ركب سيارته الصاروخية العابرة للقارات، وفور أن أغلق الباب ضغط على الزر الأخضر، الذي يعمل على تجهيز السيارة للإقلاع خلال ثلاثين ثانية فقط، ما أن انتهت حتى أضيئت شاشة زرقاء تشتمل على خارطة الكرة الأرضية أمامه، ضغط بأصبعه على قارة آسيا، ثم ضغط على إحدى الدول ليحدد المكان الذي ينوي الوصول إليه.. فعل ذلك كله دون أن ينتبه إلى الضوء الأحمر الذي يـتألق إلى يمينه، مشيرا إلى أن أحدهم قد دخل سيارته بطريقة غير مشروعة.. لم ينتبه ربما لأنه كان في عجلة من أمره؛ حيث أبلغ قبل لحظات أن أستاذه العزيز إلى قلبه أبو عمر قد أصيب بجلطة لا يتوقع نجاته منها، رغم نقله إلى قسم العناية المكثفة، فسنوات عمره التي جاوزت الثمانين يبدو أنها على وشك أن تنتهي، منهية سنوات طويلة من الجهد الدعوي والجهادي، الذي بدأه منذ ريعان شبابه.. كل هذا كان يدور في عقل الشاب الثلاثيني، الذي تحركت به السيارة قليلا على الطريق، قبل أن تصعد إلى السماء متوارية بسرعة خيالية جدا.. كان يعرف أن أمامه عشر دقائق حتى يقطع آلاف الكيلومترات التي تفصله عن مكان أستاذه... ذلك الأستاذ الذي قاد عمليات المقاومة ضد الاستعمار الغربي، قبل تحرر العالم الإسلامي وتوحده في دولة واحدة كبرى، تمتد على أكثر من نصف الكرة الأرضية سنة 1920هـ.
لم ينس أن أستاذه سخّر الثلاثين عاما الأخيرة من عمره في شرح معنى كلمة لا إله إلا الله.. لقد عاش بعد أن تنازل بمحض إرادته عن حكم الدولة الإسلامية، التي أسسها قبل أن يبلغ الخمسين من عمره، متجاهلا رغبات أغلب الناس في بقائه على رأس السلطة، مكتفيا كما قال بما انسكب عليه من ظلمات السلطة والسلطان..
عاش كواحد من أبناء أمته، يأكل كما يأكلون، ويشرب كما يشربون، ويلبس كما يلبسون، لكنه كان مختلفا عنهم في شيء واحد، هو أنه يعمل من أجل هدف واضح أمام عينيه، كان يهدف لتفهيم المسلمين معنى تلك الكلمة الخالدة، وجعل حياته كلها وقفا على الحديث عن معاني لا إله إلا الله، مؤمنا أن أي مسلم بل أي إنسان يفهم معناها سيتحول إلى إنسان مختلف تماما..
قال له مرة: من يفهم هذه الكلمة سيصبح أقوى إنسان على وجه الأرض، وأزهد إنسان، وأعظم إنسان، وأسعد إنسان.. إنها قوة هائلة..
- ترى ما هي آخر كلماته ؟؟ لم يدر لماذا تألق في ذهنه ذلك السؤال، وسيارته تهبط في مدينة الشهداء الجديدة، على بعد خطوات من المشفى الذي قيل له أن أستاذه يرقد فيه..
هبط من سيارته متمنيا أن يلقي إليه نظرة سريعة، قبل أن يفارق الحياة.. حمله المصعد إلى هدفه، وكلمات أستاذه التي رسمت طريق شهرته، وجعلته علما مشهورا من أعلام المسلمين، رغم سنواته الأربعين فقط، تتحرك في ثنايا عقله بسرعة تنافس سرعة سيارته التي هبط منها للتو..
- إذا أردت أن تنجح في دعوتك .. ركز على هدف واضح.. انظر ستجد أمامك مئات المشكلات التي تعاني منها الأمة اليوم قم بحل واحدة منها فقط .. تركيزك هذا سيضمن لك منتهى النجاح والـتألق..
دارت كل تلك الكلمات في ذهنه، وهو يقبل قدم أستاذه العزيز.. طالما اعتاد أن يقبل رأسه، لكنه اليوم يقبل قدمه، لا يدري لماذا لكن ربما لأن رأسه غاب بين أجهزة كثيرة آملة أن تعيد إليه ما غادرته من عافية وربما عرفانا بالجميل الذي أسداه إليه.. فبسبب هذا الرجل، تخصص في نشر ثقافة استغلال الوقت بين شباب أمته، فكان سببا في استثمار مئات الملايين من الساعات، التي أنفقت على أعمال إنتاجية، كانت خطوة أساسية في حدوث النهضة التي تعيشها الدولة الإسلامية اليوم.. لم ينس اللحظة التي وقف فيها شاب أمامه قائلا: أتعرفني، أنا من صنع هذا النوع من السيارات الصاروخية التي تقود واحدة منها، أتدري لمن الفضل في هذا.. إنه إليك، فمنك ومن محاضراتك وكتبك تعلمت استغلال الوقت، وإدارته والتخطيط للحياة حتى وصلت لما أريد.. أشكرك..
- أشكرك.
قالها هو هذه المرة، موجهها لأستاذه الغائب عن الوعي، وبنفس الطريقة التي قالها له ذلك الشاب.. لكنها امتزجت هذه المرة بعبرة تسللت من عينه.
وفجأة شعر بشيء يتسلل إلى جسده.. إنه محقن حمله الطبيب الذي أدخله إلى الغرفة قبل قليل.. عرف ذلك في أجزاء من الثانية التفت خلالها إلى الخلف قبل أن يغرق في غيبوبة.. كلا إنها ليست غيبوبة.. هذا ما اكتشفه في اللحظة التالية عندما شعر بكل ما يدور من حوله رغم أنه غير قادر على الحركة.. إنها خدعة إذن تعرض لها وقادته إلى هذا المكان.. كلا هذا المكان مؤمن تماما ولا يمكن أن يفعل هذا الرجل ما فعل داخله.. أنه مستشفى عسكري لا يدخله أي إنسان.. كان عقله يعمل بسرعة.. ربما تم تغيير مسار السيارة عبر نظام القيادة المسبقة.. تذكر أنه كان يشعر بأمر غريب أثناء انتقال سيارته.. فكر قليلا.. نعم هذا هو الاحتمال الوحيد.. لم يكن يجهل الحالة التي هو فيها في تلك اللحظات فقد تدرب عليها مسبقا عندما التحق بالقوات الإسلامية الحربية قبل عشرين عاما.. أنه نوع من العقاقير يشل حركة الإنسان تمهيدا للتحقيق معه وانتزاع المعلومات منه لكن من هو الذي يقبع وراء تلك المحاولة.. ربما أراد الأعداء التخلص منه لدوره البارز في النهضة الأخيرة لدولته لكنهم لن يسعوا بأي حال من الأحوال للتحقيق معه فهو لا يملك أي معلومات أمنية أو عسكرية على الإطلاق..
في اليوم التالي كان الحديث يدور في غرف السياسيين في الدولة الإسلامية عن صفقة تبادل أسرى، بعد اختطاف شخصية إسلامية بارزة، أما في الغرف الأمنية فكان الحديث يدور عن ضرورة تحرير تلك الشخصية بأسرع وقت ممكن.. أما معسكرات القوات الخاصة فكانت تتأهب لعملية عسكرية، تهدف للإفراج عن شخصية كبيرة، اختطفتها مجموعة إجرامية تابعة لدولة معادية، لإجراء عملية تبادل أسرى..
08-15-2011, 05:34 PM
الخدعة
