العودة   شبكة صدفة > المنتديات العامة > ابحاث علميه و دراسات

ابحاث علميه و دراسات Research , analysis, funding and data for the academic research and policy community , ابحاث , مواضيع للطلبة والطالبات،أبحاث عامة ،بحوث تربوية جاهزة ،مكتبة دراسية، مناهج تعليم متوسط ثانوي ابتدائي ، أبحاث طبية ،اختبارات، مواد دراسيه , عروض بوربوينت

إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 06-03-2011, 11:39 PM رقم المشاركة : 21
معلومات العضو
marmer

الصورة الرمزية marmer

إحصائية العضو








marmer غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

قصة مودود

مودود بن التونتكين هو أول شخصية متوازنة تظهر في قصتنا ، تجعل الجهاد في سبيل الله منهجًا واضحًا لحياتها ، وتجعل قتال الصليبيين هدفًا إستراتيجيًّا لا يغيب عن الذهن ، ولا يبعد عن الخاطر .. وقد رأينا من سبقه من المجاهدين في القصة يجاهد مرة أو مرتين بسبب ظرف من الظروف ، أو لتكليف من السلطة الأعلى ، أو لردِّ عدوان صليبي على بلاده فقط ، أما أن تكون قضية قتال الصليبيين هي الشغل الشاغل بصرف النظر عن الظروف ، فهذا لم نره إلا في عهد مودود بن التونتكين رحمه الله ، هذا مع كونه يرأس الموصل البعيدة نسبيًّا عن إمارات الصليبيين ؛ مما يثبت أنه لم يكن يفعل ذلك لتأمين إمارته فقط ، ولكن إرضاءً لله ، وحبًّا للجهاد في سبيله .

بدأ مودود رحمه الله بترتيب بيته الداخلي في الموصل ، وإقرار الأوضاع بعد الفتن التي مرت بها الإمارة في السنوات السابقة ، وسار في إمارته بالعدل والرحمة ؛ فأحبه الناس حبًّا شديدًا ، ودانوا له جميعًا بالطاعة ، وأعلن مودود أن جهاده سيكون في سبيل الله ، وهذا جعل جنوده في حالة معنوية عالية ؛ إذ أصبح الجهاد قضية شخصية لكل واحد حيث إنهم جميعًا يعملون لله ، أما عندما كان الجهاد في عهود سابقة من أجل أمير معين أو طاعة لأمر قادم من هنا أو هناك ، فإنَّ الجنود حينها كانوا يقاتلون بفتور، ويدافعون بغير إكتراث ، ولا يسعدون بنصر ، ولا يحزنون لهزيمة ، وهذه طبيعة الجيوش العلمانية التي تقاتل دون قضية ، لكن مودود رحمه الله جعل القضية واضحة تمامًا في عين شعبه وجنده ؛ مما ترك أثرًا إيجابيًّا رائعًا على إمارته ، ظل ممتدًا لعهود طويلة .

ثم إن الخطوة التالية لمودود كانت رائعة ، وتعبر عن فقه عميق لطريق النصر ، وهي خطوة توحيد الجهود ، وتجميع الشتات ، والإلتزام بالفكر الجماعي ، وقد فقه التوحيد القرآني الفريد : (وَإعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا ) ، ومن ثَمَّ بدأ مودود في مراسلة من حوله من الأمراء لتجميع جيوشهم تحت راية واحدة ، ولهدف واحد وهو طرد الصليبيين من بلاد الإسلام ...


لقد كانت خطوة رائعة ، لكن لم ينقصها إلا شيء واحد ! وهو أن مودود بن التونتكين رحمه الله كان عملاقًا في زمان الأقزام !! فهذه الأهداف السامية ، وهذه الغايات النبيلة لم تكن تشغل أمراء ذلك الزمن ، ومن ثَمَّ لم تكن إستجابتهم عالية ، ومن إستجاب منهم لم يكن سلوكه يدل على فهمه لقضية الجهاد في سبيل الله ، بل كانت المسألة عندهم واحدة من إثنتين : إما رغبًا في نفع أو غنيمة ، وإما رهبًا من سلطة مودود بن التونتكين أو سلطانه الأكبر السلطان محمد السلجوقي ؛ ومع ذلك فقد إستطاع مودود رحمه الله أن يكوِّن حلفًا من الأمراء لَفَت أنظار المسلمين إلى ضرورة التوحُّد ، وأعاد إلى الجميع مبدأ تجميع الجهود ..

تكوَّن حلف إسلامي منظم لأول مرة في حروب المسلمين ضد الصليبيين ، وكان على رأسه مودود رحمه الله ، ويساعده فيه إيلغازي بن أرتق أمير ماردين وحصن كيفا ، وهو أخو الزعيم السابق سقمان بن أرتق الذي مات وهو في طريقه لنجدة طرابلس كما بينا قبل ذلك ، وكان في حلف مودود أيضًا سقمان القطبي (وهو غير سقمان بن أرتق بالطبع) ، وهو أمير خلاط وتبريز ، كما تراسل معهم طغتكين أمير دمشق ، الذي كان له - كما ذكرنا - بعض الميول الجهادية ضد الصليبيين .

كانت وجهة هذه الحملة واضحة إذ قرروا التوجه صوب الرها ، والغرض تحرير هذه الإمارة الإسلامية من الإحتلال الصليبي ، وتحركت الجيوش الإسلامية من الموصل في شوال سنة (503هـ) إبريل 1110م ، وفي غضون أيام قليلة وصلت الحملة العسكرية إلى حصون مدينة الرها ، وهي تقع شرق نهر الفرات ، وهي من أحصن القلاع في ذلك الوقت ، وضرب مودود الحصار حول المدينة !

شعر بلدوين دي بورج أمير الرها بالخطر الشديد ، ومن ثَمَّ أرسل رسالة إستغاثة عاجلة إلى بلدوين الأول ملك بيت المقدس ، وكان الذي يحمل الرسالة هو جوسلين دي كورتناي شخصيًّا أمير تل باشر ، دلالةً على إهتمام بلدوين دي بورج بالأمر ، ووصلت الرسالة إلى الملك بلدوين الأول وهو في بيروت حيث كان محاصِرًا لها آنذاك .

ظل الأمير مودود محاصِرًا لمدينة الرها مدة شهرين كاملين ، وقد حاول بكل طريقة أن ينفذ من خلال إستحكاماتها العسكرية لكنه لم يفلح لشدة حصانة المدينة ، وفي هذه الأثناء كان بلدوين الأول يجمع الجيوش الصليبية للدفاع عن إمارة الرها ، وبالفعل جاء بلدوين الأول بنفسه على رأس فرقة من جيشه وجاء معه برترام أمير طرابلس ، بينما رفض تانكرد أن يأتي للخصومة التي كانت بينه وبين بلدوين دي بورج أمير الرها .

رأى مودود رحمه الله أن جيوشه ستحصر بين جيوش الصليبيين ، حيث ستخرج له جيوش بلدوين دي بورج ، ويغلق عليه بلدوين الأول وبرترام طريق العودة ، ومن هنا آثر مودود في ذكاء حربي واضح أن ينسحب بجيشه إلى حرَّان جنوب شرق الرها ؛ تمهيدًا للانسحاب أكثر وأكثر لإستدراج الجيش الصليبي ، كما حدث قبل ذلك بست سنوات في موقعة البليخ ، وهناك في حران وافته جيوش طغتكين أمير دمشق لتزداد بذلك القوة الإسلامية .

نظر بلدوين الأول الملك المحنك إلى هذه الترتيبات العسكرية ففهمها ، وأدرك صعوبة التوغل إلى حران بجيوشهم القليلة نسبيًّا ، فأرسل رسالة عاجلة إلى تانكرد يستحثه على القدوم بجيشه لمقابلة المسلمين في موقعة فاصلة ، وإزاء ضغط بلدوين الأول ، وإضطر تانكرد إلى الموافقة ، فجاء على رأس ألف وخمسمائة فارس ، وعند وصوله عقد بلدوين الأول مجلس مصالحة صفَّى فيه الخلافات القديمة بين الزعيمين بلدوين دي بورج وتانكرد !

إضافةً إلى هذه التحركات الواعية من بلدوين الأول تفاوض هذا الملك الخبير مع كوغ باسيل الأمير الأرمني لمدينة كيسوم ، وبالفعل إنضم إليه كوغ باسيل بفرقة من جيشه .

زادت قدرات الجيش الصليبي ، ولكن ذلك لم يكن خافيًا على إستخبارات مودود رحمه الله ، فقرر أن يُمعِن في الإنسحاب حتى يستدرج الصليبيين بعيدًا تمامًا عن حصون الرها أو تل باشر ليفتقروا إلى ملجأ في حال هزيمتهم ، غير أن بلدوين الأول كان يلعب هو الآخر مباراة ذكاء مع مودود ، فقرأ الخطة ولم يندفع وراء الجيش الإسلامي ، خاصةً أنه كان الحاكم السابق لإمارة الرها ؛ ومن ثَمَّ فإنه يدرك جغرافية المكان ، وخطورة التوغل جنوبًا .

في هذا الوقت ترامت أخبار للملك بلدوين الأول بإحتمال هجوم عبيدي على مملكة بيت المقدس ، وكذلك وردت أخبار عن تحركات لرضوان ملك حلب صوب بعض القلاع المملوكة لتانكرد حول أنطاكية ، وقد جعلت هذه الأخبار المزعجة الصليبيين في قلق على إماراتهم ، ومن ثَمَّ قرروا الرجوع دون القتال ؛ ومع ذلك فقد رأى بلدوين الأول أن ترك هذه المساحات الكبيرة من القرى والضياع والمزارع - وكلها داخلة في حدود إمارة الرها - سيمثل خطورة كبيرة على سكانها الصليبيين والأرمن ، ومن ثَمَّ أصدر قراره بترحيل كل السكان من هذه المناطق الواقعة شرق الفرات إلى غربه ؛ وذلك لتفادي هجوم المسلمين عليهم ، وعليه فلن يبقى شرق الفرات إلا المدينتان الكبيرتان الرها وسروج .

وبالفعل بدأ الترحيل السريع للسكان تمهيدًا لعودة الجيوش الصليبية إلى أماكنها ، وأدرك ذلك مودود فتقدم بجيوشه شمالاً ، والصليبيون يتراجعون في سرعة ، ومع ذلك إستطاع مودود أن يلحق بمؤخرة الجيش الصليبية ، وبكثير من السكان الذين فشلوا في عملية الترحيل المفاجئة ، وهذا أدى إلى إنتصار إسلامي سريع على مؤخرة الصليبيين ، مع إمتلاك عدد كبير من الأسرى والغنائم والسلاح .

لم تكن الموقعة فاصلة بالطبع ؛ لأن معظم الجيوش الصليبية كانت قد عبرت نهر الفرات إلى الغرب ، أو دخلت حصون الرها وسروج ، ومع ذلك فإنَّ الموقعة تركت عدة آثار إيجابية لا يمكن إغفالها :

أولاً : وضعت الموقعة المسلمين على الطريق الصحيح ، حيث كانت الراية المرفوعة هي راية الجهاد في سبيل الله .

ثانيًا : كانت هذه هي الموقعة الأولى التي تجمع فيها جيوش عدة إمارات في جيش واحد ، وخاصةً أن طغتكين شارك فيها بجيش دمشقي مع الجيوش العراقية والفارسية .

ثالثًا : أدرك النصارى في هذه الموقعة أن العزيمة الإسلامية لم تمت ، وأن الأمة الإسلامية لم تنس قضية الإمارات المحتلة ، ولا شك أن هذا ترك أثرًا نفسيًّا سلبيًّا على الصليبيين .

رابعًا : فَقَد الصليبيون عددًا من الأسرى والغنائم أضافت إلى قوة المسلمين .

خامسًا : إستطاع المسلمون السيطرة على بعض الحصون والقلاع والأراضي شرق الفرات ، ولم يبق في شرق الفرات سوى مدينتي الرها وسروج ، وهما - وإن كانتا في غاية الحصانة – إلا أنهما صارتا معزولتين فقيرتين بعد سيطرة المسلمين على المزارع حولهما ، ولا شك أن هذا سيضعف من إمارة الرها .

وهكذا تركت هذه الحملة إنطباعًا إيجابيًّا مع أنها لم تكن فاصلة ، وعاد مودود إلى الموصل ، بينما رجع كل أمير إلى إمارته .

بدأ المسلمون يشعرون هنا وهناك بأن الأمل ما زال موجودًا ، وأن الواقع الأليم من الممكن أن يُغير ، وشعروا في نفس الوقت أن مودود يقاتل بمفرده ، وأن الجيوش المتعاونة معه ليست على نفس مستواه ، فأراد المخلصون من أبناء الأمة للحركة أن تتسارع ، وللحميَّة أن تلتهب في صدور الرجال ، فقام وفد من أهل حلب ، من تجارها وفقهائها وعامتها ، وتوجهوا إلى بغداد ، فقد يئسوا من زعيمهم المتثاقل رضوان ، وهناك إلتقوا مع خليفة المسلمين المستظهر بالله ، ولكنه - كما نعلم - ليس خليفة بالمعنى الحقيقي ، إنما هو صورة خليفة ؛ ولذلك لم يكن لقدوم وفد حلب إليه أثر في قلبه أو عقله ، إنما إكتفى كعادته بسؤالهم عن أحوالهم وظروفهم ، وإبداء الألم والتأسي لما مر به ، ووعدهم بالتأييد الكامل لهم قلبيًّا لا فعليًّا !! ووعد أيضًا أن يرفع يده بالدعاء لله أن يرفع الكربة ويزيل الغمة !!

إن الصورة طبيعية ، وردَّ الفعل متوقعٌ من رجل مسكين لا حيلة له ، لكنَّ أهل حلب لم يقتنعوا بهذه السخافات ، إنما إنطلقوا إلى أهل بغداد؛ يشرحون لهذا ، ويفسرون لذاك ، ويعرضون الحالة المأساوية التي وصلت لها أمة الإسلام ، وينبهون الغافل أن الدور - وإن كانت الشام هي التي تعاني الآن - سيأتي مستقبلاً لا محالة على الجميع !

والحمد لله أن هذه الكلمات وجدت آذانًا مصغية من أهل بغداد ، ووجدت أيضًا عقولاً فاهمة ، وقلوبًا واعية ، وكان من الواضح أن أثر المدارس النظامية التي أسسها نظام الملك رحمه الله ، وأثر العلماء الذين ملئوا بغداد علمًا ونورًا ، كان من الواضح أن هذا الأثر ما زال باقيًا ، ومن ثَمَّ كانت ردة الفعل عند الشعب كبيرة ، بل غير مألوفة في هذا الزمن ! لقد نظَّم الشعب في بغداد - وهو شعب كبير - مظاهرةً ضخمة خرجت في أحد أيام الجمعة من النصف الثاني من عام (504هـ)1111م ، وكانت هذه المظاهرة تطالب صراحة بالجهاد في سبيل الله لإخراج الصليبيين من ديار الإسلام ، وتوجهت المظاهرة إلى مسجد السلطان قبيل الجمعة ، وإقتحمت الجموع المسجد ، بل وذهبوا إلى المنبر في غضب بالغ ، وقاموا بكسره ، والتجمهر في المنطقة ، وتكهرب الجو جدًّا حتى إن صلاة الجمعة لم تقم في هذا المسجد ! ووصلت الأنباء إلى السلطان محمد فوعد الجموع بالجهاد لتسكين ثائرتهم ، والسيطرة على الموقف ، لكن مرَّ أسبوع ولم يحدث شيء ، فتحركت الجموع من جديد في يوم الجمعة التالي ، وذهبوا هذه المرة إلى جامع القصر بدار الخلافة ، فمنعهم حراس الباب ، فإصطدموا معهم وغلبوهم ، ودخلوا الجامع ، وكسروا شباك المقصورة التي يجلس فيها الخليفة ، وكسروا أيضًا المنبر، وهكذا لم تقم صلاة الجمعة في هذا المسجد كما حدث في مسجد السلطان في الجمعة الماضية ، وصار واضحًا أن الأمر خطيرٌ ، وأن التهاون في ذلك الأمر قد يؤدي إلى كوارث ضخمة ، وهنا كان لا بد للخليفة والسلطان أن يتخذا قرارًا حاسمًا يُنهي المشكلة ؛ ولم يكن أمامهما إلا أحد أمرين : إما موافقة العامة ، وتجهيز جيوش حقيقية لمقابلة الصليبيين في موقعة فاصلة ، وإما إستخدام سلاح القمع مع الشعب ، والتهديد بالحبس والجلد والقتل ، وما إلى ذلك من وسائل معروفة !

لكن من الواضح أن الثورة كانت كبيرة ، وأن الشعب كان متحدًا في هدف واحد ، وأن الخطوات كانت منظمة ومرتبة ؛ وكل هذا جعل الخليفة والسلطان يعيدان حساباتهما ، ومن ثَمَّ رضخا لقرار الشعب ، وبدأ بالفعل في تجهيز جيش كبير لقتال الصليبيين ، بل إن السلطان محمد جعل القيادة الاسمية لهذا الجيش لإبنه مسعود ، بينما أوكل القيادة الفعلية للمجاهد الحقيقي مودود بن التونتكين !

