قد يخطر على البال هذا السؤال: لماذا انفرد الجراد من دون سائر المخلوقات بالأكل دون تذكية؟ ولماذا جاز أكلها وهي ميتة؟ وهل هناك سر وراء ذلك في جعلها حلالاً لآكلها؟ ولكن قبل ذلك لماذا حرم الله علينا أكل الميتة؟ ولماذا أمرنا بتذكية الحيوان أو الطير قبل أكله مع حله لنا؟ حتى يكون للجراد هذه الميزة وذلك الاستثناء عن غيره؟ عن هذه التساؤلات وغيرها سنتحدث في هذا البحث، ولعل من المناسب أن أتطرق إلى موضوعين أجدهما ضروريين كتوطئة لفهم الحكمة وإدارك الإعجاز في هذا الموضوع، كما وقيل إذا عرف السبب بطل العجب، وهما: الحكمة من تحريم أكل الميتة والحكمة من التذكية.
الجراد في اللغة:
هو بفتح الجيم وتخفيف الراء معروف، والواحدة جرادة، والذكر والأنثى سواء كالحمامة، ويقال: إنه مشتق من الجَرد لأنه لا ينزل على شيء إلا جرّده(1)،
الجراد له قدرة عضلية كبيرة تمكنه قطع مسافة مئة كيلو متر في اليوم
هجمت أسراب الجراد على المنطقة العربية من موريتانيا إلى عمان، وقد رأينا كيف أحدثت هذه الأسراب الذعر، والخوف في قلوب المزارعين والمختصين، ورأينا كيف أنها قادرة على القضاء على كل أخضر يواجهها ورأيناها تسير في تنظيم عجيب مع أننا نعلم أن هذه الحشرة ذات جهاز عصبي بسيط مكون من بعض العقد العصبية الأولية، ومن هنا يتعجب المرء من هذا التنظيم العجيب في أسراب هذه الحشرة، هذا يوجب علينا النظر إلى هذه الظاهرة من جميع جوانبها العلمية والعقائدية ولا نقتصر على التفسير العلماني لها، والمعلوم أن الجراد يطير لمسافات بعيدة، وقد تقطع الجرادة الواحدة مئة كيلومتر في اليوم الواحد، وتأكل الجرادة الواحدة في اليوم الواحد ضعف وزنها، ويحتوي السرب ملايين الجرادات و يقطع ثلاثمائة وخمسين كيلومتر في الشهر وذلك بما لديها من قدرة عضلية تمكنها من الرفرفة بالجناحين لمدة تصل إلى ستة عشر ساعة في اليوم، ومن المعروف أن أسراب الجراد الطائرة في الهواء تحط ليلاً على النباتات وتجثم على الأشجار لتلتهم كميات من الغذاء تعينها على استئناف الرحلة في صبيحة اليوم التالي، وبذلك يكون أفضل وقت لمقاومة أسراب الجراد بعد الغروب كما قال علماء علم الحشرات.
في الصباح تشرق الشمس وتشعر أفراد السرب الجاثمة على النباتات بالدفء فتبدأ في هز أجنحتها، ثم تطير أفراد منه متنقلة إلى مسافات محدودة داخل منطقة الانتشار، وحينما تزداد حرارة الجو تركب الجرادات تيارات الحمل الهوائية وتطير إلى أعلى وبذلك تبدأ مقدمة السرب في التحليق في منطقة الانتشار، بينما تظل باقي مجموعات السرب في حالة جثوم وهذه تمثل مؤخرة السرب، وهذه المؤخرة لا تقلع إلا بعد أن يأخذ السرب وجهته، وهكذا تحلق المقدمة قبل المؤخرة وبعد أن تصل درجة الحرارة إلى الدرجة العظمى في المكان من (23ـ 40س) فإن السرب يحلق كاملاً في الهواء.
