بداية المرابطين، وبداية الرسول صلى الله عليه وسلم
مع كثرة الخيام وازدياد العدد إلى الخمسين فالمائة فالمائة وخمسين فالمائتين، أصبح من الصعب على الشيخ توصيل علمه إلى الجميع، فقسمهم إلى مجموعات صغيرة، على كل منها واحد من النابغين، وهو نفس منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم بداية من دار الأرقم بن أبي الأرقم، وحين كان يجلس صلى الله عليه وسلم مع صحابته في مكة يعلمهم الإسلام، ومرورا ببيعة العقبة الثانية حين قسم الاثنين والسبعين رجلا من أهل المدينة المنورة إلى اثني عشر قسما، وجعل على كل قسم (خمسة نفر) منهم قيبا عليهم، ثم أرسلهم مرة أخرى إلى المدينة المنورة حتى قامت للمسلمين دولتهم.
وهكذا أيضا كان منهج الشيخ عبد الله بن ياسين، حتى بلغ العدد في سنة أربع وأربعين وأربعمائة من الهجرة، بعد أربعة أعوام فقط من بداية دعوته ونزوحه إلى شمال السنغال إلى ألف نفس مسلمة [نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ] {الصَّف13}.
فبعد أن طرد الرجل وأوذي في الله وضرب وهدد بالقتل، إذا به ينزل بمفرده إلى أعماق الصحراء حتى شمال السنغال وحيدا طريدا شريدا، ثم في زمن لم يتعدى الأربع سنوات يتخرج من تحت يديه ألف رجل على أفضل ما يكون من التبعية والتعليم.
وفي قبائل صنهاجة المفرقة والمشتتة توزع هؤلاء الألف الذين كانوا كما ينبغي أن يكون الرجال، فأخذوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، يعلمون الناس الخير ويعرفونهم أمور دينهم، فبدأت جماعتهم تزداد شيئا فشيئا، وبدأ الرقم يتخطى حاجز الألف إلى مائتان وألف ثم إلى ثلاثمائة وألف، يزداد التقدم ببطء لكنه تقدم ملموس جدا.
معنى المرابطون
أصل كلمة الرباط هي ما تربط به الخيل، ثم قيل لكل أهل ثغر يدفع عمن خلفه رباط، فكان الرباط هو ملازمة الجهاد، وهو في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا.
ولأن المرابطين أو المجاهدين كانوا يتخذون خياما على الثغور يحمون فيها ثغور المسلمين، ويجاهدون في سبيل الله، فقد تَسمى الشيخ عبد الله بن ياسين ومن معه ممن كانوا يرابطون في خيام على نهر السنغال بجماعة المرابطين، وعُرفوا في التاريخ بهذا الاسم.
يحيى بن عمر اللمتوني والمرابطون
وفي سنة خمس وأربعين وأربعمائة من الهجرة يحدث ما هو متوقع وليس بغريب عن سنن الله سبحانه وتعالى فكما عهدنا أن من سنن الله سبحانه وتعالى أن يتقدم المسلمون ببطء في سلم الارتفاع والعلو، ثم يفتح الله عليهم بشيء لم يكن هم أنفسهم يتوقعونه، وكما حدث للمسلمين - كما ذكرنا - في عهد عبد الرحمن الناصر من دخول سرقسطة وموت عمر بن حفصون، أيضا في هذه البلاد تحدث انفراجة كبيرة، ويقتنع بفكرة الشيخ عبد الله بن ياسين وجماعته من شباب قبيلة جدالة يحيى بن عمر اللمتوني زعيم ثاني أكبر قبيلتين من قبائل صنهاجة - القبيلة الأولى هي جدالة كما ذكرنا - وهي قبيلة لمتونة.
فدخل في جماعة المرابطين، وعلى الفور وكما فعل سعد بن معاذ رضي الله عنه حين دخل الإسلام وذهب إلى قومه وكان سيدا عليهم وقال لهم إن كلام رجالكم ونسائكم وأطفالكم عليّ حرام، حتى تشهدوا أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، قام يحيى بن عمر اللمتوني وفعل الأمر نفسه، وذهب إلى قومه وأتى بهم ودخلوا مع الشيخ عبد الله بن ياسين في جماعته، وأصبح الثلاثمائة وألف سبعة آلاف في يوم وليلة، مسلمون كما ينبغي أن يكون الإسلام.