لقد كان موقف الشعب في بغداد من المواقف المؤثرة في التاريخ ، وإذا سألنا لماذا لم يقم الشعب في حلب أو دمشق أو حماة أو حمص بمثل هذه المظاهرات والثورات ، لقلنا أن الإجابة بوضوح هي أن الشعب في بغداد رُبِّي على مدار سنوات عديدة على المعاني الفاضلة من العلم والجهاد والنخوة ، وشارك في هذا علماء كُثُر ، لعل كثيرًا منهم قد قضى نحبه الآن ، ولم يشاهد هذه الآثار ، ومما يثبت هذا السبب ما ذكره إبن الأثير في كتابه الرائع الكامل في التاريخ أن هذه الثورات في بغداد كانت بصحبة "خلق كثير" من الفقهاء !
إن المسألة واضحة بينة !

إنهم العلماء !!

لو صلح علماء الأمة صلح أمرها ، ولو فسدوا فكيف نرجو صلاحًا ؟! ولهذا ليس من فراغٍ أن يقول رسول الله : "إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ" ، وليس من فراغٍ أن يقول : "إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في جحرها ، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير" .

وهكذا في أوائل سنة (505هـ)\1111م بدأت تجميع الجيوش الإسلامية على نطاق أوسع ، وكان مركز التجمع هو مدينة الموصل ، حيث الزعيم المجاهد مودود بن التونتكين ، وحيث الشعب الفاهم الذي يمثِّل عماد الجيوش ومركز ثقله .

وجاءت الجيوش من هنا وهناك ، فخرج الأمير مسعود من بغداد ، وخرج أيضًا سقمان القطبي من خلاط وتبريز (جنوب تركيا وغرب إيران) ، وإياز بن إيلغازي بن أرتق من ماردين ، والأمير الكردي أحمديل أمير مراغة (في أذربيجان) ، والأمير برسق أمير همذان وأولاده الأميران إيلبكي وزنكي ، وأبو الهيجاء أمير إربل ..

لقد كان تجمعًا كبيرًا حقًّا ! ولكننا تعلمنا أن العبرة ليست بالأعداد ، ولكن بالنوعيَّة ، وفي كل هؤلاء لم نكن نرى فيهم من فهم القضية بعمق ، وبذل فيها بصدق ، إلا مودود ومن معه من أهل الموصل ، أما غيرهم من الأمراء فإنهم جاءوا طائعين لأمر السلطان محمد لا طائعين لأمر الله ، وشتَّان !

وخرج الجيش الكبير في شهر محرم (505) تموز 1111م ، وبدأ فورًا في عدة عمليات شرق الفرات تستهدف إسقاط القلاع الصليبية في هذه المنطقة تمهيدًا لحصار مدينة الرها ذاتها ، وبالفعل سقط عدد من المواقع الصليبية ، ووصل الجيش في سهولة إلى مدينة الرها ، وبدأ الحصار !

كانت مدينة الرها على حصانتها المعهودة ، بل إن الصليبيين عندما علموا بقدوم الجيش الإسلامي أمدوها بكثير من المؤن والغذاء لتصبر على الحصار الطويل ، ولم يعزم الصليبيون أبدًا على الخروج لحرب المسلمين ، وكانت النتيجة أن شعر مودود أن الوقت يضيع بلا فائدة ، فحصون المدينة أشد من أن تسقط !

ماذا يفعل مودود ؟!

لقد قرَّر أن يكون واقعيًّا ، وأن يفك الحصار عن الرها المنيعة ، ويتجه إلى غيرها من حصون الصليبيين ، وعليه فقد غادر الجيش الرها إلى المدينة الثانية في إمارة الرها وهي مدينة تل باشر غرب الفرات ، والتي كان على رأسها جوسلين دي كورتناي القائد الصليبي المشهور .

وحاصر الجيش الإسلامي مدينة تل باشر حصارًا محكمًا ، وحاول بكل طاقته أن يفتح أبوابها ، أو أن يهدم أسوارها ، لكنها كانت منيعة كالرها !

ومرت الأيام صعبة على المسلمين دون بادرة تغيُّر في الموقف ، وفي هذه الأثناء جاءت رسالتان من الشام تحملان إستغاثة إلى الأمير مودود .

أما الرسالة الأولى فكانت من أمير شيزر سلطان بن منقذ يخبر فيها أن جيوش تانكرد أمير أنطاكية تهاجم مدينته ، وأما الرسالة الثانية فكانت من الخبيث رضوان الذي أبدى رغبته في التعاون مع الجيوش الإسلامية ضد تانكرد أمير أنطاكية الذي يهاجم حلب كما يهاجم شيزر ، ولا شك أن هذه كانت رسائل مفزعة للجيش الإسلامي لأنَّ سقوط مدن إسلامية جديدة ، وخاصةً إن كانت كبيرة مهمة كحلب ، سوف يؤدي إلى تعقيد الموقف أكثر ، وتقوية الصليبيين بدرجةٍ أكبر .

وتردَّد الأمير مودود في رفع الحصار عن تل باشر ، خاصةً أن رضوان غير مأمون ، غير أنَّ الشر والخبث لم يكن عند رضوان فقط ! فقد وصل جوسلين دي كورتناي أمير تل باشر إلى أحمديل أمير مراغة ، وأجرى معه مباحثات سرية وَعَده فيها بوعودٍ نظير إقناع الجيش المسلم بفك الحصار عن تل باشر ! إنها الخيانة في أرض الجهاد ، والطعن في الظهر للجيش الذي يُعلِّق المسلمون عليه آمالهم !

وإستطاع أحمديل أن يقنع القادة المزعومين بضرورة التوجُّه لنصرة رضوان ، وإجتمع الأمراء على ذلك ، وإضطر مودود إلى الموافقة ، ورفع الحصار عن تل باشر بعد مرور خمسة وأربعين يومًا كاملة .

وتوجَّه مودود بالجيش المسلم إلى حلب ؛ أملاً في ضمِّ قوته إلى قوة جيش رضوان لمواجهة تانكرد الصليبي ، فليس المهم الآن هو إسقاط الرها ذاتها ، ولكن المهم هو تحرير أيّ أرض إسلامية ، ولو كانت بعيدة عن الموصل .

ولكن عند حلب حدث ما كان متوقعًا من رضوان ! لقد أغلق المدينة في وجه جيوش الموصل والعراق وفارس ، وأعلن أنه يخشى من هذه الجيوش أشد من خشيته من جيوش الصليبيين !

وحدثت أزمة كبيرة ؛ فالجيوش الإسلامية الآن توغلت جدًّا في البلاد ، وبَعُدت عن مددها الأصلي في شمال العراق ، ورضوان يُغلِق الحصون الحلبية في وجهها ، ولو جاءت الجيوش الصليبية الآن فسيصبح الموقف صعبًا ، خاصةً أن حصون الصليبيين قريبة في كل مكان ، والمصيبة أن يخرج بلدوين دي بورج من حصونه في الرها لغلق باب العودة على الجيش الإسلامي ، ولمنع المدد من الوصول إليهم ! لقد وضع رضوان الخائن جيش المسلمين في مأزق حقيقي !

وإزاء هذا الوضع المتردي أفاق شعب حلب فجأةً ، وقرَّر الخروج في مظاهرات عارمة لردع رضوان عن هذا التصرف المشين ، إلا أنَّ رضوان قام بإعتقال عدد كبير من أعيان المدينة ورؤساء القوم ، وإتخذهم رهائن لتهديد الشعب إذا إستمر في رفضه !!

إنها صورة مكرورة في التاريخ والواقع للقائد الذي يُبدِي كل التخاذل أمام أعداء الأمة ، بينما يبرز سطوته وقهره على شعبه وأهله وأبناء دينه ووطنه !

ووجد مودود نفسه في خطر شديد ، خاصةً أنَّ الأخبار ترامت أن رضوان عقد تحالفًا مع تانكرد نفسه لضرب الجيش الإسلامي ! فقرَّر مودود أن يتجه جنوبًا ليبعد عن حلب ، وليقترب من دمشق حيث إن الأمير طغتكين - وإن لم يكن مجاهدًا من الطراز الأول - أفضلُ من رضوان ! وفي حوض نهر العاصي ، وبالقرب من معرَّة النعمان حضر طغتكين أمير دمشق ، وإلتقى مع مودود الأمير المَكْلُوم من الأمراء المسلمين ، كما هو الحال من الأمراء الصليبيين !

ودارت مباحثات بين زعماء الجيش الإسلامي العراقي والفارسي وبين الأمير طغتكين ، وبدا واضحًا في المباحثات أن طغتكين - مع رغبته في قتال الصليبيين - كان يخشى هذا الجيش الإسلامي الكبير ، ومع هذا الشعور المتوجس فإنَّ طغتكين إستطاع أن يفرِّق بسهولة بين الأمير مودود وبقية أمراء الجيش ؛ فالأول رجل يريد حرب الصليبيين لله ، ولا يريد ملكًا ولا ثروة ، أمَّا الآخرون فهم كعامة الأمراء في هذا الزمن لا يريدون إلا الدنيا ، وليس لهم في الجهاد نصيب !! ومن هنا نشأت علاقة مودة بين طغتكين ومودود إلا أنه كان يخشى من تأثير بقية الزعماء عليه ، ومن ثَمَّ أصر طغتكين في المباحثات أن تجتمع الجيوش لمهاجمة مدينة طرابلس ليضمن بذلك أن يبعدهم عن دمشق ، وفي ذات الوقت يضربون أخطر الزعماء الصليبيين بالنسبة له وهو برترام بن ريمون أمير طرابلس لقربه من أملاك طغتكين .

لقد كانت تتنازع طغتكين عوامل الدنيا والدين ، ورغبات النفس وأوامر الشرع ، فخرجت أعماله مضطربة ، لا هي بالجهاد الصريح كمودود ، ولا هي بالعمالة الصريحة كرضوان ! وأمثال هذا كثير ، وهؤلاء - وإن كان فيهم صلاحٌ - لا يقدرون على التغيير !

وإذا كنا نرى هذه الأزمات الأخلاقية في الجيش الإسلامي ، فإننا رأينا على الناحية الأخرى تماسكًا ملحوظًا في الكيان الصليبي ؛ فقد أرسل تانكرد رسالة إستغاثة إلى بلدوين الأول ملك بيت المقدس فورًا ، يدعو أمراء طرابلس والرُّها وتل باشر للإلتقاء جميعًا للتوحُّد في مواجهة المسلمين !

إن الله له سُنَّة لا تتبدل ولا تتغير ؛ فالجيش الذي يسعى للوحدة بهذه الصورة لا بد أن تكون له رهبة وأثر ، والجيش الذي لا يَقْوَى على التجمع والاتحاد - حتى في أحلك الظروف - جيشٌ لا يُتوقع له نصر !

وتأزَّم الموقف جدًّا في المعسكر الإسلامي ، ودبَّ الرعب في أوصال معظم القادة ، ومات سقمان القطبي فجأةً - لعله من الخوف - فقرَّر جيشه الانسحاب ! وكانت علة مناسبة لهم لتجنُّب القتال ، ومرض برسق أمير همذان ، وقرر أن يعود هو الآخر لبلاده كي يُطبَّب هناك !! فإنسحب جيشه أيضًا ، أما أحمديل الزعيم الذي تفاوض سرًّا مع جوسلين فقد تعلَّل بوجود بعض المشاكل الداخلية في مراغة فقرر الانسحاب من المعركة ، وهو بذلك يضرب عصفورين بحجر ؛ فهو سيهرب من الصدام مع الصليبيين ، وكذلك سيسعى لتحصيل جزء من إرث سقمان القطبي الزعيم الذي مات منذ قليل ، كذلك عاد جيش إياز بن إيلغازي إلى بلاده لهدف عجيب وهو الهجوم على جيش سقمان القطبي بعد وفاة قائده ؛ ليغنم ما معهم !! غير أنَّ جيش سقمان إنتصر عليه وغنموا ما معه ، وساروا به إلى بلادهم !

هل يُصدِّق ذلك أحد ؟!

هل يمكن للأمراء والزعماء أن يتفقوا جميعًا على الجبن والهروب والخيانة ؟! إنَّ هذا هو ما حدث بالفعل ! وهو يفسر المصيبة الكبيرة التي ألمت بالمسلمين أيام الحروب الصليبية ، وهو يفسر أيضًا النكبات التي تمر بالأمة في أيِّ فترة من فترات ضعفها ، وليست أحداث 1948 أو 1967 منا ببعيد !!

وجد الأمير مودود رحمه الله نفسه وحيدًا في أرض القتال ، ولم يثبت معه إلا جيشه ، إضافةً إلى طغتكين أمير دمشق ؛ وأقبلت الجيوش الصليبية من كل مكان ، وبلغ عددها ستة عشر ألف مقاتل ، وهو أكبر بكثيرٍ من القوة الإسلامية المتبقية .

في هذا الوضع الخطير جاءت رسالة من أمير شيزر سلطان بن منقذ يدعو فيها الجيش الإسلامي للقدوم إلى شيزر للتحصن بها ، فتتحقق منفعة مزدوجة ؛ فهذا حماية لشيزر من ناحية ، وحماية للجيش المسلم من ناحية أخرى ، وبالفعل توجه الجيش الإسلامي إلى شيزر، وتحصن وراء أسوارها ، وجاء الجيش الصليبي وقد طمع في الجيش المسلم بعد هروب معظمه !

كان موقع الجيش الإسلامي خطيرًا وهو في هذه العزلة عن بلاده ؛ ولذلك لم يرغب الأمير مودود أن يبقى محصورًا في هذه المنطقة ، ولم يكن أمامه إلا تخويف الجيش الصليبي لعلَّه يفتح له الطريق للعودة إلى بلاده ؛ ومن هنا قرر الأمير مودود أن يخرج من الحصون ليناوش الصليبيين ثم يعود ، وهكذا حتى يؤثِّر في الصليبيين فيتركوه يعود ، ويرضوا منه بعدم القتال .

وللصدق الذي يراه الله في قلب مودود ألقى سبحانه وتعالى الرهبة في قلوب الأعداد الكبيرة من الصليبيين ، وبدءوا بالفعل يخشون الهجمات الجريئة للجيش المسلم بل إستطاع الأمير مودود أن يغنم بعض الغنائم من مؤخرة الجيش الصليبي !

رأى الصليبيون أنه من الأسلم لهم أن يتركوا هذا المجاهد العنيد ليعود إلى بلاده ؛ ليتفرَّغوا هم للملوك الضعفاء في الشام ، أما مودود فكان واقعيًّا ، ورأى أن الإصرار على الحرب نوعٌ من التدمير غير المقبول لجيشه ، ومن ثَمَّ إنطلق إلى الموصل ، بينما عاد طغتكين إلى دمشق !

لقد فشلت هذه الحملة في تحقيق مقاصدها ، ولكنها حققت نفعًا واحدًا وهو كشف أوراق هؤلاء الزعماء ، ليس أمام مودود فقط ، ولكن أمام شعوبهم أيضًا ، وعرف الناس على وجه اليقين مَن هو المخلص المجاهد ، ومَن هو المنافق المتثاقل ، ووضوح الرؤية هذا في غاية الأهمية لإكمال المسيرة ، وحتى لا يبني الناس قصورًا من الرمال ، ويُعلِّقون الأحلام الكبيرة على شخصية قد تُحسن الكلام ولكنها لا تعرف عن العمل شيئًا !!

ومع هذه الآلام المركَّبة التي عانى منها مودود رحمه الله فإنَّه لم ينسَ القضية ، مع أنَّ إمارته آمنة ، وبعيدة نسبيًّا عن الخطر ، ومع أن ظروفه في بلده مستقرة ، ويتمتع بحبِّ شعبه له ، لكنه كان متجردًا لله ، فاهمًا للدَّور الذي عليه تجاه دينه وأمته ، وهذا الذي دفعه لإستمرار المسيرة مع كل الخيانات التي تعرَّض لها ؛ ولهذا نجده يُعِدُّ جيشه في ذي القعدة من نفس السنة ، أي في سنة (505هـ) أيار 1112م ، ويهاجم فجأة مدينة الرها مرة أخرى ! إنه مع صلابة الإستحكامات ، وقلة جيشه لا ييأس من تكرار المحاولة ، ولكنَّ حصون المدينة كانت أشد من جيوش مودود ، ففكر مودود في مهاجمة مدينة سروج ، وهي مدينة كبيرة تقع في شرق الفرات بالقرب من الرها ، وتعتبر المعقل الثاني للصليبيين شرق الفرات ، ولكن مودود خشي أن يخرج بلدوين دي بورج من المدينة فيهاجم مؤخرة الجيش الإسلامي ؛ ولذلك ترك قسمًا من الجيش يحاصر المدينة ، وذهب بالقسم الثاني لحصار سروج ، ولكن - للأسف - وصلت حركة هذه الجيوش إلى جوسلين دي كورتناي أمير تل باشر ، وعرف أن مودود تحرك بقسم صغير من جيشه إلى سروج ، فإنتهز الفرصة ، وأخذ جيشه وإنطلق صوب سروج ، وهناك إستطاع أن يُلحِق هزيمة بجيش مودود ، وقتل عددًا كبيرًا من رجاله ، ويبدو أن مودود كان قد أخطأ التقدير لعدد جيشه ، فتحرك بعدد قليل وسط جموع كبيرة من الصليبيين !

