العودة   شبكة صدفة > المنتديات العامة > ابحاث علميه و دراسات

ابحاث علميه و دراسات Research , analysis, funding and data for the academic research and policy community , ابحاث , مواضيع للطلبة والطالبات،أبحاث عامة ،بحوث تربوية جاهزة ،مكتبة دراسية، مناهج تعليم متوسط ثانوي ابتدائي ، أبحاث طبية ،اختبارات، مواد دراسيه , عروض بوربوينت

إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 06-03-2011, 11:34 PM رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
marmer

الصورة الرمزية marmer

إحصائية العضو








marmer غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

الطريق إلى بيت المقدس

في يوم 13 من يناير 1099م (492هـ) تحرَّكت الجيوش الصليبية ناحية الهدف الرئيسي التي خرجت من أجله وهو إحتلال بيت المقدس ، وتفاوتت الروايات في تقدير عدد الجيش الصليبي الذي خرج من أنطاكية وما حولها لغزو فلسطين ، فالمقلِّل يصل إلى ستة آلاف مقاتل فقط , والمكثِّر يصل به إلى ثمانين ألفًا من الصليبيين ، وهو في الحالتين بعيدٌ جدًّا عن الأرقام التي عرَفناها عند نزولهم أرض الإسلام ؛ إذ كان الجنود في أقلِّ تقدير ثلاثمائة ألف مقاتل .

وهذا النقص الحادُّ في العدوِّ إنما كان للمعارك المتتالية ، وللموت أثناء الانتقال والحصار وفترات الجوع الطويلة ، وكذلك لإنفصال جيش بلدوين في الرها وبوهيموند في أنطاكية ، ولترك حامية صليبية في كل مدينة يحتلونها بدءًا من نيقية وإنتهاءً بمعرَّة النعمان جنوب أنطاكية ؛ غير أنِّي أُرَجِّح أن الجيش كان في حدود ثمانين ألفًا أو نحوها ؛ لأن المسافة التي إخترقها الجيش داخل أراضي سوريا ولبنان وفلسطين كبيرة يصعب فيها أن يتحرَّك ستة آلاف جندي فقط دون حماية ، كما أنه لو لم يتبقَّ من الثلاثمائة ألف إلا ستة آلاف فقط لكان قرارهم - دون أدنى شكٍّ - هو الرجوع إلى أوربا والنجاة بالنفس ، فضلاً عن أن معظم المعارك التي اشترك فيها الصليبيون كان النصر حليفهم ، ولم نسمع عن قتلى بهذه الأعداد الضخمة ، سواء في صفِّهم أو في صف المسلمين المهزومين .

تحرَّكت الجيوش بقيادة ريمون الرابع ، وهو وإن كان يرتدي ملابس الحُجَّاج ويُعْلِن خدمة الربِّ إلاَّ أنه كان في منتهى الغيظ والحنق لعدم حصوله على إمارة حتى هذه اللحظة كزميليه بلدوين وبوهيموند ، وهذا أثَّرَ في قراراته كما سيتَبَيَّن لنا من رحلته للقدس .

سار الصليبيون جنوبًا ، وهم يقتربون من الساحل أحيانًا ، ويتعمَّقون في الداخل أحيانًا أخرى، وكانوا في طريقهم يمرُّون بمدن إسلامية صرفة، ومع ذلك فقد كان ردُّ فعل هذه المدن في منتهى الخزي !

لقد أسرع الحُكَّام والأهالي في هذه المدن بتقديم الهدايا الثمينة والمؤن ، بل والأدِلَّة للجيش الصليبي بُغْيَة الحصول على رضاه ، وتجنُّب وحشيته ، وكانت أخبار مذبحتي أنطاكية ومعرَّة النعمان قد وصلت إلى مكانٍ ، ففعلت فعلها في إرهاب الشعوب حتى تفقد كلَّ أمل في المقاومة ، ويصبح كلُّ همِّها البحث عن لحظات حياة أطول ، ولو كانت هذه اللحظات تعيسة أو مَهِينَة ، تمامًا كما فعلت مذبحة دير ياسين التي قام بها اليهود سنة (1367هـ) 1948م لتسهيل مهمَّة احتلال فلسطين ، والتاريخ يتكرَّر !!

فمن الأمثلة الشاذَّة التي رأيناها ما حدث من أمير شيزر عندما تعهَّد لريمون ألاَّ يعترض طريق الصليبيين أثناء إختراقهم إقليم شيزر ، وأن يُقَدِّم لهم ما يحتاجون إليه من الغذاء والمئُونة ، بل وقدَّم لهم دليلَيْنِ أرشدوا الصليبيين في أثناء عبورهم إقليم العاصي !
وكذلك رأينا أمير حمص جناح الدولة حسين بن ملاعب - الذي كان يقاتل الصليبيين منذ شهور مع كربوغا - يُرسِل وفدًا محمَّلاً بالهدايا الثمينة يخطب ودَّ المحتلين؛ لكي لا يتعرَّضوا لإمارته بسوء ..

لقد كانوا يحكمون إمارات غير صالحة للاستقلال أبدًا، فالمساحات صغيرة والشعوب ضعيفة والإمكانيات هزيلة، ولكنهم يَقْنَعُون بها ليحتفظوا بالعرش ، ولو كان عرشًا زائفًا لا قيمة له !! ثم مرَّ الجيش الصليبي على مدينة طرابُلُس اللُّبنانيَّة , وكانت هذه المدينة مقرَّ حُكم أحد العائلات الشيعيَّة ، وهي عائلة بني عمَّار ، وحاكمها في ذلك الوقت هو فخر الملك أبو عليّ ، ومع كونها شيعيَّة إلاَّ أنها كانت منشقَّة عن الدولة العبيدية بمصر ، وكانت هذه المدينة تُسيطر على عدَّة مدن وقرى مجاورة مكوِّنة بذلك إمارة واسعة نسبيًّا ، تحكم عدَّة مناطق في لُبنان وسوريا .

قرَّر فخر الملك أبو علي بن عمار أن يُهَادن الصليبيين ، فرفع أعلامهم على أسوار مدينته دلالة تبعيته لهم ، وأقرَّ بدفع جزية لهم ، وأرسل إليه ريمون الرابع بعض رسله للتفاوض فدخلوا مدينته ثم عادوا إلى ريمون بالأخبار السعيدة : إن المدينة شديدة الثراء ، عظيمة الجمال , وسال لُعاب ريمون الرابع ، ونسِيَ قضية القدس ، وتجاهل ملابس الحجاج ، ووجد في طرابلس الفرصة لتحقيق حلم الإمارة الخاصَّة به !

فكَّر ريمون ومن معه من القادة أن يضغطوا عسكريًّا على المدينة أو أعمالها لكي يَزيدوا في الجزية المعروضة أو أن يُسقطوا المدينة تمامًا، وهذا - لا شكَّ - أفضل ، وتوجَّه ريمون لحصار مدينة تسمى عِرْقَةَ شرق طرابلس وفي ذات الوقت هي مدينة غنية بمياهها وثرواتها الطبيعية ، وإتجه جودفري وروبرت لحصار مدينة جبلة ، وهي مدينة ساحلية سوريَّة جنوب اللاذقيَّة تتبع أيضًا طرابلس ، وسرعان ما أعلنت جبلة إستسلامها بعد حصار تسعة أيام من 2 إلى 11 مارس 1099م ، وأقرَّت بدفع جزية وفيرة من المال والخيول ، غير أن عِرْقَةَ صمدت ، وكانت مدينة حصينة فشل ريمون في إسقاطها .

إضطر ريمون أن يستنجد بجودفري وروبرت لإسقاط عِرْقَةَ فجاءا إليه واشتركا معه في الحصار ، وهذه الاستغاثة من ريمون رفعت من أسهم جودفري وقلَّلت من أسهمه هو ؛ فقد صار الصليبيون ينظرون إلى جودفري على أنه القائد العامُّ وليس ريمون الرابع .

وإستمرَّ الحصار حول عِرْقَةَ فترة طويلة ، وبدا للصليبيين أنهم سيُكَرِّرُون مأساة أنطاكية ، وفي هذه الأثناء وفي 10 من إبريل 1099م وصلت رسالة من الإمبراطور البيزنطي تعرض عليهم أن ينتظروه إلى آخر يونية ، وسوف يأتي بجيش كبير للإشتراك معهم في غزو بيت المقدس ، وسيتحمَّل تكاليف الحملة كلها والواضح أن الإمبراطور البيزنطي كان يعمل على كل الجهات ، ويتعامل بحرفيَّة عالية جدًّا مع الأمور ، ويعرف احتياج الصليبيين إلى المساعدة .

إجتمع الصليبيون لمناقشة رأي الإمبراطور ، ولا شك أنهم كانوا في أزمة ، خاصةً أن أدهمار - المندوب البابوي - كان قد مات في أنطاكية بعد سقوطها بعدة أيام، وافتقد الجيش الصليبي الزعامة الرُّوحيَّة المجمِّعة ، وصار كقوات التحالف التي لا يربطها رباط وثيق، فقد يقوم الإمبراطور بهذا الرباط ، فوق أنه ستحمل تبعات خطيرة سواء في الأموال أو في الأرواح ، فكانت هذه إيجابيات واضحة، لكنها لم تكن بلا سلبيات ، فالإمبراطور مخادع ، وقد يكون هذا مجرَّد تخدير للجيش الصليبي ، وقد تركهم قبل ذلك لمصيرهم في حرب كربوغا مع أنه وعدهم بالقدوم لنُصرتهم ، ثم هو يتعامل مع العبيديين الذين كانوا يحكمون بيت المقدس الآن ، هذا كله إضافةً إلى أن قدومه سيجعل بيت المقدس حقًّا خالصًا له ، وهم - أي الزعماء الصليبيين - يريدونه لهم لا للإمبراطور .

ماذا رأى الزعماء الصليبيون ؟!

تزعَّم ريمون الرابع رأيًا يُنادي بإنتظار الإمبراطور ، وهذا الرأي لم يكن بالطبع لمصلحة الجيوش الصليبيَّة إنما كان لمصلحته هو ، فالإنتظار سيعطيه فرصة أكبر لتحقيق حلمه بتكوين إمارة له في طرابلس ، وقد تساعده في ذلك القوات البيزنطية ، وسوف يعلم الإمبراطور البيزنطي القوي أن ريمون الرابع كان مناصرًا له ، وهذا قد يساعده كثيرًا في إستقرار أوضاعه ..

أمَّا جودفري بوايون فقد رأى رأيًا آخر ، لقد رأى أن إنتظار الإمبراطور تضييعٌ للوقت وللجهد ، وبِنَاء لقصور من الرمال ، وأنه من الأصلح أن تتوجَّه الجيوش مباشرة إلى بيت المقدس ، خاصَّة أن المقاومة الإسلاميَّة منعدمة في هذه المناطق حتى الآن .

وتَنَازَعَ الزعيمان ، وظهر التوتُّر بينهما ، والقضية لم تكن خالصة للربِّ ؛ فريمون له أطماع في طرابلس ، وجودفري له أطماع في بيت المقدس ، والأطماع متعارضة وإن كان الجيش واحد !!

وقف الزعماء جميعًا مع رأي جودفري بوايون ، وهذا رفع أسهمه أكثر وأكثر، وصار فعليًّا القائد الأعلى للجيوش الصليبيَّة , وعاند ريمون وأصرَّ على استكمال حصار عِرْقَةَ حتى إسقاطها، على الرغم من مرور أكثر من شهرين على حصارها دون فائدة وتأزَّم الموقف ومرَّت الأيام !!

وأخيرًا ، وفي (492هـ) 13 من مايو 1099م، وبعد حصار ثلاثة أشهر ونصف، إضطر ريمون لرفع الحصار لفشله في إسقاط المدينة الصغيرة عِرقة ، ولا شكَّ أن إسقاط طرابلس ذاتها سيكون أصعب وأصعب، ونزل ريمون على رأي جودفري وبقية الزعماء وقبلوا بجزية فخر الملك بن عمَّار , وأكملوا الطريق إلى بيت المقدس، بعد أن فقدوا وقتًا غاليًا، خاصَّة أن شهور الصيف قد قاربت على البدء ، وهكذا بدأ الصليبيون في الاستعداد للرحيل، إلا أنهم فوجئوا بسفارة عبيدية مصرية تأتيهم عند أسوار طرابلس !!

ماذا يُريد العبيديون ؟!

لقد جاءت السفارة محمَّلة بالأموال الغزيرة والهدايا الثمينة لكل قائد من قوَّاد الحملة ، وبعرضٍ من الدولة العبيدية أن تسهِّل حجَّ الصليبيين وكل النصارى إلى بيت المقدس (المحكوم حتى هذه اللحظة بالدولة العبيدية) ، على أن يدخل الحجاج إلى القدس غير مسلَّحين، وسوف تقرُّ الدولة العبيدية الصليبيين على ما تحت أيديهم من بلاد، سواء في آسيا الصغرى أو سوريا أو لبنان .

هكذا !!

ولكنَّ الصليبيين فاجئوا السفارة بالردِّ الساخر ، أنهم سيتمكَّنون من أداء الحج كما يريدون ولكن ليس بمساعدة الدولة العبيدية ، وهذا يعني إعلانًا مباشرًا للحرب , إذ كيف سيدخلون البلد دون سماح حُكَّامها ؟!

والحقُّ أن الموقف يحتاج إلى نظرة وتدبُّر ، وعودة للوراء قليلاً لنعرف شيئًا عن الدولة العبيدية، وعن تاريخ بيت لمقدس في هذه الفترة .

إن بعض المؤرِّخين - سواء من القدامى أو من المحدثين - يتعجَّبون من ردِّ فعل الدولة العبيدية تجاه الحملة الصليبية ، ومن حالة المعاملة الفجَّة التي ظهرت في أقوالهم وأفعالهم ، ومن بعض المواقف التي لا تُوصَف بأقل من أنها مخزية ومشينة ، ومع ذلك فالذي يُرَاجِع التاريخ يجد أنه لا عجب مطلقًا فيما رأيناه من ردِّ فعلٍ للدولة العبيدية تجاه الحروب الصليبية .

لقد كان من أهداف الدولة العبيدية الرئيسية منذ قامت هي أن تُحَارِب المسلمين السُّنَّة في كل مكان ، فقد حاربت أهل السُّنَّة في المغرب ، وقتلت العلماء والعُبَّاد ، وكان ذلك في سنة 296هـ ، ثم جعلت من همِّها أن تحارب الدولة السُنِّيَّة في الأندلس ، بل وتعاونت مع الصليبيين في شمال الأندلس ضد دولة عبد الرحمن الناصر رحمه الله ، ثم إجتاحت شمال إفريقيا ، وإحتلت مصر سنة 358هـ\ 969م ، وفعلت بعلمائها السُّنَّة مثلما فعلت في المغرب ، ثم توسَّعت في نفس السنة في الشام، وإحتلت بيت المقدس وكذلك دمشق , ودام هذا الإحتلال أكثر من مائة سنة ، لقد بقِيَ العبيديون في بيت المقدس حتى حرَّرها ألب أرسلان رحمه الله عن طريق قائده أتسز (الأقسيس) ، وذلك في سنة (463هـ) 1071م ، ثم دخل بيت المقدس في مُلْكِ تتش بن ألب أرسلان سنة (471هـ) 1079م ، وتولَّى الإمارة حينئذ أرتق بن أكسب، ثم إبنه سكمان بن أرتق سنة (485هـ) 1091م تحت ولاية دقاق بن تتش مَلِكِ دمشق ..

ولكن العبيديين لم يُسَلِّموا بضياع بيت المقدس وفلسطين من أيديهم؛ ولذلك رحبوا بقدوم الصليبيين إلى آسيا الصغرى والشام لكي يشغلوا الأتراك السُّنَّة وينفردوا هم ببيت لمقدس وفلسطين ؛ ولذلك فقد استغلَّ العبيديون فرصة انشغال الأتراك في حرب الصليبيين، ووجَّهوا قوتهم لغزو بيت المقدس سنة (490هـ) 1097م ، وإستولَوْا عليه بالفعل , بل ولم يتورَّعوا عن القيام بمفاوضات مع الصليبيين لإقرارهم على الشام في مقابل إقرار الصليبيين لهم على فلسطين كما وضَّحْنَا .

إنه تاريخ طويل من الخيانة والعمالة والطعن في ظُهُورِ المسلمين السُّنَّة .

أمَّا الصليبيون فقد أخذوا قرار احتلال فلسطين، وخاصَّةً بيت المقدس ، فلا مجال عندهم الآن للتفاوض مع العبيديين، ومن ثَمَّ كان ردُّهم الساخر على سفارتهم .

وهكذا ترك الصليبيون طرابلس ووصلوا إلى بيروت فصيدا ثم صور ، والمسلمون في كل ذلك يتجنَّبونهم بالهدايا والأموال لكيلا يتعرضوا للإيذاء ، ثم إخترقوا لبنان إلى فلسطين ، وعبروا نهر الكلـــب ، وهو الحدُّ الفاصل آنذاك بين أملاك السلاجقة وأملاك الدولة العبيدية ، فمرُّوا بعكا فقام أميرها العبيديّ بتمويلهم بالطعام والمؤن، ووعد بالدخول في طاعتهم بعد سقوط بيت المقدس !

ثم مرَّ الصليبيون بقَيْسَارِيَة ثم أُرْسُوف , ثم غيَّروا طريق الساحل، وشقُّوا البلاد شرقًا إلى الداخل صوب بيت المقدس، واحتلُّوا في طريقهم الرَّمْلَة، وهي مدينة صغيرة، ولكنها تسيطر على الطريق الواصل من بيت المقدس إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، فسيطر عليها الصليبيون ليؤمِّنوا طريقهم بعد ذلك إلى البحر ؛ حفاظًا على إمدادات السفن والأساطيل الأوربية ، وفي هذه المدينة (الرملة) توقَّف الصليبيون ليعقدوا اجتماعًا مهمًّا لتحديد خطوات الغزو ، وكان ذلك في (492هـ) أوائل يونيو 1099م .

لقد بحث الصليبيون في هذا الاجتماع نقطة مهمة تُفَسِّر خطوات مستقبليَّة في الحملات الصليبيَّة ، لقد ناقشوا قضيَّة غزو القاهرة وإسقاط مصر !!

لقد فهم الصليبيون في ذلك الوقت المتقدِّم أن مفاتيح بيت المقدس موجودة في القاهرة ، ولم يكن هذا فقط لأن العبيديين يُسيطرون على بيت المقدس الآن ؛ فقد إتضح للصليبيين مدى هلعهم من قوَّة الصليبيين ، ولكن للبُعْدِ الإستراتيجي المهمِّ لهذا البلد الكبير مصر ، والذي يحدُّ فلسطين من جنوبها وغربها ، والذي به طاقة بشريَّة ضخمة ، وإمكانيات إقتصاديَّة عالية ، وشعور فطريّ بالتقارب مع فلسطين ، وخاصَّة فيما يتعلق ببيت المقدس ، وبه المسجد الأقصى ؛ لذلك فكَّر الصليبيون في هذا الاجتماع في قضية غزو مصر غير أنهم وجدوا أن قوتهم غير كافية لهذه الخطوة الجريئة ، خاصة أن عليهم إذا فعلوا ذلك أن يجتازوا حاجزًا صحراويًّا صعبًا وهو صحراء سيناء ، وقد تهلك فيه القوة الصليبية ؛ ولذلك عدلوا عن هذا الرأي ، وقرَّروا التوجُّه مباشرة إلى بيت المقدس ، لكن هذا الاجتماع أظهر فكرة ظلَّت مسيطرة على عقول قادة الحروب الصليبية وخلفائهم ، والتي وُضِعت بعد ذلك موضع التنفيذ في الحملتين الخامسة والسابعة من الحملات الصليبية ، حيث تمَّ غزو مصر غزوًا صريحًاً ..

والسؤال :

أين الجيوش الإسلاميَّة في طول هذه المسافة التي قطعها الجيش الصليبي من أنطاكية إلى بيت المقدس، وهي مسافة تزيد على ستمائة كيلو متر ؟!

أليس في هذه المناطق كلها رجل رشيد ؟!

لقد إفتقد المسلمون في هذه الآونة لمقوِّمات رئيسية من مقومات قيام الأُمَّة؛ لذلك قَبِلَتْ جموع المسلمين أن تَحُثَّ هذه الأقدام النجسة على طريقها إلى مسرى رسول الله - صلي الله عليه وسلم - وأُولَى القبلتين وثالث الحرمين ، وإلى الأرض المباركة ، دون أن يتحرَّك لهم ساكن ؛ ولذلك حُصِر المسلمون في بيت المقدس !

لقد عانى المسلمون في هذا الوقت من أمراضٍ شتَّى .. لقد عانَوْا من بُعْدٍ عن الدين ، وغياب للحميَّة الإسلاميَّة ، وإفتقاد للنخوة المستندة إلى عقيدة قويَّة صحيحة , وعانوا كذلك من فُرقة مؤلمة ، وتشتُّت فاضح ، حتى صارت كل مدينة إمارة مستقلة ، ودويلة منفصلة ، بل ومتصارعة مع جيرانها المسلمين .

وعانوا أيضًا من إفتقار لزعامة مخلصة متجرِّدة ، تجمع الشتات في كيان واحد، وترغب في رفعة هذه الأمة دون نظر إلى مصالح الذات ورغبات النفس , كما عانى المسلمون فوق ذلك من رؤية واضحة للواقع الذي يعيشونه ، وللأخطار المحدقة بهم ، وعانوا أيضًا من نقص حادٍّ في الدراية السياسية أو الكفاءة العسكريَّة .

لقد كانت الأُمَّة تمرُّ فعلاً بأزمة مركَّبة معقدة !

لكن إن كنا نتعجب من موقف الأمة وتخاذلها، فإن العجب يأخذنا وبشكل أكبر من موقف الصليبيين ! كيف أَمِنُوا على أنفسهم أن يخوضوا كل هذه المسافات في عمق العالم الإسلامي ، وهم لا يشعرون بخوفٍ ولا وَجَلٍ ؟! إنهم يتوغلون في كثافة بشريَّة عالية جدًّا ، ومحصورون بين عدة إمارات تحوي عدَّة جيوش مسلمة ، والمسافة بينهم وبين أوطانهم بعيدة هائلة ، فلو هُزِمُوا سُحِقُوا ، وليس لهم مهرب ولا منجى !

كيف إستطاعوا أن يتغلَّبوا على الخوف الفطريّ للبشر ، وقَبِلُوا بهذه المغامرة الخطيرة ؟!
إن الإجابة بأنهم خرجوا من ظروف صعبة جدًّا في أوربا - كما فسرْنَا في أوَّل الكتاب - جَعَلَت الحياة هناك أقرب إلى الموت ، وجعلت طموحهم في ترك واقعهم الأليم يطغى على أية رغبة أخرى ، وجعلت الموت في أرض فلسطين لا يفترق كثيرًا عن الحياة في أوربا الفقيرة آنذاك , إن هذه الإجابة فقط لا تشفي الغليل ، ولا تفسِّر عدم الرهبة ، وقلَّة الاكتراث الذي رأيناه في الجيوش الصليبية ؛ فالروح عزيزة على النفس ، وخاصَّةً إن لم يكن الإيمان باليوم الآخر والجنة وازعًا قويًّا يدفع إلى الموت .

فما تفسير هذه المعادلة الصعبة ؟ولماذا بدت الشجاعة في قلوب الصليبيين واضحة جليلة ؟!

إن هذا يفسره لنا حديث رسول الله - صلي الله عليه وسلم - الذي رواه ثوبان ، وبه يفسِّر الأوضاع وكأنه يراها رأي العين ؛ قال رسول الله : "يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ الأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا" . قَالَ: قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ : "أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ ، يَنْتَزِعُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ ، وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ", قَالَ : قُلْنَا : وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ : "حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ .


إن الأمم الغربيَّة التي تداعت من فرنسا وإيطاليا وإنجلترا وألمانيا لم تأتِ بهذه القوة والشجاعة إلاَّ لأنَّ الله عزوجل - نزع الرهبة من قلوبها من جموع المسلمين ، فصاروا لا يكترثون بهم ولا بأعدادهم وحصونهم وسلاحهم ، ورأينا إجتماعات الصليبيين لا تُعَبِّر أبدًا عن خوف في صدورهم ، أو عن قلق من مقاومة المسلمين ، إنما يتحرَّكون هنا وهناك بحرية تامَّة، وباطمئنان كامل !!

والمسلمون على الجانب الآخر أُلقى في قلوبهم الوَهْن والضعف والخَوَر ، فيرتعبون لرؤية الجنود الصليبيين ، ولو كان الصليبيون أقلَّ منهم في العدد ، وأضعف منهم في العُدَّة .
ولنا مع الحديث وقفتان ، وإن كانت وقفاته كثيرة :

أمَّا الوقفة الأولى : فهي أن الله هو الذي ينزع الرهبة مِنَّا من قلوب أعدائنا ، وهو الذي يلقي في قلوبنا الوهن ! وقد يقول قائل : ولماذا يفعل ربنا ذلك ، مع أننا في النهاية مؤمنون ، وهم كافرون ؟! فنقول : إن الله أَبَى أن يُعِزَّ المسلمين إلا إذا إرتبطوا بالإسلام ، وإلتزموا بالقرآن والسُّنَّة ، ولو نَصَرَهُم وهم يُفْرِطون في الشرع لصارت فتنة عظيمة ؛ إذ سيقول الناس : إننا لسنا في حاجة للإسلام ، فقد نُصِرْنَا بغيره ؛ لذلك تحدث مثل هذه المواقف العجيبة ليلتفت المسلمون إلى دينهم ، وليضع المسلمون أيديهم على مفاتيح النصر الحقيقيَّة .

أما الوقفة الثانية : فإنها مع السبب الذي من أجله حدثت كل هذه التداعيات المؤلمة ، إنَّ وصف الحدث والمأساة أخذ كلمات كثيرة ، ولكن السبب وراء كل ذلك لم يأتِ إلاَّ في جُمْلَتين قصيرتين : حُبّ الدنيا، وكراهية الموت .

إن المسلمين تعلَّقوا بالدنيا تعلُّقًا غير مقبول ، حتى صاروا يكرهون الموت في سبيل الله، وأُمَّة ترهب الموت لا بُدَّ أن تُقْهَر، وأُمَّة تعشق الدنيا لا بُدَّ أن تذلَّ ، والدنيا ملعونة كما ذكر رسولنا , والمتمسِّك بها يهلك ، ليس هذا فقط بل وتضيع منه الآخرة .

إن هذا السبب يُفَسِّر لنا التخاذل الرهيب الذي رأيناه من جموع المسلمين التي كانت تخرج إلى الصليبيين وهي تحمل الهدايا النفيسة ، والأموال الطائلة ، لكي يتركونهم "يعيشون"! مجرَّد حياة ، أيًّا كانت هذه الحياة، وهذا - والله - هو الهوان بعينه .

هكذا حُصِرَ المسلمون المتمسِّكون بدُنياهم في بيت المقدس ، وراقب المسلمون البعيدون عن القدس الموقف في سكون ، ينتظرون اليوم الذي ستدور عليهم فيه الدوائر !!

غادر الصليبيون الرملة في (492هـ) 6 من يونيو 1099م، ووصلوا حول أسوار بيت المقدس في (492هـ) 7 من يونيو 1099م , لقد وصلوا إلى المحطَّة الأخيرة في الخُطَّة التي وضعها البابا أوربان الثاني في كليرمون بفرنسا قبل هذا الموقف بأكثر من ثلاث سنوات ونصف .

ويفيض هنا المؤرخون الأوربيون في وصف مشاعر الصليبيين عندما رأوا المدينة المقدسة ! وليس هذا إلاَّ لتجميل الوجه القبيح للغزو الصليبي البشع ، فهذه الجموع كثيرًا ما تردَّدت في الوصول إلى هذا المكان ؛ لأنهم قَنَعُوا في الطريق بممالك أخرى ، وهذه الجموع تنازعت كل أنواع الدنيا من مال وأسلاب وأملاك وزعامة ، وهذه الجموع أقسمت الأَيْمان ثم غدرت ، وهذه الجموع سترتكب في داخل المدينة المقدسة ما تخجل منه الإنسانية جميعًا !!

بدأ الحصار المحكم حول المدينة في يوم 7 من يونيو 1099م , ولم يُضَيِّع الصليبيون وقتًا، بل أخذوا يقصفون المدينة معتمدين على عدد كبير من آلات الحصار كانوا يصحبونها معهم ولم يمْلِك المسلمون في داخل المدينة إلاَّ محاولة المقاومة اليائسة ، والمطاولة قَدْرَ ما يستطيعون .

وفي يوم 15 من يونيو 1099م ، وبعد أسبوع من الحصار وصلت إلى ميناء يافا بعض السفن الجنويّة تحمل المؤن والسلاح وبعض الجنود ، واستطاعت هذه السفن القليلة أن تُسيطر على ميناء يافا بسهولة ؛ لأن السكان هجروا المدينة بعد أن اقترب الصليبيون من أُرْسُوف! وكان لهذه الإمدادات أكبر الأثر في تثبيت أقدام الصليبيين , ومن ثَمَّ ازداد الحصار ضراوة وقوة، ومرَّت الأيام الصعبة ، والعالم الإسلامي يُشاهِد الجريمة في صمت، ومرَّ شهر كامل والمدينة محاصَرة ، وأصبح الموقف صعبًا على الفريقين ؛ إذ بدأت حرارة الصيف تُلهب رءوس الصليبيين، فهذا شهر يوليو بشمسه الملهبة وترامت بعض الأخبار أن العبديين أخرجوا جيشًا من مصر لإنقاذ المدينة المحاصَرة ، فأسرع الصليببيون الخطوات لكي يُسقطوا المدينة المقدسة قبل أن يتعرضوا للمشاكل التي عانوا منها في حصار أنطاكية ، وصنع الصليبيون بُرجين خشبيين للارتفاع فوق أسوار المدينة، وقد تم صنع هذين البرجين بإستخدام خشب الأسقف من المنازل ببيت لحم بعد هدمها ، وبدأ الهجوم باستخدام الأبراج، وأحرق المسلمون البرج الأول باستخدام السهام المشتعلة ، غير أن الصليبيين إستطاعوا الضغط على المدينة باستخدام البرج الثاني ، وعبر الجنود الصليبيون فوق الأسوار إلى داخل المدينة , واستطاعوا فتح الأبواب من الداخل ، ومن ثَمَّ تدفَّق الصليبيون بغزارة داخل المدينة المقدسة !! وكان ذلك في يوم الجمعة 22 من شعبان سنة 492هـ الموافق 15 من يوليو سنة 1099م ، وهو من الأيام المحزنة التي لا تُنْسَى في تاريخ الأُمَّة ..

ولم يكن للمسلمين المحاصرين في داخل القدس من هَمٍّ إلاَّ الفِرار من وجه الجنود الصليبيين الذين كانت تبدو عليهم علامات الوحشيَّة والبربريَّة .

وتساؤل مهمٌّ :

أين كانت الحامية العسكريَّة العبيديَّة ، وقائد المدينة العبيديّ إفتخار الدولة؟

لقد تركوا الشعب وذهبوا إلى محراب داود وإعتصموا به ثلاثة أيام ، ثم في ظروف غامضة تم إخراجهم بواسطة الصليبيين في أمان تام , حيث نُقلوا إلى عسقلان ومنها إلى مصر دون أن يلحقهم أذى !! مما يؤكِّد أنهم إتفقوا مع الصليبيين على تسليم المدينة مقابل الأمان لهم ..وتُرِكَت المدينة بلا جيش !

وإنطلق الصليبيون الهمج ليستبيحوا المدينة المستسلمة ، ولم يجد السكان المذعورون أملاً في النجاة إلا في الإعتصام بالمسجد الأقصى ؛ لعل الصليبيين يحترمون قدسيَّة المكان ، أو حُرمة دُور العبادة ، لكن هذه المعاني لا تشغل عقول الصليبيين ، لا من قريب ولا من بعيد ,وذُبح في المسجد الأقصى سبعون ألف مسلم ، ما بين رجل وامرأة وطفل !! وهؤلاء هم كل سكان المدينة تقريبًا ، فقد صُفِّيَتْ تمامًا ، ولم ينجُ منها إلا الحامية العسكريَّة العبيديَّة ..


هذه هي الحملة الدينيَّة التي جاءت من أجل الربِّ، وخدمة للمسيح عليه السلام! وصمة عار حقيقية في جبين أوربا لا تُنْسَى على مرِّ العصور ! لقد ذكر وليم الصوري - وهو أحد مؤرِّخي الحرب الصليبية - أن بيت المقدس شهد عند دخول الصليبيين مذبحة رهيبة ، حتى أصبح البلد مَخَاضَة واسعة من دماء المسلمين ، أثارت الرعب والاشمئزاز ,
بل وذكر مؤرِّخ معاصر للحروب الصليبية أنه عندما زار الحرم الشريف غداة المذبحة الرهيبة التي أحدثها الصليبيون فيه ، لم يستطع أن يشقَّ طريقه وسط أشلاء المسلمين إلاَّ في صعوبة بالغة ، وأن دماء القتلى بلغت ركبتيه ..

والجدير بالذكر أن القتل في هذا اليوم لم يكن خاصًّا بالمسلمين فقط ، بل عانى منه اليهود أيضًا ، فلقد جمع الصليبيون اليهودَ في الكَنِيسِ ثم أحرقوه عليهم ! لقد كانت مجزرة تَطَهُّر عرقيّ بمعنى الكلمة .

ومع وصول الخبر إلى كل بقاع العالم الإسلامي سادت موجة كئيبة من الحزن والكمد ، ولكنه - للأسف - كان حزنًا سلبيًّا، بل كان حزنًا مُقعِدًا شلَّ المسلمين عن الحركة ، فلم نسمع عن حركة جيش لتحرير الأقصى والقدس وفلسطين ، كما لم نسمع آنذاك نداءً شعبيًّا يُطالِب الحكام بحمل المسئولية , لقد كانت أزمة دينيَّة أخلاقية ، شملت الشعوب جميعًا بحكَّامها ومحكوميها .

وفي نفس الوقت عمَّت الفرحة أرجاء العالم المسيحي ؛ فبيت المقدس لم يُحكم بالنصارى منذ خروج الدولة النورمانية منذ العام 16هـ\ 637م ، أي منذ أكثر من أربعمائة وسبعين سنة، وبيت المقدس كان الهدف الرئيسي المُعلَن للحملة الصليبية ، ومعنى هذا أن هذا هو أدلُّ برهان على نجاح الحملة وخطتها ، ونجاح البابا أوربان الثاني فيما خطط له ، لكن من الجدير بالذكر أن البابا أوربان لم يسعد بسماع أخبار سقوط بيت المقدس في أيدي جنوده ، فقد مات في 29 من يوليو 1099م ، أي بعد سقوط بيت المقدس بأسبوعين ، لكن الخبر ينتقل من القدس إلى روما في وقت أطول من هذا بكثير، ومن ثَمَّ فقد ترك الدنيا دون أن يعرف أن ثمرة جهده على وجه التحقيق ! وما نحسب أنه كان سيحزن للمذابح التي إرتكبت باسم المسيح في بيت المقدس ؛ لأنه شاهد قبلها مذابح أنطاكية ومعرَّة النعمان ولم يتكلم ، بل وشاهد مذبحة سملين ضد نصارى المجَرِ ولم يتحرك ، كما أن البابا الذي تولى مكانه - وهو باسكال الثاني - لم يُعَلِّق على الأمر مطلقًا ، بل ولم يُعَلِّق عليه أيٌّ من البابوات على مر التاريخ ، مع إعتراف جميع المؤرخين بأن هذه الحادثة البشعة راح ضحيتها عشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء، ومع أنَّ بعض البابوات إعتذروا لليهود عن مذابح هتلر لهم ، بل ورفعوا من على اليهود إثم تهمة قتل المسيح ، مع قناعة المسيحيين - على خلاف عقيدتنا - أنه قُتل .

لقد صار السكوت على هذه الجريمة المنكرة أمرًا مطَّردًا وكأنه عقيدة يتوارثها الناس ، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدلُّ على أن الروح الصليبية القاسية التي قادت الجيوش إلى مثل هذه الأفعال ما زالت تسري في أجساد كثير من القادة ، سواء القادة المدنيين أو العسكريين أو الفكريين .

ونعود إلى بيت المقدس !

بعد أن خمدت الحركة تمامًا في بيت المقدس، وإختفى المسلمون كُلِّيَّة من المدينة، دخل زعماء الحملة الصليبيَّة في مساء يوم سقوط القدس إلى كنيسة القيامة ليُصَلُّوا للربِّ على توفيقهم في هذا العمل ، فلا شك أن كلاًّ منهم كان يُصَلِّي للربِّ أيضًا أن يُوَفِّقه في "حُكْمِ" المدينة المقدسة !! ودليل ذلك ما حدث بعد يومين من السيطرة على المدينة ، وتحديدًا في 17 من يوليو 1099م حيث إجتمع الزعماء المتناحرون الطموحون لتنازع سلطة حكم بيت المقدس !

