( فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ )
لما أعرض أهل سبأ عن طاعة الله مزقهم كل ممزق، وقال: فجعلناهم أحاديث، وفي هذه العبارة من قوة الأسر وروعة البيان ما يهز النفس، فكأنه حول هذه الأمة القوية إلى أحاديث فقط تدور في المجالس على السنة السمار.
لك أن تعمم هذا المثل على كل أمة سادت ثم بادت، أما اصبحت اقوالا تدار في المجالس، أما ذهبت قوتها، وسحق جبروتها، ومات ملوكها، ولم يبق إلا مجرد الخبر عنهم فحسب، أين الدول؟ أين الملوك؟! اين الجيوش؟! ذهبوا ولم يبق من ميراثهم درهم ولا دينار، وإن بقي من بيوتهم الألنس، فلم يفصل في هلاكهم وكيف دمروا وماذا بقي من بيوتهم ومتاعهم، وإنما طوي الزمان والمكان، ثم أخبرنا أنه ما بقي منهم إلا الخبر عنهم، وإن حياة تنتهي إلى هذه الخاتمة لحقيق أن يزهد فيها، وأن يرغب عنها.
فبينما تري الأمم دائبة في صنع وجودها ساعية في بناء حضارتها، وإذا بها هباء منثور ليس في الوجود منهم إلا كلمات تخبر عنهم، وهنا وقف أمام قدرة القوي القهار وهو يأخذ أعداءه هذا الأخذ في لمحة الطرف، ثم لم يبق منهم باقية ، ولم يترك لهم اثراً، ثم التفت إلى جمال عبارة القرآن واسرارها، وسرح الطرف في هذا الحسن لتري الإعجاز في الإيجاز، والقوة في الأسر، والمتعة في التأثير، وانظر إلي الواقع، وأسأل نفسك أين الحضارات التي ملأت الأرض، واين الدول التي طبقت الدنيا، تعيش الدول ألف سنة ثم تنتهي فلا يبقي من آثارها إلا كلمات على شفاع السمار، وجمل على ألسنة الركبان:
أعندكم خبر عن أهل أندلس
فقد مضي بحديث القوم ركبان
اقرأ متن ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ) على حضارة تدمر ودمشق وبغداد والزهراء والحمراء وقرطبة وغرناطة، فإذا هي قاع صفصف، أين التيجان والسلطان والهليمان: ( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) ، إن من يتدبر: ( فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ) يعلم هوان الخليقة على الله، وتفاهة من حاد الله، وسخف من حاربهز
إن عدتهم وعتادهم وقوتهم لا تواجه من الله إلا بكلمة: كن؛ ليصبح الجميع أحاديث تتلى في النوادي ، وقصصاً تساق في المجامع، فلا قصورهم حمتهم ، ولا جيوشهم منعتهم، ولا أموالهم شغفت لهم.
(وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ)
الصبح آية من آيات الله دالة على بديع صنعه وجميل خلقه، فالصبح له طلعة بهية ووجه مشرق يشع بالجلال والحسن، ومن أراد أن يعرف جمال الصبح فليتأمل قدومه بعد صلاة الفجر كيف يدب دبيباً كالبرء في الجسم وكالمااء في العود ، فإن الصبح يزحف بعد جحفل من الظلام فيطويه أمامه، فكأن الكون وجه تتبلج أساريره، وتشرق قسماته، وترتسم على محياه بسماته، وما أجمل الصبح، قيه يهب النسيم العليل، ويشع النور الهادئ ، والضوء الدافئ، وتبدو الحياة، ويميس الزهر، ويندي الظل، وتتفتح الأوراق، تفتح شفاه المحبين عن أسئلة حائرة، وتتفتق الأكمام تفتق عيون العاشقين عن أسرار دفينة.
في الصباح رجع الصدي، وقطر الندي، وحفيت الهواء، وتمتمة الماء، وتغريد الطيور، وسجع الحمام، وأنغام العندليب ، في الصبح يرتحل الفلاح بمسحاته إلى الحقل ، ويسوق البدوي أغنامه إلى المرعي، ويذهب الطالب إلى مدرسته، والطبيب إلى عبادته، والبائع إلى حانوته، فالصبح أذان معلم بالحياة ، وإعلان بيوم جديد، وملاذ مجيد، لنهار آخر من الجد والعمل والعطاء والنماء.
ولكن أما دعاك هذا اللفظ الشائق في قوله: (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) أما وقفت معه وقفه إجلال للإبداع واحترام للبيان؟ كيف يتنفس الصبح؟ ! سؤال يجيب عنه من قرأ حروف القدرة على صفحات الكائنات، والصبح يوم يتنفس كأنه محزون فقد أحبابه، فخرجت أنفاسه الحارة من أعماقه، أو كأنه مكبوت يشكو آلامه، فانبعثت من حشاياه آهاتاه، أو كأنه مظلوم صهر الظلم قلبه فانفجرت روح بزفراته، أو كأنه مسجون كبلت يداه وقيدت قدماه، فعبر بلهيب توجعه عن معاناته.
وما أجمل أسلوب القرآن، ففي كل ذرة من اللفظ درة، ومن يدري لعل الصبح تنفس بعد ليل طويل قاس من الظلام والهجر والقطيعة، ولعله تنفس تنفس المسرور بلقاء أحبابه، السعيد برؤية اصحابه؛ لأن الصبح مقبل عن نهر جميل ، وحياة دائبة، وحركة نشيطة من الجد والبذل والتضحية ، والمقصود أن هذا الصبح كان مكظوم الأنفاس، مكبوت الحشي، ثم حانت لحظة الانطلاق فتنفس، وأنا أدعو سلاطين البلاغة ودهاقنة البيان وأرباب الفصاحة أن يقفوا خاشعين أمام (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) ليذوقوا لذة الجمال، ومتعة الحسن، ليعلموا سر الإعجاز ، في هذا الكتاب المعجز الخالد، وليدخلوا ديوان عظمة الخالق، ديوان قدرته ليروا جمال المقال، وبديع الأفعال ، من ذي الجلال والإكرام.