وعلى الرغم من ثقل وَقْع الهزيمة على نفس مودود فإنَّه عاد مسرعًا إلى الرها لينضم ببقية جيشه إلى المسلمين المحاصِرين هناك للحصون ..

في هذه الأثناء ، وبينما تدور المعركة حول سروج كان الجيش الإسلامي في الرها قد نجح في عقد معاهدة سرية مع الأرمن في داخل حصون الرها !، يتم بموجب هذه المعاهدة تسليم المسلمين إحدى القلاع المهمة التي تسيطر على القطاع الشرقي من المدينة ، وبالفعل تسلَّم المسلمون القلعة ، وبدءوا يتسربون منها إلى داخل حصون الرها ، وجاء مودود في هذه اللحظات ، وأسرع مع جنوده لإكمال إسقاط الرها ، غير أنَّ جوسلين دي كورتناي كان قد قرأ هذه الأحداث ، ومن ثَمَّ أتى قادمًا بجيشه من سروج إلى الرها ، وإزاء هذا الوضع الجديد وجد مودود أن قوَّته المتبقية لن تفلح في هزيمة الجيوش الصليبية المجتمعة ، ومن هنا قرَّر مودود رحمه الله الانسحاب مرة أخرى إلى الموصل !

إنها المحاولات المتكررة دون يأسٍ ، ولكنَّ الله لم يُقدِّر بعدُ أن تُفتح الرها !

إنه الطريق الصعب للجهاد الذي ينتهي بالجنة دون اعتبار بالنتائج المتحققة ، ما دام الجهد كله قد بذل ، وما أروع أن يكون شهداء أُحُد في أعلى علِّيِّين ، وأن يكون حمزة بن عبد المطلب هو سيد الشهداء في الجنة ، مع أن الجميع قد إستشهد في مصيبة كبيرة حلَّت بالمسلمين ، لكن أدَّوا ما عليهم ، ولم يتهاونوا أو يفرِّطوا !!

لكن قبل أن نستكمل قصة مودود لا بد من الوقوف مع ما حدث في إمارة الرها حين تراسل الأرمن - وهم مسيحيون - مع جيش المسلمين لتمكينهم من السيطرة على المدينة ! إن هذا يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الأرمن كانوا يرون الحكم الإسلامي للمدينة أرحم وأعدل ألف مرة من الحكم الصليبي الكاثوليكي ؛ مما جعلهم يضحون بأبناء دينهم ، ويتعاونون مع المسلمين ، ولم يكن هذا من رجلٍ دُفع له مال أو وُعِد بشيء ، إنما كان من الشعب في معظمه ، وهذا دليلٌ على صحة تقييم الحكم الإسلامي .

ولم يكن مستغربًا - طبعًا - بعد رحيل مودود أن تُقام المحاكم العسكرية الغاشمة من الصليبيين للأرمن في مدينة الرها ، وكان متوقعًا أن تصدر الأحكام التعسفية ضد الشعب ، وقتل عدد كبير منهم ، ورُحِّل آخرون إلى خارج المدينة ، وصار التعايش بين الأرمن والصليبيين صعبًا للغاية ، خاصةً أن علاقة الأرمن ببلدوين دي بورج كانت مضطربة بعد عودته من الأسر سنة (501هـ)\ 1108م ، أي منذ أربع سنوات سابقة .

وكان من الواضح أن الوضع أصبح خطرًا في داخل إمارة الرها ؛ فقد أصبح بلدوين دي بورج يتشكك في كل من حوله مخافة الخيانة والتحالف مع المسلمين ، بل إن بلدوين فَقَد صوابه تمامًا وتشكَّك في جوسلين دي كورتناي ، وهو يعتبر الرجل الثاني في الإمارة ، وذلك أنه رأى أن الأرمن يميلون له ويحبونه ؛ فقام بعزله وطرده من الإمارة ، مع أنه قدَّم له خدماتٍ جليلة من أيام أسر بلدوين دي بورج ومرورًا بالمعارك المختلفة مع المسلمين ، وحفظ الأمن في إمارة الرها ، وإنتهاءً بالإنتصار على حملة مودود الأخيرة ، لكنَّ هذا هو الذي حدث بالفعل ، وتمَّ إقصاء جوسلين عن منصبه ، فتوجه إلى مملكة بيت المقدس حيث رحَّب به وإستقبله إستقبالاً حافلاً بلدوين الأول ، وقرَّر الإستفادة من قدراته العسكرية الهائلة فأقطعه إمارة طبرية والجليل .

إذن مع فشل حملة مودود العسكرية في سنة (505هـ)\ 1112م إلا أنها أحدثت إضطرابًا كبيرًا في داخل إمارة الرها ، أدَّى إلى قلاقل داخلية وعدم إستقرار ، إضافةً إلى إبعاد الخطير جوسلين دي كورتناي عن ساحة الرها .

ومرة أخرى قبل أن نعود لقصة مودود نُعلِّق على حدث آخر محوريّ حدث في هذه السنة، وهو وفاة تانكرد النورماني أمير أنطاكية في (506هـ)\ 12 من ديسمبر 1112م ، وكانت وفاته خسارة كبيرة للصليبيين حيث تميَّز بالدهاء والشراسة في حربه ضد المسلمين ، ويعتبر هو المؤسس الحقيقي لإمارة أنطاكية ، حيث أدار أمورها ثلاث سنوات حين أُسِر خاله بوهيموند ، ثم أدارها ثماني سنوات أخرى بعد رحيل خاله إلى إيطاليا ، وكان نشيطًا نشاطًا بالغًا ليس ضد المسلمين فقط ، ولكن كذلك ضد البيزنطيين ؛ مما أعطى إمارة أنطاكية شكلاً قويًّا مستقرًّا .

ولمَّا لم يكن لتانكرد وريث شرعي للحكم ، فإنه إستخلف - وهو على فراش الموت - شيطانًا مريدًا من شياطين الصليبيين ، وهو روجر دي سالرنو ، وهو من القادة النورمان الأشدَّاء الذين لم يكونوا أقل دهاءً ، ولا أقل شراسةً من تانكرد نفسه ، وكان زوج أخت بلدوين دي بورج أمير الرها ، فكان في ولايته على أنطاكية توثيقٌ للروابط بين إمارتي الرها وأنطاكية .

ولقد شَرَط تانكرد على روجر دي سالرنو أن يُسلِّم الحكم لإبن بوهيموند الطفل ، وهو الذي يُعرف ببوهيموند الثاني ، وكان يبلغ من العمر سنتين فقط ، ويعيش في إيطاليا ، وذلك بعد أن يبلغ هذا الطفل سنَّ الرشد ليتسلم بذلك تركة أبيه ، وقد عُرف روجر دي سالرنو أثناء فترة حكمه بروجر الأنطاكي نسبة إلى أنطاكية ، أو روجر الصقلي نسبة إلى موطنه الأصلي صقلية .

ومن الجدير بالذكر أيضًا أنه بعد وفاة تانكرد بقليل ، وفي سنة 506هـ\ أوائل 1113م تُوُفِّي أيضًا برترام بن ريمون الرابع أمير طرابلس ، تاركًا حكم إمارة طرابلس لابنه بونز Pons ؛ لينشأ بذلك الجيل الثاني من الأمراء والحكام للإمارات الصليبية في بلاد الشام .

ونعود من جديد لقصة مودود رحمه الله ؛ إستمر مودود رحمه الله في الإعداد لحملة جديدة يهاجم فيها الصليبيين منتهزًا أيَّ فرصة مناسبة للخروج ، ولم يكن مهتمًّا كثيرًا بالإتجاه إلى إمارة صليبية معينة بل كان غرضه هو تحرير البلاد الإسلامية كلها ، وليس مكانًا معينًا بذاته ، فكان أن أرسل إليه طغتكين أمير دمشق يستغيث به في أواخر سنة (506هـ)\ مايو 1113م ، حيث توقَّع صدامًا مرتقبًا مع بلدوين الأول ملك بيت المقدس .

والواقع أن طغتكين كان قد دخل عدة مناوشات مع ملك بيت المقدس ، وخاصةً حول مدينة صور اللبنانية ، وكانت مدينة صور هي المدينة الوحيدة في قطاع لبنان التي لم تسقط في يد الصليبيين ، ولم ينسها بلدوين الأول بل وجَّه إليها قوة عسكرية لإسقاطها ، فإستغاث أهلها بطغتكين ، فتوجه إليها بقوة من جيشه ، وإستطاع الدفاع عنها ببسالة ، بل إنه قال لأهلها : " أنا ما فعلت هذا إلا لله تعالى ، لا لرغبة في حصنٍ أو مال ، ومتى دهمكم عدوٌّ جئتكم بنفسي ورجالي " . والواقع أن مستقبل الأحداث صدَّق هذا الكلام ، حيث لم يطالب طغتكين أهل صور بدفع مال له نظير الحماية ، ولا شك أن هذا التطوع منه أغضب بلدوين جدًّا ، فكانت النتيجة أنه بدأ يهاجم الضِّياع والأملاك الواقعة جنوب دمشق ، مستخدمًا في ذلك الحامية القوية الموجودة في منطقة الجليل وطبرية بقيادة القائد المتحمِّس الجديد جوسلين دي كورتناي ، بل لم يكتفِ بلدوين الأول بذلك ، بل أخذ في مهاجمة القوافل الدمشقية المتجهة إلى القاهرة ، والتي كانت تسلك طريقًا بعيدًا في الداخل لتهرب من مملكة بيت المقدس ، إلا أنَّ بلدوين الأول كان يترصدها في وادي موسى جنوب البحر الميت ، فينهب ما بها من ثروات وبضائع ، ويعتدي على التجار فيها ؛ ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد ، بل شعر طغتكين أن هناك من التحركات الصليبية والإعدادات ما يشير إلى إحتمال هجوم كبير على جنوب دمشق أو دمشق ذاتها ؛ مما دفعه إلى الإستنجاد بالزعيم الحقيقي الموجود في المنطقة وهو مودود بن التونتكين رحمه الله .

وجد مودود رحمه الله أن هذه فرصة مناسبة مع خطورتها، ووجهُ الخطورة أنه سيقاتل بهذه الصورة في عمق دمشق بعيدًا جدًّا عن إمارة الموصل ، حيث ستكون الموقعة غالبًا جنوب دمشق (أكثر من ألف كيلو من الموصل) ، ثم إنه سيقاتل أقوى جيوش الصليبيين ، وهو جيش مملكة بيت المقدس ، إضافةً إلى إحتمالية أن يُغلِق عليه الصليبيون في الرها وأنطاكية طريقَ العودة إلى الموصل مما قد يوقعه في خطر شديد ، ومع ذلك فقد قَبِل مودود أن يلبي نداء طغتكين دون تردد ، وخرج بالفعل على رأس جيشه صوب دمشق في أواخر (506هـ) مايو 1113م ، أي في نفس الشهر الذي وصلت فيه الاستغاثة من طغتكين .

وكان من الأمور المهمة التي تشغل ذهن مودود ، وهو في طريقه إلى دمشق ، أنه سيمرُّ جنوب إمارة الرها أو قد يخترق بعض أملاكها ، وهذا - لا شك - قد يعرِّض جيشه لهجوم صليبي ، خاصةً أن العلاقات بينه وبين إمارة الرها في غاية التوتر لتكرار هجومه عليها وحصاره لها ، إلا أنَّ الله مهَّد له الطريق ببعض الأحداث التي مهدت له الطريق ، وشغلت الصليبيين في داخل إمارة الرها بأنفسهم ؛ ذلك أنه قد سَرَتْ إشاعة في داخل الإمارة في أواخر (506هـ) مايو 1113م ، أي في نفس الشهر الذي خرج فيه مودود من الموصل ، أنَّ الأرمن يُراسِلون من جديدٍ المسلمين للخلاص من الصليبيين ، وسواء كانت هذه الإشاعة صحيحة أم باطلة فإنَّ ردَّ فعل بلدوين دي بورج كان عنيفًا للغاية ؛ إذ أمر جنوده أن يقوموا بحملة تطهير عرقي بشعة في داخل المدينة لكل الأرمن بلا إستثناء ، ومن ثَمَّ إنطلق الجنود الصليبيون على تجمعات الأرمن العُزَّل يقتلون ويذبحون ، ثم فتحوا أبواب المدينة ليهرب منهم من يريد إلى خارج المدينة التي عاشوا فيها عمرهم ، وفيها كل ممتلكاتهم وأموالهم ، فمنهم من خرج لا يلوي على شيء ، ومنهم من بقي في داره ، فكان من يبقى يدخل عليه الجنود الصليبيون فينهبون داره ، ثم يحرقونها بسكانها من الأرمن !

وكان من أبشع أيام هذه المجزرة - كما يروي المؤرخ الأرمني متَّى الرهاوي - يوم 13 من مايو 1113م ، حيث إنتشرت المذابح بالجملة ، وكان أسود يوم في تاريخ الأرمن مطلقًا ، حتى كان الأب - كما يصور متَّى الرهاوي - لا يعرف أبناءه ، ولا الأبناء يعرفون آباءهم ، بل كان كل واحد ليس له من همٍّ إلا الهرب ، وإنتهى الأمر بقتل أو طرد كل الأرمن من المدينة بلا إستثناء ! ولا شك أن هذا الموقف جعل الأوضاع الأمنية والاقتصادية في إمارة الرها في غاية الإضطراب ، مما جعل بلدوين دي بورج لا يفكر مطلقًا في مهاجمة جيش مودود ، ولا التجرُّؤ على قطع طريق عودته ، فكان هذا تدبير ربِّ العالمين للمجاهد المؤمن مودود بن التونتكين !

ومع كل ما حدث من خيانات سابقة من الأمراء المسلمين الذين صحبوا مودود في معاركه مع الصليبيين ، فإنَّ مودود دعا إلى التجمُّع من جديد لحرب الصليبيين مرسِّخًا بذلك مبدأ الوحدة والتجمع حول راية واحدة ، وقد إستجاب له في هذا النداء قميرك أمير إمارة سِنْجَار ، وهي من إمارات ديار بكر في شمال العراق ، وكذلك إياز بن إيلغازي أمير ماردين ، إضافةً - طبعًا - إلى طغتكين أمير دمشق الذي وجَّه الدعوة إلى مودود .

تجمعت الجيوش السلجوقية عند مدينة سَلَمْيَة ، وهي إلى الجنوب الشرقي من حماة ، ثم إتجهت مباشرةً إلى مدينة طبرية الحصينة ، وهي تطل على بحيرة طبرية المعروفة في فلسطين ، وهناك إلتقى جيش مودود مع جيش طغتكين ، وبدآ حصارًا سريعًا لمدينة طبرية إلا أنها إستعصت عليهم ، فتركها الجيش الإسلامي وأخذ في غزو المناطق المحيطة مستوليًا على قدر كبير من الغنائم والممتلكات الصليبية حتى وصلوا إلى جبل الطور .

ووصلت الأخبار سريعًا إلى بلدوين الأول ملك بيت المقدس ، فأرسل رسالة إستغاثة عاجلة لكل الإمارات الصليبية ، فردَّ عليه بالإيجاب أمير أنطاكية الجديد روجر الأنطاكي ، وكذلك أمير طرابلس الجديد بونز بن برترام ، وتحركا بجيوشهما فعلاً في إتجاه طبرية ، أما بلدوين دي بورج فقد إعتذر للظروف التي تمر بها إمارته كما وضحنا .

ومع كون بلدوين الأول قد أرسل طلبًا للمعونة إلا أنه لم يستطع أن ينتظر الجيوش الصليبية القادمة من الشمال ؛ لأنه خشي أن تتوغل الجيوش الإسلامية في مملكته ، مما قد يهدِّد مدينة القدس ذاتها ، خاصةً أن مدينة عسقلان لم تزل في يد العبيديين ، وقد تحصر القدس بين الجيوش السلجوقية والجيوش العبيدية ولذلك خرج بلدوين الأول بسرعة شمالاً في اتجاه طبرية .

عَلِم مودود بتحرك الجيش الصليبي من الجنوب فأسرع بإختيار مكان مناسب للقتال ، وإختار شبه الجزيرة المعروفة بالأقحوانة ، والموجودة بين نهر الأردن ونهر اليرموك جنوب بحيرة طبرية ، ولم يكتفِ بذلك ، بل نصب كمينًا خطيرًا لبلدوين الأول عند جسر الصنبرة على نهر الأردن جنوب غرب بحيرة طبرية .

وفي يوم 13 من محرم 507هـ\ 20 من يونيو 1113م شاء الله أن يدخل بلدوين الأول في الكمين الذي نصبه مودود له عند جسر الصنبرة ، بل إنه في رعونة بالغة - لا تُفسَّر إلا بأن الله أعمى بصره - لم يترك حامية صليبية تحمي ظهره ، وكأنه نسي كل القواعد العسكرية التي تعلمها طوال حياته !