من يحكم بيت المقدس ؟

إن القضية شائكة جدًّا ، والأطراف المتنازِعة عليها كبيرة وكثيرة، وليس الإغراء في قصَّة بيت المقدس إغراء ثروة ومُلْكٍ فقط ، بل هو إغراء شرف ورفعة كذلك؛ فالذي سيحكم بيت المقدس سيُصبح قِبْلَة النصارى من مشارق الأرض ومغاربها ، وسينال وضعًا خاصًّا في الكنيسة العالميَّة ، سواء كانت الغربيَّة أو الشرقيَّة أو الأرمينيَّة أو غيرها ، وسيحفر اسمه في التاريخ كلِّه، فالقدس محطُّ أنظار كلِّ الديانات ، ويُعَظِّمها المسلمون والنصارى واليهود .


إنها مدينة ذات طابع خاصٍّ جدًّا ، لعلَّه لا يتكرَّر مع أي مدينة أخرى في العالم.
مَن هم المتنازعون على حكم بيت المقدس ؟

هناك زعماء الحملة الصليبيَّة الذين لم يغنموا بمُلْكٍ بعدُ، ولم يحصلوا على ما حصل عليه بلدوين في الرها أو بوهيموند في أنطاكية .

هناك جودفري بوايون أمير الجيش الذي خرج من شمال فرنسا واللورين وألمانيا، وكان من بداية خروجه وهو يأخذ طابعًا مميَّزًا يرفعه فوق بقيَّة القوَّاد؛ وذلك لانضمام عدد كبير من الأمراء تحت قيادته، ومعظم هؤلاء الأمراء أقوياء، بل إن هناك بلدوين الذي كان تحت قيادته، وهو يحكم الآن إمارة مستقلَّة هي الرها وكان جودفري بوايون يتبع في ولائه للإمبراطور الألماني القويّ هنري الرابع، وهذا يُعطِيه قوةً أكبر، ثم إنه كان محبوبًا من بقيَّة زعماء الحملة، حيث كان صدره متَّسِعًا لآرائهم، وكانت له الكثير من الآراء الحكيمة في أثناء سير الحملة ومعاركها ؛ وعلى هذا ففرصته في ولاية الأمر في بيت المقدس كبيرة .

وهناك أيضًا ريمون الرابع الذي حاول منذ بداية الرحلة أن يُضْفِي على نفسه شكلاً دينيًّا، وأن يجعل من نفسه وكأنه قائد الحملة بكاملها؛ لأنه صديق للبابا أوربان الثاني، ويتكلَّم كثيرًا عن الصليب والمسيح، ومن ثَمَّ فهو يعتبر نفسه أولى الناس بزعامة هذا المكان المقدَّس، ثم إن ريمون كان يُبَالِغ في تقدير إمكانيات نفسه، وكان هذا يبدو في شكل غطرسة وتكبُّر جعلت مكانته في قلوب بقية الزعماء تقلُّ , وجعلهم يرغبون في مخالفته لا لشيء إلا لإثبات وجودهم وعدم رغبتهم في أتِّبَاعه .

وهناك أيضًا بقيَّة الزعماء، وإن كانت فرصهم أقلَّ، مثل تانكرد النورماني ابن أخت بوهيموند الذي رفض البقاء مع خاله في أنطاكية؛ لأن لتانكرد أطماعه الخاصَّة، ولا يريد أن يكون تابعًا لأحد، بل يطمع في أن يكون أميرًا على إمارة خاصَّة به، وظهر ذلك منذ أوَّل أيام الحملة الصليبية في منطقة آسيا الصغرى، عندما كان يتنازع مع بلدوين على إمارة طَرَسُوس وغيرها .

أمَّا روبرت أمير الغرب الفرنسي فكان يُدْرِك أن إمكانياته أقلُّ من السابقين؛ ولذلك كان قانعًا بكونه قائدًا تابعًا لغيره، لا مستقلاًّ بذاته .. فهؤلاء هم زعماء الحملة الصليبية والمرشَّحون لولاية الكرسيِّ المهمّ في بيت المقدس .

لكن هل هم فقط الذين يطمعون في هذا الكرسيِّ؟!

إن هناك دون أدنى شكٍّ أطماع الكنيسة الكاثوليكيَّة، فالحملة خرجت من الأساس بتوجيه من البابا أوربان الثاني ، والكنيسة كما ذكرنا قبل ذلك لم تكن شَرَفِيَّة فقط في هذه الأيام، إنما كانت قوَّة مؤثِّرة ، لها إقطاعياتها وجيوشها وأموالها ، والبابا له أطماع حكم كعامَّة الملوك والأمراء بل أشدّ ، وهذا بيت المقدس ، وولاية الكنيسة عليه أمر منطقي تمامًا ، لكنَّ الكنيسة مُنِيَتْ في الأيام الأخيرة بضربتين كبيرتين ؛ أما الأولى فوفاة المندوب البابوي المصاحب للحملة أدهمار، الذي تُوُفِّيَ في أنطاكية منذ عام واحد تقريبًا ، ولو كان موجودًا لكان تسلُّمه بيت المقدس أمرًا منطقيًّا تمامًا , والضربة الثانية كانت وفاة أوربان الثاني الذي حرَّك الجموع لهذه الحرب ، ولا شكَّ أن حميَّته للقضية كانت أشدَّ من حميَّة البابا الجديد باسكال الثاني ، ومن ثَمَّ فإن مساحة حرِّيَّة الحركة عند الأمراء ستكون أوسع في ظلِّ الوضع الجديد .

ولقد كان النزاع قديمًا في أوربا بين العلمانيين اللادينيين وهم هنا طبقة الأمراء ، والكنسيين وهم البابوات والأساقفة والقساوسة ، ولا شكَّ أن في الظروف التي وصفناها صارت فرصة العلمانيين لولاية بيت المقدس أكبر وأعظم ..

غير أن هناك قوَّة أخرى كانت تطمع في ولاية بيت المقدس، وهي قوَّة الدولة البيزنطيَّة، ومن المؤكَّد أن أطماع ألكسيوس كومنين لا تقف عند آسيا الصغرى ، ومن المؤكَّد أيضًا أنها لا ينسَوْنَ تاريخًا قديمًا كانوا يحكمون فيه فلسطين بكاملها بما فيها بيت المقدس ، والدولة البيزنطيَّة الآن ترى القوة الإسلاميَّة المنافِسَة لها تتهاوى ، وفرصة استعادة الأملاك القديمة واردة ، والجميع في هذه الحملة - باستثناء ريمون - كان قد أقسم يمين الولاء للإمبراطور البيزنطي ، وحتى ريمون نفسه كان قد أقسم بحماية شرف الإمبراطور ، كما أنه بالغ في تضخيم دور الإمبراطور في الأيام الأخيرة وأثناء حصار طرابلس .

هذا كله يعني أن الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة من المتوقَّع ألا تسكت على السيطرة الصليبيَّة على بيت المقدس ؛ ولذلك كان من الضروري للصليبيين أن يختاروا زعيمًا بسرعة يُرَتِّب الأوضاع، وينظِّم الجيوش ، ويستعدُّ للأيام القادمة ، خاصَّةً أن الدولة العبيديَّة قد تُحَاول إسترداد بيت المقدس بعدما ظهرت لها أطماع الصليبيين بوضوح ، كما أن المسلمين في الشرق وفي الخلافة العباسيَّة قد يكون لهم دور في الأيام المقبلة .

من التحليل السابق يظهر أن التنافس محصور بين القائدَيْنِ العسكريين جودفري بوايون وريمون الرابع ، ولكي لا تحدث مشاحنات بين الزعيمَيْنِ إجتمع عموم الزعماء ليختاروا مَنْ يتولَّى زعامة بيت المقدس ، وكان هذا في 17 من يوليو 1099م ..

ومع أن الأمير ريمون كان أغزر مالاً وأعظم ثروة ، ومع أنه كان أكثر طموحًا في التملُّك إلاَّ أن الأمراء إجتمعوا على إختيار جودفري بوايون ليكون حاكمًا لبيت المقدس ؛ لأنهم في وجوده سيكون لهم رأي وأطماع ، على العكس من ريمون الذي يتصلَّب في رأيه ، ولا يقبل أحدًا معه في الحكم ..

وهكذا أصبح جودفري بوايون زعيمًا لبيت المقدس !

وقد حاول جودفري بوايون عند ولايته لبيت المقدس أن يُبْدِي شيئًا من التواضع يتناسب مع المهمَّة الدينيَّة المزعومة التي خرجوا من أجلها ، فقال في البداية أنه يرفض هذه الولاية ؛ لأن هذا شرف كبير لا يستحقُّه ليعطي الإنطباع الكاذب أنه لم يأتِ إلى هذه البلاد طمعًا في مُلْكٍ ، ولا حُبًّا في سيادة ، ثم قَبِل بعد ذلك - بالطبع - عندما أصرَّ الأمراء عليه ، ثم رفض لقب أمير أو ملك ، واختار أن يُلقَّب بلقب ديني يدلُّ على تواضعه ، وهو "حامي بيت المقدس" ، كما رفض أن يَلْبَسَ تاجًا من الذهب والمجوهرات في بلدٍ لَبِسَ فيه المسيح تاجًا من الشوك !

لقد كانت تمثيليَّة متقنة لإقناع العالم أن الصليبيين ما جاءوا إلى هذا المكان إلاَّ نصرة للدِّين ، وأن زعماء هذه الحملة طيِّبون مخلصون متواضعون !

ولقد تعجَّبت كثيرًا عندما قرأت لبعض المؤلِّفين المسلمين الذين كتبوا عن الحروب الصليبيَّة من مراجع غربيَّة صليبيَّة ، عندما وجدتهم يقولون : إن اختيار جودفري بوايون كان يرجع إلى طيبته ، وكذلك إلى تواضعه وتقواه !!

يقولون هذا الكلام وينسَوْنَ أن هذا الاختيار له كان في يوم 17 من يوليو 1099م ، أي بعد يومين فقط من ذبح سبعين ألف مسلم مدني من الرجال والنساء والأطفال ، وقَبْلَهُ ذبح أهل أنطاكية ومعرَّة النعمان كما مرَّ بنا .. إنها أزمة النقل الحرفي عن المؤرِّخين الغربيين دون إعطاء فرصة للعقل أن يتدبَّر أو يفهم !

إن التفسير المنطقي لهذه التصرفات من جودفري بوايون هو محاولة كسب ودّ وتعاطف بقيَّة الزعماء ليتمكَّن من السيطرة على الفِرَقِ المتباينة والمختلِفة في داخل الحملة الصليبيَّة ، والذي يُفَسِّر اختياره لِلَقَبِ "حامي بيت المقدس" ، وهو التقرُّب والتزلُّف للكنيسة لتَقْبَل به حاكمًا على بيت المقدس فالتنافس بصفة عامَّة بين الملوك والأمراء وبين الكنيسة على المناصب والإقطاعات والسلطات كان كبيرًا ومشتهرًا في أوربا ، فإذا أضفنا إلى ذلك أن المتنافَس عليه الآن هو مدينة القدس المقدَّسة ، وإذا أضفنا أن المحرِّك للجموع الصليبية والمدبِّر لكلِّ تفصيلات الحملة كان أحدَ البابوات المهمين في تاريخ أوربا وهو أوربان الثاني ، إذا أدركنا كلَّ ذلك عرفنا أنَّ الجميع كان يتوقَّع قيادة كنيسة بيت المقدس ، وهذا يفسِّر محاولة جودفري بوايون الظهور بشكلِ الرجل المُتَدَيِّن جدًّا ليجمع بين صفات الملوك وصفات القساوسة !

ويُعَضِّد هذا ويؤكِّده ما فعله الصليبيون الزعماء ، وفي مقدِّمتهم جودفري، حين قاموا بإختيار بطريرك جديد للقدس ، فإختاروا رجلاً ضعيفًا ليس له تاريخ مُشَرِّف ، بل إنَّ هناك طعوناتٍ كثيرةً في أخلاقه بصفة عامَّة ، وفي سلوكه أثناء الحملة الصليبيَّة بوجه خاصٍّ ، وهذا الرجل هو أرنولف مالكورن ، وهذا حتى لا يكون له أطماع في قيادة بيت المقدس ، وسنرى في مستقبل الأحداث أنه ما إن يأتي رجل قوي يُمْسِك بزمام الكنيسة إلا وستكون له أطماع واضحة في حكم هذه المدينة المقدَّسة .

هذا ما يمكن أن يقال عن تواضع جودفري بوايون قائد الحملات الصليبيَّة !

ثم إنه بمناسبة الحديث عن الكنيسة في بيت المقدس ، فإنه يجب أن نعرف أن الصليبيين غيَّروا الأوضاع تمامًا في المدينة ، فإستبعدوا القساوسة الأرثوذكس من كنيسة القيامة، ممَّا أثار إستياء المسيحيين المحلِّيِّين ، لكن لم يكن لهم يَدٌ في التغيير ، كما أَجْبَر جودفري القساوسة الأرثوذكس على إعادة صليب الصَّلبوت - أو الصليب الأعظم - وكانوا قد أخْفَوْهُ ، وهو الصليب الذي يزعمون كَذِبًا أن المسيح قد صُلِبَ عليه ، ولم يَعُدْ أمام الأرثوذكس في بيت المقدس سِوَى قَبُول هذا الوضع بعد فقدانهم الأمل في تعيين بطريرك أرثوذكسي ؛ ليفتقد المسيحيُّون الشرقيُّون جزءًا كبيرًا من الحريَّة التي كانوا يَنْعَمُون بها في ظلِّ حُكْمِ المسلمين !

والآن ؛ وبَعْدَ سقوط بيت المقدس ، هل تحقَّق حُلم الصليبيين وهدفهم ، ومن ثَمَّ يَكُفُّون عن التوسُّع والاحتلال ؟! إنَّ نَفْسَ الإنسان تُحِبُّ دومًا التملُّك والتكاثر ؛ يقول الله : أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، ويقول رسول الله : لَوْ كَانَ لابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لابْتَغَى ثَالِثًا، وَلاَ يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ , فهذه رَغَبَات الإنسان بصفة عامَّة، فما بالُكم برغبات قُسَاة القلب ، غلاظِ الطِّباع كهؤلاء الهمج الذين جاءوا من غرب أوربا ؟!

لقد بدأ الصليبيون فورًا في النظر إلى ما حولهم من مدن وقُرًى ليتوسَّعوا أكثر وأكثر، والحُجَّة هي تأمين المدينة المقدَّسة، وحماية الطرق المؤدِّيَة إليها !! والواقع الأليم الذي كانت تعيشه الأُمَّة جعل هذه الأحلام الصليبيَّة مؤلمة ، فالمسلمون هنا وهناك إفتقروا إلى زعامة مخلِصة تجمعهم على الكتاب والسُّنَّة ، وافتقروا إلى وَحْدَةٍ تجمع شملهم ، وإفتقروا أيضًا إلى رُوحٍ جهاديَّة وحُبٍّ للموت في سبيل الله ، فأذهلتهم مذابحُ القدس ، وقرَّرُوا فعل أي شيء ليتجنَّبُوا الموت ، ومن ثَمَّ أُطْلِقَتْ أيدي الصليبيين في فلسطين .

وكانت أوَّل المدن الفلسطينيَّة سقوطًا بعد القدس هي مدينة نابُلُس ، التي تقع على بُعْدِ خمسين كيلو مترًا فقط شمال القدس ، وكان سقوطها مزريًا ؛ حيث جاء أهلها بأنفُسُهم لتسليم المدينة للصليبيين ، فتَسَلَّمَهَا تانكرد في (492هـ) أواخر يوليو 1099م ..

وفي الرابع من أغسطس عام 1099م - أي بعد سقوط بيت المقدس بعشرين يومًا - وَصَل الجيش العبيديّ إلى ميناء عَسْقَلان لقتال الصليبيين ، وإكتشف الصليبيون أمر الجيش وهو ما زال بالميناء ، فأسرعت القوَّات الصليبيَّة من كل مكان ، وحدث قتال كبير بين الجيشين ، وخاصَّة أنَّ كلاًّ منهما يقوده الزعيم الأكبر في كل جيش ؛ فجيش الصليبيين على رأسه جودفري بوايون ، وجيش العبيديين على رأسه الأفضل شاهنشاه بن بدر الجَمَالِيّ ، وهو الوزير الأوَّل في مصر والمتحكِّم في الأمور بها ، وهو أعلى سلطةً وأَجَلُّ من الخليفة العبيديّ نفسه .

دارت الموقعة في (492هـ) الثاني عشر من أغسطس عام 1099م، وما هي إلاَّ لحظات قليلة حتى تشتَّت شمل العبيديين ، وقُتِلَ منهم العددُ الكبير ، وفرَّ الأفضلُ الجَمَالِيُّ مع بعض مقرَّبيه على سفينة راجعًا إلى مصر ، وكانت هذه المعركة خاتمة للمحاولات الجادَّة من الدولة العبيديَّة لاسترداد المفقود من أرض فلسطين ..

ثم إننا نحِبُّ أن نتوقَّف وقفة مع ما حدث بعد ذلك من الصليبيين تجاه مدينة عَسْقَلان المُسْلِمَة ؛ لنرى طبيعة العَلاقة بين زعماء الجيش الصليبي وأهداف القتال والغزو ، ولنعرف أيضًا طبيعة المسلمين في ذلك الوقت .

لقد حاصر الصليبيون فورًا مدينة عَسْقَلان مستغِلِّينَ الحالة المعنويَّة العالية لجنودهم ، والإحباط الذي أُصِيبَ به المسلمون ، وقد أُسْقِطَ في يَدِ المُسْلِمِينَ ، فَهُمْ لا طاقة لهم بجودفري وجنوده ، فماذا يفعلون ؟!

لقد ترامت الأنباءُ إلى داخل أسوار عَسْقَلان أنَّ الذي أخرج الحامية العبيديَّة من داخل بيت المقدس بأمان هو العهد الذي أعطاه إيَّاهم ريمون الرابع أثناء عملية الغزو ، ولعلَّه قد ترامى إليهم أيضًا أنَّ هناك خلافًا بين جودفري وريمون على زعامة الصليبيين ، وقد يكون ريمون أعطى قبل ذلك الأمان لجنود الحامية نكايةً في جودفري ، وكنوع من إثبات الوجود في داخل الجيش الصليبي ، ومن ثَمَّ فقد رأى أهل عسقلان أنهم لو طلبوا الأمان من ريمون الرابع فإنَّ هذا سيكون أوقع ، حيث سَيَتَحَمَّس ريمون لمعارضة جودفري، ولكسب يَدٍ عند أهل عَسْقَلان ، فهو رجل يبحث عن إمارة له ، فلماذا لا تكون عَسْقلان هي إمارته ، إذا كان سيُعْطيهم وعدًا بالحياة !

هكذا فكَّر أهل عسقلان ! ولقد صدق حَدْسُهم !

لقد تحمَّس ريمون لقضيَّة أهل عَسْقَلان ، وتناقش فورًا مع جودفري لفكِّ الحصار عن عسقلان، لكن جودفري أيقن أنَّ ريمون لا يريد رفع الحصار عطفًا على أهل عسقلان ، أو رغبة في إظهار محاسن الأخلاق ، إنما أراد ذلك لتكون عسقلان إمارة له ، وهذا يتعارض مع أهداف جودفري نفسه ، فهو يريد لميناء عسقلان أن يكون تابعًا لبيت المقدس ، حتى يكون له مخرجٌ كبير على البحر الأبيض المتوسط يستوعب الإمدادات البشريَّة والعسكريَّة والغذائيَّة القادمة لمدينة القدس الداخليَّة ، كما يُريد موانئ تِجَارِيَّة تُنْعِشُ اقتصاديَّات بيت المقدس ؛ لذلك رفض جودفري صراحة أنْ يُعْطِيَ عسقلان لريمون ، وغضب ريمون جدًّا لدرجة أنه قرَّر أنْ يَنْسَحِبَ بجنوده من الحصار، مُفَضِّلاً أن تبقى عسقلان في يَدِ المسلمين على أنْ يأخذها جودفري بوايون ..

وهذا ما حدث بالفعل ! لقد ضعفت قوَّة الحصار عن المدينة بعد إنسحاب ريمون ، بل إنَّ ريمون أسرع إلى مدينة أخرى هي أُرْسُوف ؛ ليقوم معها بنفس المهمَّة آملاً أن تكون أُرْسُوف هي إمارته ، فأسرع خلفه جودفري تاركًا عَسْقَلان ، وكرَّر نفس الحوار مع ريمون ، فجودفري - الطيب كما يدَّعون ، والتقيُّ كما يصفون - يُريد لأُرْسُوف أيضًا أن تكون تابعة له !

وإشتدَّ غضب ريمون ، وإن كان لم يستطع أن يفعل شيئًا، كذلك شَعَرَ بقيَّة الأمراء أنَّ هذا الفكر الاستحواذي الذي يتعامل به جودفري سيمنعهم من تنفيذ أي طموح ، أو امتلاك أي شيء ، وخاصةً أنهم أضعف من ريمون ؛ ولذلك فقد قرَّر الجميع أن يتركوا الساحة خالية لجودفري !

أما ريمون فقد توجَّه إلى الشمال في مناطق لُبْنَان والشام؛ ليبحث له عن مُلْكٍ بجوار أنطاكية، وأمَّا بقيَّة الأمراء - وعلى رأسهم روبرت النورماني، وروبرت دي فلاندر فقد قرَّروا العودة إلى فرنسا ، ولا شكَّ أنهم حُمِّلوا في عودتهم بكَمِّيَّات هائلة من الأموال والغنائم يُعَوِّضهم عن ترك الساحة بكاملها لجودفري وجنوده ، وهكذا لم يبقَ مع جودفري من زعماء الحملة الصليبيَّة إلا تانكرد النورماني ، الذي آثر أن يبقى مع جودفري ولا يذهب إلى خاله بوهيموند ؛ حيث يُمْكِنُ له في فلسطين أنْ يستحوذَ على إمارة هنا أو هناك ، ولو تحت حكم جودفري العامِّ ، بينما سيكون الحُكْمُ في أنطاكية مقصورًا على خاله فقط !! إنها المصالح الشخصيَّة فقط هي التي تحكم تصرُّف كل زعيم من زعماء الحملة الصليبيَّة !

ولم يُخَيِّب جودفري ظنَّ تانكرد ، إذ أَمَرَهُ أنْ يحتلَّ إقليم الجَلِيل ، فإن وُفِّق في ذلك كان واليًا عليه، وتحمَّس تانكرد جدًّا للمهمَّة ، ولم تكن مسألةً صعبةً، فهو مع قلَّة رجاله ، وضعف إمكانياته بعدَ رحيل العديد من الأمراء والجنود إلاَّ أنَّ أهل الإقليم كانوا أضعف ، حتى إنَّه احتلَّه في فترة وجيزة ، وأيضًا إحتلَّ مدينة طبرية في سهولة بعد أن هرب منها أهلها ، وفَعَلَ الشيء نفسه في مدينة بيسان في الجنوب الشرقي لإقليم الجَلِيل ، وهكذا صار إقليم الجَلِيل تابعًا للصليبيين وتحت إمارة تانكرد، على أن هذا الإقليم صار تابعًا لبيت المقدس وليس مستقلاًّ بذاته .

وهكذا صارت عدَّة مُدُنٍ من مُدُن فلسطين تحت سيطرة الصليبيين، منها بيت المقدس ويافا واللُّدُّ والرملة ونابُلُس وبَيْسَان وطبرية ، وفي نفس الوقت لم يستطع الصليبيون في هذه المرحلة أن يحتلُّوا عكَّا أو عَسْقَلان أو أُرْسُوف ، ولم يستطيعوا دخول لُبْنَان ، حيث بقِيَت طرابُلُس وبَيْرُوت وصيدا في أيدي المسلمين ..

ومن الجدير بالذِّكر أنْ نعلم أنَّ القوَّة الصليبيَّة في كل هذه المدن الفلسطينيَّة المحتلَّة - بما فيها بيت المقدس - كانت ضعيفة جدًّا؛ لتَفَرُّقِ الحاميات الصليبيَّة بين هذه المدن الكثيرة، ولرجوع أعداد كبيرة من الجُنْدِ إلى فلسطين، وأيضًا لانسحاب ريمون بجيشه إلى الشمال بعيدًا عن فلسطين وعن نفوذ جودفري ، وعلى الرغم من هذا الضعف إلاَّ أنَّ المقاومة الإسلاميَّة آنذاك كانت أضعف ؛ حيث هُزِمَ المسلمون نفسيًّا قبل أن يُهْزَمُوا عسكريًّا ، وشعروا أنَّ قتال الصليبيين ضربٌ من المستحيل ، وهذا أدَّى إلي إستقرار الصليبيين على الرغم من قلَّة أعدادهم !

وقبل أن تتعجَّب لعلَّك ينبغي أنْ تُفَكِّرَ في بقاء اليهود في زماننا الآن بأعدادهم القليلة جدًّا وسط هذا الكمِّ الضخم الهائل من المسلمين ؛ لندرك جميعًا أن القضيَّة ليست قضيَّة أعداد وعُدَّة، ولكنها قضيَّة دين وعقيدة وفكر ورُوح .

ولكن ينبغي أيضًا أن نَقِفَ وقفة مع جودفري وسياسته في السيطرة على الأوضاع في فلسطين ، على الرغم من قلَّة أعداد جنوده واتساع المساحة المحتلَّة ، لقد سلك جودفري عدَّة طُرُق لتأمين المناطق التي يحتلُّها ، يَحْسُنُ بنا أن نَقِفَ معها بتدبُّر ؛ فالتاريخ يتكرَّر!

أوَّلاً : عَمِلَ جودفري على تقوية وتحصين ميناء يافا فهو المَنْفَذ البَحْرِيُّ الوحيد حتى هذه اللحظة لبيت المقدس ، وهي شِرْيَان الحياة الذي ينبغي أن يَظَلَّ مفتوحًا وقويًّا ، ولقد قَوِي شأنُ يافا تِجَارِيًّا وعسكريًّا حتى أثَّرت في كل الموانئ المحيطة بما فيها موانئ مصر كالإسكندريَّة ودِمْيَاط ..

ثانيًا : الإتفاق مع الجمهوريَّات الإيطاليَّة على إمداد بيت المقدس بالأساطيل التِّجاريَّة والعسكريَّة ؛ وذلك لحماية الشواطئ الفلسطينية ، ولقد كانت الجمهوريَّات الإيطاليَّة في ذلك الوقت وخاصَّةً بيزا وجنوة والبندقيَّة تمتلك أقوى أساطيل البحر الأبيض المتوسط وهكذا سيطر الإيطاليُّون فعلاً على مجريات الأمور ، فخَبَتْ جذوة الموانئ الإسلاميَّة كثيرًا , بل إنَّ الإيطاليين كانوا يهاجِمُون السفن القادمة من مصر ؛ فيستولون على تجارتها ويقتلون تُجَّارَها ، ومع مرور الوقت ضعفت موانئ عكَّا وأُرْسُوف وغيرهما ، ممَّا سيُسَهِّل بعد ذلك إحتلالَهم .


ثالثًا : سياسة الإرهاب والبطش والمذابح البشعة التي تُحْدِثُ آثارًا إعلاميَّة ضخمة ، ومن ذلك مثلاً ما فعلوه مع بعض المزارعين من أُرْسُوف الذين أمسك بهم الصليبيُّون أثناء خروجهم من حصونهم لرعاية أراضيهم الزراعيَّة ، حيث لم يَكْتَفِ الصليبيُّون بقتلهم بل وقطعوا أنوفهم وأيدِيَهم وأرجلَهم ؛ لبثِّ الرُّعْب في قلوب المسلمين ..

رابعًا : حرص الصليبيون على طريقة خبيثة تُمَكِّنُ لهم السيطرة على البلاد ، وفي نفس الوقت تضمن لهم أنْ تسيرَ الأمور بصفة عامَّة على ما يُرَامُ ، فسياسة الإرهاب وحدها لن تؤَدِّيَ إلى النتائج المرجُوَّة ، حيث قد يُسيطر الصليبيون على الأوضاع أمنيًّا ، لكنهم سيتأثَّرون سلبًا تجاريًّا ومدنيًّا ، فأعداد الصليبيين قليلة ، ومن ثَمَّ فهم يحتاجون إلى الفلاحين المسلمين ليزرعوا الأراضيَ الواسعة ، ويحتاجون إلى العُمَّال المسلمين ليقوموا بأعمال البناء والتشييد وتمهيد الأراضي، بل وبِنَاءِ القلاع والحصون ، وهم في نفس الوقت يحتاجون إلى الشعب المسلم هناك لكي يتعامل تِجَارِيًّا مع البضائع الإيطاليَّة والغربيَّة ، وإلاَّ فتَوَقُّف التِّجارة سيؤدِّي إلى نفور السفن الإيطاليَّة عن البقاء في هذا المكان ، ومن ثَمَّ ستضعف القوَّة البَحْرِيَّة لبيت المقدس .

من أجل ذلك كلِّه حرص جودفري على اتِّباع سياسة جديدة حقَّقت مصالح جمَّة للصليبيين ، وهي سياسة مباحثات السلام !! لقد فكَّر جودفري في هذه السياسة الماكرة التي تُحَقِّق مصالح هائلة له ، ودون أن يخسر شيئًا، لقد عرض على المدن الإسلاميَّة التي لم تسقط بعدُ أن تَعْقِد معه إتفاقيَّات سلام ، يبقى فيها الحُكْمُ في يَدِ الحاكم المسلم ، ولا تدخل حامية صليبيَّة في داخل المدينة ، وهذا الحُكْمُ الذاتيُّ سيُعْطِي الحاكمَ المسلم ما يرغب فيه من قوَّة تَسَلُّطِيَّة ، ومن وضع اجتماعيٍّ ، وسيُعطي الشعب الأمانَ الذي يُريده ، والاستقرارَ الاقتصاديَّ الذي يتمنَّاه ، ولكن ما هو المقابل الذي سيأخذه جودفري ؟! إنه ليس من أدنى شكٍّ أنَّ أحلام جودفري التوسُّعيَّة لن تتوقَّف ، فلماذا يَقْبَلُ بمثل هذه المباحثات السِّلْمِيَّة، وهو الذي مَسَح منذ أَمَدٍ كلمة (السلام) من قاموسه ؟! إنها المصالح الهائلة المتحقِّقَة ، وهي واضحة لكلِّ مُحَلِّلٍ ومدقِّق في الأحداث ، إلاَّ مَنْ عَمِيَتْ بصيرته ، أو أَغْفَلَ النظرَ عمدًا؛ خيانةً منه للوطن والعِرْضِ والدِّين !!

وبعض هذه المصالح يتلخَّص فيما يلي :

أوَّلاً : ولعلَّ هذه أهمُّ المصالح مطلقًا ، وهي " الإعتراف بدولة بيت المقدس الصليبيَّة" ، أي الإعتراف أن بيت المقدس من حقِّ الصليبيين ، وليس للمسلمين أن يُطَالِبُوا به في يوم من الأيام، وتُصْبِحُ المفاوضات هي التوثيق الطبيعي لهذا الكيان الصليبي ، وهذا سيُعْطِي شرعيَّة قانونيَّة للصليبيين ضدَّ المسلمين ، وأيضًا للبيزنطيين .

وهذا الاعتراف وإنْ كان شكليًّا في الوقت الحاضر إلاَّ أنَّ آثارَه في المستقبل ستكون مُعَقَّدة جدًّا ، وسيُصْبِح من الصعب على الأبناء والأحفاد أن يُطالِبوا بحقٍّ فرَّط فيه الآباء والأجداد .

ثانيًا : الصليبيون يُعانُون من نقص في الأعداد ، وهم وإن كانوا يسعَوْنَ الآن لإستقدام الأفواج النصرانيَّة من أوربا ليستوطنوا في فلسطين ، إلاَّ أنهم في حاجة شديدة للأيدي العاملة ، ونقص الأيدي العاملة سيؤدِّي إلى بوار الأرض وقلَّة الغذاء ، وعدم القدرة على بناء المستوطنات والحصون ، فلو كانت هناك عَلاقة سلام حقيقيَّة لخرج المسلمون البسطاء ليعملوا في الأملاك الصليبيَّة ، وحين يكثُر الصليبيون القادمون من أوربا سيُطْرَد المسلمون من أعمالهم ، وقد يُطْرَدون من البلد بكاملها .

ثالثًا : التُّجَّار الإيطاليُّون سيجدون مشْتَرِين لبضائعهم ، وطريقًا مفتوحًا لبلاد الشرق بكاملها ، ولا شكَّ أنَّ هذا إغراءٌ كبير للجمهوريَّات الإيطاليَّة يضمن بقاءها في المنطقة ، وهي ضروريَّة جدًّا لتأمين الصليبيين .

رابعًا : ستؤَدِّي هذه المباحثات إلى تقطيع الوشائج والعَلاقات بين أهل فلسطين وبقيَّة أقطار العالم الإسلامي ، فهذه الأقطار سَتَرَى أنَّ العَلاقة أصبحت سلميَّة بين العدوِّ والشعب المحتلِّ ، وسيقولون أنَّ أهل البلد قد إرتضوا ضياعه ، وفي ظلِّ غياب الفَهْمِ الإسلامي الصحيح لن يُدْرِكَ المسلمون في أقطار العالم الإسلامي أنَّ القضيَّة ليست فلسطينية محلِّيَّة ، بل هي إسلاميَّة عامَّة ، ولا يحقُّ لأهل فلسطين - حتى إذا أرادوا ذلك برغبتهم - أنْ يبيعوا البلاد لأعداء المسلمين .

خامسًا : سيحدث إنقسام خطير في المجتمع الفلسطيني ، وكذلك في المجتمع الإسلامي كَكُلٍّ؛ فهناك فريق سيَرْضَى بالتصالح مع الصليبيين من أجل الحياة ، وسيرضى بالتعايش السلمي مع المحتلِّ ، وسيقبل بالأمر الواقع ولو كان مُرًّا ، وهناك فريق آخر سيرفع راية الجهاد في سبيل الله ، ويرفض الظلمَ ، ويأبى أن يبيع دينه وأرضه ، وليس بمُسْتَبْعَدٍ أبدًا أن يتناحر الطرفان ويتصارعان ، بل قد يصل الأمر إلى القتال بالسلاح ، وهذا ما حدث تمامًا ؛ إذ كان لِزَامًا في وقت من الأوقات على المجاهدين في سبيل الله أنْ يُقَاتِلوا أولئك الذين فَرَّطُوا في كل شيء من أَجْلِ كرسيٍّ أو صفقة أو أمان ، ولا يخفى على أحد أنَّ حدوث مثل هذا التصارع سيؤدِّي إلى فشل الصفِّ المُسْلِم ، وَثَبَاتِ المحتلِّينَ في الأرض .

سادسًا : ولعلَّ من أخطر نتائج هذه المباحثات هي أنها تُؤَدِّي مع مرور الوقت إلى تسكين الرُّوح العَدَائيَّة عند المسلمين تجاه الصليبيين المحتلِّين، فبعد مرور عدَّة سنوات أو أجيال لن تُصبح العَلاقة بين الفريقين عَلاقة ظالم ومظلوم ، أو مغتصِبٍ ومنهوب ، ولن يُنْظَرَ إلى الصليبيين على أنهم أعداءٌ مجرمون ، ولكن ستُصبح العَلاقة عَلاقة صداقة وجِوَار ، ومودَّة ووئام , وفي غضون هذه الأوضاع المقلوبة سيُنْزَعُ الجهاد من قلوب الأجيال القادمة ، وسيرى المسلمون السفَّاح الصليبي رجلاً وديعًا محبًّا للسلام ، وقد يُطلَق على هؤلاء الراغبين في السلام أنهم الحمائم ، ويُطلق على مَنْ يرفُض هذا الوضع المُخِلّ أنه إرهابي يُرِيد زَعْزَعَة الاستقرار في المنطقة ، وينظر تحت قدميه ولا يرى المستقبل .

سابعًا : في غضون هذه المباحثات السِّلْمِيَّة سيُحْرَم المسلمون من أيِّ استعداد عسكري، وستُقَيَّد حركتُهم، ولن يُسْمَح لهم بتكوين جيش ، بل قد يحتفظون فقط بشرطة محلِّيَّة تُنَسِّقُ أمور مدنهم، دون القدرة على قتال الجيوش الصليبيَّة ، وسيُسَيْطر الصليبيُّون على كل المحاور، ولن يخرج مسلم من بلده إلاَّ بإذن الصليبيين ، وكذلك لن يدخل إلى هذه البلاد المُسْلِمَة مسلمٌ من بلد آخر ، وهكذا ستمرُّ السنواتُ ويَنْسَى المسلمون في هذه البلاد كلَّ طُرُقِ الحرب والقتال ، وتتَّسع الفجوة بين الصليبيين والمسلمين .