وتوجد من أسراب الجراد الطائرة نوعان (1):
الجراد له قدرة عضلية كبيرة تمكنه قطع مسافة مئة كيلو متر في اليوم
الجراد له قدرة عضلية كبيرة تمكنه قطع مسافة مئة كيلو متر في اليوم
الجراد في الشريعة الإسلامية:
ورد ذكر الجراد في القرآن في موضعين، الموضع الأول كان ذكره كجندي من جنود الله أرسله الله على العصاة من عباده عقاباً لهم فقال تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ﴾ [الأعراف:133]، فهو إذن عقاب وابتلاء يسلطه الله سبحانه على من يشاء بأمره، وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله: «وهو جند من جنود الله ضعيف الخلقة عجيب التركيب فيه خلق سبع حيوانات فإذا رأيت عساكره قد أقبلت أبصرت جنداً لا مرد له ولا يحصى منه عدد ولا عدة فلو جمع الملك خيله ورجله ودوابه وسلاحه ليصده عن بلاده لما أمكنه ذلك فانظر كيف ينساب على الأرض كالسيل فيغشى السهل والجبل والبدو والحضر حتى يستر نور الشمس بكثرته ويسد وجه السماء بأجنحته ويبلغ من الجو إلى حيث لا يبلغ طائر أكبر جناحين منه، فسل المعطل من الذي بعث هذا الجند الضعيف الذي لا يستطيع أن يرد عن نفسه حيواناً رام أخذه بلية على العسكر أهل القوة والكثرة والعدد والحيلة فلا يقدرون بأجمعهم على دفعه بل ينظرون إليه يستبد بأقواتهم دونهم ويمزقها كل ممزق ويذر الأرض قفراً منها وهم لا يستطيعون أن يردوه ولا يحولوا بينه وبينها وهذا من حكمته سبحانه أن يسلط الضعيف من خلقه الذي لا مؤنة له على القوى فينتقم به منه وينزل به ما كان يحذره منه حتى لا يستطيع لذلك رداً ولا صرفا»(5).
1. السرب الطبقي: وهو يظهر على شكل مساحة مسطحة مكونة من أفراد الجراد المتراصة ويطير هذا النوع من أسراب الجراد على ارتفاعات قليلة لا تزيد عن (300) متر من سطح الأرض.
2. السرب الركامي : ويرى هذا السرب في أكثر ساعات النهار عند سطوع الشمس وتتراكم أفراده فوق بعضها البعض في الجو بشكل مجموعات تشبه البرج، وغالباً ما يطير هذا النوع من الأسراب على ارتفاعات شاهقة تصل إلى ألف متر فوق سطح الأرض ويختلف شكل السرب في الرحلة الواحدة لنوع واحد من الجراد، وذلك بتأثير التيارات الهوائية التي تواجهه، فقد تبدأ الرحلة بشكل طبقي ثم تتغير إلى الشكل البرجي خصوصاً إذا ارتفعت درجة حرارة الجو عن الساعات الأولى رحلة الطيران.
ويختلف توزيع الأفراد داخل السرب من مكان لآخر فيه، فينما نجد حوافه مشكلة من أفراد منتظمين متفقي الحركة والوضع فرؤوسهم جميعاً موجهة إلى الأمام، نجد أن التوزيع في أواسط السرب يكون عشوائياً، ويزيد من عشوائية هذا التوزيع ـ أو الانتشار ـ ما يواجه السرب سرب من تيارات هوائية مضادة.
ومن العجيب أن طلائع السرب إذا شعرت بين الحين والآخر أن مؤخرة السرب قد بعدت عن مقدمته وكاد السرب أن يتمزق شمله وتتشتت أجزاؤه فإن المقدمة تبطئ من حركتها حتى يتمكن المتأخرون من اللحاق بها والالتحام بالسرب و بذا يحتفظ السرب دائماً بشكله تنظيمه، ولا يمكن لأي جراده أن تنفر من السراب وتخرج بعيداً عن هيكله و إطاره العام، فإذا حدث ذلك أسرعت بالدخول ثانية في الجماعة.
من أفضل طرق تشتيت أسراب الجراد إلى الآن استخدام الطائرات في مواجهة الأسراب وبذلك يتم عمل حواجز طويلة من المادة السامة لمكافحة التجمعات الجاثمة على الأراضي المكشوفة خاصة في الأرض الوعرة التي يصعب الوصول إليها.