دارت موقعة شرسة عند جسر الصنبرة - وهي ما عرفت في التاريخ بموقعة الصنبرة - وكان للمفاجأة عاملٌ كبير في تحويل دَفَّة المعركة لصالح المسلمين ، وما هي إلا ساعات حتى سُحِق الجيش الصليبي ، وقتل ما يزيد على ألفي فارس ، وهرب بلدوين الأول بمشقة بالغة بعد أن دمرت فرقة من أهمِّ فرق جيشه ! وغنم المسلمون غنائم هائلة في هذه المعركة من الخيول والسلاح والممتلكات ، وكان يومًا ردَّ فيه مودود رحمه الله الإعتبارَ من هزيمة السنة الماضية عند حصون الرها ، ومما هو جدير بالذكر أن هذه المعركة شهدت بزوغًا رائعًا لنجم إسلامي جديد كان في جيش مودود ، وهو القائد العسكري الفذُّ عماد الدين زنكي ، الذي أبلى بلاءً حسنًا في هذه الموقعة حتى وصف ذلك ابن الأثير بقوله : " وقد وصل في المهارة العسكرية إلى الغاية !" .

ثم ما لبثت الأخبار أن أتت بقرب وصول جيش روجر وبونز ، مع إحتمال وصول إمدادات جديدة من بيت المقدس والمدن الساحلية ؛ مما جعل مودود يفكر في سحب جيوشه بسرعة قبل أن تُحصر في طبرية .

خرج مودود فعلاً من منطقة المعركة ليتجنب الوقوع في كمائن الصليبيين ، ثم ما لبثت الجيوش الصليبية أن تجمعت من جديد ، لكنها لاحظت قوة الجيش الإسلامي وإرتفاع معنوياته فقرَّرت عدم الدخول في مواجهة فاصلة ؛ ولذلك إحتمت بأحد المرتفعات غربي بحيرة طبرية ، وتوجه إليهم المسلمون وحاصروهم ، لكنَّ الصليبيين رفضوا النزول من أماكنهم ، وإكتفوا برمي المسلمين بالسهام والرماح من بُعد .. في هذه الأثناء كانت الجيوش الإسلامية - إضافةً إلى حصار الصليبيين في أماكنهم - تجوب المنطقة لتدمير الحصون الصليبية فيما بين عكا والقدس ، كما حصلوا على كثيرٍ من الممتلكات الصليبية .














آخر مواضيعي 0 حلمي لأيامي الجايه
0 صفات الله الواحد
0 عيش بروح متفائله ونفس مؤمنه
0 إبتهال قصدت باب الرجا
0 كونى انثي
رد مع اقتباس
قديم 06-03-2011, 11:39 PM رقم المشاركة : 22
معلومات العضو
marmer

الصورة الرمزية marmer

إحصائية العضو








marmer غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

ثم إنه في هذه الأثناء أيضًا تحرك جيش عبيديّ من عسقلان صوب بيت المقدس ، وكان جيشًا صغيرًا لم يفكر إلا في إحداث بعض الهجمات الإستنزافية في المنطقة ، ولم تكن له القدرة على قتال الحامية الصليبية القوية في بيت المقدس ، ومع ذلك فقد أرعب هذا الجيش بلدوين الأول الذي خشي من تواصل هذا الجيش مع الجيش السلجوقي ، ومن ثَمَّ يتأزم الموقف أكثر ، إلا أنه - للأسف - لم تكن نية التعاون مع المسلمين السُّنَّة واردة مطلقًا عند الجيش العبيديّ ؛ لذلك ما لبث أن عاد إلى عسقلان محمَّلاً ببعض الغنائم دون التواصل مطلقًا مع جيش مودود !

إستمر حصار المسلمين لجيش الصليبيين مدة ستة وعشرين يومًا كاملة دون أن يجرُؤَ الصليبيون على الخروج لمواجهة شاملة ، إلا أنه في (507هـ) أغسطس 1113م وصل أسطول أوربِّي يحمل ستة عشر ألف حاج صليبي مسلح إلى ميناء عكا القريب ، ولا شك أن هذا العدد الضخم قَلَب الموازين لصالح الصليبيين .

شعر مودود رحمه الله بالخطر نتيجة تجمع هذه الأعداد الكبيرة من الصليبيين ؛ ولذلك فكَّر في الإنسحاب من طريقه مكتفيًا بالنصر الذي حققه ، ومحافظًا على جيشه الذي لم يفقد في هذه المعارك إلا القليل جدًّا من رجاله ، وبالفعل تحركت الجيوش الإسلامية صوب الشمال في إتجاه دمشق ، ولم تفكر الجيوش الصليبية في متابعتها لإرهاقها الشديد ، وهزيمتها النفسية نتيجة الخسائر الكبيرة ، فضلاً عن خوفهم من هجوم عبيديّ أكبر على مدينة القدس .

وهكذا رضي الطرفان بهذه النتيجة ، وإتجهت الجيوش الإسلامية إلى دمشق حيث دخلتها في ربيع الآخر (507هـ) سبتمبر 1113م .

ولا بد لنا من وقفة سريعة مع موقعة الصنبرة التي كان لها الكثير من الآثار الجليلة في قصتنا :

أولاً : أعادت هذه الموقعة الثقة للجيش الإسلامي وللمسلمين بصفة عامة ، خاصةً بعد النتائج السلبية للحملات السابقة ، وهي بذلك تعتبر من معارك ردِّ الإعتبار ؛ ولذا فقد رَفَعت الروحَ المعنوية جدًّا للمسلمين ، بينما أحبطت الصليبيين ، وخاصةً أنهم لم يجرءوا على المواجهة برغم إجتماع جيوشهم .

ثانيًا : خسر الصليبيون في هذه المعركة أكثر من ألفي فارس ، إضافةً إلى الغنائم والأسلاب ، فضلاً عن خسارة عددٍ كبير من القلاع والحصون التي دُمِّرت في منطقة طبرية ، بل وجنوبًا حتى مدينة القدس .

ثالثًا : ترسَّخ لدى المسلمين بعد هذه الموقعة مبدأ الهجوم على القوات الصليبية بدلاً من الدفاع ، وهذا - لا شك - مبدأ عسكريّ إستراتيجي مهم ، ويحتاج إلى روح قتالية عالية ، وثقة بالنفس ، وهو ما تحقق في هذه الموقعة .

رابعًا : وضحت أهمية الوحدة في الجيش الإسلامي ، حيث تمت الموقعة بإتحاد الموصل مع دمشق في الأساس ، إضافةً إلى المساعدات الرمزية التي قدمها قميرك أمير سنجار ، وإياز بن إيلغازي أمير ماردين .

خامسًا : ولعل من أهم ثمرات موقعة الصنبرة هو علو نجم البطل الإسلامي العظيم عماد الدين زنكي بن آق سنقر الحاجب ، وقد أظهر في هذه المعركة من فنون القتال وبسالة الهجوم ما لفت إليه أنظار الجميع ، وطارت أخباره في الآفاق ، مما سيؤثر مستقبلاً في مسيرة الجهاد بصفة عامة ، ولا شك أننا سيكون لنا وقفات مع هذا المجاهد الفذِّ ، نستعرض فيها قصته بشيء من التفصيل .

دخل مودود بن التونتكين رحمه الله مدينة دمشق في 507هـ\ سبتمبر 1113م ، عازمًا أن يبقى فيها فصل الشتاء ؛ ليستغل هذه الفترة في تجميع جيوش جديدة والاستعداد لمواجهة جديدة مع الصليبيين .

هذا ما كان يريده ، لكنَّ أعداء الأمة ما كانوا يريدون ذلك ، بل أضمروا صورة مقيتة من الغدر قلَّ أن نجدها في صفحات التاريخ !!

وما يحزن القلب حقًّا أن أعداء الأمة الذين نعنيهم في هذا الموقف ليسوا من الصليبيين ، لكنهم كانوا من أبناء الإسلام !! أو من الذين يدعون ظاهريًّا أنهم من أبناء الإسلام !!

لقد دخل مودود رحمه الله إلى مسجد دمشق الكبير لأداء الجمعة الأخيرة في شهر ربيع الآخر سنة (507هـ) تشرين الأول 1113م، وفور انتهاء الصلاة ، وبينما هو يتجول في صحن المسجد واضعًا يده في يد طغتكين ، قفز عليه رجل من الباطنية ، وطعنه بخنجر ؛ فلقي مصرعه على الفور ، ليختم بذلك حياة حافلة بالجهاد والبذل والعطاء ، ونحسبه شهيدًا، ولا نزكيه على الله ، والله حسيبه !

وبادر طغتكين فورًا بقتل الباطنيّ قصاصًا ، بل وأحرق جثته ، وأسدل الستار على أبشع جريمة إرتكبها الباطنية منذ حادث إغتيال نظام الملك الوزير السلجوقيّ العظيم ..

ولكن لا بد من التساؤل : مَن وراء هذه الجريمة البشعة؟ ومن المستفيد من قتل عَلَمٍ من أعلام المسلمين كانت الآمال معقودة عليه ليحرِّر البلاد المسلمة من دنس الصليبيين ؟ ..

لقد روَّج رضوان زعيم حلب أن طغتكين أمير دمشق هو الذي حرَّض على قتل مودود رحمه الله ، وإلتقط هذا الترويج المؤرخون الأقدمون مثل ابن الأثير وابن القلانسيّ وأثبتوه في كتبهم ، ولكنهم ذكروه بصيغة الشك والتضعيف ، حيث قالوا: " فقيل إن الباطنية بالشام خافوه فقتلوه ، وقيل بل خافه طغتكين فوضع عليه من قتله " ..

ثم تلقف المؤرخون المعاصرون من المسلمين والنصارى هذا الاتهام وأثبتوه ، وكان من الأسباب التي دعتهم إلى هذا الإعتقاد سرعة قتل الباطني وإحراق جثته ، وقالوا : إن هذا نوع من إخفاء الأدلة ، والتخلص من سرِّ الجريمة .

وأنا في اعتقادي أن المحرِّض على الجريمة لم يكن طغتكين ؛ فالذين يعتقدون أنه طغتكين يرون أن أمير دمشق عندما رأى قوة مودود وجيشه خاف أن يكون كل غرضه من حرب الصليبيين هو إمتلاك دمشق والشام ؛ ولذلك تخلص منه قبل أن يضيع ملكه ! وهذا الكلام مردود من أكثر من وجه :

أولاً : لم تظهر من مودود رحمه الله أيُّ نوايا غدر بطغتكين أو غيره ، بل كان في غاية التسامح حتى مع مَن خانوه في أرض المعركة ، وكان لا يريد أن يشغل نفسه بمعارك جانبيَّة مع المسلمين ، وخَبُر ذلك طغتكين بنفسه - وهو سياسي محنك - وذلك على مدار ثلاث سنوات كاملة من جهاد مودود ضد الصليبيين .

ثانيًا : أعاد مودود رحمه الله جيشه إلى الموصل بعد إنتهاء موقعة الصنبرة ، ولم يدخل دمشق إلا في وفد صغير من خاصَّته ، ولو كان ينوي الغدر لأبقى جيشه معه ، وهذا - لا شك - طمأن طغتكين .

ثالثًا : أثبت ابن الأثير نفسه في كتاب الكامل قبل الحديث عن موقعة الصنبرة أن هناك علاقة "مودة وصداقة" نشأت بين طغتكين ومودود .

رابعًا : ليس من المعقول أن يتخلص طغتكين من مودود ، وهو يعلم أنه القوة الوحيدة التي يستطيع أن يحتمي بها إذا دهمه الصليبيون ، ولا شك أن طغتكين كان يتوقع إنتقامًا من الصليبيين بعد موقعة الصنبرة ، فليس من المعقول أبدًا أن يختار هذا التوقيت فيشجع الصليبيين على سرعة الإنتقام .

خامسًا : شاهدنا من طغتكين مواقف جهادية ضد الصليبيين أكثر من مرة ، وإطَّلعنا منه على بعض المواقف الإيمانية ، مما يوحي أنه ليس رجلاً غادرًا إلى الدرجة التي يُقدِم معها على قتل أمل المسلمين وإغتيال الرجل الصالح مودود ، وهذا لا يعني أن طغتكين ليست له أخطاء ، بل إرتكب وسيرتكب أخطاء قد تكون كبيرة إلا أنَّ جريمة بشعة مثل إغتيال مودود لا بد أن تستند إلى دليلٍ قوي ، إن كان المتهم فيها هو طغتكين .

سادسًا : ليس بالضرورة أن تكون سرعة التخلص من القاتل دليلاً على أن طغتكين هو الآمر بالقتل ؛ فإن طغتكين فعل ذلك لكي لا يُتهم بالتواطؤ مع القاتل ، والرضا بفعله ، ونحن نرى في مثل هذه الحوادث أنه يتم القبض على القاتل ثم يُسهَّل له الهرب بعد أن يقبض الثمن ، وليس من المقبول أيضًا أن طغتكين غدر بالقاتل لأنه من الباطنية ، وقد مرَّ بنا أن طغتكين كان يخاف من الباطنية ، فليس متوقعًا أنه يغدر بهم مخافة أن يُقتل هو شخصيًّا .

سابعًا : إن لم يكن هناك دليل قوي على أن طغتكين هو الذي قتل مودود ، ألا يجب أن نسأل مَن أكثر المستفيدين من قتل مودود ، ثم نُوزِّع الإتهامات على المشتبه فيهم بدلاً من إلقائها بالكلية على طغتكين ؟!

الواقع أن المستفيدين من قتل مودود كُثُر ؛ هناك في مقدمة هؤلاء المستفيدين رضوان ملك حلب ، الذي قد يكون أسرع بإتهام طغتكين لينفي التهمة عن نفسه ، ورضوان يكره مودود كراهية كبيرة جدًّا ، ويخافه أيضًا خوفًا شديدًا جدًّا ، ولا ينسى رضوان أنه أغلق أبواب مدينته في وجه مودود وجيشه سنة 505هـ ، أي قبل سنتين فقط ، ووضع بذلك مودود وجيشه في مأزق خطير ، بل إن رضوان تحالف ساعتها مع تانكرد أمير أنطاكية ضد مودود ! وأكثر من ذلك فإنَّ رضوان رأى من شعبه مظاهراتٍ تطالب بفتح الأبواب لمودود ، فلا يستبعد أن يطالب الشعب الآن بضم حلب تحت إمرة مودود ، وخاصةً بعد الإنتصار المهيب الذي تحقق في معركة الصنبرة ، والذي - لا شك - رفع أسهم مودود عند أهل حلب والمسلمين بصفة عامة ، ثم إنَّ حلب هي الإمارة الملاصقة للموصل ، وكثيرًا ما رأينا أن الذي يحكم الموصل يحكم حلب أيضًا ؛ ولذا فتوسُّع مودود فيها يُعتبر توسعًا طبيعيًّا ، إضافةً إلى أن علاقة رضوان بالباطنية قوية ، بل إنه صار من دُعاتها والمؤيدين لها ، وذلك على خلاف طبيعة شعبه ومعتقداته ؛ كل هذه الأدلة تشير إلى أن رضوان هو المستفيد الأكبر من قتل مودود ، فإذا زدنا على ذلك أن رضوان يبغض طغتكين جدًّا ، ويخشى من توسُّعه على حسابه في إمارة حلب ، بل كان يبغض أخاه دقاق زعيم دمشق السابق ، وكان يقاتله في أحيانٍ كثيرة طمعًا في زيادة ملكه ، وكذلك هناك في تاريخ رضوان جريمة إغتيال مشابهة عندما أوعز إلى الباطنية أن يقتلوا جناح الدولة حسين بن ملاعب أمير حمص بعد أن خاف على ملكه ، مع أنَّ جناح الدولة كان متزوجًا من أمِّ رضوان شخصيًّا ، لكنَّ هذه العلاقات لم يكن رضوان يضع لها أيَّ إعتبار ، ومن ثَمَّ فيتوقع منه أن يُقدِم على أيّ جريمة في سبيل تثبيت أقدامه في الحكم ؛ إذا وضعنا هذه النقاط إلى جوار بعضها البعض فإنني أرجح أن يكون رضوان هو الذي دفع لهذه الجريمة الشَّنعاء ..

ومع ذلك فليس رضوان هو المستفيد الوحيد من قتل مودود ، فهناك أيضًا الباطنية أنفسهم ، ودون تحريض من أحد ، وقد كانوا قوةً لا يُستهان بها في الشام حتى كان يخافهم أكبر زعماء الشام : رضوان وطغتكين ، ولا شك أن ظهور شخصية مستقيمة مجاهدة سُنِّية كمودود ، قد يُغلِق على الباطنية أبواب الفساد ، ويمنعهم من حياة المجون والجريمة ، وقد إشتهروا بحوادث الإغتيال المأجورة ، ولا يستبعد أنهم قاموا بالجريمة من جَرَّاء أنفسهم .