ثامنًا : سيدفع المسلمون في هذه البلاد إتاوة سنويَّة أو جزية للصليبيين في سبيل إستمرار هذه العَلاقة السلميَّة ، وهذه الجزية إضافةً إلى أنها ستستنزف الطاقات الإسلاميَّة ، وستُنْعِش الكيان الصليبي فإنها ستهزُّ معنويًّا أهل البلد المسلم ، فيشعرون دومًا بالتبعيَّة للكيان الصليبي .

هذه هي بعضُ المصالح التي رأت الجيوش الصليبيَّة أنها ستتحقَّق إذا ما أتمَّت مباحثات السلام مع مسلمي فلسطين، وهي مصالحُ هائلةٌ كما رأينا ؛ ولذلك فليس مستَغْرَبًا أبدًا أنْ نرى جودفري السفَّاح الذي أشرف على ذبح سبعين ألف مسلم منذ أيَّام أو أشهر يمدُّ يَدَه بالسلام نحو المسلمين الذين لم يتعرَّضوا للمذبحة !! وما أكثرَ السفَّاحين الذين يمدُّون أيديهم بالسلام !! ولكن لاستكمال الصورة فإننا لا بُدَّ أن نَعْلَمَ أنَّ كُلَّ ما فعله الصليبيون هذا إنما هو مؤقَّت ، وإلى أَجَلٍ مُعَيَّن ، ويوم يَجِدُ الصليبيون في أنفسهم القدرة على نقض العهد ، وإلغاء المفاوضات ، وإحتلال البلاد المسلمة فإنهم لن يتردَّدوا في ذلك مطلقًا، وستُصبح المعاهدة حبرًا على ورق ، وسيحُلُّ السيف محلَّ غصن الزيتون ، وسيدفع المسلمون ثمن الغِشاوة التي وضعوها على أبصارهم وهم يُسَاقُون إلى المقصلة على مَرْأًى ومَسْمَعٍ من العالمين .

وهكذا تمَّت هذه المباحثاتُ الآثمة - التي أُطْلِقَ عليها مباحثاتُ السلام - مع عدَّة مدن فلسطينية مثل عَسْقَلان وأُرْسُوف وعكَّا وقَيْسَارِيَة وغيرها ، وطالت أعمار ساكنيها قليلاً إنتظارًا لزحف صليبي جديد عندما تحين الفرصة














آخر مواضيعي 0 حلمي لأيامي الجايه
0 صفات الله الواحد
0 عيش بروح متفائله ونفس مؤمنه
0 إبتهال قصدت باب الرجا
0 كونى انثي
رد مع اقتباس
قديم 06-03-2011, 11:34 PM رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
marmer

الصورة الرمزية marmer

إحصائية العضو








marmer غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

وقفة للتحليل بعد سقوط بيت المقدس

الآن وبعد سقوط بيت المقدس في قبضة الصليبيين، وبعد مرور أكثر من سنتين على نزول الصليبيين أرض الإسلام نحتاج أن نقف وقفة لتحليل الوضع .

فالأمور أصبحت متشابكة جدًّا ، والقوى المتنازعة على حكم الشام وفلسطين وآسيا الصغرى كثيرة، ولا بد من أخذ صورة عامة عن حال كل قوة على الساحة ؛ لنفهم التطورات التي سنُقبل عليها في القصة بعد ذلك، وعليه فإننا سنقف هنا عشر وقفات مهمة :

الوقفة الأولى : مع حال الإمارات الصليبية التي تكوَّنت في أرض الإسلام ، وحال الزعماء الصليبيين الذين قطعوا المسافات لتحقيق أحلامهم التوسعية .

أول الإمارات تكوينًا كانت إمارة الرها، وتولى قيادتها بلدوين أخو جودفري بوايون، وكانت قاعدتها هي مدينة الرها غرب الفرات ، وإستطاع بلدوين أن يضم إليها مدينة سُمَيْساط وسروج، وبذلك تكوَّنت الإمارة في شمال الجزيرة ، أي المنطقة الواقعة بين دجلة والفرات، وكذلك غرب الفرات ، وهي في تقسيمات الدول الحالية تضم أجزاء من العراق وسوريا وتركيا، وهذه الإمارة كان يغلب على سكانها الأرمن ، ولم تكن تدين بالولاء حتى هذه اللحظة للقوات الصليبية ولا للدولة البيزنطية ، ولكنها كانت منفصلة مستقلة ، وبذلك تحققت فيها أحلام بلدوين .


وأمَّا الإمارة الثانية التي تكونت فهي إمارة أنطاكية ، وهي مكوَّنة من مدينة أنطاكية في الأساس ، وبعض المدن الصغيرة والقرى في شمالها وجنوبها وشرقها ، وكان على رأس هذه الإمارة بوهيموند النورماني، وبها غالب الجيش النورماني ، وسيطر عليها بوهيموند بعد صراع مع ريمون الرابع كونت تولوز، وكان غالبية السكان من النصارى الكاثوليك وهو جيش بوهيموند والنصارى الأرثوذكس ، وكذلك الأرمن الذين يعيشون في هذه المدينة منذ أمدٍ ، أما مسلمو المدينة فقد ذُبح أكثرهم ، وطُرد الباقي إلى المناطق المجاورة .

وبذلك حقَّق بوهيموند أطماعه هو الآخر، وكوَّن إمارة مستقلة عن القوات الصليبية ، وأنكر بوهيموند في الوقت نفسه صلته الحميمة بإمبراطور الدولة البيزنطية ألكسيوس كومنين ، ومن ثَمَّ أصبحت إمارة أنطاكية معادية للدولة البيزنطية كما هي معادية للمسلمين .

ومع أن الإمارتين السابقتين منفصلتان تمامًا عن القوات الصليبية التي أكملت الطريق إلى بيت المقدس ، فإنَّ وجودهما كان له أكبر النفع لهذه القوات الصليبية الغازية ؛ حيث كانت تقوم بدور عزل القوات السلجوقية عن الجيش الصليبي ، ومن ثَمَّ تأمين ظهره أثناء عملية التقدم إلى بيت المقدس ، وقد ظلت هاتان الإمارتان - وخاصةً إمارة الرها - تتحملان عبء صدِّ الهجوم القادم من شرق العالم الإسلامي في السنوات اللاحقة .

وثالث الإمارات تكوينًا كانت إمارة بيت المقدس، والتي لن تلبث إلا قليلاً - كما سيتبين لنا - حتى تتحول إلى مملكة متكاملة، فقد قامت على مساحة واسعة نسبيًّا من أرض فلسطين تشمل مدينة القدس ذاتها، إضافةً إلى يافا والرَّمْلة واللُّدِّ ، مع عقد معاهدات إستسلام مع عكَّا وقَيْسَارِيَة وأُرْسُوف وعَسْقلان ، ورأس هذه الإمارة الجديدة جودفري بوايون ، وكانت أهم الإمارات , حيث إنها تسيطر على أهم مدينة عند النصارى في العالم ، وهي مدينة القدس؛ ولذلك حاول جودفري بوايون أن يجمع في حكمه بين الشكل العلماني الذي يتميز به الملوك والأمراء والشكل الديني الذي يتميز به القساوسة والرهبان ، ومن ثَمَّ أطلق على نفسه لقب (حامي بيت المقدس) بدلاً من أمير أو ملك .

ومن الجدير بالذكر أن أعداد الصليبيين كانت قد قلت جدًّا ، على الرغم من الإمدادات القادمة عن طريق البحر بواسطة السفن الإيطالية ، ولم يكن يُؤمِّن كل إمارة إلا عدد محدود من الجنود ، وإن كان تعرضهم لهجمات المسلمين كان قليلاً ؛ لذعر المسلمين من الصليبيين بوجه عام .

أما الزعيم الفرنسي ريمون الرابع فلم يجد له إمارة حتى الآن ، ولقد فشلت محاولته في تكوين إمارة خاصة به في أنطاكية ثم في عِرْقَةَ بلبنان ، ثم في بيت المقدس ثم في عسقلان ، ومن ثَمَّ فقد غادر فلسطين كلها بجيشه وهو غاضب ، وإتجه ناحية لبنان حيث سيسعى إلى تكوين إمارة هناك حول مدينة طَرابُلُس .

هذا هو حال الجيش الصليبي ، ولا شك أنه - على رغم قتل العدد الكبير وهلاكه من الجيش - حقَّق نجاحًا ملحوظًا بتكوين ثلاث إمارات في العالم الإسلامي في غضون سنتين تقريبًا من نزول الأراضي الإسلامية ، وما زال راغبًا في التوسُّع والزيادة .

الوقفة الثانية : مع الكنيسة البابوية في روما

لقد دعت الكنيسة في روما لهذه الحروب لتضم إلى أملاكها بيت المقدس ، وفيه كنيسة القيامة ، ولم تقم بهذه الحملة بهذه الصورة الضخمة من أجل توسيع ممتلكات بوهيموند أو بلدوين أو جودفري أو ريمون الرابع ؛ ولذلك أرسلت الكنيسة على رأس الحملة المندوب البابويّ (أدهمار) ليكون زعيمًا لكل الجيوش ، وقد قام أدهمار بدوره على الوجه الأكمل ، وكان صاحب كلمة مسموعة في الجيش غير أنه مات فجأة في (491هـ) أغسطس 1098م في أنطاكية ، وبذلك فقدت الكنيسة رجلاً مهمًّا في وقت حرج جدًّا ، ووصلت الأنباء متأخرة إلى البابا أوربان الثاني في روما ، فأرسل مندوبًا بابويًّا آخر (دايمبرت) رئيس أساقفة بيزا الإيطالية ، ولم يكن إختيار دايمبرت راجعًا لحسن سياسته فقط، ولكن لكونه ممثِّلاً لمدينة بيزا القوية ؛ مما سيجعل أساطيل بيزا القوية تقف إلى جوار البابا في تنفيذ مشروعه الصليبي الكبير، هذا إضافةً إلى خبرة دايمبرت في التعامل مع هذه الأمور العسكرية ، وخاصةً المتعلقة بالمسلمين حيث كان هو المندوب البابوي في الحروب الصليبية التي شنَّها ملك قشتالة الإسبانية النصرانية على المسلمين في الأندلس ، هذا على الرغم من السمعة السيئة الأخلاقية وإنحراف السلوك الذي كان يشتهر به ، ولكن هذا كان أمرًا عامًّا مشتهرًا في الكنائس الأوربية !

وهكذا وصل دايمبرت على رأس أسطول بيزيٍّ مكوَّن من مائة وعشرين سفينة في (492هـ) صيف 1099م إلى ميناء اللاذقية في الشام ، محاولاً الوصول قبل سقوط بيت المقدس ليسيطر على الأمور قبل جمع الملوك والأمراء ، غير أنه وصل بعد احتلال الصليبيين لبيت المقدس وولاية جودفري عليه ، ومن ثَمَّ انطلق إلى بوهيموند أمير أنطاكية القريبة من اللاَّذِقِيَّة ، وذلك للتفاهم معه حول الشأن الجديد في بلاد الشام ، مع العلم أن البابا أوربان الثاني مات بعد أسبوعين من سقوط بيت المقدس ، وتولى من بعده باسكال الثاني كما مرَّ بنا .

فهل تترك الكنيسة البابوية بيت المقدس يسقط في يد جودفري ، أم تسعى الكنيسة للسيطرة عليه ؟! سؤال سوف تجيب عنه الأيام القادمة .

الوقفة الثالثة : مع الدولة البيزنطية .

كانت الدولة البيزنطية تهدف من وراء الإستنجاد بالغرب الكاثوليكي أن تأتي الجيوش الأوربية كمرتزقة يهاجمون السلاجقة المسلمين ، ويستردون المدن البيزنطية لصالح الإمبراطورية البيزنطية في مقابل الأسلاب والغنائم ، أو في مقابل الأموال والعطايا كما هو معتاد مع المرتزقة ، ولم يكن الإمبراطور ألكسيوس كومنين يتوقع أن تأتي الجيوش الأوربية بهذه الكثافة ، ولا بهذه الأطماع والأحلام ؛ لذلك فُجعت الدولة البيزنطية من الوضع الجديد ، وبدأت تصطدم مع الواقع الذي لم تحسب له حسابًا ، إذ كان من الواضح أن هذه الجيوش جاءت لتبقى وتعيش ، لا لتقاتل وترحل، وصار هذا الأمر صريحًا عند إحتلال الرها وأنطاكية ثم بيت المقدس، ثم إنها بدأت تخسر الزعماء الصليبيين واحدًا بعد الآخر، ولم يعد هناك من لا يزال على العهد والصداقة إلا ريمون الرابع ، والذي شعر أن آماله في التملُّك بدأت تتحطم في المشرق الإسلامي ، وأن أمله الوحيد في مصادقة الإمبراطور البيزنطي ؛ لعله يساعده في تكوين إمارة خاصة به .

ومع هذا الوضع غير المتوقع للدولة البيزنطية فإنها إستطاعت أن تضم حتى الآن كل المدن الواقعة في غرب آسيا الصغرى على ساحل بحر مرمرة الشرقي ، كما أنها تسلمت المدينة الحصينة نيقية عاصمة قلج أرسلان زعيم السلاجقة ، ثم تسلمت بعدها عدة مدن متتالية مثل قونية وهرقلة وغيرها ، ومع ذلك فوجودها في هذه المناطق ما زال ضعيفًا ؛ لأنها غير مطمئنة للسلاجقة المنتشرين في وسط آسيا الصغرى وشرقها وجنوبها .

ولا شك أن الدولة البيزنطية لن تسلم بسهولة بضياع المدن البيزنطية العريقة مثل أنطاكية وطرسوس واللاذقية وغيرها ، كما أنها - لا شك - تحلم ببيت المقدس الذي فقدته من أيام عمر بن الخطاب منذ أكثر من أربعمائة وسبعين سنة كاملة .

الوقفة الرابعة : مع الخليفة العباسي .

كان الخليفة في ذلك الوقت لا يملك من أمره شيئًا ، وإن كان يحمل اللقب الكبير لقب خليفة المسلمين ، ولكنه كان تحت السيطرة السلجوقية التامة، وكانت جيوشه شرفيَّة لا تستطيع أن تصد هجومًا أو ترفع راية أو تحرر أرضًا ، ومن ثَمَّ فقد قابل أنباء الإحتلال الصليبي بشيء من البرود يعبر عن حالة الضعف الشديدة التي كان يعاني منها، ولم يكلف نفسه أن يشير على سلطان السلاجقة بمقاومة هذا الاحتلال العنيف ، ولعله كان مطمئنًا إلى وضعه الآمن في بغداد بعيدًا عن ساحل الشام الذي يتعرض للهجمة الصليبية ، وقد كان خليفة المسلمين في هذا الوقت هو المستظهر بالله ، وإن كانت هذه معلومة غير مهمة ؛ فأسماء الخلفاء في هذه الفترة لم تكن تعني أي شيء ولا أي قيمة !، والذي حكم من سنة (487 إلى 512هـ\ 1094 إلى 1118م) ، وكان يبلغ من العمر عند ولايته ستة عشر عامًا .

الوقفة الخامسة : مع سلطان السلاجقة العظام , بركياروق بن ملكشاه !

والسلاجقة العظام - كما مرَّ بنا - هم السلاجقة الذين يحكمون فارس وما حولها ، وكذلك يهيمنون على الخلافة العباسية والعراق بالتبعية ، وهم أقوى السلاجقة جميعًا ، ولعلهم أقوى قوة إسلامية في ذلك الوقت .

ومع كونهم في هذه القوة فإنهم لم يحرِّكوا ساكنًا لهذه الأحداث الساخنة التي تدور في أرض الشام ، اللهم إلا الجيش الهزيل الذي قاده كربوغا أمير الموصل بتوجيهٍ من بركياروق سلطان السلاجقة الأكبر .

ولماذا لم يتحرك السلاجقة العظام لهذه الأزمة الخطيرة ، مع أن لهم تاريخًا مشرفًا في حرب الدولة البيزنطية قبل ذلك ، وخاصةً في زمان جدهم العظيم حقًّا ألب أرسلان؟!
لعله من المناسب لندرك الإجابة على هذا السؤال أن نرجع قليلاً عدة سنوات لنعرف خلفيات العلاقة بين بركياروق سلطان السلاجقة في فارس والعراق ، وبين سلاجقة الروم حين دخلت القوات الصليبية .

لقد ترك ألب أرسلان بعد وفاته عدة أولاد ، فحكم إبنه الأكبر ملكشاه دولة السلاجقة العظام ، ووصلت دولته في زمان مجدها إلى حدود الصين شرقًا وإلى الشام غربًا ، كما حكم إبنه الآخر تتش معظم الشام ، وكان راغبًا في توسيع ملكه غير أنه كان يخشى أخاه الأقوى ملكشاه ، ولكن عند وفاة ملكشاه في سنة (484هـ) 1092م خلفه إبنه بركياروق على حكم دولة السلاجقة العظام ، وكان بركياروق صغيرًا في السن لم يبلغ الخامسة عشرة من عمره ؛ مما أطمع عمه تتش في ملكه مما أدى إلى إستغلاله لحالة الفوضى الناتجة عن وفاة أخيه ملكشاه ، ومن ثَمَّ تحرك بجيشه لإخضاع حلب تحت حكمه ، بل ومحاولة الإستحواذ على مدن أخرى من ملك بركياروق إبن أخيه ، وكانت حلب تحت قيادة آقْ سُنْقُر الحاجب، وكان مواليًا لبركياروق ، لكنه إضطر للرضوخ لتتش لفرط قوته ولضعف بركياروق، ومن ثَمَّ انضم إليه ظاهريًّا ، وسار معه هو وياغي سيان حاكم أنطاكية المسلم ، وكذلك بوزان حاكم الرها المسلم ، وكل هذه كانت مدنًا تابعة لملكشاه قبل وفاته، وتحرك هذا الجيش المركَّب جنوب فارس ليقاتل بركياروق في سلطنته ، وذلك في سنة (485هـ) 1093م ، وكاد تتش يُحقِّق ما أراد ، لولا أن آق سنقر وياغي سيان تخلياً عن تتش في هذه اللحظة ، وانضما إلى سلطانهما الأول بركياروق ، فتحطمت خطة تتش وعاد مسرعًا إلى دمشق ، وعاد آق سنقر لحكم حلب وبوزان لحكم الرها ، غير أنه في سنة (486هـ) 1094م ، أعاد تتش هجومه على حلب ، فقاتله آق سنقر متحدًا مع بوزان ، إلا أنه هذه المرة إنتصر تتش وقتل على الفور آق سنقر وبوزان ، ودانت له السيطرة على حلب ودمشق ومعظم الشام .

وفي سنة (487هـ)1095م - قبل الحروب الصليبية بسنتين فقط - تحرك تتش بقواته من جديد لقتال إبن أخيه بركياروق ، ووقع القتال فعلاً بالقرب من الرَّيِّ في فارس ، ولكن في هذه المرة لم يُهزم تتش فقط ، بل وقتل في أثناء المعركة !

ومع كونه قُتل إلا أن بركياروق إكتفى بحكم فارس والعراق ولم يحاول ضم بلاد الشام إليه ، فتقاسم حكمَها ولدا تتش ؛ وهما رضوان بن تتش على إمارة حلب ، ودقاق بن تتش على إمارة دمشق .

وهكذا يتضح لنا أن بركياروق هو إبن عم زعماء حلب ودمشق ، ولم يكن مجردإ بن عم مخاصم أو كاره لسياستهما ، بل كان مقاتلاً وقاتلاً لأبيهما ، وهو يرى - ونحن نري معه كذلك - أن أطماع تتش كانت متجاوزة الحد ، وأنه لم يرع حرمة أخيه ملكشاه ، ولا حرمة أبيه العظيم ألب أرسلان ، ولا حرمة الشعوب المسلمة التي تزهق أرواحها في حروبه ، ولا حرمة الدين الإسلامي الذي يخرم مثل هذا القتال النفعي الذي يثير الفتنة في بلاد الإسلام .

وهذا بالطبع يفسر لنا عدم حماسة بركياروق في نجدة بلاد الشام عند دخول الصليبيين , هذا من جانب ..

ومن جانب آخر فإنه قد حدثت ثورات أخرى ، ومشاكل ضخمة في إقليم فارس والعراق ، حيث قام أخو بركياروق وهو محمد بن ملكشاه بثورة على أخيه يطالب فيها بجزء من المملكة ، ودارت صراعات طويلة بين الجانبين إستمرت عدة سنوات ، ولا شك أن هذه الثورات والصراعات شغلت بركياروق وأخاه محمد عن مشاكل المسلمين في أرض الشام وفلسطين .

إن الأمة في ذلك الوقت صارت كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا ، فبعد القوة البالغة في زمان ألب أرسلان ، وبعد الانتشار المهيب في زمان ملكشاه بن ألب أرسلان ، وصلنا إلى تلك الحالة التي وصفنا ، ولقد جنيناه على أنفسنا ، وما جاناه علينا أحد !!

الوقفة السادسة : مع الخليفة العبيدي (الفاطمي) بالقاهرة .

كان الخليفة العبيدي في ذلك الوقت هو المستعلي بالله ، وكان مثل غيره من الخلفاء العبيديين إسماعيلي المذهب ، شديد التطرف في معتقده، حاقدًا على أهل السنة ، يعتبرهم العدو الأساسي له ، لا يمانع في سبيل عداوتهم من أن يضع يده في أيدي الصليبيين أو غيرهم من أعداء الأمة ، ولقد رأينا سفارتين منه إلى الصليبيين تعرضان عليه التعاون لتقسيم الشام السني بينهما ، غير أنَّ هذه السفارات لم تفلح ؛ لأن الصليبيين كانوا يريدون الشام كله لهم، وخاصةً بيت المقدس الذي يطمع في حكمه العبيديون ، ورأينا كيف أخرج الصليبيون العبيديين من بيت المقدس دون مقاومة تذكر .

ومع ذلك فالعبيديون ما زالوا يسيطرون على عدة مدن على ساحل الشام وفلسطين منها عسقلان وعكا وبيروت وصور ، وبعض هذه المدن دخل في معاهدة مع الصليبيين كعكا وعسقلان ، والآخر ما زال يدرس الأوضاع ، لكن هل ستسكت الدولة العبيدية على ضياع جزء كبير من ممتلكاتها مثل فلسطين ؟ وهل ستترك عدوًا قويًّا كالصليبيين على الحدود الشرقية لمعقلها الأخير في العالم وهو دولة مصر؟ إن هذا سؤال ستتحدد إجابته في خلال الشهور والسنوات المقبلة .












آخر مواضيعي 0 حلمي لأيامي الجايه
0 صفات الله الواحد
0 عيش بروح متفائله ونفس مؤمنه
0 إبتهال قصدت باب الرجا
0 كونى انثي
رد مع اقتباس
قديم 06-03-2011, 11:35 PM رقم المشاركة : 13
معلومات العضو
marmer

الصورة الرمزية marmer

إحصائية العضو








marmer غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

الوقفة السابعة : مع حكام المسلمين في منطقة الشام .

كان الشام مقسمًا في ذلك الوقت - بلا مبالغة - إلى عشرات الإمارات، وعلى كل إمارة زعيم يعتقد أنه محور العالم ، ويُصوِّره إعلامه على أنه الرجل الأوحد الحكيم الذي لم يتكرر في التاريخ، والذي لم - ولن - تنجب البلاد مثله !! لقد كانوا في تمثيلية وهميَّة خدعوا بها أنفسهم ، وخدعوا بها شعوبهم ، ثم جاءت الحملة الصليبية لتكشف للجميع زيف هذه الزعامات الفارغة .

ولم يكن من همِّ هؤلاء الأمراء والملوك إلا الحفاظ على كراسيهم وأملاكهم، وعلى هذا فلم يكن يعنيهم من قريب ولا بعيد أمر الصليبيين إذا احتلوا الشام بكامله وتركوهم دون أذى ، وعليه فلم يتحرك هؤلاء إلا عندما شعروا بالخطر يتهددهم هم شخصيًّا ، وحتى عندما تحرَّكُوا تحركوا بمعاهدة مخزية أو بحرب فاشلة أو بهروب فاضح !!

وكان أهم ملوك الشام - في ذلك الوقت - رجلين هما : ملك دمشق دقاق بن تتش ، وملك حلب رضوان بن تتش ، وكانا شخصيتين نفعيتين بعيدتين كل البعد عن السلوك الإسلامي ، ولم يكن الأمر يقف عند هذا الحد ، بل كانا - مع أنهما أشقاء - في حرب مستمرة وعداء مُطَّرد ، وكأنهما ورثا قطيعة الرحم وغياب الرؤية من أبيهما تتش بن أرسلان ؛ ولهذا لم يكن هناك من سبيل لتوحيد جهود حلب ودمشق لمقاومة الغزو الصليبي .

وفوق هذه المأساة التي كان يعيشها هذان الحاكمان وغيرهما، فإن رضوان بن تتش كان يعيش مأساة أخرى من طراز أشنع ؛ فقد رأى رضوان بن تتش أن القوى من حوله تتكاثر وهو ضعيف ؛ لذلك فكر في وسيلة يُقوِّي بها مركزه ، فقرر التعاون مع الدولة العبيدية في مصر ، ولم يكتفِ مع مرور الوقت بالتعاون معهم بل صار من دعاتهم ، ومن الذين يتبنَّون الفكر الشيعي الإسماعيلي ، ومن ثَمَّ عيَّن دعاة الإسماعيلية في حلب في المناصب الكبيرة ، وصار لهم في حلب جاهٌ عظيم وقدرة فائقة ، وأصبح زعيم الباطنية الإسماعيلية في حلب - وهو الحكيم المنجم - مقربًا جدًّا من رضوان ، وأثار هذا إستياء عامة قواد وأمراء السلاجقة في كل مكان ؛ لأن السلاجقة سُنَّة منذ إسلامهم ، بل ويتولون الدفاع عن المذهب السني في كثير من المواقف في حياتهم ، وهم الذين أنقذوا الخلافة العباسية قبل ذلك في سنة (447هـ) 1055م من الحكم البويهيِّ الشيعي ؛ لذلك كان مستغربًا من رضوان جدًّا أن يأخذ هذا التوجُّه الذي يدل على شخصية نفعيَّة بحتة ، لا تبحث إلا عن مصالحها بدون النظر إلى أي إعتبارات أخرى .

كانت هذه هي طبيعة حُكَّام المنطقة إبَّان دخول القوات الصليبية في الشام .

الوقفة الثامنة : مع قلج أرسلان وسلاجقة الروم

لقد مرَّ بنا الغزو الصليبي لآسيا الصغرى في بادئ الأمر ، وقتال السلاجقة وعلى رأسهم سلطانهم قلج أرسلان ، وإسقاط عاصمتهم نيقية وغيرها من المدن ، غير أن هذا الصدام من الصليبيين لم يكن بهدف إحتلال آسيا الصغرى ، إنما كان مجرد تصفية للقوى التي تواجه الجيوش في طريقها إلى الشام ، وهذا تدبير خبيث من الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين ، الذي أراد أن تسلك القوات الصليبية هذا الطريق لتقضي على العدو التقليدي للدولة البيزنطية في ذلك الوقت وهم السلاجقة ، وبذلك تسترد الإمبراطورية مدنها القديمة ، وكان من الممكن للدولة البيزنطية - لو أرادت - أن تنقل الجيوش الصليبية بأساطيلها الضخمة إلى سواحل الشام القريبة من بيت المقدس مثل يافا أو عسقلان أو حيفا لكنَّ كل فريق - كما هو واضح - يبحث عن غاياته وأهدافه .

ولذلك - على الرغم من المعارك العنيفة التي دارت في آسيا الصغرى ، وأهمها معركتا نيقية ودوريليوم - فإن القوات الصليبية لم تشأ أن تمكث في أراضي آسيا الصغرى ، وخاصةً أن هذه الأراضي ذات طبيعة جغرافية صعبة ، تجعل السيطرة عليها مهمة شاقة ، كما أنها قريبة من الإمبراطورية البيزنطية صاحبة الأطماع ، إضافةً إلى أن القوات الصليبية فَقَدت في هذه المعارك ، وفي أثناء الطريق إلى أنطاكية عددًا كبيرًا من جنودها ، مما جعل إبقاء حاميات صليبية في هذه المدن الكثيرة أمرًا في غاية الخطورة .

لكل هذا قررت الجيوش الصليبية أن تسحب قواتها من آسيا الصغرى ، ولا تسعى للتوسع فيها ، اللهم إلا في المدن القريبة من إمارتي أنطاكية والرُّها المجاورتين لآسيا الصغرى ، ولهذا بعد فترة قصيرة من الحروب الصليبية خلت منطقة آسيا الصغرى من أي وجود صليبي ، وأصبحت السيطرة على هذه المناطق موزعة بين الدولة البيزنطية في الغرب والشمال ، وبين السلاجقة في الوسط والشرق .

ولهذا فعلى الرغم من الهزائم المُرَّة التي تلقاها سلاجقة الروم على يد الصليبيين فإنهم لم يفقدوا وجودهم ولا أعدادهم ؛ غاية الأمر ضياع غرب آسيا الصغرى ، ومجموعة من قلاع الوسط، أما جيوشهم وشعوبهم فكانت موجودة في أماكن مختلفة من هذه المناطق ، مستغلةً الطبيعة الجبلية الوعرة لآسيا الصغرى بصفة عامة .

وكان على رأس السلاجقة في هذه المناطق سلطانهم قلج أرسلان الذي خسر الكثير في صدامه مع الصليبيين ، ولكنه - لا شك - سيظل يبحث عن ملكه الضائع ، وعن ثروته التي بددت .

ولم يكن قلج أرسلان ولا السلاجقة هم القوة الإسلامية الوحيدة في آسيا الصغرى، ولكن كان هناك - كما فصَّلنا قبل ذلك - بيت بني الدانشمند ، والذين كانوا يسيطرون على الشمال الشرقي، وكانوا دومًا في نزاع مع السلاجقة، ولم يتحدوا معهم إلا مؤقتًا عند دخول الصليبيين، ثم عادت العلاقة للتوتر بعد ذلك كما هو متوقع .

ماذا سيكون ردُّ فعل قلج أرسلان وقبائل الدانشمند على الأوضاع الجديدة ؟ وكيف سيكون الوضع في آسيا الصغرى ؟ هذا سؤال يحتاج إلى إجابة !

الوقفة التاسعة : مع نصارى الشام وآسيا الصغرى .


توجد أعداد كبيرة من النصارى في منطقة الشام وفلسطين ، وكذلك في آسيا الصغرى ، ومجرد وجود هذه الأعداد الكبيرة دليل على سماحة الإسلام وعدله، فعلى الرغم من مرور خمسة قرون على الحكم الإسلامي فإنَّ هؤلاء المخالفين لدين الإسلام ما زالوا يعيشون في البلاد دون قتل أو طرد مثلما إعتاد الصليبيون أن يفعلوا بنا في البلاد المحتلة في الأندلس ، هذا فضلاً عن الشهادات المنصفة التي تشهد للمسلمين بهذا العدل على مرِّ العصور .

وغالبية نصارى الشام ينتمون إلى الطائفة الأرثوذكسية , ويتبعون معقل الأرثوذكسية الأول في العالم، وهو مدينة القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، وهذا - لا شك - جعل ولاءَهم السياسي والعسكري والديني في المقام الأول لهذه الإمبراطورية ، غير أن هؤلاء النصارى فرحوا جدًّا بالغزو الصليبي ، ومهَّدوا له الطريق بكل وسيلة لأنهم في النهاية مسيحيون ، إضافةً إلى أن الإمارات والممالك الصليبية كانت تعتمد على هؤلاء النصارى في معظم الأعمال ؛ لأنها كانت لا تُبقِي المسلمين في داخل إماراتهم ، ولهذا صار للنصارى وضع يدفع إلى رغبتهم في إستمرار الحال على ما هو عليه ، كل هذا مع كون النصارى الأرثوذكس على خلاف كبير مع المذهب الكاثوليكي ، لكن الصليبيين كانوا من الذكاء في أنهم لم يثيروا هذه القضية ، غاية الأمر أنهم كانوا يُقلبون الكنائس الكبرى إلى كاثوليكية ، لكن يتركون كل نصراني على عقيدته الخاصة .

أما غالبية نصارى آسيا الصغرى فكانوا من الأرمن ، وهؤلاء - على عكس نصارى الشام - لم تكن أحلامهم تقتصر على مجرد رغد العيش أو فرصة العمل ، ولكنهم كانوا يريدون دولة وسيادة ، وهم قد عاشوا فترة طويلة في تبعية الدولة البيزنطية ، ثم بعدها في تبعية السلاجقة، وهم يتبعون كنيسة خاصة بهم أقرب إلى الكاثوليكية، وإن كانت مستقلة، وأعدادهم كانت كبيرة ، ولهم تاريخ بالمنطقة ، ولهم لغة خاصة بهم؛ لكل هذا لم تقف رغبتهم عند مجرد التبعية لأحد، ولهذا تجمعوا في معظمهم في جنوب شرق آسيا الصغرى ، وخاصة في إقليم قليقية كما مر بنا ، وهم سعدوا بالحروب الصليبية لأنهم رأوا فيها - بدايةً - خلاصًا من السلاجقة المسلمين ، وأيضًا خلاصًا من الدولة البيزنطية والأرثوذكسية المخالفة لهم في العقيدة ؛ ولذلك أحسنوا استقبال الصليبيين وإعتبروهم محرِّرين لهم ، وإن كانوا لم يذوقوا بعدُ طريقة الحكم الأوربي، والتي تعتمد في الأساس على النظام الإقطاعي الاستعبادي ؛ ولذلك فسنرى بعد ذلك كيف سيكون التعامل على ضوء المعطيات الجديدة .

كما أن بعض الأرمن إستغلوا سوء الأوضاع السياسي، وإنشغال السلاجقة والبيزنطيين والصليبيين في الحروب المستمرة ، واستقلَّ ببعض المدن، وخاصةً الموجودة في الجبال الجنوبية الشرقية في آسيا الصغرى ، ليؤسس شبه إمارة تعتمد كليًّا على الأرمن ، ومن هؤلاء على سبيل المثال كوغ باسيل الأرمني الذي أسس إمارة أرمنية خالصة قوية ، كان مركزها في الأساس مدينتي كيسوم ورعبان ، وإزداد نفوذه وإتسع لدرجة أقلقت الصليبيين أنفسهم .

ومن المعلوم أن غالب سكان إمارة الرها في أول نشأتها كانوا من الأرمن ، ولا شك أن هذا سيكون له أثر على سير الأحداث في الأيام المقبلة .

الوقفة العاشرة والأخيرة : مع الشعوب المسلمة !

يَنْحَى كثير من المؤرخين دائمًا باللوم الكامل على طائفة الحكام والسياسيين ، ولا يعلق - لا من قريب ولا من بعيد - على الشعوب التي تعيش تحت حكمهم ، ولا شك أن دور الحكام كبير ومؤثر ، ولا شك أيضًا أن الشعوب من المسئولية تجاه الأحداث المؤسفة التي شهدتها المنطقة في هذه الحقبة من الزمان .

فالحكام إفراز طبيعي للشعوب ، وكما يقول رسول الله : "كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّى عَلَيْكُمْ" ؛ فالشعب الصالح يُقيِّض له الله رجلاً صالحًا ، والشعب المجاهد ييسر له رب العالمين قائدًا مجاهدًا ، أما الشعب الخانع الضعيف الراغب في مجرد الحصول على لقمة العيش أو على وظيفة طيبة ، فإنه يُبتلى بحاكم ظالم يُضيِّع عليه الدنيا والدين .. إن الحاكم لا يستمد قوته حقيقةً إلا من شعبه ، وإلا فمن هو الحاكم بدون شعبه ؟ من الحاكم بدون جيشٍ ووزارات وسفارات ومصالح حكومية وموظفين وعمال وتجار وغيرهم ؟ من هو الحاكم إذا تخلى عنه كل هؤلاء؟ ثم من الذي فرض على الشعب أن يسير وراء حاكمٍ بائع لدينه ووطنه ، ومبدلٍ لشرع الله قادح فيه ؟ أهو السيف والسوط فقط ؟! ألم يعلم هذا الشعب أن الأجل لا ينقص ساعة ، وأن الرزق لا يقل درهمًا عما قدَّره رب السموات والأرض ؟! إن هذه بديهيات لا تغيب عن ذهن شعب واعٍ فاهم ، وهذه ليست بديهيات مستحيلة ، فكثير من شعوب الأرض على إختلاف مللهم وعقائدهم فَهِمُوا هذه البديهيات فعاشوا حياة كريمة ، أفلا يفهمها المسلمون الذين أنعم الله عليهم بقرآن وسنة ؟!

