فصل : في اشتمال الفاتحة على الرد على جميع المبطلين من أهل الملل والنحل
فصل : في اشتمال الفاتحة على الرد على جميع المبطلين من أهل الملل والنحل ، والرد على أهل البدع والضلال من هذه الأمة
وهذا يعلم بطريقين ، مجمل ومفصل :
أما المجمل : فهو أن الصراط المستقيم متضمن معرفة الحق ، وإيثاره ، وتقديمه على غيره ، ومحبته والانقياد له ، والدعوة إليه ، وجهاد أعدائه بحسب الإمكان .
والحق : هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وما جاء به علما وعملا في باب صفات الرب سبحانه ، وأسمائه وتوحيده ، وأمره ونهيه ، ووعده ووعيده ، وفي حقائق الإيمان ، التي هي منازل السائرين إلى الله تعالى ، وكل ذلك مسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دون آراء الرجال وأوضاعهم وأفكارهم واصطلاحاتهم .
فكل علم أو عمل أو حقيقة ، أو حال أو مقام خرج من مشكاة نبوته ، وعليه السكة المحمدية ، بحيث يكون من ضرب المدينة ، فهو من الصراط المستقيم ، وما لم يكن كذلك فهو من صراط أهل الغضب والضلال ، فما ثم خروج عن هذه الطرق الثلاث : طريق الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، وطريق أهل الغضب ، وهي طريق من عرف الحق وعانده ، وطريق أهل الضلال وهي طريق من أضله الله عنه ، ولهذا قال عبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم : " الصراط المستقيم : هو الإسلام " ، وقال عبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما : " هو القرآن " ، وفيه حديث مرفوع في الترمذي وغيره ، وقال سهل بن عبد الله : " طريق السنة والجماعة " ، وقال بكر بن عبد الله المزني : " طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
ولا ريب أن ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه علما وعملا وهو معرفة الحق وتقديمه ، وإيثاره على غيره ، فهو الصراط المستقيم .
وكل هذه الأقوال المتقدمة دالة عليه جامعة له .
فبهذا الطريق المجمل يعلم أن كل ما خالفه فباطل ، وهو من صراط الأمتين : الأمة الغضبية ، وأمة أهل الضلال .
وأما المفصل : فبمعرفة المذاهب الباطلة ، واشتمال كلمات الفاتحة على إبطالها ، فنقول :
الناس قسمان : مقر بالحق تعالى ، وجاحد له ، فتضمنت الفاتحة إثبات الخالق تعالى ، والرد على من جحده ، بإثبات ربوبيته تعالى للعالمين .
وتأمل حال العالم كله ، علويه وسفليه ، بجميع أجزائه : تجده شاهدا بإثبات صانعه وفاطره ومليكه ، فإنكار صانعه وجحده في العقول والفطر بمنزلة إنكار العلم وجحده ، لا فرق بينهما ، بل دلالة الخالق على المخلوق ، والفعال على الفعل ، والصانع على أحوال المصنوع عند العقول الزكية المشرقة العلوية ، والفطر الصحيحة أظهر من العكس .
فالعارفون أرباب البصائر يستدلون بالله على أفعاله وصنعه ، إذا استدل الناس بصنعه وأفعاله عليه ، ولا ريب أنهما طريقان صحيحان ، كل منهما حق ، والقرآن مشتمل عليهما .
فأما الاستدلال بالصنعة فكثير ، وأما الاستدلال بالصانع فله شأن ، وهو الذي أشارت إليه الرسل بقولهم لأممهم أفي الله شك أي أيشك في الله حتى يطلب إقامة الدليل على وجوده ؟ وأي دليل أصح وأظهر من هذا المدلول ؟ فكيف يستدل على الأظهر بالأخفى ؟ ثم نبهوا على الدليل بقولهم فاطر السماوات والأرض .
وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية قدس الله روحه يقول : كيف يطلب الدليل على من هو دليل على كل شيء ؟ وكان كثيرا ما يتمثل بهذا البيت :
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
[ ص: 83 ] ومعلوم أن وجود الرب تعالى أظهر للعقول والفطر من وجود النهار ، ومن لم ير ذلك في عقله وفطرته فليتهمهما .