وفي مثال لحسن الختام وبعد قليل من دخول قبيلة لمتونة في جماعة المرابطين يموت زعيمهم الذي دلهم على طريق الهداية الشيخ يحيى بن عمر اللمتوني، ثم يتولى من بعده زعامة لمتونة الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني.
دخل الشيخ أبو بكر بن عمر المتوني بحماسة شديدة مع الشيخ عبد الله بن ياسين، وبدأ أمرهم يقوى وأعدادهم تزداد، وبدأ المرابطون يصلون إلى أماكن أوسع حول المنطقة التي كانوا فيها في شمال السنغال، فبدءوا يتوسعون حتى وصلت حدودهم من شمال السنغال إلى جنوب موريتانيا، وأدخلوا معهم جدالة، فأصبحت جدالة ولمتونة وهما القبيلتان الموجودتان في شمال السنغال وجنوب موريتانيا جماعة واحدة تمثل جماعة المرابطين.
أما الشيخ عبد الله بن ياسين ففي إحدى جولاته وهو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في إحدى القبائل، حاربوه وقاتلوه حتى استشهد رحمه الله سنة إحدى وخمسين وأربعمائة من الهجرة، وبعد أحد عشر عاما من الدعوة، خلّف على إثرها اثنا عشر ألف رجل على منهج صحيح في فهم الاسلام.
أبو بكر بن عمر اللمتوني وزعامة دولة المرابطين
بعد الشيخ عبد الله بن ياسين يتولى الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني زعامة جماعة المرابطين، وفي خلال سنتين من زعامته لهذه الجماعة الناشئة يكون قد ظهر في التاريخ ما يعرف بدويلة المرابطين، وأرضها آنذاك شمال السنغال وجنوب موريتانيا، وهي بعد لا تكاد تُرى على خريطة العالم.
وبعد سنتين من تولي الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني زعامة المرابطين، وفي سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة من الهجرة يسمع بخلاف قد نشب بين المسلمين في جنوب السنغال في منطقة بعيدة تماما عن دويلة المرابطين، وبعلمه أن الخلاف شر وأنه لو استشرى بين الناس فلن يكون هناك مجال للدعوة، فينزل بعجالة ليحل هذا الخلاف رغم أن الناس ليسوا في جماعته وليسوا من قبيلته، لكنه وبحكمة شديدة يعلم أنه الحق ولا بد له من قوة تحميه.
وفي السنة المذكورة كان قد وصل تعداد المرابطين قرابة الأربعة عشر ألفا، فأخذ نصفهم وجاب أعماق السنغال في جنوبها ليحل الخلاف بين المتصارعين هناك، تاركا زعامة المرابطين لابن عمه يوسف بن تاشفين رحمه الله.
يستطيع أبو بكر بن عمر اللمتوني أن يحل الخلاف الذي حدث في جنوب السنغال، لكنه يفاجأ بشيء عجيب، فقد وجد في جنوب السنغال وبجانب هذه القبائل المتصارعة قبائل أخرى وثنية لا تعبد الله بالكلية، وجد قبائل تعبد الأشجار والأصنام وغير ذلك، وجد قبائل لم يصل إليها الإسلام بالمرة.
حزّ ذلك في نفسه رحمه الله حيث كان قد تعلم من الشيخ عبد الله بن ياسين أن يحمل همّ الدعوة إلى الله، وأن يحمل همّ هداية الناس أجمعين حتى إن لم يكونوا مسلمين، وأن يسعى إلى التغيير والإصلاح بنفسه، فأقبل الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني بالسبعة آلاف الذين معه يعلمونهم الإسلام ويعرفونهم دين الله، فأخذوا يتعلمون ويتعجبون كيف لم نسمع بهذا الدين من قبل! كيف كنا بعيدين عن هذا الدين الشامل المتكامل! حيث كانوا يعيشون في أدغال أفريقيا ويفعلون أشياء عجيبة، ويعبدون أصناما غريبة، ولا يعرفون لهم ربا ولا إلها.