إننا لا يجب أن نعفي الشعوب التي رضيت برضوان ودقاق وغيرهما من الزعامات التافهة التي خربت البلاد ، وظلمت العباد ، وفتحت الطريق لألد أعداء الأمة ليسيطروا على مقدراتنا دون عناء ، ولا يجب أن نعفي الشعوب التي رضيت بالحكم الصليبي في مقابل أن يسمح لهم أن يعيشوا بضع ساعات أكثر ، ولا يجب أن نعفي الشعوب التي ما زالت تتعامل بالبيع والشراء مع عدو سفك دمها وإستحل أرضها وأحرق مساجدها ونهب ثرواتها ، كما لا يجب أبدًا أن نعفي الشعوب التي مسحت من قاموسها كلمة (الجهاد) ، حتى في أحرج المواقف التي تحتل فيها البلاد ، ويصبح الجهاد فرض عين على كل المسلمين ، بل إن كل شرائع العالم السماوية والوضعية لا تنكر على شعب إحتلت أرضه أن يقاوم ويقاتل ويجاهد ، فكيف بشعبٍ مسلم جعل الله له الجهاد ذروة سنام دينه ؟!

إن هذا الكلام ليس قاسيًّا أبدًا ، بل هو واقعي تمامًا ، وسنرى أنه يوم تدرك الشعوب دورها ، وتتحرك طالبة من حاكمها إما أن يجاهد لرفع الظلم ، وإما أن يترك المسئولية لغيره ليصلح الأوضاع ، حين نرى هذا اليوم ستتغير الأوضاع ، وتتبدل الأحوال ، ويرفع الظلم ، ويُمحى الذل ، ويبدأ الشعب في الوصول إلى ما يجب أن يصل إليه .


إذن كان هذا هو الحال بعد سنتين من دخول القوات الصليبية إلى أرض الإسلام , ويمكن أن نلخص ذلك في النقاط العشر التالية :

أولاً : تكونت ثلاثة إمارات صليبية هي الرها وأنطاكية وبيت المقدس ، وما زال ريمون الرابع يبحث له عن إمارة .

ثانيًا : أرسلت الكنيسة في روما أسقف بيزا دايمبرت ليحاول فرض سيطرة الكنيسة على بيت المقدس .

ثالثًا : إستطاعت الدولة البيزنطية أن تسترد غرب آسيا الصغرى ، ولكنها فقدت أنطاكية والرها وبيت المقدس ، ولا شك أنها لن ترضى بهذا الوضع .

رابعًا : الخليفة العباسي ضعيف جدًّا ، ولا يُرجى منه تغيير الوضع المتأزم .

خامسًا : السلطان بركياروق سلطان السلاجقة في فارس مشغول بالفتن الداخلية في دولته ، فضلاً عن خلافه العميق مع أمراء الشام .

سادسًا : الخليفة العبيدي في القاهرة له أطماعه الخاصة في بيت المقدس وفلسطين ، وإن لم تكن له القدرة الكاملة على مواجهة الصليبيين .

سابعًا : حكام الإمارات الإسلامية في منطقة الشام ضعفاء جدًّا من الناحيتين - الإيمانية والإدارية على حد سواء ، ومن ثَمَّ فهم لم يكونوا على قدر الأزمة التي عصفت بالأمة في هذه الآونة .

ثامنًا : سلاجقة الروم بزعامة قلج أرسلان ما زالوا في آسيا الصغرى ، وما زالوا أيضًا يبحثون عن وجود لدولتهم ، وإن كانوا منعزلين تمام الإنعزال عن مشكلة الشام .

تاسعًا : النصارى الأرثوذكس يرحبون بالصليبيين ، وكذلك الأرمن ، وإن كان الأرمن لهم أطماع إستقلالية ، وخاصةً في الجنوب الشرقي لآسيا الصغرى .

عاشرًا : الشعوب المسلمة في المناطق المحتلة وغيرها كانت راضيةً بالوضع لحرصها على أي حياة ، ولم يكن طموحها يرقى إلى معاني الجهاد والبذل والتضحية .

هذا هو الوضع بعد سقوط بيت المقدس ، وفي أخريات القرن الحادي عشر الميلادي (آخر الخامس الهجري) ، وتحديدًا في (رمضان 492هـ) أخريات يوليو 1099م .




















آخر مواضيعي 0 حلمي لأيامي الجايه
0 صفات الله الواحد
0 عيش بروح متفائله ونفس مؤمنه
0 إبتهال قصدت باب الرجا
0 كونى انثي
رد مع اقتباس
قديم 06-03-2011, 11:36 PM رقم المشاركة : 14
معلومات العضو
marmer

الصورة الرمزية marmer

إحصائية العضو








marmer غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

- النجدة الصليبية

ماذا حدث بعد سقوط بيت المقدس والمدن الفلسطينية المختلفة ؟ , لقد وصل مندوب البابا - رئيس أساقفة بيزا دايمبرت - إلى الشام في صيف 1099م بعد سقوط بيت المقدس ، ووصلته هذه الأنباء ، وإجتمع مع بوهيموند أمير أنطاكية ليتباحثا معًا أحوال القوات الصليبية ، وكان ذهن دايمبرت يعمل في إتجاه الحصول على أملاك تخص الكنيسة ، وإستغل بوهيموند هذه الرغبة ، ووجَّه أطماع دايمبرت إلى ميناء اللاذقية .

ولماذا اللاذقية بالذات ؟ ,, لقد سيطرت الدولة البيزنطية على ميناء اللاذقية بمساعدة الأمير ريمون الرابع ، وحيث إن هذا الميناء يقع في جنوب أنطاكية فهو يمثل خطورة كبيرة على بوهيموند الذي صار معاديًا بصراحة للدولة البيزنطية ، ومن ثَمَّ دفع بوهيموند الأسقف دايمبرت لإستغلال أسطول بيزا القوي لحصار اللاذقية وإسقاطها ، ووافق الأسقف دايمبرت دون تفكير كثير على هذه الخطوة ؛ خشية ألا تبقى هناك مدن مناسبة للاحتلال مع مرور الوقت ، وبالفعل تمَّ الحصار ، وكادت المدينة أن تسقط لولا حدوث أمر غيَّر الأحداث !

لقد جاء ريمون الرابع بجيشه في هذه اللحظة حيث فشل كما رأينا في الحصول على إمارة في فلسطين ، فجاء يكرر سعيه للحصول على إمارة في الشام أو لبنان ، وفُوجئ ريمون بالحصار المشترك بين بوهيموند ودايمبرت لميناء اللاذقية ، فتدخل مسرعًا ، وقام بزجر بوهيموند ، وقال لدايمبرت : إنه ليس من الحكمة مطلقًا أن نخطو الآن خطوة نستعدي بها الدولة البيزنطية ، وأن هذا سيقضي على آمال توحيد الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية تحت زعامة بابا روما ، وأن فرصة دايمبرت أكبر في فلسطين حيث توجد القدس .

ووجد دايمبرت أن الكلام مقنع ، ومن ثَمَّ - وعلى غير رغبة بوهيموند - رفع دايمبرت الحصار ، ودخل ريمون البلدة ليرفع فيها علمه إلى جوار علم الإمبراطورية البيزنطية ، وليتجه دايمبرت ومعه بوهيموند أمير أنطاكية وأيضًا بلدوين أمير الرها إلى القدس , لقد ذهبوا جميعًا لدفع الأمور إلى تعيين دايمبرت في أسقفية القدس ، ليكون بذلك لهم يدٌ عند دايمبرت ومِن ورائه البابا .

وسار الموكب المكون من جيوش دايمبرت وبوهيموند وبلدوين ، ولاقى بعض المصاعب في الطريق ، غير أنه وجد كل الترحيب من إبن عمار أمير طرابلس حيث قدَّم لهم التموين , ولكن دون فتح أبواب المدينة خشية أن يحتلوها .

ووصل الموكب الكبير إلى بيت المقدس ، وسُرَّ جودفري برؤية هذه الأعداد الضخمة من الصليبيين لأنه أصبح في حاجة إلى الجنود ، ولكن هؤلاء جاءوا بهدف ، وهو عزل الأسقف الموجود وهو أرنولف مالكون ، وتعيين دايمبرت مكانه ، ووجد جودفري نفسه مضطرًا إلى هذا الأمر حيث إنه محتاج إلى أسطول بيزا القوي ، كما يحتاج أيضًا إلى تأييد البابا ، وهكذا دُبِّرت محاكمة سريعة للأسقف القديم أثبتوا فيها أن تعيينه كان باطلاً، ومن ثَمَّ عُزِل ، ووُلِّي دايمبرت على الأسقفية !

غير أن الأمر لم يقف عند هذا الحد ، بل بدأ دايمبرت يتدخل في شئون بيت المقدس السياسية ، فهو لم يكن يريد هذا المنصب ليمارس شعائر دينية ، إنما كان يريده ليفرض نفسه على الأوضاع ليصير هو السيد المتحكم في الأمور ، بل وصل الأمر في سنة (493هـ) فبراير 1100م إلى نزاعٍ معلن بين جودفري ودايمبرت حول ملكية البلاد المحتلة؛ فقد كان دايمبرت يريد لنفسه ملكًا خاصًّا في يافا ، وأيضًا في بيت المقدس ، بل إن جودفري عرض صراحة أن ينتقل ملك المدينتين إلى دايمبرت بعد وفاة جودفري ، ولكن هذا لم يعجب دايمبرت ، فعرض عليه أن ينتظر حتى يستولي على مدينتين غيرهما من المسلمين ، فيعطي حينئذٍ بيت المقدس ويافا لدايمبرت ، ولكن هذا لم يعجب أيضًا دايمبرت ، فهو لا يستطيع الانتظار ! وهكذا ظل الصراع بين زعيم بيت المقدس وزعيم الكنيسة هناك دون الوصول إلى نتيجة !!

إنها حرب الجشع والطمع والاستحواذ ، ولا مكان فيها لدين أو صليب ! وكذلك فعل بوهيموند النورماني !

لقد عاد بوهيموند بعد إختيار دايمبرت أسقفًا لكنيسة القدس ليواصل أحلامه التوسعية ، ولم يقاتل في جبهة واحدة بل قاده جشعه أن يقاتل في أربع جبهات في آنٍ واحد !
لقد حاول في البداية أن يستولي على قلعة فامية في حوض نهر العاصي ، والمملوكة للأمير العربي سيف الدولة خلف بن ملاعب ، وهو أخو أمير حمص جناح الدولة حسين بن ملاعب ، غير أن بوهيموند فشل في الاستيلاء على القلعة الحصينة ، ومن ثَمَّ إكتفى بحرق المزارع حول القلعة ، وإتجه إلى الجبهة الثانية وهي مدينة حلب ، حيث التقى مع رضوان بن تتش أمير حلب في موقعة شديدة في (493هـ) يوم 5 من يوليو 1100م نجح فيها بوهيموند في إنزال هزيمة قاسية برضوان ، وأخذ الكثير من الغنائم ، وأسر أكثر من خمسمائة مسلم ، مما جعل رضوان يستنجد بأمير حمص جناح الدولة حسين بن ملاعب ، وهذه كانت إهانة كبيرة لرضوان ، وضربة لكرامة السلاجقة المتنازعين دومًا مع العرب ، ومنهم حسين بن ملاعب ، إضافةً إلى صغر سن حسين بن ملاعب وصغر مقامه كأمير لحمص بالقياس إلى حلب ، وهذه العوامل جعلت رضوان يسيء الأدب في إستقبال جناح الدولة حسين بن ملاعب ، مع أن رضوان هو الذي إستنجد به ، ولا شك أن هذا ترك أثرًا سلبيًّا سيئًا في نفس جناح الدولة حسين بن ملاعب .

وكان بوهيموند ينوي في ذلك الوقت أن يضرب حصارًا شديدًا على حلب ليسقط هذه المدينة العريقة ، ويضمها إلى إمارته ، فتصبح بذلك نقلة نوعية هائلة لإمارة أنطاكية والنورمان ، إلا أن بوهيموند الجشع قرر أن ينتقل فجأة إلى حصار مدينة مرعش في الشمال ، وهي مملوكة الآن للدولة البيزنطية بعد أن سيطر عليها الصليبيون قبل ذلك بعامين ، ويبدو أنه فعل ذلك لإحساسه أن حصار حلب الحصينة سيطول ، ولشعوره أن فرصة سقوط مرعش في يده كبيرة لصغر الحامية البيزنطية بها ، ولهذا ترك جبهة حلب وانتقل إلى الجبهة الثالثة مرعش ، وحاصرها عدة أيام لكنها إستعصت عليه ، وفي أثناء محاولاته لإسقاطها جاءته إستغاثة من حاكم ملطية ، وهي مدينة أخرى إلى الشمال من مرعش غالب سكانها من الأرمن، وكانت محاصرة من الملك غازي كمشتكين بن الدانشمند ، فإستنجد حاكمها الأرمني جبريل ببوهيموند ، فوجدها بوهيموند فرصة ، فترك مرعش وأخذ فرقة من خمسمائة فارس لقتال الملك غازي والإستيلاء على ملطية !

هكذا قاده غروره أن يفتح على نفسه أربع جبهات : في قلعة فامية ، وفي حلب ، وفي مرعش ، وفي ملطية ؛ وهو يقاتل في هذه الجبهات العرب والسلاجقة والبيزنطيين والدانشمند , إنه الغرور الذي يُعمِي الأبصار ؛ إذ وزَّع قواته هنا وهناك ، وتوغَّل بخمسمائة فارس فقط في أراضي آسيا الصغرى !

وكأن لا بد للقائد المغرور أن يقع في أخطاء , راجعوا قصة نابليون بونابرت وسقوطه في روسيا .. وراجعوا قصة هتلر وسقوطه في فرنسا وروسيا ، بل راجعوا قصة فرعون الذي شاهد البحر ينفلق ، فإذا به في غرور عجيب ، يصل إلى حدِّ الغباء والعمى يأخذ جيشه ويقتحم البحر حتى يهلك !!

لقد سقط المغرور بوهيموند في كمين تركي صنعه الملك غازي بن الدانشمند ، وسقط معه في نفس الكمين خمسمائة فارس هي كل القوة التي كانت معه ، وسرعان ما كُبِّل الأمير بوهيموند بالأغلال ، وقُتل عدد كبير من فرسانه وأسر الباقي !

لقد كان صيدًا ثمينًا في وقت حرج جدًّا من أوقات الغزو الصليبي ، وكان ذلك في سنة (493هـ) أوائل أغسطس سنة 1100م ، وقبل أن يسقط بوهيموند في الأسر أرسل رسالة نجدة إلى بلدوين حاكم الرها ، فتحرك بسرعة بسرية مكونة من مائة وأربعين فارسًا فقط لنجدته ! وكان من الممكن أن يلقى نفس المصير الذي لاقاه بوهيموند ، لولا أن الملك غازي إنسحب مسرعًا بصيده الثمين حتى وصل إلى قلعة نكسار على ساحل البحر الأسود في أقصى شمال آسيا الصغرى ليؤمِّن أسر الأمير النورماني .

وجد بلدوين الطريق مفتوحًا إلى ملطية ، فدخلها بسريته ، ورحب به أهلها ، وكذلك زعيمها جبريل ، وسرعان ما ضمها بلدوين إلى إمارة الرها ؛ ليوسِّع بذلك إمارته ! إن النية لم تكن خالصة لإنقاذ بوهيموند ، والتنافس بينهما قديم ، ولكن هي يدٌ يقدمها الآن لعلها تنفع غدًا ، وفي نفس الوقت هي فرصة ذهبية لضم مدينة تطلب النجدة !

ولم يفكر بلدوين بالطبع في مغامرة تتبع القوات التركية إلى قلعة نكسار ، وإنما عاد إلى الرها بعد أن ترك خمسين فارسًا في ملطية كنوع من إثبات الوجود ، وللدلالة على تبعية المدينة له .

وقد ترك أسر بوهيموند فراغًا سياسيًّا وعسكريًّا كبيرًا في المنطقة ؛ فإمارة أنطاكية إمارة مهمة جدًّا ، والأطماع فيها كثيرة ، فهناك المسلمون السلاجقة وعلى رأسهم قلج أرسلان في آسيا الصغرى ، وهناك كذلك الأمير رضوان الذي يعتبر أنطاكية من نصيبه في الميراث ! وهناك الدولة البيزنطية الطامعة في أنطاكية منذ زمن بعيد ، بل إن هناك ريمون الرابع الذي يبحث له عن إمارة ، وأبدى قبل ذلك رغبته الشديدة في حكم أنطاكية ، أو على الأقل اقتسام حكمها .. ثم إن إمارة أنطاكية لم تعد مدينة واحدة ، بل ضمت إليها عدة مدن وقرى وقلاع مجاورة ، وهي أغنى الإمارات وأحصنها .

إن هذا الفراغ السياسي الكبير قد يقود إلى صراع مرتقب بين أطراف عدة .. ماذا يفعل الجيش النورماني المسيطر على أنطاكية قبل أن تحدث الكارثة وتتكالب القوى المختلفة على أنطاكية ؟! وماذا يفعل بنو الدانشمند المسلمون وقد امتلكوا ورقة رابحة جدًّا من أوراق اللعبة ؟ وماذا يفعل المسلمون بصفة عامة إزاء هذا التطور الإيجابي الأخير ؟

وقبل أن يفكر نورماني أو مسلم في الوضع الجديد إذا بحدث آخر مُجَلْجِل يحدث في بيت المقدس ، يُغيِّر من كل الحسابات ، ويزيد الموقف تعقيدًا !! لقد مات فجأة جودفري بوايون زعيم بيت المقدس ، لتتفجر بذلك مشكلة في حجم مشكلة أنطاكية ، أو لعلها أكبر !

إنه فراغ سياسي جديد في مدينة القدس قد يؤدي إلى كارثة صليبية جديدة ، وخاصةً أن مدينة القدس ذاتها محل صراع كبير بين الصليبيين أنفسهم قبل المسلمين .

لقد حدثت هذه الوفاة المفاجئة بينما تانكرد ودايمبرت في حصار عكا ثم حيفا ! ولعلنا نتساءل : ماذا يفعل الأسقف الديني في حصار عسكري ؟! إنه يبحث عن مدينة يقودها أو قرية يملكها ! وأثناء حصار حيفا وصلت أنباء موت جودفري ، وكاد تانكرد ينسحب بجيشه عندما علم بأن جودفري قد أوصى قبل موته بإعطاء حيفا لأمير صليبي إسمه جالدمار ، لولا أن دايمبرت أقنعه بالبقاء في نظير أن يعطيه مدينة حيفا بعد سقوطها ، وفي هذا الوعد من دايمبرت إشارة واضحة إلى أنه كان يعتقد تمام الاعتقاد أن حكم بيت المقدس سيئُول له ، وبالفعل سقطت حيفا بعد مقاومة ، وعاد الجميع إلى بيت المقدس لمناقشة القضية الكبرى : من سيحكم بيت المقدس ؟!

لقد حكم جودفري بوايون القدس سنة واحدة فقط ، ولم يترك وريثًا شرعيًّا له يحكم البلاد كما هو معتاد في النظام الأوربي الغربي آنذاك ، وكان جودفري يحكم حكمًا وسطًا بين العلمانية الملكية الموافقة لرغبات الزعماء العسكريين للحملة الصليبية ، وبين الحكم الديني الموافق لرغبات الكنيسة ، فلما مات جودفري قامت قوتان كبيرتان تتنازعان الحكم في بيت المقدس .

أما القوة الأولى : فهي القوة الدينية متمثلة في دايمبرت أسقف القدس صاحب الأطماع الكبيرة ، والمرشح الأول في داخل مدينة القدس ، ومندوب البابا الذي حرَّك الجموع الأوربية لهذه الحملة ، وأسقف المدينة المقدسة .. وهذا الأسقف كان على دراية بالأوضاع السياسية والموازنات في الجيش الصليبي ، فعقد على الفور إتفاقًا مع تانكرد لمساعدته في الوصول إلى كرسي الحكم في القدس ، وأرسل رسالة إلى صديقه بوهيموند أمير أنطاكية يستحثه فيها على القدوم إلى بيت المقدس لتزكية ولايته عليه ، ولم يكن خبر أسر بوهيموند قد وصل إلى القدس .

أما القوة الثانية : فهي العلمانية الملكية ؛ ففرسان جودفري بوايون يملئون القدس، وهم جميعًا يرفضون الحكم الثيوقراطي - أي الديني - ويرفضون أن تُعطى القدس للكنيسة بعد كل هذا المشوار الطويل من الجهد والعطاء ، ولقد وقف إلى جوار هذا الفريق أتباع الأسقف المعزول أرنولف مالكون ، والذين رفضوا حكم دايمبرت مع أنه حكم ديني لا لشيء إلا نكاية في دايمبرت ! فليست القضية قضية مبدأ ، إنما الصراعات الشخصية والأطماع الخاصة .

ومن هو يا ترى مرشح الحكم والقيادة عند فرسان جودفري ؟!

إنهم - ولعقليتهم الأوربية الوراثية - ذهبوا بفكرهم إلى أقرب الناس إلى جودفري بوايون ، وهذا هو بلدوين أخوه حاكم الرها ! ولم يذهبوا مثلاً إلى تانكرد الذي ساهم بجهد وفير في تذليل الصعاب والسيطرة على الأوضاع في منطقة بيت المقدس ويافا وحيفا ، وهو الذي كان يرأس إقليم الجليل في عهد جودفري ، ولم يذهبوا أيضًا بعقولهم إلى ريمون الرابع الأمير الذي يبحث عن إمارة ، إنما ذهبوا إلى الأخ الذي يحكم بالفعل إمارة أخرى هي الرها ، وهو الأخ الذي لم يبذل جهدًا قَطُّ في إسقاط بيت المقدس !

وأرسل فرسان جودفري رسالة سرية سريعة إلى بلدوين في الرها تحثه على القدوم بسرعة لتسلُّم مقاليد الحكم في بيت المقدس ! ووجدها بلدوين فرصة لا تعوض ، فشتَّان بين الرها وبيت المقدس ؛ ومن هنا أسرع بلدوين بترك إماراته لابن عمه بلدوين دي بورج، وترك معه حامية قوية ، وأخذ حامية أخرى وإنطلق مسرعًا إلى بيت المقدس ، وقد حاول دقاق ملك دمشق الإمساك به في الطريق ، ولكن إبن عمار زعيم طرابلس الشيعي قدم المساعدات لبلدوين ليقاوم عدوهما المشترك دقاق السلجوقي السني ! ومن ثَمَّ استطاع بلدوين أن ينتصر على دقاق ، بل وغنم كمية كبيرة من المال والسلاح !! إن الوضع كان مزريًا حقًّا !

ووصل بلدوين سالمًا إلى بيت المقدس في سنة (493هـ) 10 من نوفمبر سنة 1100م .. وكان فرسان جودفري وأتباع الأسقف القديم أرنولف مالكون قد هيَّئُوا الشعب في داخل بيت المقدس لهذا الموقف ؛ فما أن دخل بلدوين المدينة إذا بجميع النصارى والفرسان يخرجون في إستقبال بلدوين في مظاهرة كبرى يطالبون فيها بحكمه ، ويعلنون رغبتهم الجماعية في سيادته عليهم !

وإزاء هذه المفاجأة لم يستطع دايمبرت أن يواجه الرأي العام المسيحي في بيت المقدس، خاصةً أن فرسان جودفري الراحل ، وأيضًا فرسان بلدوين القادمين معه كانوا على أهبة الاستعداد لبذل سيوفهم في سبيل قيام ملكية علمانية بعيدة عن هيمنة الكنيسة ، وآثر الأسقف دايمبرت السلامة، وقنع بكرسيه في الأسقفية ، ومن ثَمَّ تُوِّج بلدوين زعيمًا على بيت المقدس ، ولكنه في هذه المرة لم يَتَسَمَّ بلقب (حامي بيت المقدس) ، كما فعل أخوه من قبل ، ولم يتسمَّ بلقب أمير كما فعل بقية الزعماء ، إنما تلقَّب بلقب ملك ! وهذا يعني أنه لا يتبع أحدًا ، بل الجميع يتبعونه ، وهذا إن لم يكن واقعًا الآن فسيكون واقعًا في المستقبل ، فهو أقوى الزعماء ، وهو الذي يحكم أهم المدن ، ولهذا تلقَّب بملك بيت المقدس، وهكذا أسست مملكة بيت المقدس ليكون أول زعمائها هو بلدوين الذي عُرِف ببلدوين الأول ، وكان ذلك بداية من 11 من نوفمبر 1100م ، وإن كان التتويج الرسمي تمَّ في يوم عيد الميلاد الغربي الكاثوليكي ، وهو 25 من ديسمبر سنةَ 1100م .

وكان بلدوين الأول من الذكاء بحيث إنه لم يعزل دايمبرت فورًا عن مركزه، وإن كان يعلم أنه كان منافسًا له على كرسي الحكم، وذلك حتى لا يحدث فراغًا في الكنيسة قد لا يستطيع أن يملأه بسهولة ، ولكي لا يستعدي دايمبرت ووراءه الأسطول البيزيّ الذي كان بلدوين الأول في أشد الحاجة إليه .

وهكذا إلتفت بلدوين الأول إلى إقرار الأوضاع في بيت المقدس ، وإلى تأمين الطرق حوله، وكذلك إلى توزيع الإمارات والمراكز على أعوانه ومقربيه ، ولا شك أن هذا الوضع الجديد كان على غير رغبة تانكرد تمامًا ، فتانكرد لا ينسى أنه كان متنازعًا مع بلدوين هذا على مدينة قليقية منذ ثلاث سنوات عند بداية الغزو الصليبي ، كما أن تانكرد راهن على الحصان الخاسر في المعركة وهو دايمبرت؛ لذلك علم تانكرد أن بلدوين لن يلبث أن يعزله من إمارة الجليل التابعة لبيت المقدس ، وسيقع تانكرد صاحب الأحلام العريضة في مشكلة كبيرة .

غير أن الأيام حملت مفاجأة كبيرة سارَّة لتانكرد وهي مفاجأة أسر خاله بوهيموند !! ولا يحسبنَّ أحدٌ أن تانكرد كان حزينًا لهذا الخبر ، فليذهب بوهيموند كما يقولون إلى الجحيم ! فتانكرد يبحث عن مصالحه هو لا عن مصالح خاله ، وقد رأينا ذلك في قصته قبل ذلك حين ترك خاله في أنطاكية وآثر أن ينزل إلى مكان آخر يبحث له فيه عن إمارة بعيدًا عن خاله القوي بوهيموند ؛ ولهذا فعندما وصل خبر أسر بوهيموند وصلت معه رسالة من الجيش النورماني في أنطاكية باستدعاء تانكرد ليكون أميرًا مؤقتًا على أنطاكية لحين فك أسر بوهيموند ، وكان هذا الإستدعاء نجدة لتانكرد وأحلامه ، كما كان نجدة لبلدوين الأول الذي تخلص من أمير مكروه لديه دون مشكلة أو صراع .

وهكذا وفي سنة 494هـ\ أوائل 1101م صار بلدوين الأول ملكًا على مملكة بيت المقدس، وتانكرد أميرًا على أنطاكية ، وبلدوين دي بروج أميرًا على الرها ، وما زال ريمون الرابع يبحث عن إمارة في منطقة طرابلس ، وما زال بوهيموند أسيرًا في يد الملك غازي بن الدانشمند .

وفي وسط كل هذه الأحداث الساخنة والمتلاحقة ، يجب أن نتساءل وبقوة : أين كان المسلمون ؟!

لقد كانت هذه الأزمات القوية التي تعرض لها الصليبيون فرصة للمسلمين أن يستعيدوا توازنهم ، وأن يجمعوا صفهم ، وأن يوحدوا هدفهم ، لكن - للأسف - تشعبت بهم الأهواء ، ولم يكن لهم زعيم مخلص يُجمِّع ويعلِّم ويوجِّه، فضاعت الفرص تلو الفرص ، وأَلِف المسلمون الهوان والذل ، وقبلوا بالواقع المرير الذي يكرهونه جميعًا ، ولم تتحرك فيهم نوازع رفع الظلم ، وتغيير المنكر .. وهكذا مرت الأيام والشهور بل والسنوات ، والصليبيون كالمرض العضال يزداد توحشًا وتمكنًا من الجسد الإسلامي الضعيف .

إن الصليبيين في هذه الظروف ، وهم يرون المسلمين لا يحركون ساكنًا ، بل يسعون إلى عقد اتفاقيات سلام ، ومباحثات جوار ، وعقود تنازل ، في هذه الظروف رأى الصليبيون أن يسرعوا بتوسيع أملاكهم ، وإستغلال أزمة المسلمين بأقصى درجة .

ففي بيت المقدس بدأ بلدوين الأول يقوم ببعض الحملات العسكرية الخاطفة حول المدينة ليختبر قواته العسكرية ، وليكتشف الطرق ، ويدرب جنوده على الأوضاع الجديدة ، ثم ما لبث أن أخذ جيشه وحاصر أرسوف التي سقطت في يده بعد قليل بمساعدة أسطول بحري قدم من جنوة الإيطالية ، ثم أتبع ذلك بحصار قيسارية فسقطت هي الأخرى ، وتعرضت بعد سقوطها لمذبحة بشعة قُتل فيها عدد ضخم من السكان المدنيين ، بل إن السكان عندما إحتموا بمسجد المدينة , فلحقهم الصليبيون بقيادة بلدوين الأول - الذي تصفه المصادر التاريخية بالحكمة !- وقاموا بذبح كل مَن في المسجد من الرجال والنساء والأطفال ، حتى تحول المسجد إلى بركة هائلة من دماء المسلمين والمسلمات !

وفي أنطاكية خرج تانكرد ليمارس نشاطه التوسعي بسرعة قبل أن يفكر أحد في ضعف إمارته لفقدها زعيمها بوهيموند ، ولقد كان تانكرد لا يقل شراسة ولا قوة ولا خبرة ولا مهارة عسكرية عن خاله بوهيموند ، ولقد إستطاع في غضون شهور قليلة جدًّا أن يستولي على ثلاث مدن مهمة في إقليم قليقية شمال أنطاكية ، هي مدن طرسوس وأذنة والمصيصة ، وكانت تحت السيطرة البيزنطية ، بل إنه حاصر مدينة اللاذقية المهمة جنوب أنطاكية، والتي اضطر بوهيموند قبل ذلك بأكثر من سنة أن يرفع عنها الحصار بسبب ريمون الرابع وموالاته للدولة البيزنطية ، أما الآن فتانكرد لا يحسب حسابًا أبدًا للإمبراطورية العجوز ، ولذلك نصب جيشه حول اللاذقية بغية إسقاطها ، وهو ما تمَّ له بالفعل ، ولكن بعد قرابة السنتين !!

أما في إمارة الرها فقد بدأ بلدوين دي بروج نشاطه بمهاجمة مدينة سروج المسلمة، والتي حاول سقمان بن أرتق صاحب حصن كيفا - وهو من الأمراء المسلمين - أن يستردها عند رحيل بلدوين الأول إلى بيت المقدس ، غير أنه - للأسف - لم يتلقَّ أي مساعدة من الأمراء المسلمين في المنطقة؛ مما أدى إلي إنتصار بلدوين دي بورج عليه بعد قتال شديد ، وإستبيحت سروج ، وأُخذ منها عدد كبير من الأسرى .

كان هذا هو الوضع في مملكة بيت المقدس وإمارتي أنطاكية والرها ، فماذا فعل ريمون الرابع ؟! لقد فشل ريمون الرابع في رفع حصار تانكرد من حول اللاذقية، وكنا قد علمنا قبل ذلك أن ريمون يسيطر على اللاذقية لصالح الدولة البيزنطية ، ومن ثَمَّ فقد ترك ريمون المدينة وإنطلق إلى القسطنطينية ليتباحث مع ألكسيوس كومنين كيفية تخليص اللاذقية ، غير أنهم فوجئوا بحدث مهم ضخم غيَّر من حساباتهم ، وأوشك أن يغيِّر من خطط الجميع !!

لقد وصلت جموع هائلة من الغرب الأوربي تسعى للمشاركة في الحملة الصليبية ! لقد سمع الأوربيون بأخبار تأسيس ثلاث إمارات في داخل أراضي المسلمين ، وسمعوا بأخبار الغنائم والأموال والأسلاب ، وسمعوا بأخبار الموانئ الإسلامية التي تتساقط في أيدي الصليبيين ، وسمعوا عن العقود التجارية التي فازت بها أساطيل الجمهوريات الإيطالية ، وسمعوا عن إستكانة المسلمين غير المتوقعة وفرقتهم وتشرذمهم ، لقد دفعتهم كل هذه المعلومات إلى تجميع الأعداد الكبيرة للاستفادة من هذا الموروث السهل !

ولقد وصلت هذه الجموع الهائلة إلى القسطنطينية في (494هـ \ مارس سنة 1101م ، وكان أول المجموعات وصولاً هي مجموعة اللمبارديين ، وهم أهل شمال إيطاليا ، وكان على رأسهم (أنسلم) رئيس أساقفة ميلانو ، وكان بصحبتهم أيضًا مجموعة من الأمراء الإيطاليين مثل ألبرت وجيوبرت وهيومن وغيرهم ، غير أن عموم الحملة كانوا من الفلاحين والعوام ، وأيضًا من النساء والأطفال ، وكانت هذه الحملة أشبه ما تكون بحملة بطرس الناسك ووالتر المفلس ، ولعلنا نلاحظ أن الحملة العسكرية الأولى كانت بقيادة أدهمار المندوب البابوي (أسقف بوي) ، ثم كانت النجدة الثانية بقيادة دايمبرت رئيس أساقفة بيزا ، وها هو أنسلم رئيس أساقفة ميلانو يقود النجدة الحالية ، ليبرز لنا بوضوح دور الكنيسة في تحريك الجموع بغزو البلاد الإسلامية .

وعندما وصلت هذه الجموع إلى القسطنطينية قاموا بالإفساد الذي تعوَّد عليه شعب أوربا في ذلك الوقت ؛ مما دفع ألكسيوس كومنين أن يعجل بنقلهم عبر مضيق البسفور إلى أرض آسيا الصغرى ، حيث توجهوا إلى مدينة نيقية، ليكونوا في انتظار بقية الجموع ، ثم اتفق ألكسيوس كومنين مع ريمون الرابع على أن يرأس ريمون الرابع هذه الجموع لخبرته في المنطقة ، ولدرايته بحروب المسلمين ، وليضمن كذلك أن توجه الحملة إلى أطماع ألكسيوس كومنين ، لا إلى أطماع تانكرد أو بلدوين الأول أو غيرهما !!


ثم مرَّ شهر أو يزيد ووصلت جموع أخرى من الصليبيين ، وخاصة من فرنسا وألمانيا ، وإنضمت إلى القوات الأولى في نيقية ، ليصل مجموع الحملة الصليبية إلى مائتي ألف في أقل تقدير ! بينما يصل بهم ابن الأثير إلى ثلاثمائة ألف !!

لقد كان جيشًا هائلاً تولى قيادته ريمون الرابع ، وسار بهم في إتجاه دوريليوم ليلحق ببقية الصليبيين في الشام ، وكانت هذه هي رغبة ألكسيوس كومنين أيضًا ، حيث كان يريد إعادة السيطرة على المدن التي ضاعت منه هناك ، وكان ريمون يريد لهذه الجموع أن تساعده في إسقاط طرابلس لينشأ له إمارة هناك ، إلا أن جموع اللمبارديين رفضت هذا التوجُّه ، وأرادت أن تنحرف بالحملة إلى الإتجاه الشمالي الشرقي لتغزو مناطق بني الدانشمند ، وذلك بغية فك الزعيم النورماني الكبير بوهيموند من أسره ، ولا ننسى أن جموع اللمبارديين من إيطاليا بلد الزعيم المأسور ، وعندما أشار ريمون الرابع إلى صعوبة تحرير بوهيموند المحبوس في قلعة نكسار الحصينة في مناطق جبلية وعرة على ساحل البحر الأسود رفض اللمبارديون إشارته ، وقالوا : إنهم إن فشلوا في تحريره فإنهم على الأقل سيدمرون أهم مدينتين في أقاليم بني الدانشمند ، وهما مديتنا أماسية وسيواس ، وأمام إصرار القوة الرئيسية في الجيش رضخ ريمون الرابع ، وإنحرف بالجيش في الإتجاه الشمالي الشرقي ، فوصلوا إلى أنقرة في (494هـ) أواخر يونية 1101م وإستولوا عليها في سهولة بالغة ، ثم أكملوا طريقهم في اتجاه قسطموني شمالاً !

إنهم يتجهون الآن إلى عمق بلاد الأتراك المسلمين ، فماذا كان ردُّ فعل الملك غازي كمشتكين ؟ وماذا فعل قلج أرسلان الذي كان يتخذ من قونية قاعدة له ؟ ,, لقد قام الملك غازي بالفعل الصائب إذ أرسل إلى قلج أرسلان السلجوقي ليستعين به في حروب الصليبيين، ولم يخيِّب قلج أرسلان ظنَّه ، وجمع جيشه وإنضم إليه ، بل وانضم إليهما بعد ذلك بعض جنود رضوان بن تتش زعيم حلب !