كما أن من المستفيدين أيضًا الصليبيين ، وليس من المستبعد أن يتعاون الصليبيون مع زعماء الباطنية ، ويغرونهم بالمال أو بالسلاح أو بالقلاع في نظير التخلص من هذا القائد الفذِّ الذي أوشك على قلب أوضاع الصليبيين تمامًا في أرض الشام ؛ وليس من المستبعد أيضًا أن تكون الجريمة قد تمت بالإتفاق بين الأطراف الثلاثة : رضوان والباطنية والصليبيين ، أو باتفاق طرفين منهم ، وكلهم عندي أقرب إلى هذه الجريمة من طغتكين أمير دمشق .

ولعلَّ سائلاً يسأل : كيف يُقدِم باطنيٌّ على هذه الجريمة وهو يعلم أنه سيُقتل لا محالة ؟ وأيُّ معتقدٍ هذا الذي يدفع إلى هذه العمليات الانتحارية مع كون الباطنية منحرفي الفكر، مذبذبي العقيدة ، بل هم خارجون بلا جدالٍ عن ملة الإسلام ؟

إن طائفة الباطنية الإسماعيلية كانت قد انقسمت إلى فرقتين - كما مرَّ بنا في مقدمات هذا الكتاب - هما المستعلية والنزارية ، وهما أولاد الخليفة العبيديّ المستنصر بالله ، وذلك بعد موت المستنصر في سنة (487هـ) ، وتنازع الولدان الحكم ، ولكن وزير مصر آنذاك وهو بدر الجماليّ وضع المستعلي - وهو الأصغر - في الحكم ، وكان هناك أحد الوزراء الكبار في مصر وهو الحسن بن الصباح ، وكان مؤيِّدًا لإمامة نزار ؛ ولذلك فبعد تولية المستعلي إنسحب الحسن بن الصباح من مصر إلى الشام آخذًا معه نزار ، ومؤسِّسًا فرقة شنيعة من فرق الشيعة إسمها النزارية الإسماعيلية ، وهي التي عُرفت في التاريخ باسم الباطنية ؛ لأنهم كانوا يدَّعون أن كل آية في القرآن لها معنًى ظاهري يفهمه عوام الناس ، ومعنى باطني لا يفهمه إلا هم ، وعليه فقد فسروا القرآن على هواهم ، ومن ثَمَّ خرجوا بتفسيراتهم ومعتقداتهم من الإسلام تمامًا ؛ ثم إن الحسن بن الصباح - الذي تولى الزعامة الحقيقية في هذه الفرقة الضالة - كان يُسقِي أتباعه الحشيش (وهو النبات المخدِّر المعروف) فيخرج التابع عن الوعي ، ومن هنا يبدأ في الطاعة المطلقة للشيخ ، وهو الحسن بن الصباح .. ثم إنَّ الحسن فعل ما هو أشد من ذلك ، إذ أنشأ لهم حدائق واسعة سمَّاها الجنةَ ، وأتى فيها بكل أنواع الثمار ، وغرس فيها الأشجار ، بل وأجرى فيها عدة أنهار صناعية صغيرة ، وملأها كذلك بالفتيات رائعات الجمال ، ثم كان يُعطِي الحشيش لأصحابه حتى يغيَّبوا تمامًا عن الإدراك ، فيأتي بهم إلى هذه الجنة ، وينتظر أن يصبحوا بين المنام واليقظة ، فيأتي لهم بألوان الطعام والشراب ، ويرتكب الأتباع الفواحش مع النساء ، ثم يُعطى الحشيش حتى يغيب عن الوعي ثانية ، ويُخرج من هذه الجنة ، وعند يقظته يُقال له : لكي تعود لا بد من طاعة الشيخ (الحسن بن الصباح) ؛ وهكذا يتكرر معه الأمر ، حتى يصبح مدمنًا للحشيش ، ويصبح أيضًا مدمنًا للجنة وملذاتها ، ثم يطلب منه في يوم من الأيام أن يقوم بعملية إغتيال إنتحارية على أن ينتقل بعدها للإقامة الدائمة في الجنة !!

ولا شك أن الباطنية كانوا يختارون أتباعهم من بسطاء الفكر والدين ، ومن الفقراء المقهورين ، ومن الأعراب الجاهلين، فيصبحون بذلك طوع إرادة قادتهم يفعلون بهم ما يشاءون .

وكانت الباطنية بصفة عامة يحترفون القتل بكل فنونه ، ويجيدون تدبير المؤامرات ، وحوادث الإغتيال ، وكانوا عصابات مسلحة يصعب السيطرة عليهم ، ومن ثَمَّ كان إسمهم يوقع الرهبة في قلوب عموم الناس ، حُكَّامًا كانوا أو محكومين !

ولكونهم كانوا يدمنون الحشيش فإنهم عُرفوا في التاريخ بالحشَّاشين وجرائمهم في تاريخ الأمة لا تحصى ، نجحوا في كثير منها ، وأخفقوا في أخرى ، لكنهم كانوا دومًا مصدر رعب وهلع ، ووسيلة عرقلة مستمرة لمسيرة الصالحين !

لذا لم يكن يستغرب أبدًا بعد هذا العرض أن يُقدِم باطنيٌّ على عملية إنتحارية لقتل رجل من الرجال بتحفيز زعيمهم ؛ لكي يدخل الجنة المزعومة ، أو على الأقل ليحصل على الحشيش الذي تعوَّد إدمانه !!

وفي النهاية، فإن الحقيقة الكاملة في هذه الجريمة الشنيعة لا يعلمها إلا الله ، والمهم في القضية أن الأمة فَقَدت زعيمًا عظيمًا من زعمائها ، حمل راية الجهاد ضد الصليبيين في وقتٍ تقاعس الجميع عن حمل هذه الراية الشريفة ، ولا شك أن الأيام التي أعقبت إستشهاده كانت صعبة على المسلمين ، غير أني - وقبل الدخول في تحليل الوضع بعد إستشهاد مودود - أودُّ أن أقف على حدثين عجيبين ، ووجه العجب ليس في حدوثهما ، ولكن في (توقيت) هذا الحدوث !

أما الحدث الأول فهو ظهور نجم عماد الدين زنكي في موقعة الصنبرة ، وقبل إستشهاد مودود بثلاثة أشهر فقط ! والتوقيت عجيب جدًّا ، فلماذا لم يظهر منذ فترة طويلة ؟ ولماذا لم يظهر بعد وفاة مودود بفترة طويلة أخرى ؟ نعم إن هذا بتدبير الله وقدره ، ولكننا نبحث عن الحكمة في ذلك ، وعن الإشارات المهمة في هذا التدبير المحكم .. إن هذا الظهور في هذا التوقيت لهو إشارة واضحة من الله أن هذه الأمة لن تموت ، فإذا فقدنا زعيمًا ظهر آخر ، وإن إستشهد مجاهد قام غيره ، وهكذا إلى أن يرث الله الأرض وما عليها ، وهذا - لا شك - يحفظ الأمل في قلوب المسلمين ، وراجعوا التاريخ ، فلن تجدوا إستشهاد أمل من آمال الأمة إلا متبوعًا بظهور أمل جديد ، وهذا من أخصِّ خصائص هذه الأمة الفريدة !

أما الحدث العجيب الثاني فهو موت رضوان ملك حلب بعد إستشهاد مودود بثلاثة أشهر فقط، في شهر جمادى الآخرة سنة (507هـ) ديسمبر 1113م !!

وعجيب جدًّا أن يموت في نفس الفترة التي مات فيها مودود ، سواء كان رضوان مُدبِّرًا لحادث إغتيال مودود أو كان بريئًا منه ؛ لأن سيرة رضوان القبيحة كانت معروفة ، وليست جريمة إغتيال مودود هي الجريمة الوحيدة من جرائمه ، أو الكبيرة الوحيدة من كبائره !! لقد كانت الإشارة واضحة جدًّا أن الإنسان لا يؤجِّل ميعاد موته ولا يقدِّمه ، فالكل يموت ؛ الصالح يموت والطالح يموت ، المخلص يموت والمنافق يموت ، المجاهد المقبل الطالب للشهادة يموت ، والمتثاقل المدبر الهارب من الموت يموت ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ) ، ولكن الإنسان هو الذي يختار طريقة موته ! إما أن تموت رافعًا رأسك طائعًا لربك مصحوبًا بدعوات الصالحين ، وإما أن تموت ذليلاً مهينًا عاصيًا لله مصحوبًا بلعنات المؤمنين ، والعبد في النهاية هو الذي يختار !! وأسأل الله أن يفقهنا في سننه !







آخر مواضيعي 0 حلمي لأيامي الجايه
0 صفات الله الواحد
0 عيش بروح متفائله ونفس مؤمنه
0 إبتهال قصدت باب الرجا
0 كونى انثي
رد مع اقتباس
قديم 06-03-2011, 11:40 PM رقم المشاركة : 23
معلومات العضو
marmer

الصورة الرمزية marmer

إحصائية العضو








marmer غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

وقفة وتحليل بعد إستشهاد مودود

لا شك أن حادث مقتل مودود كان من اللحظات الفارقة التي أدت إلى كثير من التغييرات على الساحة السياسية والعسكرية ، كما أدى إلى تغيير في أيدلوجيات كثير من القادة والدول ، وهكذا دومًا يكون موت الشخصيات المؤثرة ، وخاصةً إن كانت هذه الشخصية في عظمة وقيمة مودود رحمه الله ، ويا لَحسرة الأجيال التي لا تعاصر شخصية من هذا الطراز ، فإنه يمر عليها سنوات وسنوات دون أن تشعر بقيمة الزمن ، ولعلنا في هذه الوقفة نتحدث عن خمس أو ست سنوات كاملة ، بينما كنا أيام مودود نتحدث عن الشهور وليس السنوات لأهمية الأحداث التي نراها في زمان المجاهدين ، وسيأتي علينا زمانٌ نتحدث فيه عن الأيام والساعات عندما نتكلم عن نور الدين محمود أو صلاح الدين الأيوبيّ ، وهكذا تؤثر الشخصيات القوية على كل مجريات الأمور في زمانها .

وهذه بعض النقاط والوقفات التي تهمنا في السنوات التي تلت مقتل مودود رحمه الله :


الوقفة الأولى : مع حركة الجهاد في العالم الإسلامي بصفة عامة

للأسف الشديد فإن الأمة في هذه المرحلة لم تبلغ درجة من النضج تسمح بإستمرار الجهاد بنفس الدرجة عند غياب الشخصية القائدة المجاهدة ، والأصل أن الأمة الناضجة لا تعتمد على شخص أو شخصين ، ولكن تكون الطاقات البديلة فيها متوافرة ، ومن ثَمَّ فهي تسير قدمًا دومًا برغم العقبات والأزمات ، ولهذا فإن مقتل مودود عطَّل حركة الجهاد الحقيقية ست سنوات كاملة ، بل لعله أكثر من ذلك ، وليس معنى هذا أنه لم تحدث حروب في هذه الفترة بين المسلمين والصليبيين ، ولكنها لم تكن حروبًا كحروب مودود ، إنما كانت نوعًا من أداء الواجب دون روح ، أو نوعًا من طاعة الأوامر العليا بالجهاد ، أو نوعًا من ذَرِّ الرماد في العيون ، أو حتى نوعًا من العادة التي تحتم أن يقاوم الشعبُ المنكوب عدوَّه الذي إحتل بلاده ، وأحيانًا كانت بروح جهادية، ولكنها تفتقر إلى الكفاءة التي تنجحها ، ولهذا فإننا سنرى بعض الحملات في هذه السنوات الست ، وإلى سنة (513هـ)\1119م ، ولكنها - للأسف - ستكون حملات بلا روح حقيقية ، ولعل أفضل توصيف لها أنها كانت مجرد زوابع في فنجان !

الوقفة الثانية : مع إمارة الموصل

كان شعب الموصل - كما ذكرنا - محبًّا للجهاد مقدِّرًا للعلم والعلماء ؛ ولذلك كان من الطبيعي أن يولَّى أمره رجلٌ من أهل الصلاح ، حتى يكون هناك نوع من التناسق والتناغم بين الحاكم والمحكوم ، وهذا وإن كان إختيار السلطان محمد إلا أنه سُنَّة من السنن ، ذكرها رسول الله حين قال : "كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّى عَلَيْكُمْ" .

وقد وَلِي على الموصل بعد مقتل مودود أحد الأتراك الأخيار وهو آق سنقر البرسقي ، وكان هذا الرجل كما يصفه إبن الأثير : "كان خيِّرًا يحب أهل العلم ، والصالحين ، ويرى العدل ويفعله ، وكان من خير الولاة ، يحافظ على الصلوات في أوقاتها ، ويصلي من الليل متهجدًا " .

ومع القوة الإيمانية والأخلاقية العالية لآق سنقر البرسقي رحمه الله إلا أن كفاءته السياسية والعسكرية لم يكونا على نفس القدر والمستوى ؛ فضعف كفاءته السياسية أدخله في حروب جانبية مع الإمارات الإسلامية المجاورة ، وخاصةً إمارة ماردين مما أدخله في صراع ليس له معنى في هذا التوقيت مع إيلغازي بن أرتق حاكم الإمارة ، وبذلك خسر آق سنقر البرسقي الأراتقة جميعًا ، وهم منتشرون في شمال العراق وديار بكر ، وهذا - لا شك - أضعف موقفه ، وشتَّت جهده .

كما أن ضعفه العسكري أدى إلى فشله في تحقيق نصر يذكر على الصليبيين الذين واجههم في إمارة الرها في الحملة التي خرج على رأسها في ذي الحجة (508هـ) مايو 1115م ، إضافةً إلى أنه بعد فشل حملته مع الصليبيين ، وفي أثناء عودته دخل في صدام مع الأراتقة بسبب عدم تعاونهم معه في الحملة ، وتعرض في هذا الصدام لهزيمة كبيرة تفتَّت فيها جيشه الكبير المكوَّن من خمسة عشر ألف فارس ، وهذا دفع السلطان محمد إلى عزله عن الموصل في سنة (509هـ)\ 1115م ، وإعطاء الولاية لجيوش بك .


وفي نفس السنة التي عُزل فيها آق سنقر البرسقي أَوْكَلَ السلطان محمد السلجوقي لبرسق بن برسق أمير همذان قيادة جيش كبير يهدف إلى حرب الصليبيين ، إضافةً إلى إخضاع الإمارات الإسلامية المنشقَّة عن السلطان محمد ، وكذلك الإمارات الشامية التي أصبحت تدار بأفراد خارج الدولة السلجوقية ، مثل دمشق التي تدار بطغتكين ، وحلب التي تدار ببدر الدين لؤلؤ ؛ وفي هذه الحملة خرج أمير الموصل الجديد جيوش بك تحت زعامة الأمير العام للحملة برسق بن برسق .

ودون الدخول في تفصيلات كثيرة مؤلمة فإنَّ هذه الحملة إنتهت بمواجهة سافرة عجيبة بين الجيش السلجوقي من ناحية ، وجيوش الصليبيين المتحدة مع جيوش الإمارات الإسلامية في ديار بكر ، وأيضًا حلب ودمشق من ناحية أخرى !!

لقد رأى هؤلاء الأمراء أن خطر السلاجقة عليهم أكبر من خطر الصليبيين ، فعرضوا التحالف مع روجر الأنطاكي والصليبيين ضد الجيش السلجوقي المسلم ! وهكذا وقف المسلمون وفوق رءوسهم الصُّلبان ، يقاتلون مع أعدائهم تحت راية واحدة !!

إنه ضعف الرؤية ، أو قُلْ إنعدامها ! فليس هناك من مبرر - مهما كانت الظروف - لنرى مثل هذا المفارقات التي يستعجب منها كل السامعين ، سواء كانوا من المسلمين أو غير المسلمين !

وللأسف الشديد إنتهت الموقعة - التي عرفت في التاريخ باسم موقعة دانيث ، وهو المكان الذي وقعت فيه - بهزيمة برسق بن برسق وجيشه المسلم السلجوقي ، وغنم المعسكر الصليبي المسلم ما لا يُقدَّر من الغنائم والسلاح .

ومن الجدير بالذكر أن روجر الأنطاكي إستأثر بالغنائم لنفسه وجيشه ، ولقد كانت المفاجأة لأهل أنطاكية أكثر من سارَّة ، حيث عاد روجر بثروات طائلة ، كما عاد بأخبار تفكُّك الصفّ الإسلامي وتشتُّته .. وإستمر جيوش بك في حكم الموصل ، ولم تكن له محاولات تذكر لإعادة الكَرَّة ضد الصليبيين .

وهكذا أُحْبِط أهل الموصل نتيجة وجود هذه الأمراض القاتلة التي دعت الأمة في وقت من الأوقات أن تقاتل أخاها ، وتصافح ألدَّ أعدائها ! , كان هذا هو حال الموصل بعد مقتل مودود رحمه الله ..

الوقفة الثالثة : مع عماد الدين زنكي

بَهَر هذا الفتى القدير الأنظار في المعارك التي إشترك فيها ، وأدرك الجميع قدراته العسكرية الفذة ، كما أدركوا أيضًا عمق ولائه للسلاطين السلاجقة ، وعدم تردده في سماع الأوامر وتنفيذها ، فأوكلت إليه في الحروب المهامُّ الجسام ، وعلى الرغم من عدم تحقق النصر في المواقع الحربية في تلك الفترة ، إلا أنَّ الجميع كان منشغلاً بذكر هذا القادم الجديد: عماد الدين زنكي .