وبصبر شديد ظل أبو بكر بن عمر اللمتوني يدعوهم إلى الإسلام، فدخل منهم جمع كثير وقاومه جمع آخر؛ ذلك لأن أهل الباطل لا بد وأن يحافظوا على مصالحهم، حيث هم مستفيدون من وجود هذه الأصنام، ومن ثم فلا بد وأن يقاوموه، فصارعهم أيضا والتقى معهم في حروب طويلة.
ظل الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني يتوسع في دعوته ويتنقل من قبيلة إلى قبيلة، ثم في سنة ثمان وستين وأربعمائة من الهجرة، وبعد خمس عشرة سنة كاملة من تركه جنوب موريتانيا وهو زعيم على دويلة المرابطين، يعود رحمه الله بعد مهمة شاقة في سبيل الله عز وجل يدعو إلى الله على بصيرة، فيُدخل في دين الله ما يُدخل، ويحارب من صد الناس عن دين الله سبحانه وتعالى حتى يرده إلى الدين أو يصده عن صده.
يوسف بن تاشفين ومهام صعبة
منذ أن ترك الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني دويلة المرابطين في جنوب موريتانيا وشمال السنغال في سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة من الهجرة والشيخ يوسف بن تاشفين ينتظر وصوله، مر يوم ويومان وشهر وشهران ولم يرجع، وحين علم أنه قد توغل في أفريقيا ما كان منه رحمه الله إلا أن بدأ ينظر في الشمال باحثا عمن ابتعد عن دين الله فيعلمه ويرده إليه.
نظر يوسف بن تاشفين في شمال موريتانيا (المنطقة التي تعلوه) وفي جنوب المغرب العربي فرأى من حال البربر الذين يعيشون في هذه المنطقة وبالتحديد في سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة من الهجرة رأى أمورا عجبا، هذه بعض منها
أولا قبيلة غمارة
هي من قبائل البربر وقد وجد فيها رجلا يُدعى حاييم بن منّ الله يدّعي النبوة وهو من المسلمين، والغريب أنه لم ينكر نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بل قال إنه نبي على دين الإسلام، ثم أخذ يُشرّع للناس شرعا جديدا وهم يتبعونه في ذلك ويظنون أن هذا هو الإسلام.
فرض حاييم بن منّ الله على قبيلته صلاتين فقط في اليوم والليلة، إحداها في الشروق والأخرى في الغروب، وبدأ يؤلف لهم قرآنا بالبربرية، ووضع عنهم الوضوء، ووضع عنهم الطُّهر من الجنابة، كما وضع عنهم فريضة الحج، وحرّم عليهم أكل بيض الطيور وأحلّ لهم أكل أنثى الخنزير، وأيضا حرّم أكل السمك حتى يُذبح.
وإنه لخلط وسفه بيّنٌ خاصة حين يدّعي أنّه من المسلمين، كما أنه من العجب أن يتبعه الناس على هذا الأمر ويعتقدون أن هذا هو الاسلام.
قبيلة برغواطة
هي قبيلة أخرى من قبائل البربر في تلك المنطقة، على رأسها كان رجل يُدعى صالح بن طريف بن شمعون، ذلك الذي لم يكن بصالح ادّعى أيضا النبوة، وفرض على الناس خمس صلوات في الصباح وخمس في المساء، وفرض عليهم نفس وضوء المسلمين بالإضافة إلى غسل السُّرّة وغسل الخاصرتين، كما فرض عليهم الزواج من غير المسلمات فقط، وجوّز لهم الزواج بأكثر من أربعة، وأيضا فرض عليهم تربية الشعر للرجال في ضفائر وإلا أثموا، ومع كل هذا فقد كان يدّعي أنه من المسلمين.
قبيلة زناتة
كانت قبيلة زناته من القبائل السنيّة في المنطقة، وكانت تعرف الإسلام جيدا، لكنها لم تكن تعرف منه غير جانب العبادات وأمور العقيدة، فقد كانوا يصلون كما ينبغي أن تكون الصلاة، ويزكون كما يجب أن تكون الزكاة، لكنهم كانوا يسلبون وينهبون مَن حولهم، والقوي فيهم يأكل الضعيف، فَصَلُوا الدين تماما عن أمور الدنيا وسياسة الحياة العامة، فلم يكن الدين عندهم إلا صلاة وصيام وحج، وفي غير ذلك من المعاملات افعل ما بدا لك ولا حرج.