لقد كان خليطًا عجيبًا من زعماء تناحروا قبل ذلك كثيرًا ، ولكنهم رأوا أن الدائرة ستدور عليهم قريبًا، وخاصةً أن هذه الجموع تجاوزت المائتي ألف ؛ ولذلك توحدوا !! ومع كون التاريخ غير مبشِّر ، ومع كون القلوب غير صافية إلا أن الوَحْدة - مهما كانت - تؤتي ثمارًا ونتائج ، نعم قد تكون ثمارًا مؤقتة إن لم تكن هذه الوحدة لله ، ولكنها تظل أفضل من الفرقة والتشتت , وهكذا على الرغم من عدم قناعتنا الكاملة بهذه الشخصيات فإنهم إستطاعوا أن يفعلوا شيئًا ، وشيئًا كبيرًا ، لتبقى القاعدة الذهبية الأصيلة : " يد الله مع الجماعة!" .

ماذا فعلت الجيوش الإسلامية المتحدة ؟!

لقد تقدمت فرقة قلج أرسلان أمام الجيش الصليبي ، ثم بدأت تظهر الإنسحاب أمامه لتشجعه على الإستمرار في التقدم ، وفي أثناء هذا الإنسحاب كان السلاجقة يقومون بحرق المزروعات في الحقول ، وبردم الآبار ، وتدمير المؤن والأغذية حتى لا يتركوا فرصة للجيش الصليبي للتزود بأي تموين ، وطال الطريق على الجيش الصليبي ، وبدأ يشعر بالتعب والإنهاك ، وخاصةً أن هذه الأحداث كانت تدور في شهر يوليو من سنة 1101م ، والحرارة عالية ، وطبيعة الطريق الجبلية والصخرية مرهقة ، وأكثر من ذلك أن السلاجقة كانوا يمارسون مع الجيش حروب إستنزاف سريعة أثناء حركة الجيش جعلت الحالة النفسية للصليبيين مضطربة ، وحاول ريمون أن يثني الجيش الصليبي عن عزمه بإقتحام أرض الدانشمنديين ، إلا أن الجيش أصرَّ على تخليص بوهيموند ليكون قائدًا لهم في غزو بلاد الشام !

وإجتاز الصليبيون نهر هاليس ليدخلوا بذلك إلى أرض بني الدانشمند ، وواصلوا تقدمهم شرقًا حتى وصلوا إلى مدينة مرسيفان في منتصف الطريق تقريبًا بين نهر هاليس ومدينة أماسية ، وأدركت عيون الأتراك في ذلك الوقت أن الصليبيين قد بلغوا درجة كبيرة من الإعياء ، فنصبوا كمينًا خطيرًا للجيش الصليبي ، وبدأ الصدام المروّع ..

ومع كثرة أعداد الصليبيين فإنَّ اللقاء لم يكن متكافئًا ، فالصليبيون في حالة مزرية من الجوع والعطش والإرهاق وإرتفاع درجة الحرارة، إضافةً إلى وجود أعداد كبيرة من الفلاحين غير المحترفين للقتال ، مع جهل الجميع بطبيعة الأراضي ومسالكها .

لقد كان قتالاً من جانب واحد ، إستطاع فيه المسلمون أن يحققوا نصرًا ساحقًا ، حيث هلك أربعة أخماس الجيش الصليبي ، وأُسر معظم الباقين ، ولم ينجُ من الجيش إلا مجموعة من الأمراء على رأسهم ريمون الرابع ، والذين نجوا بأنفسهم عندما رأوا الدائرة تدور على جيشهم ، ووصلوا في فرارهم إلى القسطنطينية !

فَقَد الجيش الصليبي في هذه المعركة أكثر من مائة وستين ألف مقاتل ، وفقدوا نساءهم وأطفالهم وأموالهم وسلاحهم ، وفقدوا سمعتهم وهيبتهم ، وكانت هذه الأحداث في (494هـ) أوائل أغسطس سنة 1101 .

ولم تكن هذه هي الكارثة الأخيرة للصليبيين في هذه الظروف ، إذ إنه في هذه الأثناء وصلت مجموعة أخرى من الصليبيين للقسطنطينية ، وكانت هذه المجموعة مكونة من خمسة عشر ألفًا من الفرسان والمشاة الفرنسيين ، على رأسهم وليم الثاني كونت نيفرز Nevers ، وكان وصول هذه المجموعة في أثناء القتال الدائر في مرسيفان ، وانطلق وليم الثاني في أراضي آسيا الصغرى ، ووصل إلى أنقرة ودخلها بسهولة ، غير أنه لم يدرك أي الطرق سلك الجيش الصليبي الأول ، وحيث إن الجيش الصليبي الأول قد هلك بكامله تقريبًا ، ومن فرَّ منه فرَّ في اتجاه الشمال ؛ فإن الكونت وليم لم يعرف إلى أي الاتجاهات يسير ، ثم إنه في النهاية توجه بجيشه جنوبًا إلى هرقلة ، وهناك كانت الأنباء قد وصلت إلى القوات الإسلامية المتحالفة بوصول هذا الجيش الصليبي الجديد فنزلوا مسرعين في اتجاه هرقلة ، وهم في حالة معنوية مرتفعة جدًّا لإنتصارهم الباهر في المعركة السابقة ، وكان اللقاء حاميًا في هرقلة في أواخر أغسطس سنة 1101م ، وكان بالنسبة للمسلمين نزهة عسكرية بالقياس إلى اللقاء السابق ! وما هي إلا ساعات قليلة وفَنِي الجيش الصليبي بكامله، ولم ينجُ منه إلا زعيمه الكونت وليم الثاني كونت نيفرز ، ومعه ستة من خاصَّته وأتباعه ! وتُعرف هذه المعركة في التاريخ بمعركة هرقلة الأولى ؛ تمييزًا لها عن معركة هرقلة الثانية التي دارت بعدها بأقل من أسبوعين .

أما قصة معركة هرقلة الثانية فتبدأ بوصول المجموعة الثانية من هذه النجدة الصليبية التعيسة ، حيث وصل إلى القسطنطينية ستون ألف مقاتل من فرنسا وألمانيا ، على رأسهم وليم التاسع دوق أكوتيين وولف الرابع دوق بافاريا ، وإتجهت هذه المجموعة مباشرة إلى هرقلة عبر قونية ، ومارس معها المسلمون نفس الأسلوب الذي مارسوه مع الحملة الأولى ، حيث إستدرجوهم إلى هرقلة بعد إتلاف المزروعات وطَمْر الآبار، فوصل الجيش الصليبي إلى هرقلة في أوائل سبتمبر من سنة 1101م في حالة مأساوية من الجوع والعطش والإنهاك ، وما لبثت المعركة أن بدأت لتصل في خلال ساعات إلى نفس النتيجة حيث أُبيد الجيش الصليبي بكامله ، ولم ينجُ إلا الأمراء الذي هربوا إلى أنطاكية !!

ولعله من الملاحظ في المعارك الثلاثة أن أمراء الجيش الصليبي كانوا يفتحون لأنفسهم طريقًا للهرب تاركين الجموع المسكينة لمصيرهم المشئوم !

وهكذا دائمًا طبيعة الجيوش التي تفتقر إلى قضية ، ولا يحرك القائد فيها إلا شهوته للتملُّك ورغبته في التوسع ! لقد كان ثلاث معارك هائلة في أقل من شهرين فَقَد فيها الصليبيون قرابة ربع مليون مقاتل ، إضافةً إلى الغنائم والسبي ، ولا شك أن حدثًا كبيرًا كهذا كان له من الآثار ما لا يحصى ، ولعله من المناسب أن نقف وقفة لنتدبر في نتائج هذه المعارك المهمة، وأثرها على سير الأحداث :

أولاً : إرتفعت معنويات المسلمين في كل مكان، ليس في آسيا الصغرى فقط ولكن في كل العالم الإسلامي ، فالمسلمون كانوا يفتقرون إلى نصر يعيد لهم ثقتهم في أنفسهم ، ويُهوِّن عندهم قوة الصليبيين ، وهذه المعنويات المرتفعة - وإن لم يكن لها مردود سريع - رسَّختْ في الأذهان فشل الإدِّعاء القائل بأن الصليبيين قوة لا تقهر ، وهذه خطوة مهمة في بداية التغيير .

ثانيًا : من المفترض أن المسلمين فهموا بعد هذه المعارك الثلاث بعض أسباب النصر ، ولعل من أبرز هذه الأسباب وضوحًا الجهاد والوحدة .

فالحقوق لا تعود إلى أصحابها عن طريق إقناع المعتدين بالعدول عن إعتدائهم ، ولا عن طريق طاولة مفاوضات ، ولا عن طريق وساطة غربية ولا شرقية ، إنما تعود الحقوق بالدفاع الجريء عنها ، وبالصمود الطويل ، وبالصبر الجميل ، وبالإعداد والتجهيز ، وبذل الوسع والطاقة ؛ وهو ما وَضَح لنا جميعًا في خطوات سير المعارك الثلاث .

كما أن الوَحْدة بين قلج أرسلان وكمشتكين ضاعفت القوة ، وسددت الرمية ، وأزعجت الأعداء ، وأرهبت صدورهم ؛ مما قاد إلى النصر بشكل طبيعي مفهوم .

ثالثًا : للأسف الشديد ، وللمرة الثانية في حروب السلاجقة والدانشمنديين ، لم نر التوجه الإسلامي واضحًا في الحرب التي خاضوها ، ولم تنقل المصادر إلينا إشتياقًا إلى الشهادة ، أو رغبة في دخول الجنة ، إنما أخذت المعارك الطابع القومي والوطني ، وطابع الحفاظ على الأراضي والديار والأملاك ، وهذا وإن كان من الممكن أن يحقق نصرًا كما رأينا ، إلا أن هذا النصر يكون مرحليًّا غير ممتد؛ لأن الله لا يتم نصره إلا لمن قاتل في سبيله ، ووحَّد وجهته كلها لله , ومما يؤكد قومية التوجه عند الأتراك في هذه المعارك أنهم لم يسعوا إلى إستغلال هذا النصر والتفوق في تحرير المدن الإسلامية المحتلة ، مع قربها الشديد من أرضهم ، وخاصةً أنطاكية والرها .

رابعًا : مع حلاوة هذا النصر وبريقه فإنَّ قادة المسلمين في الشام كانت على أعينهم غشاوة سميكة جدًّا ، فلم يفهموا هذا النصر ، ولم يعلموا أسبابه ، بل لم يفكروا في إستغلال أزمة الصليبيين بفقدان هذا العدد الهائل من الجنود ، ومن ثَمَّ لم يسعوا إلى تحرير أوطانهم وديارهم .

خامسًا : تفرغ الأتراك في آسيا الصغرى بعد هذه المعارك إلى بسط سيطرتهم على المدن هناك ، فسيطر قلج أرسلان على وسط آسيا الصغرى ، وإتخذ قونية عاصمة له ، بينما ركَّز كمشتكين بن الدانشمند جهوده في الشرق ، وأسقط ملطية تحت سيطرته .

سادسًا : أغلقت هذه المعارك الطريق البري من القسطنطينية إلى أرض الشام أمام القوات الصليبية ، وظل هذا الطريق مغلقًا قرابة قرن كامل من الزمان حتى زمان الإمبراطور الألماني فردريك باربروسا في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي ؛ مما يشير إلى مدى الرهبة التي تُلقى في قلوب أعداء الأمة إذا رُفعت راية الجهاد والمقاومة .

سابعًا : أدى إنغلاق الطريق البري لأرض الشام أن نشطت جدًّا حركة السفن في البحر الأبيض المتوسط للوصول بالإمدادات والمؤن والجيوش إلى الموانئ الشامية والقسطنطينية ، ولما كانت معظم هذه السفن مملوكة للجمهوريات الإيطالية فإنَّ دور هذه الجمهوريات أصبح مؤثرًا جدًّا في أحداث الحروب الصليبية ، ولعشرات السنوات المقبلة .

ثامنًا : أدت هذه الانتصارات الإسلامية إلى قلق الصليبيين في الشام ، وهذا أدى بدوره إلى توقف حركاتهم التوسعية ، وقناعتهم بالاكتفاء بالحفاظ على ما بأيديهم ، خاصةً أن هزيمة الصليبيين كان لها وقع سيِّئ جدًّا على الغرب الأوربي مما عوَّق جهود الكنيسة في جمع المقاتلين .

تاسعًا : أدت هذه الانتصارات إلى اقتناع الدولة البيزنطية أن قوتها أضعف من أن تخوض قتالاً مباشرًا مع الأتراك في داخل آسيا الصغرى ، ومن ثَمَّ لم تحاول أن تدخل جيوشها إلى هذه المناطق إلا بعد وفاة قلج أرسلان بعد ذلك بست سنوات .

عاشرًا : نتيجة سلبية خطيرة لهذا النصر ، وهي أن البيتين التركيين الكبيرين : البيت السلجوقي ، والبيت الدانشمندي دخلا في صراع محتدم بعد هذا الإنتصار ، فقد تفرَّغ كل منهما للآخر ، ولم يفهما قيمة الوحدة التي أنعم الله بها عليهما في وقت من الأوقات ، ومن ثَمَّ نظر كل طرف إلى مصالحه الخاصة، وإلى أطماعه التوسعية ؛ ولما كانت مساحة آسيا الصغرى محدودة ، فكان لا بد من التوسع على حساب الطرف الآخر ! كما أن وفرة الغنائم وكثرة الأموال كانت من العوامل التي أغرت الطائفتين بنسيان الأصول الإسلامية ، والتفرُّغ لجمع الدنيا !!

لكن على العموم فإن هذه المعارك التي حدثت أدت إلى خروج آسيا الصغرى تقريبًا من موازنات الحروب الصليبية ، حيث أخرجها الصليبيون من حساباتهم لفترة طويلة ، كما أخرج سكانها المسلمون بقيَّة القضايا الإسلامية - وعلى رأسها احتلال الشام وفلسطين - من حساباتهم ، وصارت قضية إحتلال القدس وغيرها من المدن الإسلامية وكأنها من قضايا الشأن الداخلي التي تخص الفلسطينيين والشاميين ، ولا دخل لبقية المسلمين فيها ، وهذا - لا شك - قصور كبير في الفَهْم ، وبُعد هائل عن حقيقة الشرع وطبيعة الدين !

عودة إلى الإمارات الصليبية في الشام وفلسطين !

قبل أن تصل أخبار الهزيمة الصليبية الفادحة إلى بيت المقدس كان بلدوين الأول يرتب أمور مملكته الجديدة ، وبينما هو منهمك في هذا الترتيب إذ بالجيوش العبيدية (الفاطمية) تظهر في الصورة !

لقد رغبت الدولة العبيدية - كما شرحنا قبل ذلك - في التفاهم مع الصليبيين لتقسيم البلاد معهم، فتكون الشام للصليبيين وتكون فلسطين للدولة العبيدية، غير أن هذا لم يعجب الصليبيون، وإستمروا كما رأينا في احتلال الأراضي حتى أخذوا فلسطين بكاملها، وأسقطوا بيت المقدس في قبضتهم في (492هـ) يوليو 1099م ، ولا شك أن هذا لم يأتِ موافقًا لأطماع ورغبات الدولة العبيدية ، ولم يكن هذا بالطبع لأي نخوة إسلامية ، ولا لتقديس مدينة القدس ومسجدها الأقصى ، إنما كان لرغبات التوسع والتملك والسيطرة ، ولتأمين الحدود الشرقية المتاخمة مباشرة لفلسطين .. وبعد ما يقرب من سنتين ، وتحديدًا في (494هـ) مارس 1101م فكر العبيديون في إسترداد بيت المقدس وقتال بلدوين الأول ، وجاءوا بجيش كبير يقوده سعد الدولة القواسي الذي كان حاكمًا لبيروت من قبلُ ، وعسكر هذا الجيش في عسقلان ، وهي - كما نعلم - ما زالت تحت السيطرة العبيدية ، وبدأ الجيش في الإستعداد لخوض معركة مهمة مع الصليبيين ، ولكن من الواضح أن خطوات الجيش العبيدي كانت متثاقلة جدًّا ، فقد أخذوا أكثر من ستة أشهر في الاستعداد ، وأخيرًا خرجوا في (494هـ) أوائل سبتمبر سنة 1101م لقتال الصليبيين ، مضيعين بذلك فرصة الصيف الحار الذي لا يألفه الأوربيون ، إضافةً إلى إعطاء الصليبيين فرصة التجهز والإستعداد للمعركة المقبلة .

وفي منطقة الرملة ، وفي يوم 7 من سبتمبر سنة 1101م، حدث الصدام الذي يعرف في التاريخ بموقعة الرملة الأولى بين الجيش العبيدي في عدد كبير، والجيش الصليبي بقيادة بلدوين الأول في أعداد قليلة لكن حسنة التنظيم ، ومع أن أعداد العبيديين كانت تفوق كثيرًا أعداد الصليبيين فإنهم هُزموا سريعًا ، وسقط قائدهم سعد الدولة القواسي صريعًا في أرض المعركة ، وقُتل منهم عدد كبير، وفر الباقون إلى عسقلان الحصينة ، وغنم الصليبيون كل ما كان مع الجيش العبيدي من سلاح ومؤن وآلات .

لقد كانت ضربة موجعة للدولة العبيدية في مصر !

وإهتز الوزير الأفضل بن بدر الجمالي المسيطر على الأمور في مصر ، وقرَّر أن يرسل حملة أخرى لرد الإعتبار ، لكن تجهيز هذه الحملة أخذ أكثر من ثمانية أشهر ، جعلت الأمور تستقر إلى حد كبير في منطقة بيت المقدس ! وهكذا وصلت أنباء الهزيمة القاسية للجيوش الصليبية في آسيا الصغرى مع أنباء هزيمة الدولة العبيدية في الرملة ، مما أعاد الثقة نسبيًّا إلى الصليبيين .

ورأى ريمون الرابع كونت تولوز - الذي فشل حتى هذه اللحظة في تحقيق أي طموح - أنَّ عليه أن يسعى حثيثًا لتكوين إمارة له في منطقة لبنان ، وقد رأينا رغبته السابقة في منطقة طرابلس الحصينة ، ورأينا فشله في تحقيق مطامع بالمنطقة ؛ نتيجة تنافسه مع زعماء الحملة الصليبية جميعًا ، ورأينا فشله في تحقيق طموح مع القوات الصليبية الجديدة التي إنتهى أمرها - كما رأينا - إلى السحق التام تحت أقدام المسلمين ، ووجد ريمون الرابع أن علاقته بالإمبراطور البيزنطي لم تساعده في شيء ، بل أعطت إنطباعًا عند زعماء الحملة الصليبية أن ريمون خائن لهم وللمشروع الصليبي ، لدرجة أن ريمون الرابع عندما غادر القسطنطينية في (495هـ) يناير 1102م متجهًا إلى ميناء السويدية جنوب أنطاكية ليمارس نشاطه من جديد في محاولة إنشاء إمارة خاصة به ، قبض عليه أحد رجال تانكرد أمير أنطاكية بتهمة الخيانة للصليبيين ، واعتقله تانكرد بالفعل في سجن أنطاكية ، وإتهمه بالتواطؤ مع الدولة البيزنطية ، بل وبتعمد إهلاك الجيوش الصليبية لصالح البيزنطيين، وكادت أن تحدث مشكلة ضخمة بين الصليبيين ؛ لأن ريمون الرابع وراءه جيش كامل من البروفينساليين ؛ ولذا تدخل زعماء الصليبيين عند تانكرد لإطلاق ريمون ، فلم يطلقه إلا عندما إشترط على ريمون أن يكفَّ عن المطالبة بأية حقوق في أنطاكية أو اللاذقية ، ووافق ريمون وأطلق سراحه ، وخرج من أنطاكية مسرعًا في إتجاه لبنان ، وفي طريقه إلى هناك حاصر طرطوس (في سوريا الآن) ، وسانده في هذا الحصار أسطول جنويّ ، وبالفعل سقطت طرطوس في (495هـ) فبراير 1012م، وإتخذها ريمون قاعدة لأعماله ، ومركزًا للإنطلاق نحو طرابلس بعد ذلك .

ومع أن جيش ريمون كان قليلاً جدًّا يقدر بالمئات فقط ، فإنَّه لم يتردد في حصار طرابلس بهذا العدد القليل من الجند ! إنها معركة البقاء والوجود ! إن خسائره أصبحت كثيرة ، ولا بد من العمل الجاد قبل أن يفقد كل شيء .

وفي داخل طرابلس وجد ابن عمار - الذي كان شيعيًّا منفصلاً عن الدولة العبيدية - نفسَه وحيدًا في حصاره ، ولم يفكر في الاستنجاد بالدولة العبيدية لأنه يعلم مطامعها في إمارته ، فأرسل رغمًا عن أنفه إلى اثنين من ألدِّ أعدائه وهما : دقاق ملك دمشق ، وجناح الدولة ملك حمص ؛ فهما أقرب المدن إليه ، ولكنهما من السُّنَّة ، والخلاف بينهما عميق ، ولم يكن إبن عمار يتردد في إرشاد الجيوش الصليبية إلى الطرق التي تنجِّيهم من جيوش دقاق ، أما الآن فالوضع مختلف ، والقضية - لا شك - ليست قضية إسلامية ، لا عند ابن عمار ، ولا عند دقاق أو جناح الدولة ، ولكنها المصالح الذاتية فقط !

ولم يتردد الزعيمان المسلمان في قبول المساعدة ، فهي فرصة قد تعطيهم إمارة طرابلس ، وجيوش ريمون قليلة يسيرة ، وهزيمته كانت قريبة في آسيا الصغرى على يد قلج أرسلان وكمشتكين بن الدانشمند ، وهكذا إنطلق الزعيمان لنجدة ابن عمار !

ومع كون الجيوش الإسلامية الثلاثة لدقاق وجناح الدولة وإبن عمار كانت أكثر بكثير من جيش ريمون ، فإنَّ ريمون إستطاع أن ينتصر عليهم ، وأن يشتِّت شملهم ، بل يروي إابن الأثير أن ريمون قتل من المسلمين سبعة آلاف ، مع أن جيشه كان بضع مئات ! وفر جيش ابن عمار إلى داخل طرابلس ، وهربت جيوش دقاق وجناح الدولة إلى مدنهما ، وعاد ريمون إلى حصار طرابلس .. وإزاء هذا الوضع عرض ابن عمار دفع الجزية لريمون ، فقَبِل ريمون نظرًا لعلمه أن إسقاط طرابلس بهذا العدد القليل يكاد يكون أمرًا مستحيلاً ، وبهذا عاد ريمون إلى طرطوس في مارس أو إبريل من سنة 1102م .

لكن ريمون ما عاد إلى طرطوس ليستريح ، إنما عاد ليُعِدَّ العدة لهجوم جديد ، ومن ثَمَّ فقد خرج بعد أيام من عودته في (495هـ) إبريل 1102م إلى بعض الحصون التابعة لمدينة حمص ، مثل حصن طوبان وحصن الأكراد وغيرهما ، وأخذ في حصارها ومهاجمتها مستغلاًّ فرار جيوش جناح الدولة منه قبل ذلك ، وبينما هو في حصاره هكذا حدثت كارثة في مدينة حمص توضح مدى الإنحدار الذي وصلت إليه الأمة في ذلك الوقت ؛ إذ كان هناك خلاف قديم بين رضوان ملك حلب وجناح الدولة حسين بن ملاعب ملك حمص , ومع أن حسين بن ملاعب ملك حمص كان متزوجًا من أم رضوان بن تتش ، إلا أن رضوان أقدم على جريمة بشعة في توقيت خطير ، وهي جريمة قتل جناح الدولة ملك حمص وزوج أمه ، وقام بتنفيذ هذه المهمة عن طريقة ثلاثة من الباطنية الإسماعيلية الذين إشتهروا بمثل هذه الجرائم ، حيث قُتل جناح الدولة في مسجد حمص الكبير أثناء تأديته للصلاة ، وكان ذلك 495هـ\ في مايو سنة 1102م !

إنها لجريمة كبرى حقًّا !

ليست فقط لإزهاق روح مسلمة بغير وجه حق ، وليست فقط لإرتكابها غِيلَةً أثناء الصلاة وفي داخل المسجد ، وليست فقط لأنها في حق زوج أمه ، ولكن لأنها تمت في مثل هذه الظروف القاسية التي تتعرض لها الأمة !

لم ينظر رضوان مطلقًا إلى وجود حمص في مواجهة جيش ريمون الرابع ، ولم ينظر إلى الأزمة التي تتعرض لها البلاد ، ولم ينظر إلى حالة الإضطراب التي ستئُول إليها الأحداث بعد مقتل زعيم المدينة ، وإنما نظر فقط إلى إشفاء غليله ، وإرضاء نفسه ، والإنتقام لكبريائه !

وهكذا فقدت حمص زعيمها في وقت حرج ، وعلم ريمون الرابع بهذه الأحداث ، فأخذ بقية جيشه بسرعة وتوجه مباشرة إلى مدينة حمص ذاتها ليضرب عليها حصارًا بغية إسقاطها ، إلا أنهم إستنجدوا بدقاق ملك دمشق ، فوجدها دقاق فرصة لتوسيع ملكه ، ومن ثَمَّ جاء بجيشه لضمها إلى دمشق ، ورأى ريمون أنه سينحصر هكذا بين جيشي حمص ودمشق ؛ فرفع الحصار وعاد إلى طرطوس ، ووضع دقاق يده على مدينة حمص ليضمها في (495هـ) مايو 1102م إلى مملكته ، وأناب عنه في حكمها أحد قوَّاده وهو طغتكين .

وإستقرت الأوضاع نسبيًّا في هذه المنطقة ، حيث هدأ ريمون بعض الوقت لكي يزيد من قوته وإمكانياته استعدادًا لحصار طرابلس ، ورضي منه دقاق بهذا الهدوء ، فلم يسعَ مطلقًا إلى الهجوم عليه أو إستفزازه ، وكأنَّ البلاد التي وضع ريمون يده عليها أصبحت من حقِّه كأمر واقعي لا بد من الإعتراف به !

ونعود إلى بيت المقدس ، وقد مرت الأيام والشهور ، وعاد العبيديون بجيش كبير للإنتقام لهزيمتهم في معركة الرملة الأولى في سبتمبر 1101م ، وكان عودتهم إلى عسقلان في شهر مايو 1102م ، أي بعد مرور أكثر من ثمانية أشهر على الكارثة الأولى ، وكان جيشهم بقيادة شرف المعالي وهو ابن الوزير الأفضل بن بدر الجمالي ، مما يعطينا فكرة عن أهمية هذه الحملة .

وحشد بلدوين بضعة آلاف من جنوده في منطقة يافا، وخرج في مهمة استطلاعية بين يافا والرملة ، ولم يكن معه سوى مائتين من الفرسان ، وباغته العبيديون هناك، حيث اضطربت صفوفه , واضطر إلى قتالٍ مفاجئ، وقُتل من رجاله عدد كبير وفر الباقون ، فمنهم من فر إلى يافا ، ومنهم من فر إلى الرملة ، وكان بلدوين ممن فر إلى الرملة ، وكان هذا في (495هـ) 17 من مايو 1102م .

حاصر العبيديون الرملة ليفتكوا ببلدوين الأول غير أنه هرب منها ليلاً متجهًا إلى يافا ، وسقطت الرملة في أيدي العبيديين ، وأرسلوا فرقة سريعة لحصار يافا ، فغيَّر بلدوين الأول من مساره وذهب إلى أرسوف في شمال يافا ، وجمع من كان بها من الصليبيين ، وأخذهم عن طريق البحر إلى يافا لنجدة الجيش الصليبي هناك ، وإستعان بأسطول إنجليزي مكون من مائتي سفينة كان يحمل كثيرًا من الجنود والحجاج ، ودخل بلدوين الأول فعلاً إلى يافا من الميناء البحري على الرغم من وجود السفن العبيدية ، وأخذ في تنظيم جيوشه في داخل المدينة ، ثم في (495هـ) يوم 27 من مايو 1102م خرج بلدوين الأول على رأس جيوشه لمقابلة الجيش العبيدي خارج أسوار يافا ، وللأسف فإنه في خلال بضع ساعات هُزم الجيش العبيدي هزيمة ساحقة ، ولم يفقد الجيش الصليبي عددًا يذكر من رجاله ، وفرَّ العبيديون إلى عسقلان للمرة الثانية في خلال ثمانية أشهر لتتفاقم الأزمة العسكرية للدولة العبيدية ، بينما يزداد الصليبيون ترسيخًا لأقدامهم في المنطقة !

وعاد بلدوين الأول إلى بيت المقدس ليرتب أوضاعه فيها، وكان من أهم الأعمال التي قام بها إستقبال مندوب البابا باسكال الثاني الذي جاء للتحقيق في أمر دايمبرت أسقف بيت المقدس ، وكان بلدوين الأول قد أرسل إلى البابا يشكو له سوء سلوك دايمبرت ، وأن هناك الكثير من الشبهات في تصرفاته، وجاء مندوب البابا - وهو الأسقف إبرمار - وحقق في الأمر، وسرعان ما أثبت - بمعونة بلدوين الأول بالطبع - أن دايمبرت مُدان في تصرفاته ، وتم عزله عن الأسقفية المهمة ، وتولى إبرمار مكانه ، وبذلك تخلص بلدوين الأول من أشد منافسيه على الكرسي ، ولم يعبأ بلدوين الأول بعد ذلك بإعتراضات تانكرد النورماني أمير أنطاكية ، فقد صار بلدوين أقوى زعماء الصليبيين بلا منازع .

ولا ينبغي أن يجعلنا هذا التصرف من بلدوين أن نفهم أن سلطان الكنيسة ذهب بالكلية عند قيام حكومة علمانية ملكية في بيت المقدس ، بل ظل للكنيسة نفوذ كبير ، وإن كان في معظمه نفوذ بعيد عن سلطة أخذ القرار السياسي، وإنما هو نفوذ اقتصادي واسع ؛ فقد تميزت الأديرة والكنائس في الإمارات الصليبية بوفرة الثروة وإتِّساع الأملاك ، ويكفي أن نعرف أن دير جبل صهيون في بيت المقدس - على سبيل المثال - إمتلك في سنة (583هـ) 1178م حيًّا بأكمله في مدينة القدس ذاتها ، وكذلك كان لنفس الدير ممتلكات وأراضٍ وبساتين وأسواق في عسقلان ويافا ونابلس وقيسارية وعكا وصور وأنطاكية وقليقية ، بل إن الدير نفسه كان يملك ضياعًا وأملاكًا في أوربا : في صقلية ، وإيطاليا ، وفرنسا ! ولا شك أن هذه الأملاك الواسعة أثارت حقد النبلاء والأمراء ، خاصةً أن أملاك الكنيسة كانت مُعفاة من الضرائب ، وكان رجال الكنيسة معفيين من الخدمة العسكرية كذلك ، فهذا رفع تساؤلات ضخمة في أذهان الأمراء الذين ما شعروا أن للدين أثرًا في حياتهم يوازي هذه المكانة الضخمة التي تتمتع بها الكنيسة ، ومع ذلك فهذا واقع كان لا بد من قبوله ، ولم يثر عليه عامة الأوربيين إلا بعد عدة قرون !

وهكذا بينما نحن نتحدث عن إستقرار الأوضاع الداخلية في الإمارات الصليبية كانت الأحوال تزداد سوءًا في الإمارات الإسلامية ! ولم يقف الحد عند النزاع بين الإمارات بعضها وبعض ، وإنما وصل إلى النزاع الداخلي في كل إمارة ، وليس أدل على ذلك مما حدث في الموصل في (495هـ) أواخر سنة 1102م عندما مات كربوغا أمير الموصل ، فتنازع الملك في الموصل بعده إثنان هم سنقرجة وموسى التركماني ، فقُتل سنقرجة في النزاع وتولى موسى التركماني ، ليُقتَل بعد قليل على يد جكرمش الذي تولى إمارة الموصل ، ولن يدوم الأمر له طويلاً بل سيظهر من ينافسه وهكذا !!

إنه في ظل هذه الأوضاع المتردية ، من غياب الشرع في حياة الناس ، وحب السلطة والتملك ، وذهاب الوحدة، وانفصام العروة ، كان لا بد للكيان الصليبي أن يُزرع في داخل قلب الأمة الإسلامية ! ولا عجب إن قلنا إنه في أثناء هذا الصراع في الموصل ، وفي (495هـ) أواخر سنة 1102م سقطت مدينة اللاذقية - وهي ميناء شامي في غاية الأهمية - في يد تانكرد أمير أنطاكية بعد حصار سنة ونصف تقريبًا، دون أن يتحرك لها أحد من المدن القريبة : حلب أو حماة أو حمص، وهكذا صار لإمارة أنطاكية واجهة عريضة على البحر سهَّلت لها بعد ذلك - ولمدة عشرات السنين - وصول الإمدادات البحرية من أوربا ؛ مما أسهم في طول بقائها وإستقرارها .

ولعل من الأحداث التي رأيناها في سنة (496هـ) 1103م ما يدلنا أيضًا على تردِّي الأخلاق بدرجة كبيرة عند زعماء المسلمين، فلم تكن القضية - كما كانت في الموصل - نزاعًا على كرسي الحكم فقط، بل وصل الأمر عند البعض إلى المخاطرة بكل مصالح المسلمين من أجل حفنة من دنانير ، أو إتفاقية تعاون مشترك مع الصليبيين !

من هذا ما حدث في سنة (496هـ) أوائل 1103م من تفاوض بشأن الأمير الأسير بوهيموند النورماني ، والذي ظل كما نعرف في قبضة الملك غازي كمشتكين ثلاث سنوات كاملة حتى الآن ، وكان حبيسًا في قلعة نكسار الحصينة على ساحل البحر الأسود في شمال آسيا الصغرى .

لقد أراد بلدوين دي بورج أمير الرها بالاشتراك مع برنارد بطرك أنطاكية أن يسعى لتحرير بوهيموند من الأسر ، وذلك لخشية بلدوين دي بورج من أحلام تانكرد التوسعية ؛ ولما كان بلدوين دي بورج يعلم أن الحل العسكري لن يجدي في هذه القضية ، خاصةً أن أخبار الحملة الصليبية الفاشلة في سنة (494هـ) 1101م لا يمكن أن تُمحى من الذاكرة ، أراد بلدوين دي بورج أن يحل الموقف سياسيًّا ، فدعا إلى مباحثات مشتركة مع الملك غازي كمشتكين أمير الدانشمند لينظر فيما يطلب لإطلاق سراح بوهيموند النورماني ، وتمَّ اللقاء فعلاً ، ودُرس الموقف، لكن لم يتوصل الفريقان إلى نتيجة حاسمة .. في ذلك الوقت علم الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين بهذه المفاوضات ، وكان الإمبراطور البيزنطي يكره بوهيموند كراهية شديدة ، ويشعر أنه لعب به ، وأغراه بالصداقة والولاء والتبعية ، ثم تنكَّر لكل ذلك وإمتلك أنطاكية ، بل تجرأ تابعه وإبن أخته تانكرد على أخذ مدن أذنة والمصيصة وطرسوس في أقليم قليقية شمال أنطاكية ، ثم أخيرًا أسقط تانكرد اللاذقية المتنازع عليها بين الصليبيين والبيزنطيين ، وبذلك ضربت كرامة الدولة البيزنطية في الأعماق ، وخاصةً أن تاريخ بوهيموند في عدائه للبيزنطيين طويل ، ويسبق الحروب الصليبية بسنوات عديدة ؛ ولذلك لما علم الإمبراطور البيزنطي بهذه المفاوضات قرر أن يدخل في اللعبة السياسية ويتفاوض مع الملك غازي على بوهيموند ، وبالفعل تقدم بعرضٍ في غاية السخاء قيمته مائتان وستون ألف دينار في مقابل تسلُّم بوهيموند النورماني ! وكان الإمبراطور البيزنطي لا يريد فقط الانتقام من بوهيموند ، بل كان ينوي أن يفعل ما لم يفكر المسلمون أن يفعلوه طيلة السنوات الثلاثة التي إمتلكوا فيها أمر بوهيموند ، فقد كان يريد أن يساوم النورمان في أنطاكية على بوهيموند ، ومن ثَمَّ يستطيع إمتلاك مدينة أو عدة مدن نظير إطلاق بوهيموند ، ولا شك أن الإمبراطور البيزنطي كان يعلم قيمة بوهيموند عند النورمان ، وليس أدل على ذلك من توجه الحملة الصليبية التي أتت في سنة (494هـ) 1101م بكاملها لنجدة بوهيموند ، لولا أنها هلكت كما تبيَّن لنا .

وجاء العرض مغريًا جدًّا للملك غازي كمشتكين بن الدانشمند ! إنه لا يقاتل إلا من أجل التملك والتوسع وتكثير الأموال والثروات، وها هو مبلغ هائل سيدخل جيبه دون جهد يذكر !