وإذا بطل قول هؤلاء بطل قول أهل الإلحاد ، القائلين بوحدة الوجود ، وأنه ما ثم وجود قديم خالق ووجود حادث مخلوق ، بل وجود هذا العالم هو عين وجود الله ، وهو حقيقة وجود هذا العالم ، فليس عند القوم رب وعبد ، ولا مالك ومملوك ، ولا راحم ومرحوم ، ولا عابد ومعبود ، ولا مستعين ومستعان به ، ولا هاد ولا مهدي ، ولا منعم ولا منعم عليه ، ولا غضبان ومغضوب عليه ، بل الرب هو نفس العبد وحقيقته ، والمالك هو عين المملوك ، والراحم هو عين المرحوم ، والعابد هو نفس المعبود ، وإنما التغاير أمر اعتباري بحسب مظاهر الذات وتجلياتها ، فتظهر تارة في صورة معبود ، كما ظهرت في صورة فرعون ، وفي صورة عبد ، كما ظهرت في صورة العبيد ، وفي صورة هاد ، كما في صورة الأنبياء والرسل والعلماء ، والكل من عين واحدة ، بل هو العين الواحدة ، فحقيقة العابد ووجوده أو أنيته : هي حقيقة المعبود ووجوده وأنيته .
والفاتحة من أولها إلى آخرها تبين بطلان قول هؤلاء الملاحدة وضلالهم .
والمقرون بالرب سبحانه وتعالى أنه صانع العالم نوعان :
[ ص: 84 ] نوع ينفي مباينته لخلقه ، ويقولون : لا مباين ولا محايث ، ولا داخل العالم ولا خارجه ، ولا فوقه ولا تحته ، ولا عن يمينه ولا عن يساره ، ولا خلفه ولا أمامه ، ولا فيه ولا بائن عنه .
فتضمنت الفاتحة الرد على هؤلاء من وجهين :
أحدهما : إثبات ربوبيته تعالى للعالم ، فإن الربوبية المحضة تقتضي مباينة الرب للعالم بالذات ، كما باينهم بالربوبية ، وبالصفات والأفعال ، فمن لم يثبت ربا مباينا للعالم ، فما أثبت ربا ، فإنه إذا نفى المباينة لزمه أحد أمرين ، لزوما لا انفكاك له عنه البتة : إما أن يكون هو نفس هذا العالم ، وحينئذ يصح قوله ، فإن العالم لا يباين ذاته ونفسه ، ومن هاهنا دخل أهل الوحدة ، وكانوا معطلة أولا ، واتحادية ثانيا .
وإما أن يقول : ما ثم رب يكون مباينا ولا محايثا ، ولا داخلا ولا خارجا ، كما قالته الدهرية المعطلة للصانع .
وأما هذا القول الثالث المشتمل على جمع النقيضين : إثبات رب مغاير للعالم مع نفي مباينته للعالم ، وإثبات خالق قائم بنفسه ، لا في العالم ولا خارج العالم ، ولا فوق العالم ولا تحته ، ولا خلفه ولا أمامه ، ولا يمنته ولا يسرته فقول له خبيء ، والعقول لا تتصوره حتى تصدق به ، فإذا استحال في العقل تصوره ، فاستحالة التصديق به أظهر وأظهر ، وهو منطبق على العدم المحض ، والنفي الصرف ، وصدقه عليه أظهر عند العقول والفطر من صدقه على رب العالمين .
فضع هذا النفي وهذه الألفاظ الدالة عليه على العدم المستحيل ، ثم ضعها على الذات العلية القائمة بنفسها ، التي لم تحل في العالم ، ولا حل العالم فيها ، ثم انظر أي المعلومين أولى به ؟
واستيقظ لنفسك ، وقم لله قومة مفكر في نفسه في الخلوة في هذا الأمر ، متجرد عن المقالات وأربابها ، وعن الهوى والحمية والعصبية ، صادقا في طلب الهداية من الله ، فالله أكرم من أن يخيب عبدا هذا شأنه ، وهذه المسألة لا تحتاج إلى أكثر من إثبات رب قائم بنفسه ، مباين لخلقه ، بل هذا نفس ترجمتها .