كان من هذا القبيل الكثير والكثير الذي يكاد يكون قد مرق من الدين بالكلية، وقد كانت هناك قبيلة أخرى تعبد الكبش وتتقرب به إلى رب العالمين، وبالتحديد في جنوب المغرب، تلك البلاد التي فتحها عقبة بن نافع ثم موسى بن نصير رضي الله عنهما.
يوسف بن تاشفين وصناعة النصر والحضارة
شق ذلك الوضع كثيرا على يوسف بن تاشفين رحمه الله فأخذ جيشه وانطلق إلى الشمال ليدعو الناس إلى الإسلام، دخل معه بعضهم لكن الغالب قاومه وحاربه، فحاربه حاييم بن منّ الله، وحاربه صالح بن طريف، وحاربته كل القبائل الأخرى في المنطقة، حتى حاربته قبيلة زناتة السنية، فحاربهم بالسبعة آلاف رجل الذين تركهم معه أبو بكر بن عمر اللمتوني رحمه الله، ثم بمرور الأيام بدأ الناس يتعلمون منه الإسلام ويدخلون في جماعته المجاهدة.
وبعد رجوع الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني في سنة ثمان وستين وأربعمائة من الهجرة، وبعد خمس عشرة سنة من الدعوة - كما ذكرت - في جنوب السنغال وأدغال أفريقيا، يرى يوسف بن تاشفين رحمه الله الذي كان قد تركه فقط على شمال السنغال وجنوب موريتانيا في سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة من الهجرة يراه أميرا على السنغال بكاملها، موريتانيا بكاملها، المغرب بكاملها، الجزائر بكاملها، تونس بكاملها، وعلى جيش يتخطى حاجز السبعة آلاف ليصل إلى مائة ألف فارس غير الرجالة، يرفعون راية واحدة ويحملون اسم المرابطون.
وجد أبو بكر بن عمر اللمتوني كذلك أن هناك مدينة قد أُسست على التقوى لم تكن على الأرض مطلقا قبل أن يغادر، وتلك هي مدينة مراكش، والتي أسسها الأمير يوسف بن تاشفين، وكان أول بناء له فيها هو المسجد الذي بناه بالطين والطوب اللبن، تماما كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يحمل بنفسه الطين مع الناس تشبها أيضا به صلى الله عليه وسلم وهو الأمير على مائة ألف فارس.
وكذلك وجد الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني رجلا قد أسس حضارة لم تُعرف في المنطقة منذ سنوات وسنوات، ثم هو بعد ذلك يراه زاهدا متقشفا ورعا تقيا، عالما بدينه طائعا لربه، فقام الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني بعمل لم يحدث إلا في تاريخ المسلمين فقط، حيث قال ليوسف بن تاشفين أنت أحق بالحكم مني، أنت الأمير، فإذا كنت قد استخلفتك لأجل حتى أعود فإنك تستحق الآن أن تكون أميرا على هذه البلاد، أنت تستطيع أن تجمع الناس، وتستطيع أن تملك البلاد وتنشر الإسلام أكثر من ذلك، أما أنا فقد ذقت حلاوة دخول الناس في الإسلام، فسأعود مرة أخرى إلى أدغال أفريقيا أدعو إلى الله هناك.
أبو بكر بن عمر اللمتوني رجل الجهاد والدعوة
نزل الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني رحمه الله مرة أخرى إلى أدغال أفريقيا يدعو من جديد، فأدخل الإسلام في غينيا بيساو جنوب السنغال، وفي سيراليون، وفي ساحل العاج، وفي مالي، وفي بوركينا فاسو، وفي النيجر، وفي غانا، وفي داهومي، وفي توجو، وفي نيجريا وكان هذا هو الدخول الثاني للإسلام في نيجريا؛ حيث دخلها قبل ذلك بقرون، وفي الكاميرون، وفي أفريقيا الوسطى، وفي الجابون.