إن الأمر يستحق فعلاً أن يُعطى جانبًا كبيرًا من التفكير!! ومن علم أيضًا بأمر هذه المفاوضات ؟!! ... لقد علم بها القائد السلجوقي الشهير قلج أرسلان ، وهو الذي يقود البيت التركي الثاني في أرض آسيا الصغرى ، وهو الذي ورث هو وإخوانه العداء مع بيت بني الدانشمند ، فسال لعابه لهذه الثروة الطائلة التي ستدخل عما قريب لخزينة الدانشمنديين ، فأرسل من فوره رسالة إلى الملك غازي يطالب فيها بنصف المبلغ عند تسلُّمه وذلك نظير المساعدة التي قدمها قلج أرسلان في سنة (494هـ) 1101م للملك غازي في حربه ضد الحملة الصليبية .

إنها لم تكن حربًا لله إذن !

إن الحرب كانت دفاعًا عن الوجود والسلطة ، وهي أيضًا طلبًا للمال والثروة ، أما المعاني الإسلامية الرفيعة من إخلاص وتجرد ونصرة للدين وحب للجنة وجهاد في سبيل الله ، فهذه ليست لها مكانة في قلوب زعماء ذلك الزمن !

وفكر الملك غازي في طلب قلج أرسلان، إنه بذلك لن يحصل إلا على مائة وثلاثين ألف دينار، وهذا وإن كان مبلغًا كبيرًا جدًّا، إلا أنه يطمع في الأكثر والأكثر، ثم إنه لا يقبل أن يرضخ لطلب من طلبات قلج أرسلان .

إنه في حيرة حقيقية من أمره !! وفي هذه الأثناء تدخل طرف آخر في المفاوضات ؛ لقد تدخل بوهيموند نفسه ! ولا شك أنه في ظل هذا الفساد سيكون هناك من يتطوع في نقل الأخبار إلى بوهيموند في سجنه نظير وعد بمال أو إقطاع أو غير ذلك ، وإزاء هذه العروض من الإمبراطور البيزنطي والسلطان قلج أرسلان ومحاولات بلدوين دي بروج تقدَّم بوهيموند للملك غازي بعرضه !!

لقد قال له بوهيموند : إن الأمبراطور البيزنطي عدو مشترك لنا جميعًا ، فهو يتنازع مع الجميع من أجل الحصول على مدن آسيا الصغرى ، وكذلك قلج أرسلان هو عدو لنا جميعًا ! هكذا ! فأطماع قلج أرسلان في آسيا الصغرى تتعارض - ولا شك - مع أطماع بوهيموند ، وأيضًا مع أطماع الملك غازي ، وعليه فإن تسليم بوهيموند إلى الإمبراطور البيزنطي أو إعطاء المال لقلج أرسلان سوف يضر بمصالح غازي قبل أن يضر بالأمير بوهيموند ، وعلى هذا فالعرض الذي يتقدم به بوهيموند هو جمع مبلغ مائة ألف دينار من إمارة أنطاكية وأصدقائها، وإعطاء هذا المبلغ للملك غازي كفدية ، إضافةً إلى تعاهدٍ بين الفريقين : الملك غازي والأمير بوهيموند على التعاون المشترك بعد ذلك في القضايا السياسية والاقتصادية والعسكرية، وتصبح إمارة أنطاكية الصليبية دولة صديقة لإمارة بني الدانشمند المسلمة ! إنه عرض في غاية الإغراء للملك الطموح غازي بن الدانشمند !! ,, إنه أولاً سيأخذ مبلغًا من المال في غاية الضخامة ؛ نعم هو أقل من عرض الإمبراطور البيزنطي ، لكنه في النهاية مبلغ كبير جدًّا ، ويكفي لنعرف حجمه أن ندرك أن إمارة أنطاكية بمفردها لم تستطع أن تجمع المبلغ ، بل إستعانت بإمارة الرها وبعائلة بوهيموند في صقلية ، ويكفي أن نعرف أيضًا أنه عندما يتم أسر بلدوين دي بورج لاحقًا ستكون الفدية خمسة ألف دينار فقط !

وثانيًا هو لن يساهم في تقوية شأن الإمبراطور البيزنطي الذي ينافسه على أرض آسيا الصغرى .

وثالثًا ستكون هذه طعنة مباشرة لقلج أرسلان عدوه اللدود .

ورابعًا سيفوز الملك غازي بصداقة الأمير الأسير بوهيموند ، وستقوم علاقات دبلوماسية مهمة مع الإمارة الصليبية أنطاكية .

وإزاء هذا العرض المغري وجد الملك غازي نفسه لا يستطيع الرفض ، ومن ثَمَّ قرر أن تتم الصفقة في ملطية ، وكانت تحت سيطرة الملك غازي في ذلك الوقت .

ووصلت الأخبار إلى أنطاكية ، وأسرع رجال بوهيموند بالاشتراك مع بلدوين دي بورج أمير الرها، وكذلك مع بعض الأثرياء من الصليبيين، إضافةً إلى عائلة بوهيموند في صقلية إلى جمع المبلغ المطلوب، وفي سنة (496هـ) أوائل مايو 1103م تمت الصفقة ، وأطلق سراح بوهيموند ، وتسلم الملك غازي المبلغ بعد أن تبادل مع بوهيموند الأيمان بحفظ الصداقة والمودة ، والتعاون المشترك المخلص في المستقبل !

وجنَّ جنون قلج أرسلان ! لقد ضاعت منه ثروة طائلة ! إنه لم يكن يمانع أن يطلق سراح بوهيموند إلى ألكسيوس كومنين، وكأن ألكسيوس كومنين هذا صديق للمسلمين ، لا مانع من إعطائه أسباب قوة ، ولكنه الآن يمانع من إطلاق بوهيموند دون أن يقبض هو جزءًا من الثمن !

وماذا فعل قلج أرسلان ؟! لقد أعلن الحرب على غازي كمشتكين ؛ لتشتعل بذلك النار بين المسلمين في آسيا الصغرى ، بل إنه أرسل إلى الخليفة العباسي وإلى السلطان بركياروق يستعديهما على الملك غازي ، مع أنه لم يكن يعتبر مطلقًا بوجودهما ، ولكنه الآن يستخدم كل الأوراق السياسية !

لكن الأخطر من الصراع الذي دار بين قلج أرسلان والملك الغازي هو أن إطلاق سراح بوهيموند كان كارثة ضخمة حلَّت على المسلمين ؛ لأنه عاد إلى أنطاكية فإستقبل إستقبالاً حافلاً ، وقويت به - كما يقول ابن الأثير - نفوس أهلها به ، ومن ثَمَّ خرج بوهيموند بحماسة لينتقم من المسلمين بعد أن أُسر لديهم أكثر من ثلاث سنوات .

وبدأ بمهاجمة البلاد التابعة لحلب ، وفرض الجزية على مدينة قنسرين ، وهاجم المسلمين الذين يعيشون على نهر قويق شمال حلب فمزقهم تمزيقًا ، وفرض على من بقي منهم الأموال الباهظة ، بل إنه فرض على حلب نفسها الجزية من المال والخيل ، وأجبرها على إطلاق سراح أي أسير صليبي .

لقد كانت كارثة حقيقية حلت على المسلمين ! لقد كانت كارثة إقتصادية وسياسية وعسكرية ، وقبل كل ذلك كارثة أخلاقية شرعية وكارثة فُرقة مقيتة عانت منها الأمة عدة سنوات مقبلة .
والثمن ؟!! مائة ألف دينار ، وحلف مع إمارة أنطاكية الصليبية !! ولعل التدبُّر في مثل هذه القصص ، ورؤية تفاصيل مثل هذه المواقف والأحداث يعطينا تفسيرًا واضحًا لسيطرة الصليبيين على بقاع إسلامية كثيرة ، على الرغم من كثرة أعداد المسلمين ووفرة أموالهم وقوة حصونهم ؛ فإننا أبدًا لا نُهزم لقوة أعدائنا ، ولكن لضعفنا وبُعدنا عن شرع الله، وسُنة الله لا خلف لها !













آخر مواضيعي 0 حلمي لأيامي الجايه
0 صفات الله الواحد
0 عيش بروح متفائله ونفس مؤمنه
0 إبتهال قصدت باب الرجا
0 كونى انثي
رد مع اقتباس
قديم 06-03-2011, 11:36 PM رقم المشاركة : 15
معلومات العضو
marmer

الصورة الرمزية marmer

إحصائية العضو








marmer غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية







رسم تخيلي لاسوار مدينة انطاكية الحصينة






آخر مواضيعي 0 حلمي لأيامي الجايه
0 صفات الله الواحد
0 عيش بروح متفائله ونفس مؤمنه
0 إبتهال قصدت باب الرجا
0 كونى انثي
رد مع اقتباس
قديم 06-03-2011, 11:36 PM رقم المشاركة : 16
معلومات العضو
marmer

الصورة الرمزية marmer

إحصائية العضو








marmer غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

نور من شمال العراق !!


لقد مرت بنا كما رأينا لحظات عصيبة سواء في الشام أو آسيا الصغرى ، ورأينا الإحتلال البغيض يضرب جذوره هنا وهناك ، ورأينا تخاذلاً كبيرًا من المسلمين ، وتهاونًا شنيعًا في الحقوق والمقدسات ، وحتى عندما رأينا نصرًا على الصليبيين ، كذلك الذي حدث في سنة (494هـ) 1101م رأينا خلفه صراعًا على الأرض بل حربًا معلنة بين الزعيمين المسلمين قلج أرسلان وغازي بن الدانشمند !

ولقد كان الوضع في الشام أكثر ترديًا من الوضع في آسيا الصغرى ، فلم نألف مقاومة ولا دفاعًا ، بل رأينا التسليم والإذعان وطلب المودة والصداقة مع زعماء الصليبيين ، مع كل ما إرتكبوه من مجازر ومذابح راح ضحيتها عشرات الآلاف من المسلمين ، بل يزيد , لكن هل يأتي زمانٌ على الأمة الإسلامية ينقطع فيه الخير، فلا يبقى مصلح ، ولا يظهر تقي ؟! إنَّ هذا أبدًا لا يكون !!

والذين يدعون إلى هذا اليقين ليس مجرد استنباط من حقائق التاريخ ، أو مجرد أمل ينقصه الدليل ، إنما هو وعدُ حقٍّ بشرنا به رسولنا حين قال : " لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ" .

فالخير لا ينقطع من الأمة أبدًا ، ولا بد له من ظهور وسيادة ، وسيظل هناك دومًا من يحمل الراية ، ويحض على الفضيلة ، ويتمسك بالشرع ، ويحب الجهاد ، وسيظل هناك دومًا من يسعى إلى تحرير الأرض ، وحفظ العرض ، وردِّ الحق ، ولن يأتي زمان أبدًا تموت الهمة فيه أو تختفي , نعم وقد تضعف وتخبو ، ولكنها تظل دومًا باقية .

والذي ينظر إلى الأحداث أيام الحروب الصليبية يرى أمرًا لا يخفى على دارس ، وإن كان لم يأخذ نصيبه من التحليل والفقه .

وهذا الأمر هو كل حركة جهادية ، أو دعوة إصلاحية في هذه الفترة كانت تخرج من منطقة شمال العراق ! هذا في الوقت الذي خفتت فيه إلى حد كبير دعوات الجهاد في الشام ومصر وآسيا الصغرى ، فهل هذه حقيقة ؟ وإن كانت كذلك فما السر وراءها ؟ إننا رأينا في ثنايا القصة خروج كربوغا أمير الموصل في جيش كبير لنجدة أنطاكية عند حصارها سنة (490هـ) 1097م ، ورأينا حصاره لإمارة الرها وهو في طريقه لأنطاكية ، ورأينا سعيه إلى جمع أمراء الشام في حرب مشتركة ضد الصليبيين ، ورأينا كيف خذلوه وتخلوا عنه ، كلٌّ منهم بسبب أو عذر ، ولهذا لم يكتب لحملته النجاح كما رأينا ، لكنه على العموم كان الوحيد الذي قطع المسافات لحرب الصليبيين .

وسنرى بعد قليل غيره وغيره ممن سيحمل راية الجهاد ضد الصليبيين ، بل سيخرج من نفس المكان عماد الدين زنكي ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي، وهم جميعًا أغنياء عن التعريف أو الوصف .

لماذا حدث كل هذا في هذا المنطقة، ولم نره في بلاد الإسلام الأخرى ؟!إننا لكي نفقه هذه الملاحظة لا بد لنا من العودة إلى التاريخ القريب لهذه المناطق ، وندرس الفارق بينه وبين تاريخ المناطق الأخرى ، ومن ثَمَّ نستطيع أن نفهم جذور هذه الحركات الجهادية والإصلاحية .

إننا إذا عدنا إلى منتصف القرن الخامس الهجري - أي قبل الحروب الصليبية بخمسين سنة تقريبًا - سنجد طغرل بك زعيم السلاجقة السني يدخل بغداد مخلِّصًا إياها من الحكم الشيعي المستبد والمتمثل في بني بويه ، وذلك بالتحديد في سنة (447هـ) 1055م , وكان طغرل بك - كما يصفه اإبن الأثير - حليمًا عاقلاً من أشد الناس احتمالاً ، وكان يقول عنه أيضًا : "وكان رحمه الله يحافظ على الصلوات ، ويصوم الاثنين والخميس" .

ثم ملك من بعده إبن أخيه البطل الإسلامي الفذ ألب أرسلان الذي ملأ الدنيا عدلاً ورحمة وجهادًا وعلمًا ، ويصفه ابن الأثير بكلام جليل فيقول : " وكان كريمًا عادلاً عاقلاً ، لا يسمع السعايات (أي الوشايات)، وإتسع ملكه جدًّا ، ودان له العالم ، وبحقٍّ قيل له سلطان العالم ، وكان رحيم القلب ، رفيقًا بالفقراء ، كثير الدعاء ، وكان شديد العناية بكفِّ الجند عن أموال الرعية " .

رجل كهذا كان يحكم بلاد المسلمين ، وكان مركز حكمه وسلطانه في منطقة فارس والعراق ، وشمل عدله كل هذه الديار ، وحقَّق نصرًا غاليًا على الدولة البيزنطية في موقعة ملاذكرد سنة (463هـ) 1070م ، ما زالت الدنيا تتحدث عنه إلى يومنا هذا ، ولا شك أن هذا ترك أثرًا لا ينسى في شعبه ، وعلَّمه قيمة الجهاد في سبيل الله وأثره .

ولم يكن ألب أرسلان وحده هو الذي يربِّي هذا الشعب ، بل أنعم الله عليه بوزير من أعظم الوزراء في تاريخ الإسلام ، وهو من بطانة الخير التي تحض دائمًا على الخير ؛ قال رسول الله : "مَا إسْتُخْلِفَ خَلِيفَةٌ إِلاَّ لَهُ بِطَانَتَانِ : بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ" .

هذا الوزير العظيم هو نظام الملك الطوسي الذي كان من العلماء الأجلاء ، ومن المدافعين عن الشريعة والسنة ، ومن المحفِّزين على الجهاد والبذل، ومن الأشداء في الحق ، الرحماء مع الرعية ، وكان مثالاً يُحتذى في كل مكارم الأخلاق ، وكان إهتمامه بالعلم جليلاً وعميقًا ، وظل وزيرًا لألب أرسلان حتى وفاة ألب أرسلان في (465هـ) 1072م ، ثم صار وزيرًا لإبنه ملكشاه الذي إتسع ملكه حتى وصل إلى الصين والهند شرقًا ، وإلى الدولة البيزنطية والشام غربًا ، وكان ملكشاه على نهج أبيه ألب أرسلان محبًّا للعلم ، موقِّرًا للعلماء ، مقدِّرًا لقيمة الوزير الجليل نظام الملك ، حتى إنه قال له عند بداية حكمه : " قد رددت الأمور كلها كبيرها وصغيرها إليك ، فأنت الوالد " .

ثم إن نظام الملك أسدى للأمة الإسلامية فائدة عظيمة هي من أجلِّ أعماله ، إذ قام بإنشاء عدد كبير من المدارس في كل أنحاء الدولة نسبت إليه ، فعرفت بالمدارس النظامية (نسبةٌ إلى نظام الملك) ، وهي نوع من المؤسسات العلمية التي هُيِّئ فيها للطلاب أسباب العيش والتعليم ، حيث كان يجري فيها على طلبة العلم الرواتب الشهرية ، وكان يهتم بجلب أكابر العلماء للتدريس فيها، فدرَّس فيها مشاهير الفقه والحديث وسائر العلوم ، وكان من أهمِّ أدوارها مقاومة المد الشيعي ، والفكر الباطني الذي كان منتشرًا في كثير من البلاد آنذاك ، وعلى قمة البلاد التي كانت تحت الحكم الشيعي آنذاك مصر والشام .

وظل الوضع على هذه الصورة حتى قُتل نظام الملك سنة (485هـ) 1092م على يد الشيعة الإسماعيلية الباطنية ، أي قبل الحروب الصليبية بست سنوات فقط .

ومن الجدير بالذكر أن السلطان العظيم ملكشاه تُوفِّي بعد وزيره نظام الملك بأكثر من شهر بقليل ! ولا أشك أنهما لو كانا في زمان الحروب الصليبية ما تركا بلاد المسلمين تنهب على هذه الصورة ، ولكن قدَّر الله وما شاء فعل ، ورحمهما الله رحمة واسعة .

ولكن إن ذهب هؤلاء العظماء فإن أثرهما لم يذهب، فإنهما أورثا البلاد التي كانت تحت حكمهم حب الشريعة والدين ، ولعل من أبرز المعاني التي ارتفعت في زمانهما معنيين : العلم والجهاد ، ولا ترفع أمة إلا بهما ، ولا تذل أمة إلا بتركهما ، وهي معاني لا تزول بسرعة ، بل تظل محفورة في الأذهان حتى بعد موت الداعي لها بزمان وزمان .

كان هذا هو الحال في منطقة فارس والعراق وما حولها ، وهو ما عرف في التاريخ بدولة السلاجقة العظام ، والتي ورثها بعد موت ملكشاه إبنه بركياروق الذي كان حليمًا كريمًا صبورًا عاقلاً إلا أنه لم يكن على مستوى أبيه وجَدِّه ، وكثرت في عهده الفتن والصراعات ، وفي عهده دخل الصليبيون أرض الإسلام ، ومع كثرة إنشغاله في الصراعات الداخلية فإنه لم يتردد في إرسال كربوغا أمير الموصل لنجدة أنطاكية كما مر بنا .

وإذا كنا نذكر أن هذا هو حال البلاد التي كانت تحت حكم السلاجقة العظام بصفة عامة، فإننا نذكر أن معظم الحركات الجهادية والإصلاحية كانت تخرج من شمال العراق ؛ وذلك لأنها أقرب الإمارات للشام وآسيا الصغرى ، فإمارة الرها تقع في غرب إمارة الموصل وفي جنوبها ، وعلى هذا فقد تحمَّل شمال العراق عبء إخراج المجاهدين والعلماء إلى هذه البلاد المنكوبة ، بينما كانت جهود بقية بلاد السلاجقة العظام التي تتمثل في فارس وما حولها ، موجهةً إلى شرق العالم الإسلامي لمواجهة الاضطرابات الناجمة عن الوثنيين من الأتراك أو الهنود .

ومما يلفت الأنظار أيضًا في هذه البلاد في شمال العراق أن الشعب نفسه كان مقدِّرًا لقيمة العلماء ، وكان قادرًا على تقييم الحاكم في ضوء الشريعة ، فيقف إلى جوار من ينصر الشرع والدين ، ويقف في وجه من يظلم ويتجاوز حدود الشريعة .

ولنا أن نضرب مثلاً من حياة العلماء في منطقة شمال العراق لنرى قيمتهم وأثرهم ، وليكن هذا المثل هو العالم الجليل (عديّ بن مسافر) .

ولعل الكثير من المسلمين لم يسمع عنه أصلاً، ولكنه كان من العلماء الأفذاذ الذين عاصروا بدايات الحروب الصليبية ، وكان يعيش في منطقة شمال العراق عند جبال هكار بين قبائل الأكراد الهكارية ، وكان هذا العالم كما يقول ابن تيمية : " كان رجلاً صالحًا ، وله أتباع صالحون " , بل يقول عبد القادر الجيلاني في حقه كلمة عجيبة حيث قال: "لو كانت النبوة تنال بالمجاهدة ، لنالها الشيخ عدي بن مسافر !" .

وكان الشيخ عدي قد بنى له مدرسة يُعلِّم الناس فيها ، وكما يقول ابن كثير : "فأقبل عليه سكان تلك النواحي إقبالاً هائلاً ؛ لما رأوا من زهده وصلاحه وإخلاصه في إرشاد الناس". ويقول ابن خلكان: "وسار ذكره في الآفاق، وتبعه خلق كثير" , بل يذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء أن دعوة الشيخ عدي أدت إلى إنتشار الأمن في تلك المنطقة ، وإرتدع مفسدو الأكراد وتابوا .

وهذا مجرد مثال لتقدير الشعب لقيمة العلماء، ولفقههم لأهمية الشريعة ، وهذا انعكس بدوره على تفاعلهم مع القادة العسكريين والسياسيين ، فمن كان منهم معظِّمًا للشريعة مطبِّقًا لها ، كان مطاعًا عندهم ، محبوبًا إلى قلوبهم ، ومن كان غير ذلك كان مكروهًا مذمومًا يتحين الجميع فرصة لعزله وإقصائه , إنها طبيعة شعب يُرجى من ورائه خيرٌ كثير .

وإذا كان بروز السلاجقة واضحًا جدًّا في هذه المنطقة ، وأثرهم لا يغفل أبدًا ، فإن هناك من ظهر إلى جوار السلاجقة ، وأسهم معهم إسهامًا واضحًا في الحفاظ على روح الجهاد في سبيل الله ، ومن أهم هذه الطوائف الأراتقة والأكراد .

أما الأراتقة فهم من نسل أرتق التركماني ، وهو من قبائل الأتراك أيضًا ، وكان من القواد السياسيين البارزين لملكشاه السلطان السلجوقي العظيم ، وتقلد كثيرًا من المناصب كان آخرها ولاية بيت المقدس حيث تُوفِّي بها سنة (484هـ) 1091م ، تاركًا ولدين من بعده هما : سُقمان وإيلغازي ، اللذان حكما بيت المقدس لفترة وجيزة حتى سقط تحت الاحتلال العبيدي (الفاطمي)، وذلك أثناء الغزو الصليبي ، وتحديدًا في سنة (491هـ)\ 1097م ، مما جعلهما يرحلان إلى الشمال ، حيث ذهب إيلغازي إلى بغداد ليكون في خدمة السلطان السلجوقي بركياروق ، بينما إتجه سقمان إلى منطقة ديار بكر في شمال العراق ليؤسس هناك إمارة إسلامية تابعة للسلاجقة ، وأهم مدنها ماردين وحصن كيفا (في جنوب تركيا الآن) .

وكان لهذين الزعيمين نخوة إسلامية واضحة ، وكذلك لابن أخيهم بَلْك بن بهرام ، وكان لهم جميعًا أثرٌ في حروب الصليبيين ، سنراه مع تتابع الأحداث .

أما الأكراد فهم شعب عظيم من شعوب الإسلام ، ينتمي - غالبًا - في جذوره إلى مجموعة القبائل الهندو - أوربية ، والتي هاجرت إلى مناطق شمال العراق وجنوب تركيا وشرق إيران قبل الميلاد بألفي سنة .

وقد دخلت هذه القبائل الكبيرة في الإسلام منذ أيامه الأولى ، بحيث إنه لم تأتِ سنة 21 من الهجرة حتى دخل غالب الأكراد في الإسلام ، ومنذ الدخول الأول لهم في الإسلام فإنهم ظلوا على عهدهم من الحميَّة والنصرة لدين الله مهما تقلبت الأحوال أو تغيرت الظروف ، وكانوا في كل تاريخهم ملتزمين بالمنهج السُّني ، وغالبهم على المذهب الشافعي ، وحتى عندما سيطر بنو بويه الشيعية على الخلافة العباسية في القرنين الرابع والخامس الهجريين ، ظل الأكراد على منهجهم السني الأصيل ، وعاطفتهم الإسلامية القوية ؛ لذلك لم يكن مستغربًا أبدًا أن تأتي النصرة من بلادهم ، وأن يخرج نجم الدين أيوب وأسد الدين شيركوه وصلاح الدين الأيوبي والملك الصالح نجم الدين وغيرهم من أصلاب هذه الأسرة الكريمة .

كان هذا الوضع في منطقة شمال العراق ، وهو ما يفسر ظهور الحركات الجهادية والإصلاحية من هذه البقاع ، ولا شك أننا نلاحظ أن كل ما ذكرناه من أسماء وقبائل كان من أصول غير عربية ، بل إن المغيِّرين في قصتنا بكاملها من العرب سيكونون قلة قليلة جدًّا ؛ وهذا ليس تقليلاً من شأن العرب ، ولكنه ذكر لتاريخ وواقع ، وهو في نفس الوقت تعظيم للإسلام الذي صهر كل هذه الأنواع البشرية والأجناس المتباعدة في بوتقة واحدة ، فجاء السلاجقة والأراتقة والأكراد ليرفعوا راية هذا الدين ، ويعزوا أمره متناسيين تمامًا أن نبي هذه الأمة عربي ، وأن الخلافة كانت في العرب !! بل إن غالب المسلمين في ذلك الوقت كانوا من غير العرب، بل إن غالبهم في زماننا نحن الآن من غير العرب أيضًا ، فالعرب لا يمثلون في المسلمين الآن إلا نسبة 25% فقط ، وكذلك كانوا في التاريخ بعد زمان أبي بكر الصديق ، وبدءًا من زمان عمر بن الخطاب حيث إنتشر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها ، ولهذا لا عجب أن نجد أن معظم المغيِّرين والمجددين في تاريخ الإسلام ليسوا عربًا ، وليس على سبيل الحصر أن نذكر أسماء طارق بن زياد ، وألب أرسلان ، ويوسف بن تاشفين ، وعماد الدين زنكي ، ونور الدين محمود ، وصلاح الدين الأيوبي ، وقطز ، ومحمد الفاتح ، وكلهم كما هو معلوم ليسوا من العرب ، وكذلك في مجال العلوم ، بل في مجال العلوم الشرعية، وليس أدل على ذلك من ذكر أصحاب كتب الحديث المشهورين ، فأعظمهم ستة ، هم أصحاب ما يعرف بأمهات الحديث ، وليس مستغربًا أن نجد أن خمسة من هؤلاء الستة ليسوا عربًا ، وهم البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وإبن ماجه ، ويبقى أبو داود وحده ممثِّلاً للعرب !







آخر مواضيعي 0 حلمي لأيامي الجايه
0 صفات الله الواحد
0 عيش بروح متفائله ونفس مؤمنه
0 إبتهال قصدت باب الرجا
0 كونى انثي
رد مع اقتباس
قديم 06-03-2011, 11:37 PM رقم المشاركة : 17
معلومات العضو
marmer

الصورة الرمزية marmer

إحصائية العضو








marmer غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

إن هذا دليل واضح على عظمة هذا الدين وقدرته على التأثير في عقول الناس وقلوبهم ، وطبيعته التجميعية لشتات الشعوب ، ويا لخسارة المسلمين لو جاء عليهم زمان يعلون شأن القومية فوق الإسلام ، ويتجمعون على أواصر النسب والدم لا على أواصر العقيدة والدين !

هذا هو حال شمال العراق أيام الحروب الصليبية !! فكيف كان حال الشام التي إبتليت بالإحتلال الصليبي ؟!

إن بلاد الشام ، وأيضًا مصر ، قد نكبت بالإحتلال العبيدي البشع بداية من سنة (359هـ) 969م ، ولم يرفع عنها إلا عندما جاء السلاجقة وأخرجوا العبيديين في (477هـ) 1084م ، أي بعد أكثر من مائة سنة كاملة , أما في مصر فقد استمر حكمهم لها مائة سنة أخرى ، ولم ينتهِ إلا في سنة (567هـ) 1171م ؛ وفي هذه السنوات الطويلة فرَّغ العبيديون البلاد المحتلة من علماء السنة ، ونشروا البدع ، ومنعوا التعليم الإسلامي الصحيح ، ولم تكن لهم أبدًا قضايا جهادية ، بل كانوا يحاربون المجاهدين ويؤذونهم ، ويحالفون أعداء الأمة ويصادقونهم ، وقد رأينا طرفًا من أعمالهم ومفاوضاتهم مع الصليبيين ؛ وفي وسط هذا الجو الكئيب كان لا بد للشعب أن يخرج رخوًا مائعًا لا قضية له ! إنه حُرِم من العَالِم الذي يدله على الطريق ، وحُرِم من المجاهد الذي يكون له قدوة ، ولم يكن هذا لعام أو عامين ولكن لقرن كامل في الشام ، وقرنين كاملين في مصر ؛ ولذلك لم يكن متوقعًا من هذه البلاد أن تحمل على أكتافها قضايا المسلمين ، حتى لو كانت هذه القضايا هي قضاياهم شخصيًّا !! فالأموال المنهوبة أموالهم ، والديار المهدَّمة ديارهم ، والأرواح التي أزهقت هي أرواح أبنائهم وإخوانهم وعشيرتهم ! ثم إن الذي حرر الشام من العبيديين كان ظالمًا مثلهم ، وإن كان سنيًّا !

فالذي تولى أمر الشام من السلاجقة هو تُتش بن ألب أرسلان ، وكان على النقيض تمامًا من أبيه ألب أرسلان أو أخيه ملكشاه بن ألب أرسلان ، والله ضرب لنا ابن نوح مثلاً لنفهم هذا التضارب في الشخصيات والأخلاق .

لقد كان تتش ظالمًا مستبدًا ، لا يهتم إلا بكرسيه ، ولا ينظر إلا لمصالحه ، ولا يسمع لرأي إلى جوار رأيه ، ولا يعتبر بأرواح شعبه ولا أموالهم ، ولا يحترم روابط دين أو عقيدة ، ولا روابط دم أو نسب ، فقطَّع علاقاته مع الناس أجمعين ، وحارب هذا وذاك ، حتى وصل به الأمر أن حارب بركياروق ابن أخيه ملكشاه بعد وفاة ملكشاه ! وكل ذلك طمعًا في توسيع رقعة ملكه ؛ أملاً في زيادة ثروته .

وكان من الطبيعي لشعب رُبِّي في هذا الجو الملبد بالظلم والقهر أن يخرج خانعًا خاضعًا ذليلاً ، يُقاد بالسياط ، ويقبل بإنتهاك الحرمات ، ويألف ضياع الحقوق , ولذلك لم يكن الصليبيون يختلفون كثيرًا في حسابات الشعب عن تتش بن ألب أرسلان أو عن العبيديين ، بل إن بعض أفراد الشعب كانوا يتعاونون مع الصليبيين بغية طعام أو شراب أو مال أو إقطاع .

ولم يختلف الحال كثيرًا بعد وفاة تتش مقتولاً في سنة (488هـ) 1095م؛ إذ قسمت الشام إلى نصفين بين ولديه رضوان ودقاق ، فأخذ رضوان حلب ، وأخذ دقاق الشام ، وهما لم يختلفا في كثير أو قليل عن أبيهما ، فقد ورثا عنه الظلم وسوء الأخلاق ، فكانا وبالاً على شعوبهما ، بل وعلى عامة المسلمين ، بل إن رضوان بن تتش جمع إلى جوار ظلمه ظلمَ العبيديين ، فتشيَّع وقرَّب الباطنية الإسماعيلية المجرمة ، وحرضهم على جرائمهم المنكرة بغية إرهاب الناس وتثبيت ملكه , ولقد مرَّ بنا في هذه القصة - حتى الآن - جريمتان من إرتكابهما ؛ الأولى كانت مقتل الوزير العظيم نظام الملك سنة (485هـ) ، والثانية كانت مقتل جناح الدولة حسين بن ملاعب زوج أم رضوان بن تتش بتحريض من رضوان بن تتش نفسه ، وذلك في سنة (495هـ) .

وهكذا - بالتحليل السابق - فإنه ينبغي أن نتوقع في غضون الأيام والسنوات القادمة أن تهب حركة جهادية إصلاحية من شمال العراق ، وأن يكون تفاعل الشعب معها في الشام ضعيفًا في البداية إلى أن تتغير الأجيال التي تربَّت على الذل والقهر ، والبُعد عن الدين والشرع ، وعندها سيكون لهم شأنٌ كبير في تغيير الواقع الأليم !

هذا ما ينبغي أن نتوقعه ، وهذا ما حدث بالفعل ! وكان من أوائل بذور الخير ما رأيناه في سنة (496هـ) 1104م من تباشير حركة جهادية تهدف إلى مقاومة الصليبيين !

كيف كان ذلك ؟!

كان على رأس إمارة الموصل في ذلك الوقت جكرمش ، وقد صعد إلى كرسيِّ الحكم - كما ذكرنا - بعد فتنة حدثت بعد موت كربوغا أمير الموصل السابق ، وكان جكرمش شخصية ذات نزعة إسلامية واضحة، ورغبة في العدل والرحمة ، وقدرة على التعامل مع الناس ؛ ولذلك أحبَّه أهل الموصل وأطاعوه، غير أنه كانت له ميول إستقلالية ، خاصةً أن الصراع كان دائرًا بين السلطان بركياروق وأخيه السلطان محمد ؛ مما جعل أفكار الاستقلال بالموصل تراود خيال جكرمش ، وإن كان في الظاهر يدين بالولاء للسلطان بركياروق .

وفي نفس الوقت الذي رأينا فيه الاضطرابات في الموصل حدثت اضطرابات مماثلة في مدينة حرَّان ، وهي مدينة تقع إلى الجنوب الشرقي من إمارة الرها الصليبية وعلى بُعد 200 كم تقريبًا شمال شرق حلب ، وعلى نفس المسافة أو أكثر قليلاً شمال غرب الموصل ، فهي مدينة في موقع مهمٍّ جدًّا ؛ حيث إنها تسيطر على الطريق الذي يربط العراق بسوريا ، أو الذي يربط الموصل تحديدًا بحلب ، وقد حدثت فيها فتنة مماثلة لفتنة الموصل ، وقُتل فيها عدة ولاة في وقت قصير ، وتولى الأمر أخيرًا غلام تركي إسمه جاولي .

رأى الصليبيون هذه الأوضاع المتقلبة في حران والموصل ، فقرروا أن يستغلوا هذه الفرصة لتحقيق ضربة موجعة تحقق أغراضًا عدة للإمارات الصليبية الشمالية ، أعني الرها وأنطاكية .

لقد إتفق بلدوين دي بورج زعيم الرها بصحبة جوسلين دي كورتناي تابعه على مدينة تل باشر (وهي من أعمال إمارة الرها) مع بوهيموند أمير أنطاكية ، ومعه تانكرد ابن أخته ونائبه على أن يقوم الجميع بعمل عسكري مشترك في غاية الخطورة ، وهو الإستيلاء على مدينة حرَّان (في جنوب تركيا الآن) في خطوة مرحلية للإستيلاء بعد ذلك على مدينة الموصل ذاتها !

إنهم بذلك سيحققون أهدافًا في غاية الخطورة !

إنهم سيسقطون أولاً : مدينة حران الشهيرة بثرواتها الطبيعية ومزارعها الخصبة .

وثانيًا : سيقطعون الطريق بين العراق والشام، ومن ثَمَّ سيتعذر على المعونات العسكرية السلجوقية أن تأتي من العراق إلى مدينة الموصل التي تظهر فيها دعوات الجهاد ، والتي تتميز بصحوة إسلامية واضحة ، فلو سقطت الموصل ضُرب المسلمون بذلك في عمقهم .

ثالثًا : ستفتح حران بعد ذلك الطريق إلى الموصل ، والتي تظهر فيها دعوات الجهاد ، والتي تتميز بصحوة إسلامية واضحة ، فلو سقطت الموصل ضرب المسلمون في عمقهم .

ورابعًا : قد يفتح الطريق باحتلال الموصل إلى بغداد قلب العالم الإسلامي وعاصمة الخلافة ، ولا شكَّ أن سقوط بغداد سيزلزل العالم الإسلامي كله ، وقد يقع الجميع حينئذٍ تحت سيطرة الصليبيين .

وخامسًا : بالنسبة لبوهيموند ، فإنَّ السيطرة على حرَّان ستؤدي إلى حصر حلب بين أنطاكية من الشرق وحران من الغرب مما يسهِّل إسقاط حلب ، ومن ثَمَّ إنشاء دولة صليبية كبرى في شمال الشام بدلاً من إمارة أنطاكية الصغيرة .

إنها أهداف كبرى تجعل إسقاط حران حلمًا غاليًا عند الصليبيين ؛ ولذلك تكوَّن جيش صليبي كبير يضم كل قادة الصليبيين في المنطقة، حيث كان فيه بلدوين دي بورج وجوسلين دي كورتناي وبوهيموند وتانكرد ، إضافةً إلى عدد كبير من رجال الكنيسة في الرها وأنطاكية ، هذا إضافةً - طبعًا - إلى جيش كبير يقارب العشرين ألف مقاتل .

