظمها عبد الناصر ، وكان ما يزال فى الخامسة عشرة من عمره (15) .
ولم يكتف عبد الناصر بكتب مكتبة مسجد الشعرانى ، بل لجأ أيضاً إلى الاستعارة من مكتبة أساتذته فى مدرسة النهضة (16) .
ولقد تتبع " فوشيه" المؤلفات التى قرأها عبد الناصر، وهو لا يزال طالباً فى المرحلة الثانوية ، ورصد لنا كيف قام عبد الناصر بعملية تثقيف ذاتى صارمة ، ميزته عن رفاقه فى المدرسة الثانوية (17) .
لقد شكلت قراءات عبد الناصر وتأملاته فى هذه المرحلة المهمة من حياته النواة التى تمحورت حولها أفكاره ورؤاه ، فما هى أهم المؤلفات التى قرأها عبد الناصر فى مسجد الشعرانى ؟ ومن أساتذة مدرسة النهضة ؟
كان فى مقدمة هذه الكتب ، مجموعة من المؤلفات التى تناولت تاريخ العرب والإسلام وسيرة الرسول ، من ذلك ، كتاب "المدافعون عن الإسلام" الذى نشره وقدم له الزعيم الوطنى مصطفى كامل، بهدف تذكير الأمة المصرية بمجدها الغابر، ووصف روعة الحضارة العربية، وأثرها فى الغرب، فضلاً عن دعوة معاصريه إلى العمل على إحياء تراث الإسلام (18) .
وربما تجدر الإشارة إلى أن كتاب " المدافعون عن الإسلام " وصل فيما وصل إليه إلى أن الرسول محمد مثل وقدوة؛ حيث تمكن بعد عشرين عاماً فقط من بدء رسالته من إرساء قواعد النظام والعدل(19) . واللافت للنظر أن جمال عبد الناصر أجاب على سؤال للكاتب الإنجليزى " ديزموند ستيوارت" حول أهم الشخصيات العظيمة التى أثرت فيه، واتخذها مثلاً له منذ أيام الصبا، بأن شخصيـة الرسـول " محمد بن عبد الله " كانت أعظمها جميعاً ، فهو عنده " القائد والزعيم والمجاهد الذى جاهد كثيراً من أجل إخراج الشعب العربى من الظلمات إلى النور ، فضلاً عن أنه جمع شملهم ، ووحد كلمتهم حول مبدأ وشريعة ، بالإضافة إلى أنه تعلم منه فضيلة الصبر والكفاح "(20) .
بالإضافة إلى كتاب " المدافعون عن الإسلام " ، قرأ عبد الناصر فى هذه المرحلة بعض المؤلفات عن حياة المناضل والزعيم الوطنى " مصطفى كامل " ، وكان حريصاً أيضاً على قراءة مقالاته الثورية ، ولقد اتضح مدى تأثره بـ " مصطفى كامل " من رسالة أرسلها لصديقه حسن النشار، فى سبتمبر 1935 ، حيث ورد فيها اسم مصطفى كامل ثلاث مرات، واستشهد فيها أيضاً ببعض عبارات مصطفى كامل الحماسية (21) .
ومن المؤلفات المهمة التى قرأها عبد الناصر، كتاب "طبائع الاستبداد" للكاتب الوطنى السورى عبد الرحمن الكواكبى، الذى شن فيه ثورة عارمة على استبداد الأتراك، وطغيانهم ، ونهبهم لثروات الشعوب العربية ، كما تناول الكواكبى بالنقد العنيف الغرب وسياساته (22) .
وقرأ عبد الناصر أيضاً كتاب " أم القرى " الذى تخيل فيه مؤلِفُه مكة " أم القرى " وقد أصبحت مكاناً لاجتماع شاركت فيه جميع الشعوب الإسلامية، وحاول المجتمعون من خلاله اكتشاف الأسباب المسئولة عن تخلف المشرق الإسلامى ، والطريق للتحرر من الاستعمار ، وخلص الكتاب إلى الاعتراف بضعف وخمول وتخلف المسلمين ، وإلى أن الجهل هو العامل الرئيسى المسئول عن ذلك ، وإلى الافتقار إلى زعيم يقود الشعب ، وإلى ضعف الرأى العام ، كما خلص إلى أن العلاج يكمن فى تعليم الشعوب وبث الحماسة والرغبة فى التقدم فى نفوس الجيل الجديد ، كما انتهى إلى ضرورة اتخاذ مصر مركزاً للانطلاق؛ نظراً لتقدمها فى العلوم، ولدورها التاريخى(23).
وربما تجدر الإشارة ، إلى أن عبد الناصر، قد أشار فى فلسفة الثورة، إلى فكرة المؤتمر الإسلامى ، وفكرة الدائرة العربية، والدور المصرى فى قلبها(24) .
ولا نستبعد أن تكون قراءته لهذا الكتاب قد لفتت نظره إلى موقع مصر، وأهمية دورها فى المنطقة العربية ، وهو ما ستساعد المصادر الأخرى فى بلورته بعد ذلك .
ومن المؤلفات التى قرأها عبد الناصر فى هذه الفترة أيضاً ، كتاب أحمد أمين عن "مجددى الإسلام" أمثال جمال الدين الأفغانى، ومحمد عبده(25). وكذا كتاب " وطنيتى " لعلى الغاياتى الوطنى المصرى الذى هاجر من مصر إلى " جنيف " ، وأصدر جريدة " منبر الشرق " ، ليدافع من خلالها عن حقوق شعوب الشرق (26) .
ولقد ذكر عبد الناصر أن قراءاته فى هذه الفترة كانت مزيجاً من القصص والتاريخ، وأنه اهتم كثيراً بدراسة تاريخ مصر فى القرن التاسع عشر(27) . كما أنه كان مولعاً بمتابعة المقالات السياسية والفكرية فى الصحف والمجلات الوطنية والحزبية ؛ كصحيفتى الوفد واللواء ، وكذا جريدة الأخبار التى كان يصدرها المناضل أمين الرافعى، أحد زعماء الحزب الوطنى والمعروف بعدائه لأى حل وسط مع المستعمر الإنجليزى (28). ويشير حسن النشار إلى أن عبد الناصر كان معجباً بمقالات أمين الرافعى، خاصة تلك التى تناولت فضل الحضارة العربية على الحضارة الغربية ، وإنه آمن برأيه حول إمكانية استعادة العرب لدورهم بالعلم، والوحدة، والحرية (29) .
ومن الشخصيات التى قرأ لها عبد الناصر أيضاً ، الأمير شكيب أرسلان الذى كتب أيضاً عن الشرق ومجده السالف (30) ، وإبان المرحلة الثانوية أيضاً دفعه أستاذه أحمد حسنين القمرنى إلى القراءة فى تاريخ الثورة الفرنسية ؛ فقرأ حول " جان جاك روسو " و " فولتير" ، واستهواه الأخير ، حيـث أعجـب بثورته على فساد نظام الحكم والكنيسة ، وسجل ملاحظاته عن " فولتير " وعبر عن إعجابه به فى مقال نشره فى مجلة مدارس النهضة بعنوان " فولتير رجل الحرية " (31) .