ص: 85 ] ثم المثبتون للخالق تعالى نوعان :
أهل توحيد ، وأهل إشراك ، وأهل الإشراك نوعان :
أحدهما : أهل الإشراك به في ربوبيته وإلهيته ، كالمجوس ومن ضاهاهم من القدرية ، فإنهم يثبتون مع الله خالقا آخر ، وإن لم يقولوا : إنه مكافئ له ، والقدرية المجوسية تثبت مع الله خالقين للأفعال ، ليست أفعالهم مقدورة لله ، ولا مخلوقة لهم ، وهي صادرة بغير مشيئته ، ولا قدرة له عليها ، ولا هو الذي جعل أربابها فاعلين لها ، بل هم الذين جعلوا أنفسهم شائين مريدين فاعلين .
فربوبية العالم الكاملة المطلقة الشاملة تبطل أقوال هؤلاء كلهم ، لأنها تقتضي ربوبيته لجميع ما فيه من الذوات والصفات والحركات والأفعال .
وحقيقة قول القدرية المجوسية : أنه تعالى ليس ربا لأفعال الحيوان ، ولا تناولتها ربوبيته ، وكيف تتناول ما لا يدخل تحت قدرته ومشيئته وخلقه ؟ مع أن في عموم حمده ما يقتضي حمده على طاعات خلقه ، إذ هو المعين عليها والموفق لها ، وهو الذي شاءها منهم كما قال في غير موضع من كتابه وما تشاءون إلا أن يشاء الله فهو محمود على أن شاءها لهم ، وجعلهم فاعليها بقدرته ومشيئته ، فهو المحمود عليها في الحقيقة ، وعندهم أنهم هم المحمودون عليها ، ولهم الحمد على فعلها ، وليس لله حمد على نفس فاعليتها عندهم ، ولا على ثوابه وجزائه عليها .
أما الأول : فلأن فاعليتها بهم لا به ، وأما الثاني : فلأن الجزاء مستحق عليه استحقاق الأجرة على المستأجر ، فهو محض حقهم ، الذي عاوضوه عليه .
[ ص: 86 ] وفي قوله وإياك نستعين رد ظاهر عليهم ، إذ استعانتهم به إنما تكون عن شيء هو بيده وتحت قدرته ومشيئته ، فكيف يستعين من بيده الفعل وهو موجده ، إن شاء أوجده وإن شاء لم يوجده بمن ليس ذلك الفعل بيده ، ولا هو داخل تحت قدرته ولا مشيئته ؟ .
وفي قوله اهدنا الصراط المستقيم أيضا رد عليهم ، فإن الهداية المطلقة التامة هي المستلزمة لحصول الاهتداء ، ولولا أنها بيده تعالى دونهم لما سألوه إياها ، وهي المتضمنة للإرشاد والبيان ، والتوفيق والإقدار ، وجعلهم مهتدين ، وليس مطلوبهم مجرد البيان والدلالة كما ظنته القدرية ، لأن هذا القدر وحده لا يوجب الهدى ، ولا ينجي من الردى ، وهو حاصل لغيرهم من الكفار ، الذين استحبوا العمى على الهدى ، واشتروا الضلالة بالهدى .
فصل : النوع الثاني : أهل الإشراك به في إلهيته ، وهم المقرون بأنه وحده رب كل شيء ، ومليكه وخالقه ، وأنه ربهم ورب آبائهم الأولين ، ورب السماوات السبع ، ورب العرش العظيم ، وهم مع هذا يعبدون غيره ، ويعدلون به سواه في المحبة والطاعة والتعظيم ، وهم الذين اتخذوا من دون الله أندادا ، فهؤلاء لم يوفوا " إياك نعبد " حقه ، وإن كان لهم نصيب من " نعبدك " لكن ليس لهم نصيب من إياك نعبد المتضمن معنى : لا نعبد إلا إياك حبا وخوفا ورجاء وطاعة وتعظيما ، ف " إياك نعبد " تحقيق لهذا التوحيد ، وإبطال للشرك في الإلهية ، كما أن " إياك نستعين " تحقيق لتوحيد الربوبية ، وإبطال للشرك به فيها ، وكذلك قوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم فإنهم أهل التوحيد ، وهم أهل تحقيق " إياك نعبد وإياك نستعين " وأهل الإشراك هم أهل الغضب والضلال .
لنا عوووووودة
بعد صلاة العصر
ان شاء الله