فكان أكثر من خمس عشرة دولة أفريقية قد دخلها الإسلام على يد هذا المجاهد البطل الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني رحمه الله هذا الرجل الذي كان إذا دعا إلى الجهاد في سبيل الله - كما يذكر ابن كثير في البداية والنهاية - كان يقوم له خمسمائة ألف مقاتل، خمسمائة ألف مقاتل غير من لا يقومون من النساء والأطفال، وغير بقية الشعوب في هذه البلاد من أعداد لا تحصى قد اهتدت على يديه.
فلا شك أنه كلما صلى رجل صلاة في النيجر أو في مالي أو في نيجريا أو في غانا، كلما صلى رجل صلاة هناك، وكلما فعل أحد منهم من الخير شيئا إلا أُضيفت إلى حسنات الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني ومن معه رحمهم الله.
وها هو رحمه الله وبعد حياة طويلة متجردة له سبحانه وتعالى يستشهد في إحدى فتوحاته في سنة إحدى وثمانين وأربعمائة من الهجرة، وما رأى عزًّا وما رأى ملكا، وكان يغزو في كل عام مرتين، يفتح البلاد ويعلم الناس الإسلام، لتصبح دولة المرابطين قبل استشهاده رحمه الله ومنذ سنة ثمان وسبعين وأربعمائة من الهجرة تتربع على خريطة العالم من تونس في الشمال إلى الجابون في وسط أفريقيا، وهي تملك أكثر من ثلث مساحة أفريقيا.
لذلك فحين قرأ ألفونسو السادس رد رسالة المعتمد على الله بن عباد أمير أشبيلية المحاصرة من قِبل الأول لأروحنّ لك بمروحة من المرابطين، علم أنه سيواجه ثلث أفريقيا، وعلم أنه سيقابل أقواما عاشوا على الجهاد سنوات وسنوات، فقام من توه بفك الحصار ثم الرحيل.
دولة المرابطين ويوسف بن تاشفين أمير المسلمين وناصر
كان بداية حديثنا عن تاريخ المرابطين هو سنة أربعين وأربعمائة من الهجرة، وكانت البداية برجل واحد فقط هو الشيخ عبد الله بن ياسين، ثم بعد صبر وتربية متأنية في الدعوة إلى الله على النهج الصحيح القويم يصل عدد المرابطين وانتشارهم إلى هذا الشكل الذي أشرنا إليه، والذي يمثل الآن أكثر من عشرين دولة أفريقية.
فقط كان ذلك بعد ثمان وثلاثين سنة، وتحديدا في سنة ثمان وسبعين وأربعمائة من الهجرة، ويصبح يوسف بن تاشفين رحمه الله زعيم هذه الدولة العظيمة، ويسمي نفسه أمير المسلمين وناصر الدين، وحين سُئل لماذا لا تتسمى بأمير المؤمنين؟ أجاب هذا شرف لا أدعيه، هذا شرف يخص العباسيين وأنا رجلهم في هذا المكان.
كان العباسيون في هذه الفترة لا يملكون سوى بغداد فقط، وكان يوسف بن تاشفين يريد أن يكون المسلمون تحت راية واحدة، فلم يرد رحمه الله أن يشق عصا الخلافة، ولا أن ينقلب على خليفة المسلمين، وكان يتمنى أن لو استطاع أن يضم قوته إلى قوة الخليفة العباسي هناك، ويصبح هو رجلا من رجاله في هذه البلاد فقال مجمّعا مؤمّلا وأنا رجلهم في هذا المكان.
يوسف بن تاشفين ووفد الأندلس
في سنة ثمان وسبعين وأربعمائة من الهجرة وفي مراكش يستقبل يوسف بن تاشفين الوفد الذي جاء من قِبل بعض ملوك الطوائف - كما ذكرنا - يطلبون العون والمساعدة في وقف وصد هجمات النصارى عليهم، وإذا به رحمه الله يتشوّق لمثل ما يطلبون، حيث الجهاد في سبيل الله ومحاربة النصارى، فيالها من نعمة، ويالها من منّة.