ويتم الرش بالطائرات من الجو إلى الأرض حينما يكون الجراد مستقراً وجاثماً على الأرض والرش من الجو إلى الجو ويتم ذلك في الأسراب الطائرة والتي تكون في طريقها إلى الاستقرار.
وهكذا نرى كيف أن هذه الجرادة غير العاقلة تتصرف بطريقة مذهلة في التجمع والتوجيه والحل والترحال، وكيف تثير الذعر في قلوب الناس وصدق الله العظيم القائل (فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك و لنرسلن معك بني إسرائيل فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين ) الأعراف 133ـ 136.
فهل نعي تلك الآيات في ضوء أسراب الجراد التي تجتاح المنطقة العربية كل مدة.
أم أننا نفسر كل شيء بطريقة علمانية أو غيبية انتظاراً للانتقام والغرق؟ وقد يظن البعض أن الطائرات والمبيدات قادرة على صد أسراب الجراد، ولا يفكر هذا البعض في كمية المبيدات الحشرية السامة المستخدمة و التي تفسد الغطاء النباتي و تسممه، وتهدم دورات الحياة وسلاسل الغذاء وشبكاتها وتفسدها فتحدث خللاً بيئياً يصعب ترميمه.
الجراد من الناحية الفسيولوجية:
مما قيل عن الجراد أن خلقته أو صورته تجمع بين عدد من المخلوقات، ففيها عشرة من الحيوانات ذكر بعضها ابن الشهرزوري في قوله: لها فخذا بكر، وساقا نعامة، وقادمتا نسر، وجؤجؤ ضيغم، حَبَتْها أفاعي الرمل بطناً، وأنعمت عليها جياد الخيل بالرأس والفم. قيل: وفاته -أي ابن الشهرزوري- عين الفيل، وعنق الثور، وقرن الأيل، وذنب الحية، وهو صنفان طيار ووثاب ويبيض في الصخر فَيَتْرُكهُ حَتَّى يَيْبَس وَيَنْتَشِر فَلَا يَمُرّ بِزَرْعٍ إِلَّا اِجْتَاحَهُ(10).
يتكون جسم الجرادة من رأس وصدر وبطن، أما الرأس فيغلفها جلُيد سميك متصلب يسمى علبة الرأس (Head capsule)، وتوجد بها العيون المركبة والعيون البسيطة وقرنا الاستشعار (الزباني) وأجزاء الفم القاضمة. وتتكون علبة الرأس من مساحات تفصلها عن بعضها البعض حزوز أو دروز (Sutures)، وهي الجبة والدرقة والجداريّات والوجنة، وأما الصدر فيتصل بالرأس عن طريق العنق، ويتكون من ثلاث عقل أو شدف، تحمل كل منها زوجاً من الأرجل المجهرية للمشي والوثب العال، أما الشدفة الصدرية الثانية والشدفة الصدرية الثالثة فيحمل كل منها زوجاً من الأجنحة الغشائية الواسعة المساحة، وهي التي تتصل بالصدر عن طريق دواعم، ويتحرك الجناحان بعضلات قوية ترفرف بقوة تمكن الجراد من الطيران لمسافات طويلة تقطع خلالها مسافات شاسعة.
أما دورة حياة الجراد
فإنه يتكاثر في أجيال متعاقبة، وفي العادة يبدأ الجيل بوضع البيض وينتهي بقيام الإناث البوالغ بوضع البيض لإنتاج جيل جديد لاحق، ومن المعروف في الجراد أن البيض الموضوع يفقس لتخرج منه حوريات (NymphS)، وهي التي سماها الجاحظ والدميري وغيرها " دبا " أو "دبى" وهذه تضطر للقيام بعمليات انسلاخ (Moulting) حتى تتمكن من النمو والازدياد في الحجم، والوصول إلى الشكل اليافع في حياتها، وهذه العملية العامة التي تسمى "التحول"(11)(****morphosis).
