تلك صدقة يغفل عنها الناس
صالح البهلال
لا أنسى في رمضانٍ مضى ـ وبالتحديد في ليلة السابع والعشرين منه ـ رجلاً يبادر بالسلام على آخر، وهذا الآخر يصدّ عنه، ويستنكف منه، فلا يمدّ يداً، ولا ينطق كلمة، ولا يخفض رأساً، فأعجلت إلى هذا الرجل، فشفعت بقبول السلام، فأصرّ على الإباء، وجمح إلى هواه، وقال لي: إنك لا تدري ما صنع بي، فذكرت له بركة هذه الليلة، وبركة الشهر، وعزمت عليه أن يعفو، فقام، وقال: أخبرك فيما بعد، فاستفصلت فيما بعد عن القضية، وكنت أظنها قضية تنوء بحملها الجبال الراسيات، وإذا بي أفاجأ بأنها قضية تافهة جداً، يضحك منها الصبيان، ولكن الشيطان صعَّد فيها وصوّب، فانجلت عن فراق وسوء أخلاق، فأيقنت حينها بأنه موفق ومحروم.
إن الله ـ جل في علاه ـ إذا أراد بعبد خيراً غرس فيه طباع الخير، فيبذلها بلا كلفة، أسلس من الماء، وصار كما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (حُرّم على النار كلّ هيّن ليّن سهل قريب من الناس). أخرجه أحمد والترمذي من حديث ابن مسعود.
وإذا صرف الله عبداً عن المكارم عسرت أخلاقه، وغلظت طباعه، واشتد على الناس مخالطته، وقد قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (المؤمن مألفٌ، ولا خير فيمن لا يألف، ولا يُؤلف). أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة.
وإنّ مُنْعِمَ النظر لأحوال بعض الناس في هذا الزمان ليجد أنهم يعانون من تفرّق كلمتهم، وتشتّت شملهم، ويلقون في ذلك ضيقاً تنقبض له الصدور، وتشمئزّ منه النفوس.
فليعلم أولئك بأن رمضان جمُّ الخيرات وافرُها، يبعث على كرمِ النفوس وسماحتها، وحسن الأخلاق وسخاوتها؛ وإن من تلك الأخلاق العلية العفو عن الناس، فإنها صدقة يغفل عنها الناس، وهي لا تكلف مالاً، سوى أن يقول المرء: عفوت عن فلان.
وهي وإن كانت لا تكلف مالاً إلاّ أنها خَلَّة شديدة على النفس، لا يسْطيعها إلاّ رجلٌ موفقٌ، (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).
وإن أمر الصدقة بالعرض ليس بأهونَ من الصدقة بالمال، فقد أخرج أبو أحمد الحاكم ـ في كتابه الأسامي والكنى، بإسناد صححه الحافظ ابن حجرـ من حديث أبي هريرة أن رجلاً من المسلمين قال: اللهم إنه ليس لي مال أتصدق به، وإني جعلت عرضي صدقة. قال: فأوجب النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ أنه قد غُفر له.
وإنك لتجد مِن بعض النفوس مَنْ إذا هبّت عليها نفحات الشهر، كلما وَكَفَ لها في سخاء النفس وابل، فآتت أُكُلها ضعفين؛ فترى فيها جزالة النفس، ورجاحة الحِلم، وتدفُّقَ البِشْر، وجمال الصفح، ولقد كان رسول -صلى الله عليه وسلم- أجود ما يكون في رمضان، وهذا يشمل جميع أنواع الجود، ومنه الجود بالخلق الحسن، والمنطق الطيّب، والعفو عن الناس.
فهل من جواد مستبق؛ فهذا الشهر فرصة في اغتفار الهفوات، وتمتين العلاقات، وصلة القرابات؟!