الوقفة الرابعة : مع طغتكين أمير دمشق

بعد مقتل مودود رحمه الله روَّج رضوان - كما ذكرنا - لإشاعة أن طغتكين هو الذي قتله ؛ وذلك ليدفع التهمة عن نفسه أولاً ، وليتخلص من طغتكين ثانيًا .. ولقد أحدثت كلمته أثرًا في كثيرٍ من الناس ، بل تأثر بذلك السلطان محمد الذي حمَّل طغتكين مسئولية مقتل مودود ، وخاصةً أن مسئولية الحماية الأمنية لمودود داخل دمشق تقع على عاتق أمير البلد طغتكين، ومن ثَمَّ شعر طغتكين أن الأرض تناقصت من حوله ، وأن الأنصار له يقلُّون ، ومن ثَمَّ إرتكب ذنبًا قبيحًا غير مقبول ، وهو التحالف مع الصليبيين لكي يأمن شر الجميع !!

لقد كان مفهومًا أن يعقد مع الصليبيين هدنة ليتجاوز فترة ضعفه ، لكن أن يتحالف معهم ، ويقف معهم في خندق واحد ضد إخوانه المسلمين من السلاجقة ، فهذا ما لا يقبل لا شرعًا ولا عقلاً .

ولكن من ناحية أخرى فإن هذا يثبت أن طغتكين لم يكن مدبِّرًا لحادث مقتل مودود ؛ لأنه قرَّر بعده مباشرة أن يتحالف مع الصليبيين ليحموه بعد فَقْد حماية مودود ، فهذا يؤكد أنه ما كان ليقدم على قَتْل حمايته بنفسه ، خاصةً أنه إستفزَّ الصليبيين قبل قدوم مودود ، وذلك بالهجوم على بعض المناطق التي يحكمونها وبنصرة مدينة صور ضدهم .

وهكذا بموقف طغتكين الخاطئ خرجت مدينة دمشق العظيمة من معادلة الصراع ، وحُيِّد جانبها إلى حدٍّ كبير ، خاصةً أن أمورها الداخلية لم تكن مستقرة أبدًا لسيطرة الشيعة الباطنية الإسماعيلية على كثير من الأمور فيها .

الوقفة الخامسة : مع إمارة حلب


مات رضوان الخبيث في سنة (507هـ)\ 1113م ، وتولى من بعده إبنه الشاب ألب أرسلان - المسمَّى على إسم جَدِّه العظيم ألب أرسلان - لكنه لم يكن يُشبِه جَدَّه لا من قريب ولا من بعيد ، بل كان متهوِّرًا كأبيه ، قليل العقل والدين ، فبدأ حكمه بقتل أخويه ملكشاه ومباركشاه لكي يستقر له الأمر ! ثم إنه كان ضعيفًا جبانًا فبدأ عهده بالتأكيد على دفع الجزية لروجر الأنطاكي ليضمن حمايته ، ويأمن شرَّه .

لكن حدث في بداية عهده أمر يثبت أن الخير ما زال موجودًا في أهل حلب ، حيث قام الحلبيون بثورة على الباطنيَّة الذين كانوا قد بلغوا شأوًا عظيمًا في عهد رضوان ، فقتل الشعبُ قائدَ الباطنية أبا طاهر الصائغ ، ثم إنطلقوا على عموم الباطنية بالقتل والحبس ، ومن ثَمَّ أسرع بقية الباطنية بالفرار من حلب ، وعلى الرغم من تمرسهم على الجريمة إلا أنهم خشوا من هذا الشعب العجيب الذي لم تمُتْ فيه النخوة ، ولم يهجر السُّنَّة ، حتى بعد حكمه عشرين سنة حكمًا يغلب عليه تمامًا التوجُّه الشيعي الإسماعيلي ، ولعل هذا الحدث كان من الأمور التي مهَّدت إلى تحسين طبيعة الشعب في حلب في السنوات القادمة ، مما سيكون له أثر في حركة الجهاد .

ولكن من الجدير بالذكر أيضًا أن ألب أرسلان هذا لم يستمتع كثيرًا بحكمه ؛ فقد قتله أتابكه بدر الدين لؤلؤ ، ووضع على كرسيِّ الحكم أخاه الصغير سلطان شاه ، وكان يبلغ من العمر ست سنوات فقط ، ومن ثَمَّ أصبح بدر الدين لؤلؤ الحاكم الفعليّ لإمارة حلب ، وهذا - لا شك - أضعف موقفها أكثر وأكثر ، وكل هذا سيكون له أثرٌ في الأحداث القادمة .

الوقفة السادسة : مع إيلغازي


إيلغازي بن أرتق رجل عجيب ! وما أكثر الرجال العجيبين في هذا الزمن ! إنه إيلغازي أمير ماردين ، وأخو سقمان بن أرتق - رحمه الله - الذي مرَّ بنا موته وهو في سبيل الله , ووجهُ العجب في حياته أننا رأيناه في حالات متناقضة كثيرة ، جعلت تحليل شخصيته أمرًا صعبًا ، ولقد وقفت كثيرًا أمام شخصيته متحيِّرًا ، فلا أدري أهو من أهل الصلاح فيُمدح ، أم من أهل الفساد فيُذم !

إننا قد رأيناه يتعاون في فترة من حياته مع مودود رحمه الله في قتال الصليبيين ، ثم رأيناه يُغِير على إخوانه بغية أخذ ما معهم من غنائم ! ورأيناه في فترة من فترات حياته يتحالف مع الصليبيين ليقاتل برسق بن برسق أمير همذان كما مرَّ بنا ، ثم سنراه بعد ذلك يجاهد الصليبيين جهادًا عظيمًا ، بل وينتصر حتى يلفت الأنظار إليه .

إننا ذكرناه هنا لأنه سيكون من القلائل الذين يحملون راية الجهاد ضد الصليبيين بعد مودود رحمه الله ، إلى أن يتسلمها لاحقًا أحد عمالقة الجهاد في التاريخ الإسلامي ، كما سنعرف لاحقًا .

الوقفة السابعة : مع مملكة بيت المقدس


لقد كان مقتل مودود بالنسبة لهذه الإمارة إشارة بدءٍ لتوسع كبير في الأراضي الإسلامية ، فكما رأينا أن موت مودود لم يُزِحْ عملاقًا من عمالقة الجهاد من أمام بلدوين الأول فقط ، إنما أخضع كذلك طغتكين أمير دمشق ، ومن ثَمَّ زال خطره إلى حدٍّ كبير ؛ مما دفع بلدوين إلى التفكير في تثبيت ملكه بصورة أكبر ، بل وتوسيعه كما سنرى .

ولننظر نظرة أكثر قربًا من بلدوين الأول لنعرف طبيعة شخصيته ، وصفة أخلاقه ؛ فبلدوين الأول كان متزوجًا من الأرمينية أردا ، وكان زواجه منها كما مر بنا أيام حكمه لإمارة الرها لغرض السيطرة على المدينة التي يسكنها كثير من الأرمن ، أما الآن فليس في بيت المقدس أرمن ؛ ولذا لم يَعُدْ هناك فائدة لأردا الأرمينية ! ومن ثَمَّ سعى بلدوين لطلاقها ليتزوج من زوجة أخرى تحقق له مصالح أخرى !

ولما كان الطلاق في المذهب الكاثوليكي محرمًا تمامًا إتَّهم الملك بلدوين الأول زوجته بالخيانة ، وتواطأ مع أسقف كنيسة بيت المقدس في ذلك الوقت ، وهو صديقه أرنولف مالكورن ليتم الطلاق ، وبالفعل تمَّ الطلاق ، وتم أيضًا ترحيل الزوجة المطلقة أردا إلى القسطنطينية ، وخلا الجو لبلدوين الأول ليعقد زيجة سياسية أخرى ، حيث تزوج في السنة التي مات فيها مودود من أرملة روجر الأول أمير صقلية ، وهذا سيحقق له فائدتين كبيرتين ؛ أما الأولى فهي تقوية علاقته بالنورمان الإيطاليين الأشدَّاء ، وثانيًا سيستفيد من الثروة الطائلة التي تملكها الأرملة الثرية أدلياد ، والتي ستنعش الخزانة الخاوية لبيت المقدس بعد المعارك المتتالية هنا وهناك .

وهكذا تزامن غياب مودود ثم طغتكين مع إزدياد قوة بلدوين العسكرية والمالية مما دفعه إلى توسيع الطموحات ؛ وقد ظهر ذلك في إحتلال منطقة وادي عربة جنوب البحر الميت ، وشيَّد هناك حصن الشوبك ليسيطر بذلك على القوافل المتجهة من الشام إلى مصر أو الحجاز ، وكان ذلك في سنة (509هـ) 1115م ، ثم في العام التالي (510هـ) 1116م إخترق بلدوين الأول صحراء النقب بكاملها ، وإحتل (أيلة) على مضيق العقبة ، حيث بَنَى هناك قلعة مهمة جدًّا للسيطرة على القوافل في هذه المنطقة ، وخاصةً المتجهة من الشام إلى الحجاز ، أو من مصر إلى الحجاز ، كما بنى قلعة أخرى في جزيرة فرعون في داخل خليج العقبة نفسه ، ولا شك أن هذه السيطرة أعطت له إشرافًا مباشرًا على الحدود بين فلسطين ومصر ، كما أعطت له منفذًا في غاية الأهمية على البحر الأحمر .

وهكذا إستطاع بلدوين الأول في غياب الجهاد الإسلامي أن يسيطر على كل فلسطين بإستثناء مدينة عسقلان ، كما سيطر على النصف الجنوبي من لبنان بإستثناء مدينة صور ، وهذه هي حدود مملكة بيت المقدس بعد ذلك .

بل إن بلدوين الأول في وجود حالة الصمت الإسلامي تجرَّأ على ما هو أكثر من ذلك ؛ حيث قرر غزو مصر بفرقة صغيرة جدًّا من جيشه ! فإقتحم سيناء ، وأسقط العريش بسهولة بالغة ، بل واصل السير حتى إحتل الفرما (بالقرب من بورسعيد الآن) ، وأحرق ديارها ومساجدها ، ولولا أنه أصيب بمرض خطير في هذا التوقيت لكان قد أكمل طريقه ، غير أنه عاد بسبب مرضه ، وكانت هذه الأحداث في سنة (512هـ) 1118م .

الوقفة الثامنة : مع إمارة الرها

تنفَّست هذه الإمارة الصُّعداء بعد وفاة مودود ، خاصةً بعد تولِّي أمراء ليسوا على نفس الدرجة من الكفاءة العسكرية والسياسية ، وأدى هذا إلى توسع إمارة الرها في المدن المحيطة ، فأسقط بلدوين دي بورج في سنة (510هـ) 1116م مدينتي كيسوم ورعبان ، ثم مدينة البيرة في سنة (511هـ) 1117م ، ثم أخيرًا وفي نفس العام ، أسقط قلعة قورس الخطيرة في شمال حلب ؛ ليكون بذلك مهدِّدًا لإمارة حلب ، ومترقِّبًا لأيِّ فرصة تسمح بإسقاطها ، وهكذا صارت حلب واقعة تحت تهديد إمارتي الرها وأنطاكية معًا .

الوقفة التاسعة : مع إمارتي أنطاكية وطرابلس

لم يطرأ عليهما تغيير يذكر في هذه الفترة إلا أنهما أخذا وقتًا كافيًا لتدعيم قوتهما، وتجديد قلاعهما وأسوارهما ، وكذلك تكثير جيوشهما استعدادًا لتوسُّع مرتقب ، وإستمر روجر الأنطاكي على زعامة أنطاكية ، بينما إستمر بونز بن برترام على حكم طرابلس .

الوقفة العاشرة : مع الأرمن في المنطقة الشمالية


بعد وفاة مودود شعر بلدوين دي بورج أمير الرها بكثير من الأمان ، ورأى أن أحوال الرها قد ساءت جدًّا نتيجة قتل وطرد الأرمن الذين كانوا يمثِّلون صُلْب المدينة وعمودها الفقري ، ومن ثَمَّ لم يخش بلدوين دي بورج من إعادة إستقدام الأرمن ليعيشوا مرة أخرى في بلاد الرها بعد زوال خطر مودود ، ولم يتردد الأرمن في قبول الدعوة من بلدوين دي بورج حيث حانت لهم الفرصة للعودة إلى ديارهم ومزارعهم ، ولكن ليس هناك من شك أنهم عادوا وهم يضمرون كل الكراهية للصليبيين ، كما كانوا يتوجسون منهم خيفة أن يعيدوا الكَرَّة مرة أخرى ، فتتكرَّر المأساة الأليمة .

وإذا كان هذا هو وضع الأرمن الذين كانوا يعيشون في الرها ، فإن الأرمن خارج حدود الرها كانوا على خلاف ذلك يرفضون التعاون مع الصليبيين ، بل إن أرملة كوغ باسيل (الذي مات في سنة (506هـ) 1112م لم تتردد أن تطلب صراحة من آق سنقر حاكم الموصل في سنة (508هـ) 1114م أن تنضم إليه بشعبها في مقابل جزية تدفعها له كدلالةٍ على التبعية !!

وهذه أدلة متكررة تثبت أن الأرمن النصارى كانوا يطمئنون إلى المسلمين وإلى رحمتهم وعدلهم أكثر ألف مرة من إطمئنانهم لإخوانهم النصارى من الصليبيين !


إذن في الخمس أو ست سنوات التي أعقبت وفاة المجاهد العظيم مودود حدثت عدة تغيرات جذرية في المنطقة ، كانت في معظمها تصبُّ في خدمة وتدعيم موقف الصليبيين ، وحدثت عدة تغييرات سياسية في الإمارات الإسلامية لم تكن في معظمها إيجابية ، اللهم إلا موت رضوان بن تتش زعيم حلب ، والذي خلَّص المسلمين من طاغيةٍ متكبر .

ثم حدثت في الساحتين الإسلامية والصليبية في أواخر سنة (511هـ) وخلال سنة 512هـ ، وكذلك في أوائل سنة (513هـ) عدة وفَيَات أدت إلى تغييرات محورية في الصراع الإسلامي - الصليبي (خلال سنتي 1117- 1118م) :


أولاً : وفاة السلطان محمد السلجوقي عن عمر يناهز سبعة وثلاثين عامًا فقط ، وكان قد وحَّد السلاجقة في مملكة واحدة كبيرة صار لها هيبة عند الناس وعند الخلافة العباسية، وسيَّر عدة حملات إلى الصليبيين منها ما نجح على أيام مودود رحمه الله ، ومنها ما لم يحقِّق النجاح كما في عهد آق سنقر البرسقي أو برسق بن برسق ، وكان كما يقول إبن الأثير : "عادلاً ، حسنَ السيرة ، شجاعًا" ، ولكن من أعظم أخطائه هو توليته ابنه السلطان محمود الحكم من بعده ، مع أنه كان يبلغ من العمر أربعة عشر عامًا فقط !!

وكانت هذه - للأسف - عادة في ذلك الزمن وهو ولاية الوريث ولو كان طفلاً صغيرًا جدًّا ، ثم يتولى الحكم الوصيُّ عليه ، فيأخذ الدولة يمينًا أو شمالاً حسب ما يتراءى له ، وكان من نتائج وفاة السلطان محمد وولاية السلطان محمود أن حدثت فتن وصراعات في داخل الدولة التي فقدت هيبتها ، بل وصل الصراع إلى التقاتل بالسيوف بين السلطان محمود وأخيه الملك مسعود ، وكذلك بين السلطان محمود وأخيه الملك طغرل ، وأخيرًا بين السلطان محمود وعمِّه السلطان سنجر ، وكل هذه الصراعات كان لها أسوأ الأثر على الصراع الإسلامي - الصليبي ؛ إذ شغلت المسلمين بأنفسهم ، وأنستهم قصة الصليبيين !

ثانيًا : وفاة بدر الدين لؤلؤ المتصرف الفعليّ في أحوال حلب مقتولاً ، إذ قتله بعض أعوانه، ولما كان أمر حلب قد اضطرب كثيرًا في السنوات الأخيرة بعد موت رضوان وقتل ابنه ألب أرسلان ، ثم قتل بدر الدين لؤلؤ سعى أعيان المدينة إلى تحسين الأوضاع ، فذهبوا إلى أفضل العناصر الموجودة حولهم ، وهو إيلغازي بن أرتق فسلموه البلد ، وهكذا وجد إيلغازي نفسه فجأةً حاكمًا على ماردين وحلب معًا ، ولم يكن ذلك هدية خالصة ؛ لأنه وجد في حلب همومًا كثيرة ؛ إذ وجد خزانتها خاوية بعد أن أنفق بدر الدين لؤلؤ الثروة الحرام التي جمعها رضوان ، وهكذا وصلت حلب إلى وضعٍ يُرثى له مع كونها واحدة من أهم الإمارات الإسلامية في المنطقة .