وتكمن خطورة الجراد الصحراوي في قدرته على الترحل والقيام برحلات الهجرة والطيران التي تقطع فيها مسافات شاسعة، وكذلك اقتداره التكاثري (Reproductive potential) في أجواء مختلفة حيث ينتشر في مناطق تضم أربعاً وستين دولة هي معظم دول إفريقيا حول خط الاستواء، وفي آسيا تشمل الدول شبه الجزيرة العربية وفلسطين ولبنان وسوريا وتركيا والعراق وإيران وأفغانستان وباكستان والهند وحدود ما كان يسمى " الأتحاد السوفيتي" المتاخمة لأفغانستان وإيران وتركيـا(12).
طيران الجراد:
يستطيع الجراد أن يطير لمسافات بعيدة، فتقطع الجرادة الواحدة مائة كيلومتر في اليوم الواحد، وذلك بما لديها من قدرة عضلية تمكنها من الرفرفة بالجناحين لمدة تتراوح ما بين ست وست عشرة ساعة، وهي قدرة تساعدها على اجتياز الموانع المائية والطبوغرافية .
وبدراسة قدرة عضلات الطيران في الجراد، وجد أنها تعمل بكفاءة تفوق كفاءة عضلات الحركة في الإنسان بنحو ثماني مرات (إذا أخذنا في الاعتبار الفرق في الحجم) فإذا علمنا هذه القدرة الهائلة على الطيران لساعات طويلة أثناء النهار، فمن أين لهذه العضلات أن تأتي بالطاقة المطلوبة لهذا النشاط؟ تأتيها هذه الطاقة من عمليات أيض (****bolism)المواد النشوية داخل خلايا الجسم، فإذا نفد ما لديها من مخزون النشا تبدأ في استنزاف احتياجاتها من مخزون الدهن الموجود بها، فهو الذي يمدها بالطاقة اللازمة لقطع مسافات طويلة في الطيران(13).
كيف يحصل الجراد على حاجته من الماء أثناء رحلة الهجرة؟
وربما أيضاً قد يخطر بالبال هذا التساؤل وهو كيف تأخذ الجرادة كفايتها من الماء وهي تطير كل هذه المسافات الشاسعة؟ ومعلوم أن كل مخلوق ذو نفس رطبة يحتاج إلى الماء؟ والجواب يأتينا من أهل الاختصاص بهذا المجال، حيث يقول الدكتور كارم السيد غنيم: يمكن للجراد المهاجر أن يقطع مسافة تبلغ آلاف الكيومترات خلال ثلاث أسابيع وفي عام 1956م لوحظ أن الجراد الحاج هو الأكثر قدرة على التحليق من أي نوع آخر، ولمسافات بعيدة، فلقد تمكن من عبور البحر لمسافة 500كيلو متر للوصول إلى جزيرة Cap vert وطالما تم التساؤل حول الكيفية التي يستطيع بها الجراد قطع مسافة شاسعة من الصحراء دون ماء، والحقيقة أنه من خلال الدراسات تم التوصل إلى أن الجراد يقوم بهضم السليولوز (Cellulose) الذي يعثر عليه في الأدغال اليابسة ويحلله إلى مادة دهنية تحتوي الهيدروجين، وعندما تدخل تلك الدهنيات في الدم، وتحصل عملية الاحتراق بواسطة الأوكسجين خلال الطيران، يتحرر ماء بمعدل (7) ملليجرامات من كل (10) مليجرامات دهون. وهذا يسمى فسيولوجيا "الماء الأيضي" وهذه عملية تدل على المرونة الفسيولوجية لهذا النوع من الجراد، فقد واجه اختفاء الماء في الصحراء بإنتاج ما يحتاج إليه بطريقة كيميائية(14).
الحكمة من تحريم أكل الميتة:
اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به، قال تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ﴾[المائدة: 3], وقال في موضع آخر: ﴿قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحاً﴾[الأنعام:145], فحرم المسفوح من الدم، لأنه يحمل سموماً وفضلات كثيرة ومركبات ضارة، وذلك لأن إحدى وظائفه الهامة هي نقل نواتج استقلاب الغذاء في الخلايا من فضلات وسموم ليطرحه خارج الجسم عبر منافذها التي هيأها الله لهذا الغرض, وأهم هذه المواد هي: البولة وحمض البول والكرياتنين وغاز الفحم كما يحمل الدم بعض السموم التي ينقلها من الأمعاء إلى الكبد ليصار إلى تعديلها(15).