لقد كانت هجمة في غاية الخطورة ، خاصةً أن المدن الإسلامية المهمة في المنطقة - وهي الموصل وحران - خارجةٌ من فتنة كبيرة كما وصفنا ، إضافةً إلى أن العلاقات كانت مضطربة جدًّا بين جكرمش أمير الموصل وسقمان بن أرتق أمير حصن كيفا (إلى الشرق من حران) ؛ حيث كان سقمان مؤيدًا للأمير موسى التركماني الذي كان يتولى أمر الموصل قبل ثورة جكرمش عليه .

لقد تخير الصليبيون وقتًا حرجًا جدًّا ، وإنتصارهم في هذه الظروف قريب ! غير أن هناك أمرًا - ما حسب له الصليبيون حسابًا في ظل هذه الاضطرابات - حدث ؛ وغيَّر هذا الأمر جدًّا من موازين القوى في المنطقة ؛ لقد تبادل الزعيمان المسلمان جكرمش وسقمان بن أرتق الرسائل في وقت متزامن تقريبًا ، يدعو فيه كل زعيم أخاه إلى نسيان الخلافات القديمة والتعاون المشترك ضد الصليبيين ، وهذا رائع جدًّا أن تتم الوحدة بين المسلمين في ظروف الأزمات والنكبات ، ولكن الأروع في قصتنا هذه أن كلا الزعيمين أعلن هذه الوحدة ليست لتحقيق نصرٍ ، أو لتوسيع ملك ، أو لتكثير ثروة ، إنما هي لله !!

لقد جاء في رسالة كل واحد منهما للآخر ما رواه إبن الأثير حيث قالا : "إنني ما بذلت نفسي في هذا الأمر إلا لله تعالى وثوابه " .

وهذه هي المرة الأولى في قصة الحروب الصليبية التي نرى فيها راية الجهاد مرفوعة في سبيل الله ، وبتجرد واضح ؛ نعم الزمن زمن فتنة ، والقلوب متقلبة ، والأهواء مضطربة ، والنفوس قلقة ، ونوزاع الملك والسيطرة كثيرة ، والأحلام الشخصية موجودة ، ولكن - بحمد الله – ما زال في النفوس خير ، وما زال هناك من يعمل العمل إبتغاء مرضات الله .. وإنَّ من أروع ما في القصة أن تتزامن رسائل الزعيمين ، دلالةً على أن الله أراد بهما وبالمسلمين خيرًا .

إقترب الجيش الصليبي الكبير من حران ، وفرض عليها الحصار المحكم , وهو لا يعلم باتحاد الجيشين المسلمين للموصل وحصن كيفا ؛ ولذلك كانت مفاجأة كبيرة جدًّا للصليبيين أن ظهر في الأفق الجيش الإسلامي المتحد ، والمكوَّن من عشرة آلاف مقاتل ، منهم ثلاثة آلاف من العرب والسلاجقة والأكراد تحت قيادة جكرمش ، وسبعة آلاف تركماني تحت قيادة سقمان بن أرتق .

وفي سنة (497هـ) 7 من مايو 1104م دارت موقعة شرسة بين المسلمين والصليبيين ، وذلك على ضفاف نهر البليخ ..

وقاتل في هذه المعركة بلدوين دي بورج وجوسلين دي كورتناي بكل قوتهما؛ لأن المعركة تدور تقريبًا في حدود إمارتهما ، أما بوهيموند فقد استفاد من درس أسره قبل ذلك ؛ ولذلك وقف في مؤخرة الجيش مع ابن أخته تانكرد ليؤمِّن ظهر الجيش الصليبي، وفي نفس الوقت ليؤمِّن لنفسه طريقًا للهرب !

وما هي إلا ساعات وإنتصر الجيش المسلم انتصارًا مهيبًا قُتل فيه من الصليبيين أكثر من اثني عشر ألف مقاتل ! كما تمَّ أسر بلدوين دي بورج وجوسلين دي كورتناي !! هذا فوق عدد كبير آخر من الأسرى ، إضافةً إلى كميات ضخمة من الغنائم والأموال والسلاح ، وولَّى بوهيموند وتانكرد الأدبار مسرعين إلى أنطاكية !

لقد كان نصرًا مجيدًا حقًّا !

ولم يتعرض المسلمون أثناء القتال إلى أزمة حقيقية، فقد كانت السيطرة لهم من بادئ الأمر، إلا أنهم تعرضوا لأزمة كبيرة بعد الموقعة، لكن - بفضل الله - كتب الله لهم منها النجاة؛ ذلك أن معظم الغنائم والأموال - وكذلك الأسيرين الثمينين - وقعوا في يد سقمان بن أرتق وجيشه، وخرج جكرمش خالي الوفاض من المعركة ، وغضب جيش جكرمش وهم يشاهدون الثروات تقع في يد الجيش التركماني ، وأغروا جكرمش بأخذ نصيبه منها ، وإقتنع جكرمش بذلك ، وذهبوا للمعسكر التركماني ، وقد وجدوا أن سقمان كان في مطاردة الصليبيين مع جزء من جيشه ، فدخلوا خيمة الأسرى، وإستطاعوا أن يأخذوا بلدوين دي بورج أمير الرها ، والأسير الأعظم وعادوا به إلى معسكرهم !

إنها فتنة الدنيا !! وليس مستغربًا على هذا الزمن الذي إختلطت فيه المفاهيم جدًّا أن توجد هذه النوازع في نفوس الأمراء والمقاتلين .

وعاد سقمان من مطاردته ، وعرف بما حدث ، وحضَّه جيشه على قتال جكرمش لأخذ الأسير الثمين ، إلا أن سقمان رحمه الله وقف موقفًا لله هو من أعظم المواقف في حياته ، ويدل دلالة واضحة على طيب معدنه ، وصدق نيته ؛ لقد قال سقمان لجيشه : "لا يقوم فرح المسلمين في هذه الغزاة بغمِّهم بإختلافنا ، ولا أوثر شفاء غيظي بشماتة الأعداء بالمسلمين " .

الله أكبر !!

إنه لا يريد أن يضيع سعادة المسلمين بالنصر باختلافهم على الغنيمة ، ولا يريد أن يشفي صدره من جكرمش ويسبِّب شماتة الأعداء في المسلمين , هذا هو التجرد الذي يُرجى من ورائه النصر !

ثم إنه لم يكتفِ بذلك رحمه الله ، بل إستغل النصر الإسلامي المهيب ، وأخذ ملابس الصليبيين وأسلحتهم ، وألبسها لجنوده المسلمين كنوع من التمويه على الصليبيين ، ثم مرَّ على عدة قلاع كان الصليبيون قد إستولوا عليها ، فيحسبهم الصليبيون إخوانهم وجيشهم فيفتحون القلعة ، فيدخل المسلمون ويسيطرون على القلعة ، وهكذا حتى تمَّ له السيطرة على عدة قلاع وحصون مهمة في المنطقة .

أما جكرمش فقد سار إلى حران ، فتسلمها وضمها إلى الموصل ، ولم يكتفِ بذلك بل قرر أن يأخذ جيشه - على قلته - ويحاصر إمارة الرها ، وهو وإن كان يعلم أن هذه القوة القليلة ما تستطيع أن تفتح إمارة الرها الحصينة ، إلا أنها كانت نوعًا من الحرب النفسية سيكون لها أشد الأثر على الصليبيين ، خاصةً بعد هذه الهزيمة الثقيلة في حرَّان ، أو في موقعة البليخ (نسبة إلى النهر الذي دارت حوله الموقعة) .

لقد حققت هذه الموقعة آثارًا جلية، ولهذا كانت نقطة مضيئة جدًّا في الصراع الإسلامي - الصليبي ، على الرغم من كونها على النطاق العسكري والإقليمي لم تكن من المواقع الكبرى , ولعلنا في هذه العجالة نقف على عشر نتائج مهمة لهذه الموقعة المهمة :

أولاً : إرتفعت الروح المعنوية للمسلمين بشكل لافت للنظر ، وظلت هذه الموقعة محفورة في أذهانهم ولفترة طويلة، وليس ذلك لقتل عدد من الصليبيين أو أسر آخرين فحسب ، ولكن لوضوح الرؤية عند المسلمين في هذه المعركة ، ومعرفة المسلمين لأسباب النصر الحقيقية، ولرفع الكلمة الغالية: (الجهاد في سبيل الله) ، ولرؤية ثمرة التأييد الرباني لمن سار في طريق الله ، وتمسك به .

ثانيًا : لا شك أنه إن كان الأثر إيجابيًّا على المسلمين إلى هذه الدرجة، فإنه حتمًا سيكون سلبيًّا على الصليبيين وبدرجة أشد ، ولقد شعر الصليبيون بالهزيمة النفسية ، وبالإحباط الشديد الذي ظل متوارثًا فيهم ولأجيال متلاحقة ، بل إننا لا نبالغ إن قلنا أن هذه المعركة كانت سببًا في تغيير طريقة التفكير للصليبيين في العراق وفارس ، فهذه هي المرة الأولى - وكذلك الأخيرة - التي يفكر فيها الصليبيون في غزو هذه المناطق ، وبذلك تكون هذه الموقعة - على بساطتها - قد وضعت حدًّا لأحلام الصليبيين وطموحاتهم .

ثالثًا : فَقَد الصليبيون في هذه الموقعة أكثر من إثني عشر ألف مقاتل ، لا شك أنهم أثروا تأثيرًا سلبيًا في قوة الصليبيين ، خاصةً أن الأوربيين فقدوا حماستهم في القدوم إلى أرض الإسلام بعد كارثة الحملة الصليبية التي جاءت سنة (494هـ) 1101م ، أي من ثلاث سنوات فقط ، ومن ثَمَّ تناقص عدد الجنود في إمارتي الرها وأنطاكية تناقصًا مزعجًا ، كان له أكبر الأثر في خطط الإمارتين .

رابعًا : لم تفقد إمارة الرها جنودًا فقط ، بل فقدت أميرها ونائبه ! فقد وقع بلدوين دي بورج ونائبه جوسلين دي كورتناي في الأسر ، ولا يعلم أحد متى يكون إطلاقهما ، وخاصةً أن كل واحد منهما مأسور في إمارة مختلفة ؛ فبلدوين في يد جكرمش أمير الموصل ، وجوسلين في يد سقمان أمير حصن كيفا وماردين ، وعلى هذا فلم يجد جيش الرها الصليبي من يتولى زعامة الإمارة في غياب الأميرين الكبيرين ، فعرضوا على تانكرد النورماني أن يتولى الإمارة لحين إطلاق سراح أحد الأميرين ، وبالطبع وجدها تانكرد فرصة سانحة لتحقيق طموحه , وهكذا كان تانكرد يعمل في أرض الشام كالجوكر الذي يستعان به عند الأزمات ، فهو تارة أمير للجليل في إمارة بيت المقدس ، وتارة أخرى أمير على أنطاكية في غياب بوهيموند ، وتارة ثالثة أمير على الرها في غياب بلدوين دي بورج .

خامسًا : فقدت الإمارات الصليبية بعد هذه الهزيمة عدة قلاع وحصون ، بل وعدة قرى ومدن وأملاك ، وتغيرت جغرافية المنطقة تغيرًا ملموسًا ، ولم يكن الأمر واقفًا فقط عند القلاع التي حررها سقمان في أعقاب المعركة مباشرة ، وكانت كل هذه القلاع تابعة لإمارة الرها ، بل تجاوز الأمر كذلك إلى إمارة أنطاكية حيث فقدت هي الأخرى عددًا ضخمًا من القرى والحصون التابعة لها ؛ وقصة ذلك أن رضوان بن تتش ملك حلب لم يفكر في الإشتراك في هذه الحرب الإسلامية ، وإنما وقف بجيشه عند نهر الفرات يترقب الأحداث ، ويشاهد تطورات المعركة ، وعندما رأى هزيمة الجيش الصليبي ، وقتل عدد كبير من جنوده ، وفرار بوهيموند وتانكرد ، وأسر بلدوين دي بورج وجوسلين دي كورتناي ، وإتجاه تانكرد إلى الرها ليحكمها بدلاً من بلدوين دي بورج ، عندما رأى رضوان كل ذلك تجرأ على مهاجمة أملاك إمارة أنطاكية ، والتي كانت تابعة قبل ذلك لإمارة حلب ، فإسترد في أيام معدودات عددًا من القلاع والمدن القريبة من حلب مثل معرَّة مصرين وسرمين ، كما قام أحد الأمراء المسلمين في المنطقة - وهو شمس الخواص أمير رفينة - بإسترداد مدينة صوران شرقي شيزر ، كما لم تلبث الحاميات الصليبية في معرَّة النعمان والبارة وكفرطاب ولطمين أن تنسحب من جَرَّاء نفسها إلى أنطاكية ، وبذلك تقلصت حدود أنطاكية الشرقية جدًّا حتى وصلت إلى بحيرة العمق بعد أن كانت قد وصلت إلى مشارف حلب .

سادسًا : حافظ المسلمون بهذه الموقعة على الطريق بين الشام والعراق مفتوحًا وآمنًا ، ولمدة طويلة جدًّا من الزمان ، مما سهل بعد ذلك خروج الحملات المتتالية من الموصل وما حولها إلى حرب الصليبيين في الرها وأنطاكية وغير ذلك .

سابعًا : أحدثت هذه الموقعة تغيرًا إستراتيجيًّا خطيرًا في المنطقة ؛ إذ بدأ الأرمن يتجرءون - وهذه أول مرةٍ في تاريخهم مع الصليبيين - على الصليبيين بطريقة جِدِّية ؛ لقد عانى الأرمن كثيرًا من جور الصليبيين، لكن لم يكن لهم طاقة بهم ، أما الآن - ومع هزيمة الصليبيين - فقد قرر الأرمن في بعض القلاع والمدن التي يغلب الأرمن على سكانها أن يتراسلوا مع الأتراك ليسلموهم قلاعهم ومدنهم، ويخرجوا بذلك عن حكم الصليبيين ، مفضلِّين بذلك حكم المسلمين على حكم النصارى الصليبيين ؛ ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك ما حدث في قلعة أرتاح - وهي من القلاع فائقة الأهمية - حيث تشرف على مدينة أنطاكية ، ولقد ثار أهلها من الأرمن ضد حكم الصليبيين النورمان ، وسلموا قلعتهم دون جهد إلى رضوان ملك حلب ، ولم يكن هذا هو المثال الوحيد ، بل تكرَّر ذلك مع أكثر من قلعة وحصن .

ثامنًا : ألقيت بذور الضعف في إمارة الرها، فسكانها الأرمن فكروا فيما فكر فيه الأرمن في الأماكن الأخرى ، وبدءوا يثورون على حكم الصليبيين ، بل وتراسلوا في فترة من فتراتهم مع السلاجقة ، وهذا أدى إلى صراع ضخم بينهم وبين حكامهم من الصليبيين ، وسوف يؤدي مستقبلاً إلى صدامات خطيرة ، ولا شك أن هذه التداعيات سيكون لها أكبر الأثر في مستقبل هذه الإمارة القريبة من شمال العراق الغني - آنذاك - بالمتحمسين من أبناء الأمة الإسلامية .

تاسعًا : لم يقف الحد عند نشاط المسلمين وسعيهم لتحرير بعض أراضيهم بل وصلت أنباء هذه الهزيمة للدولة البيزنطية ، وسرعان ما تحرك الإمبراطور المحنك ألكسيوس كومنين لإستغلال الفرصة ، وعمل في محورين خطيرين ؛ فكان المحور الأول محورًا بريًّا حيث وجَّه جيشًا إلى منطقة قليقية ، وإستطاع بسهولة ضم مدن قليقية الشهيرة ، وعلى رأسها طرسوس وأذنة والمصيصة إلى الدولة البيزنطية , أما المحور الثاني فكان محورًا بحريًّا حيث إستطاع الأسطول البيزنطي أن يسترد ميناء اللاذقية المهم ، بل وتمركز في عدة مواقع أخرى على ساحل البحر الأبيض المتوسط فيما بين اللاذقية وطرطوس ، فضلاً عن قلعة المرقب .

عاشرًا : تلقي بوهيموند أمير أنطاكية في هذه الموقعة وبعدها عدة طعنات نافذة أفقدته توازنه تمامًا ؛ مما أدى إلى قرار خطير جدًّا أخذه عن إضطرار ! لقد فَقَد بوهيموند في المعركة جزءًا لا بأس به من جيشه ، ثم فقد عددًا من القلاع والحصون والمدن والقرى في شرق أنطاكية ، وتعرض لهجوم رضوان بن تتش - مع ضعفه الشديد - على أملاكه وضياعه ، وتلقى ضربات قاصمة من الدولة البيزنطية فَقَد فيها إقليم قليقية بكامله ، إضافةً إلى فَقْد اللاذقية وغيرها من مراكز ساحلية ؛ كل هذه الخسائر العسكرية والسياسية أفقدته الكثير من هيبته وقيمته في المنطقة ، وهذا دفعه إلى الوقوع في جريمة أخلاقية أفقدته الكثير من سمعته عند الصليبيين ! وهذه الجريمة هي أنه كان محتفظًا بأسير مهمٍّ من أسرى جيش الموصل ، وهو من أمراء السلاجقة ، وقد عرض جكرمش أمير الموصل على بوهيموند أن يطلق هذا الأمير في مقابل أحد أمرين : إما أن يبادله ببلدوين دي بورج شخصيًّا ، وإما أن يدفع مبلغ 15 ألف دينار ! ولم يكن متوقعًا من بوهيموند أبدًا أن يقبل بالمال ويترك بلدوين دي بورج ، خاصةً أنه تلقى رسالة من بلدوين الأول ملك بيت المقدس وإبن عم بلدوين دي بورج تحضه على إطلاق سراح بلدوين دي بورج ، وأيضًا لا ننسى أن بوهيموند كان أسيرًا عند الملك غازي بن الدانشمند ، وقد حاول بلدوين دي بورج بكل وسيلة أن يطلق سراحه ، بل إن بلدوين دي بورج ساهم بمبلغ كبير في الفدية الضخمة التي دُفعت لفك أسر بوهيموند وهي مبلغ مائة ألف دينار ، وهو يمثِّل أضعاف ما سيأخذه بوهيموند نظير إطلاق الأمير السلجوقي؛ كل هذه العوامل كانت تحتِّم على بوهيموند أن يرفض المال ، وأن يبادل الأمير السلجوقي ببلدوين دي بورج أمير الرها ، إلا أن بوهيموند فاجأ الجميع - وفي نذالة بالغة، وخسة متناهية - وضحَّى ببلدوين دي بورج ، وأخذ المال وأطلق الأمير السلجوقي !! وكان هذا سببًا في بقاء بلدوين دي بورج عدة سنوات في الأسر .

وأدى هذا الفعل المشين إلى ردة فعل واسعة النطاق في الإمارات الصليبية حيث صار بوهيموند منتقدًا من الجميع ، وإزاء هذه الأزمات المتتالية ، وإزاء هذا الانعزال الصليبي عنه ، ونتيجة تكاثر الأعداء عليه، ونتيجة رؤية إمارة أنطاكية تتقلص تقلصًا سريعًا قرَّر بوهيموند قرارًا خطيرًا ، وهو أن يترك الساحة بكاملها وينطلق إلى أوربا !! وهو في هذا الانطلاق لا ينوي ترك أملاكه في الشرق ، فليس بوهيموند الذي يستسلم بسهولة ، ولكنه ينوي الذهاب إلى فرنسا وإيطاليا ليستعدي الجميع هناك على الدولة البيزنطية ، وقد كان بوهيموند يرى - وهو محق في ذلك - أن رضوان بن تتش ليس الزعيم الذي يُرهب ، وأنه من السهل أن يتخلص منه عند الحاجة ، ولكن الخطر الحقيقي على إمارته يكمن في الدولة البيزنطية ، وعلى هذا فقد رحل فعلاً بوهيموند إلى أوربا في أعقاب موقعة البليخ تاركًا تانكرد زعيمًا على إمارتي أنطاكية والرها .

وهكذا أُقصي بوهيموند الشرس من ساحة الصراع !

ولعله من المناسب هنا أن نعرض لقصته في أوربا حتى لا تضيع منا في خضم الأحداث الساخنة، فإن بوهيموند قد نجح فعلاً في تجميع الجيوش والأموال من فرنسا وإيطاليا لحرب الدولة البيزنطية ، وأقنع الجميع بضرورة الوقوف أمام أطماعها ، وصوَّر لهم أنها تتعاون مع السلاجقة المسلمين ضد الصليبيين ، وأنها كانت سببًا مباشرًا في هلاك حملة سنة (494هـ) 1101م ، وعلى هذا فقد تجهزت أوربا الغربية في جيش كبير من فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وإنجلترا وألمانيا بقيادة بوهيموند لحرب الدولة البيزنطية ، وتمت فعلاً موقعة فاصلة في ميناء دورازو ، وهو يحوي أقوى قلعة بيزنطية عند مدخل الأدرياثيك ، وتمت هذه الموقعة سنة (500هـ) 1107م بعد ثلاث سنوات من رحيل بوهيموند من أنطاكية ، وفي هذه الموقعة إنتصر الإمبراطور ألكسيوس كومنين - وقد حضر الموقعة بنفسه - إنتصارًا ساحقًا على بوهيموند وجيوشه ، وأرغم بوهيموند على توقيع اتفاقية إستسلام مخزية في مدينة دفول Devol سنة (501هـ) 1108م ، وفيها أقر بتسليم إقليم قليقية بمدنه الثلاث ، وكذلك ميناء اللاذقية إلى الدولة البيزنطية ، والإعتراف أن هذه ليست من أملاك أنطاكية ، كما اشترط الإمبراطور البيزنطي أن يعزل البطرك الكاثوليكي عن كنيسة أنطاكية ذاتها ، ويعيِّن بطركًا أرثوذكسيًّا ، وأن يتعهد بوهيموند بحرب إبن أخته تانكرد إذا رفض بنود هذه الاتفاقية !!






آخر مواضيعي 0 حلمي لأيامي الجايه
0 صفات الله الواحد
0 عيش بروح متفائله ونفس مؤمنه
0 إبتهال قصدت باب الرجا
0 كونى انثي
رد مع اقتباس
قديم 06-03-2011, 11:37 PM رقم المشاركة : 18
معلومات العضو
marmer

الصورة الرمزية marmer

إحصائية العضو








marmer غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

وأمام هذا الخزي الذي وصل إليه بوهيموند لم يستطع أن يعود إلى أنطاكية ، ولا أن يلتقي برفقاء الحملة الصليبية ، وعليه فقد عاد إلى صقلية بعد معاهدة دفول ليبقى هناك ثلاث سنوات في عزلة ومهانة حتى مات في سنة (504هـ) 1111م ، وقد خسر كل شيء !! وهكذا رأينا بوهيموند يفقد مستقبله السياسي تمامًا بعد هذه المعركة العجيبة : (معركة البليخ) ..

ولعل المحلل للأحداث قد يتعجب أن هذه النتائج الهائلة قد حدثت من جَرَّاء هذه المعركة البسيطة التي تمت في يوم واحد ، ولم يكن لها إعداد طويل ، وقُتل فيها من الصليبيين اثنا عشر ألفًا من المقاتلين ، بينما لم تكن نتائج معارك سنة (494هـ) 1101م ، والتي قُتل فيها أكثر من مائتي ألف مقاتل صليبي على نفس المستوى .

إن الفارق بين الموقعتين أن موقعة حران أو البليخ موقعةٌ رفعت فيها راية لا إله إلا الله ، وخلصت فيها النوايا لله ، وكانت موقعة ممثِّلة للإسلام ، فبارك الله في نتائجها وعظَّم من آثارها، بينما كانت مواقع مرسفان وهرقلة الأولى والثانية - على عظمها وضخامتها - مواقع لم تتم إلا للدفاع عن الأملاك والأرض والثروة والملك فقط ، ولم تكن فيها النفوس موجهة إلى الله ، وكان المشاركون فيها حريصين على قبض الثمن الدنيوي ، ودار القتال الحقيقي من أجل الحرص على تقسيم ثمرة المعركة، وهو القتال الذي لم نره في معركة البليخ، بل رأينا ورعًا من سقمان بن أرتق ، وبُعدًا عن النزاع والشقاق ، وحتى جكرمش - الذي حرص على أخذ شيء من الغنائم، وهذا في حدِّ ذاته ليس خطأً فاحشًا؛ لأنه وجنوده شاركوا بقوة في القتال - وجدناه على استعداد لبذل الأسير الثمين في مقابل إطلاق سراح أمير سلجوقي مسلم ؛ مما يدل على قيمة الأسير المسلم ، وروح المودة في الجيشين ، ولم يفعل مثلما فعل بوهيموند الذي آثر المال على تحرير بلدوين دي بورج، مع أهمية مركزه ووضعه .

إن الذي علينا هو توجيه النية لله وبذل الجهد قدر المستطاع ، والتوحيد بين صفوفنا أما النتيجة فالله كفيلٌ أن يبارك فيها ، ويضاعف من ثمارها ، فهو سبحانه القوي العزيز .

وإن كانت موقعة البليخ من الأخبار المفرحة في سنة (496هـ) 1104م ، فإنَّ هناك خبرًا مفرحًا آخر تمَّ في نفس السنة ، وإن كانت آثاره غير ذلك؛ فقد شهدت هذه السنة صلحًا بين الأخوين المتخاصمين والمتنازعين سلطاني السلاجقة بركياروق ومحمد ! وكان النزاع بينهما مستحكمًا وصل إلى حد الحرب والنزال ، مع حسن أخلاق كليهما ! ولكن بفضل الله إجتمع الأخوان في هذه السنة ، وتم بينهما الصلح عن تراضٍ من الطرفين ، لكن - للأسف - كانت نتيجة هذا الصلح هو تقسيم البلاد بينهما !! وهذا - لا شك - فكر معوج ، ومنهج منحرف، والله يقول : (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَإخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) .


لقد قبل الأخوان بتقسيم المملكة التي تركها أبوهم ملكشاه بن ألب أرسلان إلى ثلاثة أقسام : الأول يحكمه بركياروق ويضم أصبهان وفارس ومعظم العراق دون شمالها ، ويتبعه في ذلك قسم بغداد ، بمعنى أن الخطبة في بغداد ستكون للخليفة المستظهر بالله والسلطان بركياروق , أما القسم الثاني فيحكمه محمد ، وهذا يضم أذربيجان وأرمينية وديار بكر والموصل ، مع أن الموصل كانت تحت حكم بركياروق قبل الصلح ، وهذا سيؤدي إلى بعض المشاكل التي سنتعرض لها , وأما القسم الثالث والأخير فلأخيهما الثالث سنجر ، وهذا يحكم خراسان (شرق إيران) وبلاد ما وراء النهر .

لقد كان هذا هو الحل الذي لجأ إليه الأخوان ، وهو خطأ شرعي سياسي لا ريب ، ولا ندري كيف وصل بهما الحال إلى الوقوع في هذا الخطأ ، مع ما يوصف به كل منهما من حسن الخلق ، وجمال السيرة ، والعدل في الملك ، وما إلى ذلك من صفات جليلة !

لكن الشاهد من الأحداث أن النفوس سكنت لهذا الصلح ، وعمَّ الأمن في البلاد ، وإختفت سحب الحرب التي كانت تظلل هذه المنطقة من العالم الإسلامي .

كانت هذه هي الأخبار في القسم الشرقي من العالم الإسلامي ، وهي مفرحة إلى حد كبير حيث تم إنتصار البليخ كما ذكرنا ، وكذلك الصلح بين الأخوين .


لكن الحال في بلاد الشام لم يكن مفرحًا قَطُّ في هذه السنة، ولا في التي بعدها ! وهذا حال متوقع لما ذكرناه قبل ذلك من أسباب كذهاب العلم ، وضياع قيمة الجهاد ، وسلبية الشعب ، وتسلط الحكام ، وما إلى ذلك من أمراض , ولعل أبرز الأحداث التي رأيناها في أرض الشام في هاتين السنتين تشمل الآتي :

أولاً : إستولى الصليبيون على ميناء جبيل في لبنان جنوب طرابلس ، وذلك بمعونة أسطول بحري جنوي ، وغدر الصليبيون بأهل جبيل بعد إعطائهم الأمان ، وكافأ ريمونُ الرابع الأسطولَ الجنويّ الذي أسقط جبيل بإعطائه ثلث مدينة جبيل، لتصبح جبيل فيما بعد مستوطنة جنوية ، وبسقوط جبيل يكون ريمون الرابع قد وضع الحدود المتوقعة لإمارة طرابلس ، حيث يحدها من الشمال مدينة طرطوس ، ومن الجنوب مدينة جبيل ، ويبقى فقط أن يُسقِط المدينة الكبرى (طرابلس) .

ثانيًا : أتم ريمون الرابع بناء قلعة كبيرة في مواجهة طرابلس مباشرة سماها سانت جيل ، Saint Gilles، والمعروفة في المصادر العربية بقلعة الصنجيل ، وقد بناها ريمون الرابع ليستخدمها في إسقاط طرابلس ، ولقد نُقِلت الأخشاب اللازمة لبنائها من قبرص بواسطة الأسطول البيزنطي المساعد لريمون ، ولم يتحرك أحد من المسلمين في المنطقة لهدم القلعة أو منع بنائها ، مع أن طرابلس محاطة من شمالها الشرقي وشرقها وجنوبها الشرقي بإمارتي دمشق وحمص التابعتين لدقاق بن تتش ، وحيث توجد حمص على مسافة أقل من 90 كيلو مترًا ، ودمشق على مسافة أقل من 120 كيلو مترًا .

ثالثًا : حادث آخر مفجع هزَّ العالم هو سقوط مدينة عكا الحصينة في سنة (497هـ) مايو 1104م ، وكان سقوطها مفجعًا لأنها أحصن مدن الشام مطلقًا ، وسقوطها يعني سقوط بقية المدن تقريبًا ، كما أنه سيمنع وصول الإمدادات البحرية للمسلمين بعد ذلك ، هذا إضافةً إلى المجزرة التي تمت في المدينة بعد سقوطها ، على الرغم من الأمان الذي أعطاه الصليبيون للسكان ، وقد تم سقوط المدينة بمساعدة الأسطول الجنويّ الذي أسقط جبيل قبل ذلك ! ولهذا أعطى بلدوين الأول ثلث مدينة عكا للأسطول الجنويّ ، وصارت عكا مدينة تابعة لمملكة بيت المقدس .

رابعًا : بعد رحيل بوهيموند إلى إيطاليا بدأ تانكرد يرتب أوراقه وينظم جيشه ، ودخل في سنة (498هـ) ربيع 1105م في معركة كبيرة مع رضوان ملك حلب ، وإنتصر في هذه المعركة ليسترد بها حصن أرتاح ، وليقتل من المسلمين ثلاثة آلاف رجل !

خامسًا : تلقى المسلمون هزيمة أخرى في منطقة الرملة في 498هـ\ 27 من أغسطس سنة 1105م ، وهو ما يعرف في التاريخ بموقعة الرملة الثالثة، حيث هُزم الجيش العبيدي وتشتت شمله في محاولة فاشلة لاسترداد بيت المقدس ، ولعلَّ هذه هي آخر المحاولات الجادة التي بذلها العبيديون لإسترداد القدس .

سادسًا : تُوفِّي دقاق بن تتش في رمضان (496هـ) 1103م ، وتولى من بعده أتابكه طغتكين ، وهو أحد مماليك تتش بن ألب أرسلان والد دقاق ، وكان قائدًا عسكريًّا قويًّا صاحب خبرة مما جعل تتش يوكل إليه مهمة تربية دقاق ، ومن ثَمَّ أعطاه لقب أتابك (أي مربي الأمير) ، ولكن عندما ضعف الأمراء السلاجقة صار للأتابكة العسكريين دور كبير في تسيير الأمور ، بل وأحيانًا صار لهم الحكم صراحة ، كما هو في حالتنا هذه ، فقد أصبح طغتكين هو حاكم دمشق وحمص ، وبذلك إنتهى حكم السلاجقة تمامًا لهاتين المدينتين ، ولكن على العموم فإن طغتكين كان أفضل كثيرًا من دقاق حيث آثر العدل مع الرعية ، وحرص في فترات كثيرة من حياته على حرب الصليبيين ، وإن كانت قوته وقوة جيشه لم تمكِّنه من تحقيق نصر حاسم في حياته ، وولاية طغتكين تُعَد بداية فترة حكم للتركمان إستمرت مدة 52 سنة ، حيث انتهت سنة (549هـ)\ 1154م .











آخر مواضيعي 0 حلمي لأيامي الجايه
0 صفات الله الواحد
0 عيش بروح متفائله ونفس مؤمنه
0 إبتهال قصدت باب الرجا
0 كونى انثي
رد مع اقتباس
قديم 06-03-2011, 11:38 PM رقم المشاركة : 19
معلومات العضو
marmer

الصورة الرمزية marmer

إحصائية العضو








marmer غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

سابعًا : تُوفِّي أيضًا في 2 من ربيع الآخر سنة (498هـ) ديسمبر 1104م السلطان بركياروق سلطان السلاجقة في منطقة فارس والعراق ، وهذا بعد إتمام الصلح مع أخيه محمد كما مرَّ بنا - وكان يبلغ من العمر عند وفاته خمسًا وعشرين سنة فقط ! - وبعد عدة فتن ، ونتيجة لموته إستقام الأمر لأخيه السلطان محمد ، فصار يحكم أملاكه وأملاك أخيه بركياروق ، وهذا وحَّد الأمة في هذه المنطقة لفترة 12 سنة متصلة .

ثامنًا : من الشخصيات المهمة التي تُوفِّيت أيضًا في سنة (498هـ) فبراير 1105م الأمير الفرنسي الشهير ريمون الرابع ! وقد تُوفِّي في القلعة التي بناها في مواجهة طرابلس لحصارها ، وكانت النار قد إشتعلت في القلعة نتيجة مقاومة أهل طرابلس للحصار ، فسقطت بعض الأخشاب المحترقة على ريمون ، فمات متأثرًا بجراحه , وهكذا فقد الصليبيون زعيمًا شرسًا من زعمائهم دون أن يرى لنفسه إمارة كأقرانه ، وقد ترك حكم جيشه بعد ذلك لإبن خالته وليم جوردان الذي إستأنف سياسة ريمون بكاملها حيث صمم على إسقاط طرابلس ، ومن ثَمَّ إستمر في حصارها ، وكذلك تعاون مع الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين كما كان يفعل ريمون .

تاسعًا : حدثت أزمة في إمارة الموصل نتيجة محاولة السلطان محمد السيطرة على مدينة الموصل ورفض جكرمش لهذه السيطرة لولائه لبركياروق ، مع أن الموصل كانت في الصلح الذي تمَّ بين بركياروق ومحمد من حق السلطان محمد ، إلا أن جكرمش كانت له ميول استقلالية جعلته يرفض تسليم المدينة ، غير أن أخبار وفاة بركياروق ما لبثت أن أتت ، ومن ثَمَّ إضطر جكرمش إلى التسليم للسلطان محمد ، وإن كان هذا التسليم مؤقتًا كما سيتبين لنا .

عاشرًا : فَقَد المسلمون في سنة (498هـ)1105م شخصية مهمة كان لها دور بارز في جهاد الصليبيين ، وهو سقمان بن أرتق صاحب حصن كيفا ، والذي حقق الانتصار في موقعة البليخ بالاشتراك مع جكرمش كما فصلنا ، ولقد كان موته مؤثرًا جدًّا ، حيث كان في سرية عسكرية هبت لنجدة طرابلس عندما إستغاثه حاكمها إبن عمار لحصار ريمون ثم وليم جوردان لها ، وعلى الرغم من كون إبن عمار شيعيًّا وجيشه كذلك ، إلا أن سقمان بن أرتق رحمه الله لم ينظر إلى ذلك ، إنما نظر إلى العدو المشترك للسنة والشيعة وهو العدو الصليبي ، ومن ثَمَّ تقدم في بسالة ، قاطعًا المسافات من حصن كيفا إلى طرابلس (ما يقرب من ستمائة كيلو متر) ، وكان سقمان مريضًا بداء الخوانيق - وهو مرض يعني حدوث
إختناق في التنفس - وكان يأتيه في نوبات ، فجاءته هذه النوبة وهو عند القريتين (على بعد 120 كم من طرابلس) ، وعرض عليه أصحابه أن يعودوا به إلى حصن كيفا ؛ حيث لن يقدر على القتال في هذه الحالة ، فقال كلمته الخالدة : "بل أسير ، فإن عوفيت تممت ما عزمت عليه ، ولا يراني الله تثاقلت عن قتال الكفار خوفًا من الموت ، وإن أدركني أجلي كنت شهيدًا سائرًا في جهاد" ، فساروا به صوب طرابلس ، ولكنه مات بعد يومين !!