ما كان منه رحمه الله إلا أن انطلق معهم وبنحو سبعة آلاف فقط من المجاهدين، رغم أن قوته في الشمال الأفريقي مائة ألف مقاتل، وكان لديه في الجنوب خمسمائة ألف، وقد كان هذا ملمح ذكاء منه؛ إذ لم يكن رحمه الله وهو القائد المحنك ليخرج ويلقي بكل قواته في الأندلس، ويتحرك هكذا بمثل هذه العشوائية، ويترك كل هذه المساحات الكبيرة في شمال وجنوب أفريقيا بلا حراسة ولا حماية، ومن ثم فقد رأى أن يظل جيش رابض في تونس وآخر في الجزائر ومثله في المغرب وهكذا في كل البلاد الإفريقيه التي فتحت.
أعد العدة رحمه الله وجهز السفن، وهو يعبر مضيق جبل طارق، وفي وسطه يهيج البحر وترتفع الأمواج وتكاد السفن أن تغرق، وكما كان قائدا يقف هنا قدوة وإماما، خاشعا ذليلا، يرفع يديه إلى السماء ويقول
اللهم إن كنت تعلم أن في عبورنا هذا البحر خيرا لنا وللمسلمين فسهّل علينا عبوره، وإن كنت تعلم غير ذلك فصعبه علينا حتى لا نعبره، فتسكن الريح، ويعبر الجيش، وعند أول وصول له، والوفود تنتظره ليستقبلونه استقبال الفاتحين، يسجد لله شكرا أن مكنّه من العبور، وأن اختاره ليكون جنديا من جنوده سبحانه وتعالى ومجاهدا في سبيله.
يوسف بن تاشفين وقدوة كانت قد افتقدت وغُيّبت
يدخل يوسف بن تاشفين أرض الأندلس، ويدخل إلى أشبيلية والناس يستقبلونه استقبال الفاتحين، ثم يعبر في اتجاه الشمال إلى ناحية مملكة قشتالة النصرانية، تلك التي أرعبت كل أمراء المؤمنين الموجودين في بلاد الأندلس في ذلك الوقت، يتجه إليها في عزة نفس ورباطة جأش منقطعة النظير بسبعة آلاف فقط من الرجال.
كان الأندلسيون ومنذ أكثر من سبعين سنة، في ذل وهوان وخنوع يدفعون الجزية للنصارى، وحينما شاهدوا هؤلاء الرجال الذين ما ألفوا الذل يوما، وما عرفوا غير الرباط في سبيل الله، حينما شاهدوهم يعبرون القفار ويتخطون البحار حاملين أرواحهم على أكفهم من أجل عز الإسلام وإعلاء كلمة الله ورفعة المسلمين، حينما شاهدوهم على هذه الحال تبدلوا كثيرا، وتاقت نفوسهم إلى مثل أفعالهم، فأقبلوا على الجهاد، وأذّنوا بحي على خير العمل.
وبدأ يلحق بركب يوسف بن تاشفين الرجل من قرطبة والرجل من أشبيلية، وآخر من بطليوس، وهكذا حتى وصل الجيش إلى الزلاّقة في شمال البلاد الإسلامية على حدود قشتالة، وكان عددهم يربو على الثلاثين ألف رجل.
ولا نعجب فهذه هي مهام القدوة وماهيتها وفعلها في المسلمين وصورتها كما يجب أن تكون، تحركت مكامن الفطرة الطيبة، وعواطف الأخوة الصادقة، والغيرة على الدين الخاتم، تلك الأمور التي توجد لدى عموم المسلمين بلا استثناء، وتحتاج فقط إلى من يحركها ويفيقها من سباتها.
بين جيش المسلمين وجيش النصارى
تحرك الثلاثون ألف رجل بقيادة يوسف بن تاشفين ليصلوا إلى الزلاّقة، وهو ذلك المكان الذي دارت فيه موقعة هي من أشهر المواقع الإسلاميه في التاريخ، وذلك المكان الذي لم يكن يُعرف بهذا الاسم قبل ذلك، لكنه اشتهر به بعد الموقعة، وسنعرف قريبا ودون قصد لماذا سُميت بالزّلاقة.
في الوقت الذي يصل فيه يوسف بن تاشفين وجيشه إلى الزلاقة يصله نبأ مفزع من بلاده بالمغرب، إنه يحمل مصيبة قد حلت به وبداره، فابنه الأكبر قد مات، لكنه ورغم ذلك فلم تفت هذه المصيبة في عضده، ولم يفكر لحظة في الرجوع، ولم يرض أن يرسل قائدا من قواده ويرجع هو، بل ذهب وهو الأمير على ثلث أفريقيا وأخذ معه أكبر قوّاد المرابطين وهو داود بن عائشة، وأرسل وزيره ليحكم البلاد في غيابه هناك.
