فنارة الإسكندرية
الإسكندرية أجمل امرأة في العالم، تجمع عشاقها من حولها
وتغمرهم بمحبة بحرها بجنونه وصخبه..
هي المدينة البيضاء بلون قلوب ناسها والزرقاء بلون العمق.
والإسكندرية هي أكثر ما لفت أنظار المؤرخين العرب وغيرهم
بتاريخها الموغل في القدم وبآثارها الفريدة في شكلها ومعناها.
ولعل من أهم ما عرف عن الإسكندرية،
كانت »المنارة« التي اعتبرها الجميع واحدة من أهم عجائب الدنيا..
وبالغوا في وصفها وأسطورتها..
ولأنه لم تعد المنارة أمام عيوننا اليوم لذا سنلجأ لمؤرخي العرب المشهورين
حتى يحكوا لنا حكاية تلك المنارة العجيبة أو لنقل الأسطورة.
يتكلم »المسعودي« عن منارة الإسكندرية
فيذكر أن أكثر المصريين يعتقدون أن الذي بناها هو
»الاسكندر بن فيليبش المقدوني«
ومن المصريين أيضا من يعتقد أنها ترجع إلى الملكة »دلوكة«
حيث بنتها لتكون مكانا تراقب به أعداءها..
وربما يعتمد البعض على عاشر ملوك الفراعنة ليكون صاحب المنارة.
إلا أن »المسعودي« يذكر أيضا رأيا عجيبا يقول أن الذي بنى مدينة »روما«
هو الذي بنى الإسكندرية ومناراتها والأهرام بمصر،
وإنما أضيفت الإسكندرية إلى (الاسكندر)
لشهرته باستيلائه على كثير من ممالك العالم.
وبعيدا عن الآراء التي تحدد صاحب »المنارة« فإن »المسعودي«
يبدأ في ذكر مواصفاتها فيقول:
الذي بناها جعلها على كرسي من زجاج على هيئة السرطان في جوف البحر
وعلى طرف اللسان الذي هو في داخل البحر وجعل على أعلاها تماثيل
من النحاس وغيره، ومنها تمثال قد أشار بسبابته من يده اليمنى نحو الشمس،
أينما كانت من الفلك، وإذا كانت الشمس عالية أشار إليها
وإذا انخفضت فإن يده تشير لأسفل وهناك تمثال آخر يشير بيده إلى البحر
إذا صار العدو على نحو ليلة من الإسكندرية فإذا اقترب العدو
أصبح من الممكن رؤيته بالعين فإن هذا التمثال يصرخ بصوت هائل
يمكن سماعه من على بعد ثلاثة أميال فيعلم أهل المدينة أن العدو
قد اقترب منهم فيخرجوا للحرب.. وتمثال آخر بمثل هذه الغرابة
كلما مضى من النهار أو الليل ساعة فإنه يصدر صوتا واضحا مختلفا
عن صوت الساعة السابقة وصوته جميل وبه طرب!!
ومن الحوادث التي تذكر عن محاولات الروم التخلص من هذه المنارة
التي تهدد دخولهم مصر واستيلاءهم عليها.. تلك القصة التي تدور
عن أحد ملوك الروم حين أرسل أحد أتباعه إلى »الوليد بن عبد الملك بن مروان«..
وجاء هذا التابع واستأمن »الوليد« وأخبره أن ملك الروم يريد قتله،
ثم أنه يريد الإسلام على يد »الوليد«.. وبالطبع اقتنع »الوليد«
وقربه من مجلسه وسمع نصائحه..
خاصة أن هذا الرجل قام باستخراج دفائن وكنوز عديدة من بلاد دمشق
والشام وغيرها بكتب كانت معه فيها وصفات لاستخراج تلك الكنوز..
وقتها زاد طمع »الوليد« وشراهته
حتى قال له الخادم يا أمير المؤمنين إن هاهنا أموالا وجواهر
ودفائن للملوك مدفونة تحت منارة الإسكندرية وقد قام بدفنها الاسكندر
بعد استيلائه عليها من شداد بن عاد وملوك مصر وبنى لها نفقا تحت الأرض
به قناطر وسراديب وبنى فوق ذلك كله المنارة..
وكان طول المنارة وقتها ألف ذراع والمرآة الكبيرة في أعلاه.
فقام الوليد بإرسال جيش من جنوده وخلصائه
ومعهم هذا »الخادم« الداهية وهدموا نصف المنارة من أعلاها
وأزيلت المرآة.. فهاج الناس وقد علموا أنها مكيدة من الروم..
وبعد أن نفذ »الخادم«
خطته قام بالهرب في البحر ليلا عن طريق مركب أعده لذلك من قبل.
ومن الحكايات الغريبة أيضا عن »المنارة« ما يذكره »المقريزي« في خططه.
أن البحر من حولها كان مليئا بالجواهر وكان الناس
يخرجون منه فصوصا للخواتم ويقال أن ذلك من آلات اتخذها الاسكندر
للشراب فلما مات كسرتها أمه ورمت بها في تلك المواضع من البحر.
ومنهم من رأى أن الاسكندر اتخذ ذلك النوع من الجواهر
وغرقه حول »المنارة« لكي لا تخلو من الناس حولها،
لأن من شأن الجواهر أن تكون مطمعا للناس في كل مصر.
أما عن المرآة التي كانت في أعلى المنارة فيذكر »المقريزي«
سببا لوجودها أن ملوك الروم بعد الاسكندر
كانت تحارب ملوك مصر والإسكندرية فجعل من كان بالإسكندرية
من الملوك تلك المرآة. والتي يمكن من خلالها أن ترى أي شئ في البحر،
أو كما ذكر »عبدالله بن عمرو« أن من يجلس تحت المنارة
وينظر في المرآة فيمكنه أن يرى من هو بالقسطنطينية.
ولم تكن المنارة بناءاً بسيط التركيب أو التصميم،
بل يمكن اعتبارها متاهة حقيقية،
فكان من يدخلها يضل فيها إلا أن يكون عارفاً بالدخول والخروج
لكثرة بيوتها وطبقاتها ومرآتها، وقد ذكر أن المغاربة حين جاءوا
في خلافة »المقتدر« في جيش كبير، ودخل جماعة منهم على خيولهم
إلى »المنارة« فتاهوا فيها في طرق تؤدي إلى مهاو تهوي
إلى السرطان الزجاجي وفيه سراديب تؤدي إلى البحر،
فتهورت الخيول و فقد عدد كبير من المغاربة.
وحتى أيام المقريزي
كان ثمة بقية للمنارة تتجاوز مائتي وثلاثين ذراعا
وكان في المنارة مسجد يرابط فيه المتطوعون من المصريين..
غير أن الكوارث بدأت تحل بهذا البناء الأسطورة 777 هـ
حين سقط رأس المنارة من زلزال قوي اجتاح السواحل كلها.