إنه صورة مشرقة في وسط هذا الركام أبتْ إلا أن تلقى الله مقبلة غير مدبرة ، فرحمه الله رحمة واسعة ، وجعل مسيره هذا طريقًا له إلى الجنة .

وإستكمالاً لبعض الأحداث المؤسفة نخوض قليلاً في تطورات الأحداث في الموصل، وما كنت أود أن أخوض في تفاصيل دقيقة لصراعات وأزمات ، لولا أن أثر هذه الصراعات سيكون كبيرًا ، فالموصل بالذات - كما ذكرنا - لها وضع خاص، ومنها خرجت وستخرج حركات جهاد كثيرة، وشعبها في ذلك الوقت على وعيٍ كبير ، وعلم واسع ، كما أن هذه التطورات ستؤدي إلى إختفاء شخصيات مهمة مرت معنا في قصتنا في أكثر من موضع .

كنا قد ذكرنا أن جكرمش أبدى الموالاة للسلطان محمد بعد وفاة السلطان بركياروق ، ولكن مع مرور الوقت تثاقل جكرمش في إرسال الخراج إلى السلطان محمد ؛ مما جعله يشكك في ولائه ، وراسله في ذلك ، فتعلَّل جكرمش ، وهكذا تيقن السلطان محمد أن جكرمش يريد الانفراد بالموصل مستغِّلاً حب الناس له ، فإضطر السلطان محمد أن يرسل أحد العسكريين الأشداء لإسترداد الموصل لصالح السلطان ، ولكن - للأسف - هذا العسكري كان سيئ الخلق ، وحشيًّا في تعاملاته ، مكروهًا من العامة ، وكان إسمه (جاولي سقاوو) وهو من الأتراك ، فسار جاولي إلى الموصل ، والتقى معه جكرمش في موقعة على ضفاف دجلة في سنة (500هـ) 1106م ، وهُزم جكرمش بل أسر أيضًا ، ولكن شعب الموصل رفض فتح الأسوار لجاولي سقاوو ، وأقاموا عليهم زنكي بن جكرمش، وهو ابن زعيمهم المحبوب جكرمش ، وهذا يدل على إيجابية عالية عند هذا الشعب الواعي ، وإن كان الأَوْلَى أن تدخل الموصل تحت حكم السلطان محمد ، لكن السيرة السيئة لجاولي سقاوو جعلت الشعب يأخذ هذا الموقف ، وراسل الشعب شخصية قوية تأتي لتسانده في هذه الأزمة ، وهذه الشخصية هي قلج أرسلان سلطان سلاجقة الروم !

رأى قلج أرسلان أن هذه فرصته لإمتلاك الموصل ، ولفتح الطريق لتوسيع مملكته ، وجاء بجيشه إلى الموصل ففتح له السكان الأبواب وسط ترحيب ، فدخل المدينة وملكها ، ثم خرج لقتال جاولي سقاوو ، ودارت موقعة كبيرة بينهما هُزم فيها قلج أرسلان ، ثم إضطر إلى الهرب فسقط في نهر الخابور ، ولم يستطع النجاة فغرق ، ولم تظهر جثته إلا بعد عدة أيام !

وهكذا جاء قلج أرسلان من آسيا الصغرى يدفعه طموحه لتوسيع ملكه ، وتقوية سلطته ، فإذا به جاء ليلقى حتفه في بلاد غريبة عن بلاده ، وفي أرض يطؤها لأول مرة في حياته !! قال تعالى : (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ) ..

وشتَّان بين ميتة قلج أرسلان الذي ملك بلادًا واسعة ، وجاء ليزيدها إتساعًا ، وميتة سقمان بن أرتق الذي لم يملك إلا إمارة صغيرة ، ولكنه مات وهو في طريقه لجهاد الصليبيين !

وعلى العموم فقد دخل جاولي سقاوو مدينة الموصل بعد غياب المدافعين عنها ، وعامل أهلها في منتهى الغلظة ، وأسرف جنوده في اضطهاد السكان ثم لم يلبث جاولي سقاوو أن استقل بالمدينة سنة (502هـ) 1108م ، وكان هذا متوقعًا من رجل شرس مثله، فإضطر السلطان محمد أن يرسل له أحد أتباعه لردِّ الموصل إلى سيطرة السلطان ، ولكن في هذه المرة كان مبعوث السلطان رجلاً فاضلاً عالمًا مجاهدًا هو القائد الفذُّ مودود بن التونتكين ، وهو من التركمان الأخيار ، وحاصر مودود مدينة الموصل ، وقاومه جاولي وجنوده ، وحذر جاولي العامة من الإقتراب من الأسوار لعلمه بتعاطف العامة مع الصالحين وكراهيتهم له ، وشدَّد عليهم في ذلك ، لكن الشعب لم تمُتْ فيه النخوة ، فاجتمعت طائفة من الشعب ، وتعاهدوا على فتح الأبواب ، وإتفقوا على إستغلال وقت صلاة الجمعة والجميع بالمساجد ، فخرجوا بالفعل في ذلك الوقت إلى أحد الأبراج ، وقاتلوا حرَّاسه وقتلوهم ، وفتحوا الأبواب وهم ينادون باسم السلطان محمد ، فأسرع إليهم جند السلطان بقيادة مودود ، ودخلوا المدينة وقاتلوا جنود جاولي ، وما لبثوا أن سيطروا على المدينة ، غير أن جاولي هرب آخذًا معه صيدًا ثمينًا هو الأمير بلدوين دي بورج الذي كان أسيرًا في مدينة الموصل من أربع سنوات ، وقد أخذه - لا شك - لأنه يعلم أن قيمته كبيرة ، ويستطيع أن يفاوض عليه أو يبيعه !

في ذلك الوقت كان جوسلين دي كورتناي - وهو أمير تل باشر ، والقائد التالي مباشرة بعد بلدوين دي بورج - قد أطلق سراحه في مقابل عشرين ألف دينار ، ومن ثَمَّ سعى بجدية لإطلاق سراح بلدوين دي بورج الذي أصبح الآن في قبضة جاولي الهارب من الموصل .

لقد صار الموقف في غاية التعقيد !!

مودود الآن يحكم الموصل ، وجاولي يهرب ببلدوين دي بورج ، وجوسلين دي كورتناي يحاول فك أسر بلدوين دي بورج ، وإمارة الرها تحت حكم تانكرد منذ 4 سنوات ، وكان تانكرد متسلطًا على شعب الرها وغالبه من الأرمن ، وكان تانكرد مستقرًّا في أنطاكية بعد رحيل بوهيموند عنها، ولكنه كان ينيب عنه في الرها ابن عمه ريتشارد سالرنو .

في ظل هذه الأجواء وصل جوسلين دي كورتناي إلى جاولي ، وسرعان ما بدأ التفاوض المادي حول الأسير الأمير ، ووصل الطرفان إلى إطلاق سراح بلدوين دي بورج في مقابل سبعين ألف دينار ، إضافةً إلى وقوف بلدوين دي بورج إلى جوار جاولي والعكس أيضًا عند الأزمات العسكرية ! أي أنها معاهدة دفاع مشترك .

وأطلق سراح بلدوين دي بورج بالفعل وأسرع إلى إمارته ، غير أنه فوجئ أن تانكرد يرفض تسليمه الإمارة بعد أن أعجبته لثرواتها وموقعها ! وهنا لم يجد بلدوين دي بورج حلاًّ بديلاً للحرب لاسترداد إمارته من الصليبي تانكرد !

في هذا الوقت كان جاولي يحاول أن يكون لنفسه إمارة في المنطقة مستخدمًا جيشه الإجرامي ، والمال الوفير الذي توفر في يده ، وكان يسعى لتكوين هذه الإمارة على حساب بعض الأملاك لمملكة حلب المملوكة لرضوان بن تتش .

وعلى هذا أدت هذه الظروف المعقدة إلى حرب عجيبة ، قامت فيها أحلاف أعجب ! فقد تحالف الصليبي بلدوين دي بورج وجوسلين دي كورتناي وجيشه مع المسلم جاولي وفرقته ، ليحاربوا تانكرد الصليبي الذي تحالف مع رضوان بن تتش عدوه القديم ، والذي يعاني الآن من هجمات جاولي !!

أيُّ غيابٍ للفهم هذا ! وأي ضياع للعقل !

ودارت معركة بين الفريقين عند بلدة منبج غربي الفرات ، وذلك في (502هـ) أكتوبر سنة 1108م وهُزم فريق بلدوين وجاولي ، وكان النصر حليفًا لتانكرد ورضوان ، غير أن بطرك أنطاكية تدخل في الأمر ، وأمر بأن يعود بلدوين دي بورج لحكم الرها ، ويبقى تانكرد في أنطاكية ، وذلك حتى لا يستمر النزاع بين الصليبيين !

في هذا الوقت كان الأرمن من سكان الرها يعتقدون أن هزيمة بلدوين دي بورج وجوسلين دي كورتناي ستمنعهما من العودة إلى الرها ، فقاموا باجتماع كبير أظهروا فيه رغبتهم في الخروج كلية من سيطرة الصليبيين ، وقد ضاقوا ذرعًا بحكم تانكرد لهم ، ولن يختلف حكم غيره من الصليبيين عن حكمه ، ولكن ما لبث بلدوين دي بورج أن ظهر في الصورة ، ودخل المدينة حاكمًا ، وعلم بهذا الاجتماع ، ومن ثَمَّ انقلب على أهل المدينة ، وعزل كل الكبار من الأرمن ، بل هدد أسقف الكنيسة الأرمينية بسَمْلِ عينيه ، ولم يفتدِ نفسه إلا بمبلغ كبير من المال ، وكل هذا أدى إلى حالة كبيرة من السخط داخل المدينة ، واضطراب عام في الأوضاع ، وهذا - لا شك - سيكون له أثر في عدم إستقرار تلك الإمارة .

وهكذا عاد تانكرد لحكم إمارة أنطاكية ، بل إنه أفلح في إسترداد اللاذقية من الدولة البيزنطية في نفس السنة ، أي في سنة (502هـ) 1108م ، وأصبح بلدوين دي بورج أميرًا من جديد على الرها ، ولعله من المناسب أن ننظر نظرة إلى منطقة طرابلس ؛ لأن الأحداث فيها في ذلك الوقت كانت في منتهى السخونة .

لقد كان الحصار مستحكمًا حول طرابلس بقيادة وليم جوردان خليفة ريمون الرابع وإبن خالته ، وهذا الحصار كان ريمون قد بدأه في سنة (495هـ) 1102م، أي منذ 6 سنوات كاملة ، وفي غضون هذه السنوات الست لم تتلقَّ طرابلس أي مساعدة إسلامية خارجية، لا من الإمارات السنية المحيطة بها ، ولا من الدولة العبيدية الشيعية المتمركزة في مصر ، وكما هو معلوم فطرابلس كانت محكومة ببني عمار الشيعة ، وكان أميرها هو فخر الملك إبن عمار .

لم يجد إبن عمار بُدًّا من ترك طرابلس تحت الحصار ، وذلك في سنة (502هـ) 1108م ليذهب إلى بغداد لمقابلة الخليفة العباسي المستظهر بالله ، والسلطان السلجوقي محمد للإستنجاد بهما وبجيوشهما ، لكن للإختلاف المذهبي بين الفريقين لم يُقدِّم الخليفة والسلطان لابن عمار سوى بعض الكلمات التشجيعية والعبارات التأيدية ، تاركين بذلك طرابلس تسقط تحت أقدام الصليبيين ! ولا شك أن هذا نقص في الفهم ، وغياب في الرؤية ، فتقوية إبن عمار إضعاف للصليبيين ، وطرابلس في النهاية مدينة مسلمة ، ولم نطلب من الخليفة والسلطان هنا أن يغيرا من عقائدهما ، أو يبدلا من مبادئهما ، ولكننا نطلب النخوة للدماء التي تُسال ، والنجدة للأرواح التي تزهق ، والشجاعة في وجه الصليبيين ! ولكن كل ذلك لم يحدث ، وعاد ابن عمار ليجد أن طرابلس قد طارت من يده ، لا إلى الصليبيين ولكن إلى العبيديين ! فقد إستنجد أهلها بهم في غياب إبن عمار ، فجاءوا بأساطيل من مصر ، وأخذوها لحسابهم ! كل هذا والجيش الصليبي يحاصر المدينة من خارجها !

وفي هذه الأثناء وصل إلى أرض الشام برترام بن ريمون الرابع يبحث عن ملك أبيه ! وبعد صراع وصدام مع وليم جوردان تدخل بلدوين الأول ليقسم بلاد المسلمين بين الأميرين الصليبيين ، فأعطى وليم جوردان عرقة وطرطوس ، في حين أخذ برترام بن ريمون قلعة صنجيل التي بناها أبوه ومدينة جبيل ، على أن يأخذ برترام مدينة طرابلس حال سقوطها .

ثم سعى بلدوين الأول ملك بيت المقدس في تجميع الجهود الصليبية لإسقاط طرابلس ، وبالفعل - وهذه أول مرةٍ منذ زمن - تجتمع جيوش برترام ووليم جوردان مع جيوش بلدوين الأول ملك بيت المقدس وجيوش تانكرد أمير أنطاكية ، إضافةً إلى أسطول جنويّ كبير؛ وذلك لإسقاط المدينة العنيدة طرابلس !

ووجدت المدينة المسلمة نفسها وحيدة أمام الطوفان ، وأحيط بالشعب المسكين ، وسرعان ما دارت المفاوضات بين الحامية العبيدية (الفاطمية) وزعماء الجيش الصليبي على تأمين الحامية وإخراجها في سلام ، وفتح أبواب المدينة للصليبيين ، مع الوعد بصيانة دماء وأعراض المسلمين ، ويتكرر بذلك سيناريو الأحداث في بيت المقدس ، وكأنَّ الحامية العبيدية ليس لها دور إلا تسليم المدن الإسلامية إلى جيوش الصليبيين !

وخرجت بالفعل الحامية العبيدية في أمان ، ودخل الصليبيون إلى مدينة طرابلس في أواخر سنة 503هـ ، وتحديدًا في الحادي عشر من ذي الحجة ثاني أيام عيد الأضحى المبارك (1109م) !

غير أن الجيش الصليبي - كما هو متوقع - غدر بالمسلمين فقتل الكثير من أهل المدينة ، وأسر بقية الرجال ، وتم سبي كل النساء والأطفال ، ونهبت الأموال الغزيرة ؛ فقد كانت طرابلس من أغنى المدن الإسلامية ، وغنم الصليبيون ما لا يحصى من كتب العلم الموقوفة ، بل حرق الصليبيون في ميادين طرابلس أعدادًا لا يمكن إحصاؤها من الكتب والمخطوطات !

وبسقوط طرابلس تكون الإمارة الصليبية الرابعة قد تكوَّنت بعد حصار سبع سنوات متصلة ، ويكون حلم ريمون الرابع قد تحقق بعد موته ، وإمتلك المدينة إبنه برترام بن ريمون ، لتدخل المدينة فترة عصيبة من تاريخها لم تنتهِ إلا بعد مائة وثمانين سنة كاملة !!

ولم تلبث القلاع الإسلامية المتبقية في ساحل الشام أن تساقطت بعد حالة الإحباط المزرية التي أصابت المسلمين ، فسقطت مدينتا بانياس وجبلة في يد تانكرد وضمهما إلى إمارة أنطاكية ، ثم تبعتها بيروت حيث سقطت - بعد حصار 4 أشهر - في يد بلدوين الأول ملك بيت المقدس بمساعدة برترام بن ريمون في سنة (503هـ) مايو 1110م ، وذلك بعد حدوث مذبحة رهيبة في أهل بيروت المسلمين ، وأخيرًا سقطت مدينة صيدا اللبنانية ، وذلك لحساب بلدوين الأول ملك بيت المقدس ، وبمساعدة أسطول بحري بقيادة ملك النرويج شخصيًّا ، وأسطول آخر بندقي بقيادة دوق البندقية نفسه !

وعلى ذلك سقطت كل مدن الساحل الشامي من أنطاكية شمالاً إلى يافا جنوبًا ، ولم يبق من كل هذه المدن العديدة إلا صور وعسقلان اللتان تأخر سقوطهما نسبيًّا ، وظلتا فترة تحت الحكم العبيدي المصري !

أما المدن الداخلية فقد ذاقت هي الأخرى ألوان الذل ، وإن لم تقبع تحت الاحتلال المباشر ؛ فتانكرد على سبيل المثال حاصر حصن الأثارب غرب حلب - وهو حصن خطير في الطريق بين حلب وأنطاكية ، وهو تابع لإمارة حلب - وعرض تانكرد فك الحصار في مقابل دفع رضوان مبلغ ثلاثين ألف دينار ، ولكن رضوان لم يكن يريد دفع هذا المبلغ الكبير، ولم يكن يريد قتال تانكرد ، فترك حصن الأثارب يسقط وكان ذلك في سنة (504هـ) ، وقتل الصليبيون ألفين من رجال المسلمين في داخل الحصن ، وأسروا الباقي ! لكن المشكلة الكُبْرَى أن السيطرة على هذا الحصن جعل حلب مهددة طوال الوقت ، وتكرر حصارها إلى الدرجة التي آذت أهلها جدًّا ، ولم يستطيعوا أن يخرجوا بسهولة إلى مزارعهم وتجارتهم ؛ مما دفع الكثير من سكانها إلى الهجرة إلى بغداد وغيرها ، وهذا بدوره دفع رضوان إلى عقد صلح مجحف مع تانكرد يتكفل فيه بدفع ثلاثين ألف دينار دون أن يتخلى تانكرد عن حصن الأثارب ، بل إن تانكرد إحتل حصنًا آخر هو حصن زردنا ، إضافةً إلى إطلاق كل أسرى الصليبيين والأرمن الموجودين في سجون حلب ، ومن هنا تدهور الحال جدًّا في حلب .

ومثلما حدث في حلب حدث في شيزر حيث دفع أميرها سلطان بن منقذ الجزية لتانكرد ، وكذلك تكرر الأمر في حماة حيث تكفل أميرها علي الكردي بدفع الجزية هو الآخر لتانكرد نظير مسالمته !

وهكذا أصبح تانكرد هو سيد المنطقة الشمالية من الشام، كما أصبح بلدوين الأول هو سيد المنطقة الجنوبية من الشام وكذلك فلسطين .

وعند هذا الحد تكون قد مرت ثلاث عشرة سنة على الاحتلال الصليبي للأراضي الإسلامية ، ونحتاج إلى وقفة لتدبر الوضع بعد أن تبلورت صورته إلى حد كبير ، ولنأخذ بعض العِبَر من الموقف ، ونستقرأ المستقبل الذي ستئول إليه الأحداث .

أولاً : أخذت الإمارات الصليبية بعد هذه السنوات الثلاث عشرة شكلها النهائي ولن يكون التغيير بعد ذلك ولمدة عشرات السنوات كبيرًا، ونستطيع أن نجعل الصورة النهائية للوضع كما يلي :

وهكذا إستقرت هذه الكيانات الأربع في عمق العالم الإسلامي ، ودام هذا الاستقرار عشرات السنين كما سيتبين لنا من سياق القصة .

ثانيًا : الوضع الذي وصفناه الآن لا شك أنه أشد وطأة من الوضع الذي نعاني منه الآن في فلسطين ؛

1- تكونت في أرض فلسطين وأجزاء من لبنان مملكة بيت المقدس الصليبية ، وهي الوحيدة التي أطلق عليها لقب مملكة، وهذا يدل على أنها غير تابعة لغيرها بينما يتبعها الآخرون ؛ وهذا هو الواقع الفعلي الذي رأيناه بعد ذلك، فإنه وإن تمتعت كل إمارة صليبية بإستقلال ذاتي إلا أن الكلمة الأولى في شئون الصليبيين كانت لمملكة بيت المقدس ، وكانت هذه المملكة تحت حكم بلدوين الأول الفرنسي ، وأخذت طابعًا فرنسيًّا بحتًا ، مما جعل المسلمين يطلقون على كل الصليبيين لفظ الفرنجة أو الفرنج أو الإفرنج ، وكلها تعني الفرنسيين ، وهذا لمكانة مملكة بيت المقدس بالنسبة لغيرها من الإمارات، وكانت حدود مملكة بيت المقدس في سنة (504هـ) 1110م تمتد من بيروت شمالاً إلى يافا جنوبًا ، وتصل في العمق إلى مدينة القدس في فلسطين ، وهي بذلك تضم عدة مدن في غاية الأهمية مثل : بيروت وصيدا وعكا وحيفا ويافا واللد والرملة ، وأهم من كل ذلك القدس الشريف ، وسوف تتوسع هذه المملكة مستقبلاً حتى تضم أيضًا صور وعسقلان ، إضافةً إلى صحراء النقب كما سنرى في الصفحات القادمة .

2- الإمارة الثانية للصليبيين هي إمارة طرابلس التي تكونت حديثًا سنة (503هـ) 1109م ، وكان على رأسها الأمير برترام بن ريمون ، وكانت هذه الإمارة في بادئ الأمر منقسمة على نفسها كما بينا ، حيث كانت طرابلس والجبيل في يد برترام بن ريمون ، وعرقة وطرطوس في يد وليم جوردان ، غير أن وليم جوردان قُتل - كما يقولون - في ظروف غامضة ! ولا يستبعد أن الذي أوعز بقتله هو برترام بن ريمون ليخلو له الجو في الإمارة ، وبالفعل تكونت إمارة طرابلس الموحدة ، وكانت حدودها الشمالية تصل إلى طرطوس (في سوريا الآن) ، بينما تصل حدودها الجنوبية إلى مدينة جبيل في لبنان ، أما قاعدة الإمارة فهي مدينة طرابلس بالطبع .

3- الإمارة الثالثة هي أنطاكية ، وأميرها هو تانكرد النورماني، وقد توسعت جنوبًا حتى وصلت إلى بانياس ، وشمالاً إلى إقليم قليقية ، وتوسعت أيضًا شرقًا حتى وصلت إلى مشارف حلب، وكان غالب الجيش في هذه الإمارة من النورمان الإيطاليين .

4- الإمارة الرابعة هي إمارة الرها ، وهي أول الإمارات تأسيسًا ، ويقودها بلدوين دي بورج ، وتضم عدة مدن في جنوب تركيا وشمال سوريا حول نهر الفرات ، وأهم هذه المدن إلى جوار الرها مدينة سميساط وسروج والبيرة، إضافةً إلى مدينة تل باشر التي يقودها جوسلين دي كورتناي الشخصية الثانية في إمارة الرها .

ومع كون الوضع مترديًا على هذه الصورة فإنَّ المسلمين - كما سيتبين لنا - استطاعوا الخروج من الأزمة ولو بعد حين ، وعلى هذا فإذا كانت أزمتنا الآن أهون فخروجنا منها أسهل بإذن الله ، وحتمًا - كما يثبت لنا التاريخ - يظهر بعد الليل الطويل فجرٌ سعيد .

1- فالوضع أيام الحروب الصليبية لم يكن مقتصرًا على دولة واحدة ، بل تأسست أربع دول .

2- ولم يكن الاحتلال مقصورًا على فلسطين وحدها ، بل شمل فلسطين ولبنان وسوريا وتركيا .

3- ولم يقبع الاحتلال هناك فترة قصيرة من الزمن إنما دام مائتي سنة .

4- كما أن المذابح التي رأيناها في إحتلال المدن الإسلامية أكثر بكثير من كل ما نشاهده الآن في المدن الفلسطينية .

5- كما أن حالة الفُرقة بين المسلمين أشد وأعتى مما نعانيه الآن؛ فلو نظرت إلى سوريا فقط فإننا سنجدها في زمان الحروب الصليبية مقسمة إلى عدة إمارات منفصلة ، منها حلب وحمص ودمشق وحماة وشيزر وبانياس وغيرها .

ثالثًا : رأينا الأخطاء المتتالية التي ارتكبها الجيل الذي عاصر الحروب الصليبية ، وهذه الأخطاء المركبَّة لم يقوموا هم وحدهم بدفع ثمنها بعد ذلك، بل دفعتها أجيال متعاقبة ، ولسنوات طويلة ؛ فقد شاهدوا على سبيل المثال تقاعسًا من المسلمين عن نصرة طرابلس المحاصرة ، وظل الحصار كما رأينا سبع سنوات متصلة ثم سقطت طرابلس ، واستمر هذا السقوط مائة وخمسًا وثمانين سنة !! أي دفع الثمن ستة أو سبعة أجيال متلاحقة ، مما يبين أن حجم الخطأ الذي يرتكبه المرء قد يكون له ذيول وعواقب تضاعف من أثره ونتائجه، وعليه فلا ينبغي أبدًا أن يستهين الإنسان بالذنب أو الخطأ ، ولعل المسلمين تخيلوا عند سقوط طرابلس أن هذا شيء عارض لن يستمر سوى عام أو عامين ، ثم كانت العواقب كما رأينا .

وقد حذَّر رسولنا الكريم أن هذا قد يحدث مع الكلمة الواحدة ، فكيف بالفعل والأفعال ! يقول رسول الله : "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ" .

رابعًا : رأينا في المواقف السابقة تعاونًا مشينًا بين بعض القواد المسلمين كرضوان من ناحية أو جاولي من ناحية أخرى مع جيوش الصليبيين ، وفي لحظة من اللحظات ظنَّ هؤلاء أن عزتهم ستكون بالارتباط بالقوة العسكرية الأولى في المنطقة ، ثم رأينا سريعًا أن الصليبيين يتنكرون لهذا التعاون ، وينقلبون على الزعماء المسلمين عند أول فرصة ، ويبيعونهم بأبخس ثمن ، فقد أدَّوا دورهم في مرحلة ، ثم لم يعد لهم قيمة ولا نفع ! لقد رأينا تانكرد لا يكتفي بالتنكر لعهده وحلفه مع رضوان ، بل رأيناه يقف بجيشه على أبواب حلب يقصفها ويحاصرها ويمنعها الطعام والشراب ، ويُمعِن في إذلال رضوان فيفرض عليه الجزية، ويسخر منه ويفضحه بين الناس !

إن هؤلاء الزعماء المساكين لم يمروا بقلوبهم أو حتى بعيونهم على قول الله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ) , وأقول لهم : إن لم يكن لكم اعتبارٌ بكتاب الله ولا سنة رسوله فليكن لكم اعتبارٌ بالتاريخ ، وليست هذه صورًا نادرة نحكيها ، إنما هي السنة المطردة ، والواقع المتكرر !

خامسًا : إذا كنا رأينا هذه الصورة المتخاذلة من حكام الشام في هذه الفترة العصيبة، فلا بد أن نتساءل: أين علماء الشام ؟! لقد إختفى إلى حد كبير ، وأحيانًا إلى حد مطلق مَن يأمر بالجهاد أو المقاومة أو التحرير، سواء في دمشق أو في حلب أو في غيرهم ا!
أين العلماء ؟!

واقع الأمر أنه كما ذكرنا قبل ذلك فقد فُرِّغت الشام من علمائها في أثناء الاحتلال العبيدي السابق لفترة حكم سلاجقة الشام، ولكن - للأسف الشديد - عند ولاية سلاجقة الشام بداية من تتش بن ألب أرسلان أو ولديه رضوان ودقاق كان التغيير في الوضع سياسيًّا فقط، لكن بقي للإسماعيلية الباطنية وجود كبير في داخل المدن الشامية ، وعلى رأسها حلب ودمشق ، ولكن مر بنا الظهور الإسماعيلي الشيعي الفج في حلب ودورهم في التأثير في رضوان حاكمها ، ولكن هذا لم يكن في حلب وحدها ، إنما رأيناه في دمشق أيضً ا!! نعم لم نجد التعاطف الذي أبداه رضوان تجاه الإسماعيلية ، ولكن رأينا بدلاً من التعاطف خوفًا وجبنًا من الباطنية الإسماعيلية أفضى إلى نفس النتيجة ، فقد إشتهر الباطنية بحوادث الإغتيال والمؤامرات ؛ ولذلك آثر الحكام المسلمون السلامة ، ولم يتقدموا بأي جهد لتغيير الواقع الأليم، حتى رأينا تسلطًا من زعماء الإسماعيلية على مجريات الأمور في دمشق إلى الدرجة التي جعلت حاكمًا مثل طغتكين - على حُبِّه للجهاد ورغبته في نصرة السنة - لا يستطيع الوقوف في وجه الشيعة الإسماعيلية ، فأعطاهم قلعة بانياس بناءً على طلبهم ليتحصنوا بها !

ولكن المؤلم حقًّا أن من بقي من العلماء السنة في داخل دمشق لم تكن له القدرة على الكلام أو التعليم ، ولم تكن عندهم الجرأة على النصح والإرشاد ، ولما إستفحل أمر بهرام داعي الباطنية في دمشق ، وإنتشر فساده ماذا فعل العلماء؟! يقول إبن القلانسي في وصفه حال العلماء آنذاك : "وضاقت صدور العلماء وأرباب الدين وأهل السنة ، ولم يتجاسروا على الكلام خوفًا من أسرهم وقتلهم" .


آهِ لو خاف العَالِم وسكت ! آه لو تعلل العالِم بعذر فإعتزل ! آه لو تمسك العالِم بدنياه فأضاع دينه ودين الناس !

لعل هذه الملاحظة - أعني سكوت العلماء وخوفهم على حياتهم - من أهم أسباب الأزمة التي رأيناها أيام الحروب الصليبية ، ومن أهم أسباب الضعف في أي فترة من فترات سقوط الأمة الإسلامية؛ فالعلماء ورثة الأنبياء ، وهم قادة الأمة الحقيقيون ، فلو ضلُّوا وضاعوا فكيف يُرجى للأمة هداية ؟!


سادسًا : وإذا كنا رصدنا في هذا التحليل القصور الشديد الذي كان عليه الحكام والعلماء ، فإن هذا لا يعني أن نعفي الشعوب من المسئولية !
أين الشعب في الشام ؟!


أين شعب حلب ودمشق وحماة وحمص ؟!


أين شعب بيروت وصيدا وحيفا وعكا ؟!


أين أولئك الذين لم يصابوا في دينهم ومقدساتهم فقط ، بل أصيبوا في أموالهم وأملاكهم وأعراضهم ؟!

إن الشعب الذي يسكت على مثل هذا الذل شعبٌ لا يستحق الحياة !

إن الحاكم لا شيء بغير شعبه ، وإلا فكيف كان يقاتل رضوان إلى جوار الصليبيين ؟! هل كان يقاتل بمفرده، أم إنه يقاتل بجيش كبير ، ومن وراء الجيش وزراء وأمراء ، ومعهم علماء وقضاة وفقهاء ومدرسون ، ومن ورائهم موظفون وتجار وفلاحون ؟! ألم يكن في بيت كل واحد من هؤلاء زوجة وأم وأخت وبنت ؟! ألم يسمع أيُّ واحد من هؤلاء كلمة نصح ، أو على الأقل كلمة تعجب : لماذا تفعلون هذه الأفعال ؟!












آخر مواضيعي 0 حلمي لأيامي الجايه
0 صفات الله الواحد
0 عيش بروح متفائله ونفس مؤمنه
0 إبتهال قصدت باب الرجا
0 كونى انثي
رد مع اقتباس
قديم 06-03-2011, 11:38 PM رقم المشاركة : 20
معلومات العضو
marmer

الصورة الرمزية marmer

إحصائية العضو








marmer غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

إن المصيبة كانت عامة ! والخطأ مركب ، ولا تحدث مثل هذه الكوارث العامة ، والنكبات الهائلة إلا بتقصير عام من شتى طوائف الشعب من أعلى سلطة فيه إلى أقل عامل من عمال المسلمين ، إلا من رحمه الله ، وقليل ما هم !!

سابعًا : رأينا في هذه المواقف أيضًا أن الدولة العبيدية قد باعت القضية تمامًا، فبعد المحاولات الثلاث التي قامت بها عند مدينة الرملة توقفت جهودهم تمامًا لاسترداد فلسطين، أو على الأقل لتأمين الحدود الشرقية للدولة المصرية ، وهذا كان أمرًا متوقعًا منهم بعد أن شاهدنا تخاذلهم في القدس ، وشاهدنا تخاذلهم في عكا ، وشاهدنا استغلالهم للموقف في طرابلس لحسابهم وليس للمصلحة العامة للمسلمين ، وشاهدنا أيضًا تخاذل علمائهم في حلب ودمشق، بل وشاهدنا الفظائع التي إرتكبها الباطنيون الإسماعيلية هنا وهناك !

إن هذا كله يثبت أن هذا الدين لا ينصره مختل العقيدة أو مضطرب الفكر ، إن هذا الدين عزيز ثمين ، ولن يحمل رايته إلا المخلصون الفاهمون !

ثامنًا : مع كل هذا الظلام الذي رأيناه في قصة بداية الاحتلال إلا أن النور لا ينعدم ! فقد شاهدنا أمثلة تدل على أن الخير في الأمة لا ينقطع، والهمة لا تموت ، نعم قد تضعف ، ولكنها أبدًا لا تموت ؛ ولعل رؤيتنا لسقمان بن أرتق وهو يذهب إلى الجهاد في حالته المرضية الشديدة دليلٌ على هذا الكلام ، كما رأينا في موقعة البليخ وما ظهر فيها من جهاد وتجرد لله ، إضافةً إلى حملات عسكرية متكررة من طغتكين أمير دمشق الذي كان - على سلبياته - محبًّا للجهاد ، محببًا عند الرعية ، راغبًا في الخير ، نادمًا على أخطائه التي لعل من أبرزها سكوته على الإسماعيلية بل إعطاءهم قلعة بانياس ، ومع ذلك فإنه عند موته أوصى إبنه بوري بن طغتكين الذي تولى الأمر من بعده بأن يُعلِي من شأن العلماء السُّنَّة ، وأن يتمسك بالجهاد في سبيل الله .

إن الأمثلة التي رأيناها في هذه الفترة لم تكن هي الأمثلة الخالصة التي يتحقق التغيير على يدها، ولكنها كانت أمثلة طيبة حملت الراية لمن بعدها ، تمهيدًا لظهور شخصية تامة التجرد لله ؛ ليُنزِل الله عليها نصره .

تاسعًا : مع شدة الألم الذي إعتصر قلوبنا لسقوط المدن الإسلامية الواحدة تلو الأخرى، ولذبح الآلاف من المسلمين ، فإنَّ هذه الغمة كانت سببًا في توضيح الرؤية للشعوب ولنا، فبعض الحكام يُدلِّس على شعبه ؛ مستغلاً إعلامه وجنوده ومقربيه ، وموهمًا الجميع أنه يتحلى بالحكمة ، ويتصف بالكياسة ، ويتميز بحسن الرأي والقرار ، بل لعله يتظاهر بحب الشريعة ، وبذل النفس من أجل الدين ! لكن تأتي مثل هذه الأحداث المحزنة فتكشف الأوراق، وتبدي الحقائق ، ويعرف الناس الغَثَّ من السمين ، والصالح من الطالح ، ولعل هذا من أبرز فوائد هذه الكوارث ، ومن أعظم نتائجها ، وصدق الله إذ يقول : (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) .

عاشرًا : برز لنا بوضوح في هذه الأحداث أن الخير سيأتي - غالبًا - من جهة شمال العراق ، وتحديدًا من مدينة الموصل ، وإذا كنا قد رأينا حملات كربوغا وجكرمش ، فإننا سنرى ما هو أعظم منها على يد مودود بن التونتكين ، ثم سيكون الظهور الأجلُّ لعماد الدين زنكي ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي ، وكلهم سيأتي من هذه المناطق، وقد ذكرنا قبل ذلك مبررات هذه الخيرية في هذه المنطقة في هذا التوقيت ، ولكن الوقفة المهمة التي نريد أن نلفت الأنظار إليها هي أن التغيير قد يأتي من مكان بعيد جدًّا عن الأحداث ، فقد رأيناه هنا يأتي من شمال العراق بدلاً من الشام أو فلسطين أو آسيا الصغرى ، وهي الأماكن المنكوبة في القصة ، ورأيناه في قصة التتار يأتي من مصر ، مع أن التتار لم يدخلوا مصر أصلاً ، ورأينا إصلاح أوضاع الأندلس بعد أن كاد الإسلام ينتهي فيها ، يأتي على يد عبد الرحمن الداخل صقر قريش القادم من دمشق ، وهكذا ؛ وعلى ذلك فعند وقوع مثل هذه النكبات لا ينبغي لنا عند التحليل والتقييم أن نقصر النظرة على البلد المنكوب ، بل نوسع النظر لنشمل العالم الإسلامي بكامله ، وحتمًا عندها سنرى النور هنا أو هناك، وهذه هي عظمة هذا الدين








آخر مواضيعي 0 حلمي لأيامي الجايه
0 صفات الله الواحد
0 عيش بروح متفائله ونفس مؤمنه
0 إبتهال قصدت باب الرجا
0 كونى انثي
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:49 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Content Relevant URLs by vBSEO 3.6.0 (Unregistered) Trans by

شبكة صدفة

↑ Grab this Headline Animator