كان النصارى قد استعدوا لقدوم يوسف بن تاشفين بستين ألفا من المقاتلين، على رأسهم ألفونسو السادس بعد أن جاءه العون من فرنسا وإيطاليا وإنجلترا وألمانيا، وبعد أن أخذ وعودا من البابا وصكوكا بالغفران لكل من شارك في حرب المسلمين هذه.
قدم ألفونسو السادس يحمل الصلبان وصور المسيح وهو يقول بهذا الجيش أقاتل الجن والإنس وأقاتل ملائكة السماء وأقاتل محمدا وصحبه، فهو يعرف تماما أنها حرب صليبية ضد الإسلام.
الرسائل والحرب الإعلامية
وكعادة الجيوش في ذلك الوقت في تبادل الرسائل، أرسل يوسف بن تاشفين برسالة إلى ألفونسو السادس يقول له فيها بلغنا أنك دعوت أن يكون لك سفنا تعبر بها إلينا، فقد عبرنا إليك، وستعلم عاقبة دعائك، وما دعاء الكافرين إلا في ضلال، وإني أعرض عليك الإسلام، أو الجزية عن يد وأنت صاغر، أو الحرب، ولا أؤجلك إلا لثلاث.
تسلم ألفونسو السادس الرسالة وما إن قرأها حتى اشتاط غضبا، إذ كيف يدفع الجزية وقد أخذها هو من المسلمين، ومن قبله آباؤه وأجداده؟! فأرسل ليوسف بن تاشفين متوعدا ومهددا فإني اخترت الحرب، فما ردك على ذلك؟ وعلى الفور أخذ يوسف بن تاشفين الرسالة، وقلبها وكتب على ظهرها الجواب ما تراه بعينك لا ما تسمعه بأذنك، والسلام على من اتبع الهدى.
وفي محاولة ماكرة لخديعة المسلمين أرسل ألفونسو السادس يحدد يوم المعركة، وكان يوم ذاك هو الخميس، فأرسل أن غدا الجمعة، وهو عيد من أعياد المسلمين ونحن لا نقاتل في أعياد المسلمين، وأن السبت عيد اليهود وفي جيشنا كثير منهم، وأما الأحد فهو عيدنا، فلنؤجل القتال حتى يوم الإثنين.
استلم يوسف بن تاشفين الرسالة، وبوعي تام وبقيادة تعلم خبايا الحروب وفنون مقدماتها لم يُرِي جيشه هذه الرسالة، إذ إنه يعلم أن هذا الرجل مخادع، كيف وهم يكذبون على الله فيكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله، وكيف والله قال فيهم [أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ] {البقرة100}
تجهيز الجيش ورؤيا ابن رميلة
بحذر تام لم يلتفت يوسف بن تاشفين إلى ما جاء في رسالة ألفونسو السادس، وقام بتعبئة الجيش وتجهيزه يوم الخميس هذا، ووضعه على أتم الاستعداد، وفي ليلة الجمعة كان ينام مع الجيش شيخ كبير من شيوخ المالكية في قرطبة، وهو ابن رميلة، إذ لم تكن مهمة الشيخ يوما ما مجرد الجلوس في المسجد أو إلقاء الدروس أو تعليم القرآن فقط، فقد كان هذا الشيخ يفقه أمور دينه ويعلم أن هذا الجهاد هو ذروة سنام هذا الدين.
في هذه الليلة يرى ابن رميلة هذا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول له يا ابن رميلة، إنكم منصورون، وإنك ملاقينا.
يستيقظ ابن رميلة من نومه وهو الذي يعلم أن رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام حق؛ لأن الشيطان لا يتمثل به، فيقوم فرحا مسرورا، لا يستطيع أن يملك نفسه، بشّره رسول الله، وسيموت في سبيل الله، الحسنيين أمام عينيه، نصر للمؤمنين وشهادة تناله، فيالها من فرحة، وياله من أجر.