ثالثًا : وفاة المستظهر بالله الخليفة العباسي ، وكان قد تولى الحكم من (487 إلى 512هـ\ 1094 إلى 1118م) ، وتولى من بعده إبنه المسترشد بالله ، ولم يكن الخليفة الجديد كغيره من الخلفاء السابقين ، إنما كان رجلاً طموحًا ذا همة عالية ، وكان شجاعًا مقدامًا ذا هيبة شديدة ، وكان عالمًا فقيهًا حتى ذكره إبن الصلاح في طبقات الشافعية ، وهذا في حدِّ ذاته من أهم فضائله ، فهي شهادة من عالم متمكن خبير ؛ وهذه الولاية للخليفة المسترشد ستترك آثارًا مهمة على الساحة الإسلامية ؛ إذ إنه لم يقبل بالوضع الذي اعتاد الخلفاء العباسيون عليه في القرنين السابقين من كونهم مجرد صورة للحكم ، بل سيسعى ليكون له كيان ورأي ، ولا شك أن هذا سيولد صراعات كثيرة في المنطقة ، وسيكون لهذه الصراعات آثار كثيرة على مجريات الأحداث .

رابعًا : وفاة بلدوين الأول ملك مملكة بيت المقدس ، والمؤسِّس الحقيقي لها ، وكان قد وصل بمملكة بيت المقدس إلى حدودها التي إستقرت بعد ذلك عشرات السنين ، وأسقط كل المدن الفلسطينية بإستثناء عسقلان ، وكذلك النصف الجنوبي من لبنان بإستثناء صور ، وكانت وفاته بمدينة العريش سنة (511هـ) 1118م أثناء عودته من الفرما المصرية بعد إحتلالها ، وقد إجتمع الصليبيون على تولية إبن عمه بلدوين دي بورج أمير الرها مكانه في بيت المقدس ، وهذا - لا شك - ترقية لوضع بلدوين دي بورج حيث إن مَلِكَ بيت المقدس له القيادة على كل الممالك الصليبية ؛ لوضع القدس ، ولحجم المملكة ، ولكونها مملكة وليست إمارة ، وقد إختار بلدوين دي بورج - الذي لُقِّب بعد ذلك ببلدوين الثاني - إبنَ عمِّه جوسلين دي كورتناي - الذي كان قد عزله قبل ذلك عن تل باشر - أميرًا لإمارة الرها من بعده ، وذلك بعد أن زالت الخلافات التي كانت بينه وبين جوسلين ، خاصةً أن جوسلين خبير بهذه المناطق الشمالية .

خامسًا : وفاة أدلياد زوجة بلدوين الأول الثانية ومما هو جدير بالذكر أن خصوم بلدوين الأول من الصليبيين طعنوا في زواجه من أدلياد الصقلية ، وذكروا أن أسباب طلاق الزوجة الأولى أردا ليست صحيحة ، ومن ثَمَّ فأدلياد هي الزوجة الثانية في نفس الوقت ، وهذا حرامٌ في النصرانية ، وقام البابا باسكال الثاني بإرسال من يحقِّق في الأمر، وثبت تلاعب الملك بلدوين الأول في الأمر ، ومن ثَمَّ إعتُبِر الزواج الثاني باطلاً ، وإضطرت هنا أدلياد أن تعود إلى صقلية بعد أن عاشت مع بلدوين الأول أكثر من أربع سنوات ! وهكذا خسرت إمارة بيت المقدس قوة النورمان وثروة أدلياد ، ثم ما لبثت أدلياد أن توفِّيت في صقلية ، وكذلك بلدوين الأول في العريش على نحو ما ذكرنا .

سادسًا : وفاة أرنولف مالكورن بطرك بيت المقدس ، الذي اشتهر بسوء خلقه ، وتواطئه مع بلدوين الأول على أمورٍ كثيرة مخالفة لدينهم ، ومن ذلك ما ذكرناه من أمور تسهيل طلاق بلدوين الأول من أردا الأرمينية ، وزواجه من أدلياد الصقلية ، وقد تولى من بعده البطرك جرموند Germond .

سابعًا : وفاة البابا باسكال الثاني في روما ، وتولى من بعده جيلاسيوس الثاني ، ولم يكن هذا تغيرًا محوريًّا ؛ لأن الإمارات الصليبية كانت شبه مستقلة ، ولم تكن هناك حاجة إلى إستنفار جنود جدد في أوربا في ذلك الوقت ، ومن ثَمَّ لم يظهر كثيرًا إسم البابا في مجريات الأحداث .

ثامنًا : وفاة الإمبراطور البيزنطي الداهية ألكسيوس كومنين ، الذي سهَّل دخول الصليبيين إلى أرض المسلمين بدايةً من دعوتهم ، ثم إمدادهم بالمؤن والسلاح والأخبار والأدِلَّة وبعض الفرق ، وإن كان الصليبيون بعد ذلك غدروا به ، ولم يعطوه ما اتفق معهم عليه من بلاد ، غير أنه إستطاع أن يسيطر على النواحي الغربية من آسيا الصغرى ، ويضمها إلى الإمبراطورية البيزنطية ، وقد تولى الإمبراطورية من بعده إبنه يوحنا كومنين .

تاسعًا : وفاة روجر الأنطاكي أمير أنطاكية ، أو الوصيّ على إمارة أنطاكية بعد وفاة تانكرد النورماني ، وإنتظارًا لقدوم بوهيموند الثاني إبن بوهيموند الأول مؤسِّس إمارة أنطاكية .

وقد آثرتُ أن أختم بهذا الرجل لأن وفاته جاءت في معركة مهمَّة مع المسلمين ، لعلها أول معركة ذات قيمة بعد وفاة مودود رحمه الله .

لقد ذكرنا أنه بمقتل بدر الدين لؤلؤ المتصرِّف في أمور حلب خلت الساحة السياسية في هذه الإمارة المهمة ، ومن ثَمَّ توجَّه أعيان البلد وفقهاؤها إلى إيلغازي بن أرتق أمير ماردين وسلموه المدينة ، ولاحظ أمير أنطاكية روجر أن المدينة تمر بفترة ضعف شديدة ، ومن ثَمَّ قرر أن يغزو المدينة ويضمها لحسابه ، ووصلت الأخبار بهذا التحرك الصليبي إلى إيلغازي ، فقرَّر أن يجمع المجاهدين من هنا وهناك ليدافع عن مدينة حلب ، ولقد استطاع إيلغازي أن يكوَّن حلفًا قويًّا مع أمير دمشق طغتكين الذي وافق على جهاد الصليبيين ، وهذا يثبت أنه لم يكن مواليًا لهم حبًّا فيهم ، ولكن ضعفًا وقلة حيلة بعد مقتل مودود رحمه الله ، وانضم كذلك إلى الحلف أمير شيزر سلطان بن منقذ الذي طالما شارك في الحملات الجهادية منذ أيام مودود رحمه الله .

كوَّن إيلغازي بن أرتق جيشًا قويًّا وسار به في إتجاه أنطاكية ، وعند سهلٍ قريب من أرتاح باغت الجيش الإسلامي جيش أنطاكية وطوَّقه من كل جانب !

كان الجيش الإسلامي مكوَّنًا من عشرين ألف مقاتل ، بينما كان جيش أنطاكية يقترب من خمسة آلاف جندي بين فرسان ومشاة ، وكان روجر قد أرسل رسالة إستنجاد إلى بلدوين الثاني ملك بيت المقدس الجديد الذي وعد بالقدوم ومعه بونز أمير طرابلس ، إلا أنَّ المباغتة الإسلامية كانت بفضل الله قبل وصول الإمدادات الصليبية .

تمت في هذا المكان الموقعة الشهيرة في تاريخ الحروب الصليبية ، وهي موقعة البلاط وذلك في شهر ربيع الأول سنة 513هـ الموافق 28 من يونيو 1119م ، وفي هذه الموقعة أُبيد الجيش الصليبي بكامله ، وقُتل الأمير روجر الأنطاكي ، وأطلق الصليبيون على مكان المعركة اسم "ساحة الدم" لكثرة قتلاهم فيها !

لقد كان إنتصارًا مجيدًا بكل المقاييس ، أدى إلى كثير من النتائج المهمة في هذه الفترة ؛ وكان من هذه النتائج الآتي :


1- أعادت هذه الموقعة الهيبة للمسلمين ، والثقة لنفوس المحبطين ، وشعر المسلمون أن الأمل ما زال باقيًا في إعادة التوازن للأمة الإسلامية .

2- هُزم الصليبيون هزيمة نفسية كبيرة أثَّرت في حركتهم لعدة سنوات .

3- دخلت حلب دخولاً رسميًّا بعد هذه الموقعة في حكم الأراتقة ، ولمدة ست سنوات كاملة .
4- فَقَدت أنطاكية أميرها روجر في وقتٍ ليس فيه بديل أو وريث ؛ لأن بوهيموند الصغير ما زال في إيطاليا ، ومن ثَمَّ وضع بلدوين الثاني يده على الوصاية على إمارة أنطاكية ، وبدأ في تنظيم أمورها بمساعدة بطرك أنطاكية برنارد دي فالنس .

5- علا نجم إيلغازي بن أرتق في ساحة الجهاد ضد الصليبيين ، وجاءته التشريفات من الخليفة العباسيّ الجديد المسترشد بالله ، ونَظَم الشعراء قصائدهم في مدحه ، وعلَّق كثيرٌ من المسلمين الآمال عليه ؛ وهذا دفعه إلى تجديد الصدام مع الصليبيين في عدة مواقع بعد ذلك، كان له النصر في بعضها والهزيمة في أخرى ، وإن لم تكن هذه المواقع على مستوى موقعة البلاط المشهورة .

إذن نستطيع أن نلخص الموقف في سنة 513هـ\ 1119م في النقاط السريعة الآتية :


1- مملكة بيت المقدس تحت زعامة بلدوين دي بورج الملقَّب ببلدوين الثاني .

2- إمارة الرها تحت زعامة جوسلين دي كورتناي .

3- إمارة أنطاكية تحت وصاية بلدوين الثاني إنتظارًا لوصول بوهيموند الثاني إلى سنِّ الرشد، وقدومه من إيطاليا .

4- إمارة طرابلس تحت زعامة بونز بن برترام .

5- إمارة حلب تحت زعامة إيلغازي بن أرتق الذي تزعَّم حركة الجهاد ضد الصليبيين في هذه الفترة .

6- إمارة دمشق تحت زعامة طغتكين الذي عاد من جديد يحارب الصليبيين ، ولم يكتفِ بالصدام مع إمارة أنطاكية ، بل بدأ يصطدم جنوبًا مع مملكة بيت المقدس .

7- إمارة الموصل تحت زعامة جيوش بك التابع للسلطان محمود ، وإن كان الملك مسعود أخو السلطان محمود يعيش في الموصل ، وقام بصدامٍ ضد أخيه بمساندة جيوش بك بغية الانفصال بالموصل .

8- السلطان محمود هو الزعيم الرسمي للسلاجقة الآن ، ولكنه مشتَّت في الصراعات الداخلية .

9- الخلافة العباسية أصبحت بيد المسترشد بالله ، وهو خليفة له طموح ملموس في الخروج من سيطرة السلاجقة .

10- الإمبراطورية البيزنطية الآن تحت حكم يوحنا بن ألكسيوس كومنين ، وقد التزم بنفس سياسة أبيه ؛ ولذا لم يكن للإمبراطورية تدخُّل يُذكر في أمور الصراع الإسلامي الصليبي في هذه الفترة .

وهكذا فالصورة العامة في هذه الفترة كانت إيجابية نسبيًّا ، وإن لم يكن العزم على قتال الصليبيين وتحرير البلاد أمرًا عامًّا في كل التوجهات ، ولن يكون كذلك إلا بعد 8 سنوات عندما تظهر شخصية تتبنَّى القضية ، وتجعلها محورَ حياتها !

ماذا حدث في خلال هذه السنوات الثمانية ، من سنة 513هـ إلى سنة 521هـ ؟

لقد حاول إيلغازي بن أرتق تكوين إمارة كبيرة للأراتقة ، وأفلح فعلاً في السيطرة على مساحة ضخمة تشمل ديار بكر بكاملها تقريبًا، وهي تحوي في داخلها عدة مدن مهمَّة مثل ميافارقين في الشمال ، وماردين وحصن كيفا في الجنوب ، كما ضمَّ إلى ديار بكر منطقة حران في الجنوب ، هذا إضافةً إلى مملكة حلب بكاملها .

ولا شك أن هذه الإمارة الكبيرة كانت ذات خطر كبير على الصليبيين؛ مما دفعهم إلى منازلة أخرى لإيلغازي وطغتكين ، وحقق الصليبيون نصرًا غير حاسم ، وذلك في 14 من أغسطس 1119 ، أي بعد أقل من شهرين من هزيمتهم في موقعة البلاط ، إلا أنَّ إيلغازي جدَّد هجومه على الصليبيين ، وخاصةً في منطقة الرها القريبة من إمارة الأراتقة ، وإستطاع إيلغازي أن يسيطر على مدينة عزاز ، وذلك في مايو سنة 1120م ، غير أن إيلغازي إضطر إلى عقد هدنة مع بلدوين الثاني في نفس السنة ؛ ليُعطِي نفسه فرصة لتنظيم الأمور في إمارته الواسعة .

وبينما كان إيلغازي يكوِّن إمارته هذه كانت الأحوال مضطربة جدًّا في العراق والموصل ؛ مما أعطى له الفرصة لتكوين هذه الإمارة دون تدخُّل السلاجقة أو الخلافة العباسية ، وواقع الأمر أنه في هذه السنة ، أي سنة (514هـ) 1120م ، وَقَع صدام مؤسف بين السلطان محمود سلطان السلاجقة ، وأخيه الملك مسعود الذي كان يساعده أمير الموصل جيوش بك ، وإنتهى الأمر بإنتصار محمود، وإستقرار الأوضاع له .

ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل قام رجل اسمه دبيس بن صدقة ، وهو شيعيّ عربي من قبيلة بني مزيد ، قام بثورة في العراق ، بل وإتجه إلى بغداد وحاصر الخليفة ، فإضطر الخليفة إلى الإستنجاد بالسلطان محمود الذي تحرك بجيشه ففرَّ دبيس بن صدقة بعد أن أحدث فسادًا كبيرًا في بغداد ، وقد لجأ دبيس إلى شمال الجزيرة بالقرب من إمارة الرها حيث بدأ يعرض خدماته العسكرية على الصليبيين في مقابل تكوين إمارة خاصة له !!
هذا الوضع المضطرب عزل الموصل كثيرًا عن ساحة الصراع الإسلامي- الصليبي ، وهذا - لا شك - أراح الصليبيين كثيرًا لأنه لو كانت الموصل بقوتها المعهودة مشتركة مع إيلغازي في معاركه لكانت أزمة الصليبيين كبيرة .

وفي نفس الوقت فإن الصليبيين في بيت المقدس وجدوا أنفسهم في مشكلة حقيقية ؛ إذ أصبح لزامًا عليهم أن يوزِّعوا طاقاتهم للدفاع عن إمارة أنطاكية، إضافةً إلى مملكة بيت المقدس ، وصار أعداء الصليبيين كُثُرًا؛ فهناك الأراتقة ، وهناك طغتكين ، وهناك إمارة صور الواقعة تحت سيطرة طغتكين ، وهناك أيضًا عسقلان بحاميتها العبيدية ، إضافةً إلى الدولة المصرية العبيدية التي - وإن كانت قد هدأت كثيرًا - ما زالت تترقب فرصة لإستعادة أملاكها في فلسطين .

هذا كله دفع مملكة بيت المقدس إلى محاولة تكوين فرقة عسكرية شرسة ثابتة تضمن الحفاظ على الأمن وسط كل هذه الأزمات ، ومن ثَمَّ كان تكوين فرق الإسبتارية والداوية ! وهما من أخطر الفرق العسكرية الصليبية مطلقًا !

أما الإسبتارية فهي هيئة تأسست قبل الحروب الصليبية بعدة سنوات ، حيث أسَّسها بعض التجار النصارى الأوربيين كجمعية خيرية تهدف إلى علاج الحُجَّاج الفقراء مجانًا ، وكانت مقامة إلى جوار كنيسة القيامة ببيت المقدس ، وذلك إبتداء من سنة 1070م (أي قبل قدوم الصليبيين إلى القدس بتسعة وعشرين عامًا) ، وأطلق على العاملين بهذه الهيئة فرسان المستشفى Hospitallers ، الذي حُرِّف بعد ذلك في العربية إلى "الإسبتارية" .

وكان هؤلاء الإسبتارية يتبعون بابا روما مباشرة ، وكانت بذلك لهم إستقلالية خاصة ، وقد قدموا الكثير من المعونات للصليبيين عند إحتلالهم للقدس بحكم خبرة الإستبارية بالبلاد ، وقد بدأ الصليبيون يشعرون بقيمتها فأغدقوا عليها العطايا ، وكان لهم جامعون للتبرعات سواء من القدس وفلسطين أو من أوربا بكاملها ، وهكذا صار لهم أملاك وضيعات وثروات هائلة .