وعلى الفور يذهب ابن رميلة رحمه الله في جنح الليل فيوقظ يوسف بن تاشفين، ويوقظ المعتمد على الله بن عبّاد الذي كان يقود وحدة كبيرة من قوات الأندلس، ويوقظ المتوكل بن الأفطس وعبد الله بن بلقين، ويوقظ كل قوّاد الجيش، وأخذ يقص عليهم رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هزت تلك الرؤيا يوسف بن تاشفين وكل قواد الجيش، وقاموا من شدة فرحهم وفي منتصف الليل وأيقظوا الجيش كله على صوت رأى ابن رميلة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له إنكم لمنصورون وإنك ملاقينا.
وفي لحظة لم يتذوقوها منذ سنوات وسنوات في أرض الأندلس، يعيش الجيش كله أفضل لحظات السعادة، وتتوق النفوس إلى الشهادة، ويأمر يوسف بن تاشفين بقراءة سورة الأنفال، ويأمر الخطباء بتحفيز الناس على الجهاد، ويمر هو بنفسه رحمه الله على الفصائل ينادي ويقول طوبى لمن أحرز الشهادة، ومن بقي فله الأجر والغنيمة.
الجيش الإسلامي وخطة الإعداد والهجوم
بعد ترتيب الجيش وصلاة فجر يوم الجمعة الموافق الثاني عشر من شهر رجب لسنة تسع وسبعين وأربعمائة من الهجرة، لم تكن مفاجأة ليوسف بن تاشفين أن يخالف ألفونسو السادس طبيعته وينقض عهده ويبدأ بالهجوم في ذلك اليوم، إذ ذاك هو الأصل، والذي يجب أن نعلمه جميعا.
أما المفاجئة فأصابت ألفونسو السادس الذي وجد الجيش الإسلامي على أتم تعبئة وأفضل استعداد، وبخطة محكمة، كان يوسف بن تاشفين قد قسم الجيش إلى نصفين، نصف أمامي ونصف خلفي، أما النصف الأمامي فقد طلب المعتمد على الله بن عبّاد أن يكون على قيادته على من معه من الأندلسيين، يريد بذلك أن يكون بين المسلمين وبين النصارى، يريد أن يغسل عار السنين السالفة، يريد أن يمحو الذل الذي أذاقه إياه ألفونسو السادس، إنه يريد أن يتلقى الضربة الأولى من جيش النصارى.
في نصف عدد الجيش، وفي خمسة عشر ألف مقاتل يقف المعتمد على الله بن عبّاد في مقدمة الجيش ومن خلفه داود بن عائشة كبير قوّاد المرابطين، أما النصف الثاني أو الجيش الخلفي ففيه يوسف بن تاشفين رحمه الله يختفي خلف أحد التلال البعيدة تماما عن أرض المعركة، ويضم أيضا خمسة عشر ألف مقاتل، ويستبقي من الجيش الثاني أو الخلفي الذي فيه يوسف بن تاشفين أربعة آلاف مقاتل، فيبعدهم أكثر عن هذا الجيش الخلفي، وقد كان هؤلاء الأربعة آلاف من رجال السودان المهرة، يحملون السيوف الهندية والرماح الطويلة، وكانوا أعظم المحاربين في جيش المرابطين، فاستبقاهم يوسف بن تاشفين في مؤخرة الجيش.
أصبح جيش المسلمين مقسم إلى ثلاث فرق، الفرقة الأولى وهي المقدمة بقيادة المعتمد على الله وتضم خمسة عشر ألف مقاتل، والفرقة الثانية خلف الأولى وعلى رأسها يوسف بن تاشفين وتضم أحد عشر ألف مقاتل، وأخيرا ومن بعيد تأتي الفرقة الثالثة وتضم أربعة آلاف مقاتل هم من أمهر الرماة والمحاربين.
لم تكن خطة يوسف بن تاشفين رحمه الله جديدة في حروب المسلمين، فقد كانت هي نفس الخطة التي استعملها خالد بن الوليد رضي الله عنه في موقعة الولجة في فتوح فارس، وهي أيضا نفس الخطة التي استعملها النعمان بن مقرن رضي الله عنه في موقعة نهاوند في فتوح فارس أيضا، فكان رحمه الله رجلا يقرأ التاريخ ويعرف رجالاته ويعتبر بهم.