وفي عهد بلدوين الثاني ، ونتيجة للظروف الصعبة التي بدأ بها بلدوين الثاني حكمه، عمل بلدوين الثاني على تشجيع الإسبتارية وتقويتهم ، ومن ثَمَّ عَظُم شأنهم جدًّا ، وصار لهم أدوار عسكرية مختلفة تمام الإختلاف عن الهدف الذي من أجله أسِّست الهيئة ، وإن ظلوا يحتفظون بإسمهم "فرسان المستشفى" .

وإضافةً إلى الإسبتارية ، فقد أسِّست هيئة أخرى خطيرة هي هيئة "الداوية" ، وقد تأسست هذه الهيئة على أساس عسكريّ من البداية ، ومؤسِّسها هو أحد الفرسان الفرنسيين، واسمه هوجو دي باينز Hugue de payens ، وقد إختار هذا الفارس جزءًا من المسجد الأقصى ، والذي يُطلِق عليه اليهود هيكل سليمان ؛ ليؤسِّس فيه جمعيته العسكرية ، ومن هنا ففرسان هذه الجمعية يعرفون بفرسان المعبد Templars ، نسبة إلى معبد داود ، ولهذا عُرفوا بالداوية نسبة إلى داود ، وقد ذهب مؤسس هذه الجمعية إلى فرنسا وإنجلترا ، وبدأ بجمع الأنصار من الفرسان والنبلاء الراغبين في قضاء حياة عسكرية دينية في الأرض المقدسة ، وكان عملها في البداية يقتصر على حماية الحجاج النصارى ، ثم ما لبثت الجمعية أن أصبحت شريكًا في العمليات العسكرية الخطيرة في الشام .

وهكذا صار إنشاء هيئة الداوية ، وتحول هيئة الإستبارية إلى النشاط العسكري سببًا في توفير قوة حربية دائمة لمملكة بيت المقدس ، وصار لهم من السلطات ما يجعلهم في كثير من الأحيان مستقلين تمامًا عن سلطة ملك بيت المقدس شخصيًّا أو أسقفية بيت المقدس ، ومن الجدير بالذكر أن هاتين الفرقتين كانتا من أشرس الفرق الصليبية في الحروب ، ولم يكن هناك أيُّ نوعٍ من الأخلاق أو الإلتزام بالعهود في قتالهم ، على خلاف ما يوحي به إسمهما من إرتباط بالدين أو بالرحمة !

ونعود في قصتنا إلى إيلغازي الذي لم تستقر له الأوضاع بصورة ترضيه ، فكان جنوده كثيرًا ما يثورون عليه ويخالفونه ، بل إن إبنه شخصيّا أعلن الإنفصال عنه والإستقلال بحلب سنة 515هـ\ 1121م ، بل وعقد معاهدة مع الصليبيين أعطاهم فيها بمقتضاها حصني زردنا والأثارب ، وهذا - لا شك - أفزع إيلغازي الذي أسرع إلى حلب، واستردَّ حكم حلب منه بعد تعنيفه، ثم توجه بجيشه لإسترداد زردنا ، مما دفع بلدوين الثاني أن يأتي من بيت المقدس للدفاع عن الحصن التابع لإمارة أنطاكية ، وإلتقى الجيش المسلم بالجيش الصليبي عند حصن زردنا ، ولكن لم يحدث قتال ، بل حدث تجديد للهدنة ، وللأسف قَبِل إيلغازي بتسليم حصن زردنا !

والواقع أن الناظر لحروب إيلغازي وسيرته سيتعجب من عدم إمكانيته دومًا منإ ستغلال إنتصاراته على الصليبيين ، فهو لم يكن يصبر كثيرًا على القتال والحصار والمطاولة ، ولا أعتقد أن هذا راجع إليه هو ، ولكن إلى جيشه ! فقد كان جيش إيلغازي مختلفًا عن جيش مودود رحمه الله ؛ لأن جيش إيلغازي كان عبارة عن مرتزقة جمعهم من هنا وهناك ، مغريًا إياهم بالغنائم والأسلاب ؛ ولذلك فإن هؤلاء المرتزقة لم يكن عندهم صبر المجاهدين الذين يضحون بأوقاتهم وأعمارهم في سبيل الله ، فضلاً عن أن إيلغازي نفسه لم يكن بيده من المال ما يفرِّقه عليهم كما يذكر إبن الأثير ؛ ولهذا فإن إيلغازي مع كونه قد حقق إنتصارات بعضها كبير على الصليبيين ، إلا أنه وجيشه لم يكونوا بالذين يمكن أن يحملوا الراية الحقيقية للجهاد ، ويصبروا على حملها .

وبينما كان الوضع كذلك في المنطقة الشمالية حدث أمران كان لهما إسهام بعد ذلك في بعض التغييرات في الأحداث، وهو أن السلطان محمود أقطع الأمير آق سنقر البرسقي إمارة الموصل للمرة الثانية، وكان قد تولى أمرها قبل ذلك من سنة (507) إلى (509هـ)، وها هو الآن يتولى أمرها من جديد بعد مرور ست سنوات على عزله، وكان سبب ولايته أنه أظهر طوال هذه السنوات الولاء الكامل للسلطان محمود، ووقف إلى جواره في صدامه مع الملك مسعود أخيه، بل كان له دور ملموس في تهدئة الأمور والتوفيق بين الأخوين؛ مما جعل له مكانًا كبيرًا في قلب السلطان محمود، وقد مرَّ بنا أن هذا الرجل كان من الصالحين الأتقياء، مما سيكون له انعكاسٌ على أحداث الفترة القادمة .

أما الأمر الثاني الذي حدث في سنة (515هـ)\1121م فهو مقتل الأفضل بن بدر الجماليّ وزير مصر العبيدية الأول ، وذلك على يد أحد الباطنية الإسماعيلية ! وقد يتعجب القارئ من مقتل الأفضل وهو إسماعيلي على يد الإسماعيلية ، ولكننا نذكر أن الإسماعيلية إنقسمت إلى فرقتين متعاديتين هما الإسماعيلية المستعلية التي ينتمي إليها الوزير الأفضل ، والإسماعيلية النزارية المعروفة بالباطنية (الحشاشين) ، ولهذا تم هذا الإغتيال للإنتقام من الأفضل الذي يعتبر الرأس الأولى للحكم في مصر ، حيث إن الخليفة الآمر بأحكام الله كان مجرَّد صورة .

وبمقتل الأفضل بن بدر الجماليّ دخلت الدولة العبيدية في طور ضعف متدرج، وهذا - وإن كان سيؤمِّن ظهر مملكة بيت المقدس - سيكون له أثر إيجابي مستقبلاً عند العزم على توحيد الشام في زمان نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي .

وفي أواخر سنة (515هـ) وأوائل سنة (516هـ)\ 1122م كان هناك خليط من الأحداث المفرحة والمحزنة !

فقد حاصر بَلْك بن بهرام بن أرتق - وهو ابن أخي إيلغازي - إمارة الرها ، وكان بلك أميرًا على مدينة تسمى خَرتَبرت بالقرب من إمارة الرها ، ولم ينجح بلك في فتح الرها فإنصرف بجنوده عن المدينة ، فتبعهم جوسلين دي كورتناي بفرقة من فرسانه ، ثم دار قتال بين الفريقين بعيدًا عن حصون الرها، فإستطاع بلك وأربعمائة فارس من فرسانه أن يبيدوا الجيش الصليبي ، بل وأفلحوا في أسر جوسلين دي كورتناي أمير الرها ! وكان هذا الحدث المهيب في (516هـ)\ 13 من سبتمبر 1122م .

لقد كانت مفاجأة رائعة لم يتوقعها أحدٌ ، خاصةً أن الفرقة التي كانت بصحبة بلك كانت أضعف بكثير من فرقة الصليبيين .

ومع سعادة المسلمين بهذا الخبر إلا أن الأخبار أتت بسرعة بوفاة إيلغازي بن أرتق بعد أقل من شهرين من أسر جوسلين ، وكما كان متوقعًا فقد إنهارت الإمارة الكبيرة التي كوَّنها إيلغازي الأرتقي ! ولم يكن هذا الانهيار لحداثة إنشائها فقط ، ولكن لأنها تأسست على أكتاف جيوش تبحث عن المال والثروة لا عن الجهاد والجنة ! فكان طبيعيًّا أن تتقاتل هذه الجيوش بعد وفاة إيلغازي القويِّ ، وذلك لتقسيم التركة الثمينة !

وهكذا أخذ شمس الدولة سليمان بن إيلغازي إمارة ميافارقين ؛ أي الجزء الشمالي من ديار بكر ، وأخذ إبنه الثاني حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي إمارة ماردين مع الجزء الجنوبي من ديار بكر ، أمّا بلك بن بهرام بن أرتق إبن أخي إيلغازي فقد ظل مسيطرًا على خَرْتبرت ومعه صيده الثمين جوسلين ، وأخيرًا حلب فإنها آلت إلى بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن أرتق ، وهو إبن أخٍ آخر لإيلغازي .

وعند حدوث هذه التطورات المؤسفة أسرع بلدوين الثاني ملك بيت المقدس - الذي أصبح وصيًّا على إمارة الرها ، إضافةً إلى أنطاكية - لإستغلال الفرصة، وبدأ في مهاجمة إقليم حلب ، وإستولى فعلاً على البيرة شرق حلب ، وسيطر على بعض المناطق في شمال وجنوب حلب ، وبذلك صار مهدِّدًا لحلب ذاتها ، وكان بلدوين يعلم أن قوته في هذا الوقت لا تسمح بإسقاط حلب الحصينة ، ولكنه كان يريد أن يضغط على أميرها الضعيف سليمان بن عبد الجبار ليعقد معه صلحًا يؤمِّن جانبه ، ومن ثَمَّ ينطلق إلى الخطير بلك بن بهرام الذي أثبت كفاءته بهزيمة الصليبيين في الرها وأسر جوسلين نفسه ! وبالفعل تحقق لبلدوين الخبيث ما أراد ، وطلب سليمان الصلح مع بلدوين ، بل وردَّ له حصن الأثارب !
وهكذا إنطلق بلدوين الثاني آمنًا ليقابل بلك بن بهرام .

وفي صفر سنة 517هـ الموافق 18 من إبريل 1123م ، وأثناء حصار بلك بن بهرام لقلعة صليبية جاء بلدوين الثاني بجيشه ليقابل جيش بلك عند موضع يسمى أورش ، وكانت المفاجأة الكبرى أن إستطاع بلك بن بهرام أن يهزم الصليبيين ، بل ويأسر بلدوين الثاني ملك بيت المقدس !!

وهكذا ، وفي غضون سبعة أشهر فقط ، كان بلك بهرام بن أرتق يمسك في آنٍ واحد بملك بيت المقدس وأمير الرها ! ! لقد كانت صدمة هائلة للصليبيين !!

ولعل هذا الموقف من أشد المواقف صعوبة على الصليبيين منذ وطئوا الأراضي الإسلامية ، ولا ننسى أن بلدوين الثاني كان وصيًّا على إمارتي أنطاكية والرها بعد مقتل روجر الأنطاكي وأسر جوسلين دي كورتناي ، ومعنى هذا أن الثلاث إمارات أصبحوا الآن بلا زعامة !

وذاع صيت بلك بن بهرام فجأة ، وملأت أخباره الآفاق , وكان من السهل عليه الآن أن يوسِّع إمارته ، وأن يسعى من جديد إلى توحيد الأراتقة ، وقد أفلح فعلاً في ضم حرَّان ، ثم أتبع ذلك بضم حلب ، بل وبدأ يهاجم إمارة أنطاكية من مكانه الجديد في حلب ..

ووضعت مملكة بيت المقدس على قيادتها أمير صيدا وقيسارية إيستاش جارنيه Eustache Garnier ، ولكنه تُوفِّي فجأة بعد ولايته بشهر أو نحو ذلك ! وتولى بعده أحد قواد بيت المقدس وإسمه وليم دي بور ، أما إمارة أنطاكية فقد تولى قيادتها بطرك الكنيسة برنارد دي فالنس .

وكان بلك بن بهرام يحبس الأسيرين الثمينين في قلعة حصينة في معقله الأساسي خرتبرت ، وإنتهز فرصة الضعف الصليبي وإنعدام التوازن المفاجئ وبدأ في مهاجمة المناطق المحيطة بحلب ، وإستطاع فعلاً السيطرة على البارة غربي معرَّة النعمان ، ثم إتجه لحصار كفرطاب .

ثم جاءت المفاجأة المؤسفة أثناء حصار كفرطاب أن هناك مؤامرة نُفِّذت من قبل سكان منطقة خرتبرت النصارى ، وإستطاعوا بها أن يحرِّروا الأسيرين في لحظة واحدة ، وفي ظل غياب معظم الجيش المسلم للمعارك المتتالية في منطقة حلب ، وعاد بلك بن بهرام بسرعة إلى خرتبرت ، وفاجَأَ الفرقة التي تصاحب الأميرين الأسيرين ، وإستطاع أن يُعيد أسر الملك بلدوين الثاني ، بينما أفلح جوسلين دي كورتناي في الفرار بعد عامٍ كامل من الأسر !

وخشي بلك بن بهرام أن يتكرر الأمر مع بلدوين الثاني فنقله إلى قلعة حصينة في مدينة حران ؛ ليكون بعيدًا عن المدن ذات الكثافة النصرانية ، وبعيدًا أيضًا عن جيوش الصليبيين ، ثم أعاد نقله بعد ذلك إلى قلعة أشد حصانة في حلب .

وإستأنف بلك بن بهرام جهوده في قتال الصليبيين ، وانتصر عليهم في مَنْبِج شمال شرق حلب ، إلا أنه أصابه فجأة سهمٌ غَرْبٌ لا يُعرَف مصدره ، فسقط شهيدًا رحمه الله !! , لقد حدث ذلك في ربيع الأول 518هـ الموافق 6 من مايو 1124م ليفقد المسلمون عَلَمًا مهمًّا من أعلام الجهاد في هذه المرحلة ، ولتحدث نفس المشكلة التي عانى منها المسلمون بعد وفاة إيلغازي ؛ إذ تقطعت إمارته بين الوارثين !

وكانت حلب من نصيب حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي، وقد ضمها إلى ماردين ، إلا أنه آثر أن يبقى في ماردين لبُعدها عن أرض الشام حيث الصدامات المتكررة مع الصليبيين ، بينما هو - كما يقول إبن الأثير - رجل يحب الدَّعة والرفاهية !

ولكن هناك مشكلة كبيرة جدًّا لا بد أن يُقحِم تمرتاش الوديع نفسه فيها ! وهي مشكلة الأسير المهم الملك بلدوين الثاني حبيس قلعة حلب ! إنه الآن المتصرِّف في أمر هذا الأسير ، ولا بد أن يُبدِي رأيه في قضيته !

وتحركت الوساطة السياسية بين الفريقين ، وقام أمير شيزر سلطان بن منقذ بهذا الدور ، وبعد مفاوضات وصل الفريقان إلى عدة شروط يطلق على أثرها سراح بلدوين الثاني ملك بيت المقدس ، وهذه الشروط هي :


1- يدفع الملك بلدوين الثاني مبلغ ثمانين ألف دينار فدية ، على أن يدفع منها مبلغ عشرين ألف دينار مقدمًا ، والباقي بعد ذلك .

2- يتعهد الملك بلدوين الثاني بوصفه وصيًّا على إمارة أنطاكية بإعادة حصون عزاز والأثارب وزردنا والجزر وكفرطاب إلى إمارة حلب .

3- يتعاون الملك بلدوين الثاني مع تمرتاش في إخضاع دُبَيْس بن صَدَقَة الزعيم العربي الشيعي الذي نزح إلى الجزيرة بعد فراره من الخليفة العباسي في العراق .

4- يُسلِّم بلدوين الثاني عددًا من الرهائن يحتفظ بهم عند المسلمين لحين تنفيذ بلدوين الثاني ما طلب منه من دفع المال وتسليم الحصون ، وهؤلاء الرهائن هم مجموعة من الأمراء الصليبيين على رأسهم إبنة بلدوين الثاني شخصيًّا ، وهي طفلة عمرها خمسة أعوام فقط ، وجوسلين الثاني إبن جوسلين دي كورتناي أمير الرها ، على أن تبقى هذه الرهائن في يد الوسيط ، وهو أمير شيزر سلطان بن منقذ .

وتمَّ بالفعل إطلاق سراح بلدوين الثاني بعد أكثر من سنة من أسره ، وتوجه بلدوين أولاً إلى أنطاكية ، وهناك وبعد لقاء مع بطرك أنطاكية برنارد دي فالنس قرر الطرفان الرجوع في البند الخاص بإرجاع الحصون إلى حلب ، ومن ثَمَّ أرسلا رسالة بهذا المعنى إلى تمرتاش !
وفي هذه الأثناء وفي خلال السنة الماضية بكاملها ، منذ إتجاه بلدوين الثاني إلى الشمال لقتال بلك بن بهرام ، وأثناء أسر بلدوين وما تعلق به من أحداث ، كان الصليبيون يحاصرون مدينة صور اللبنانية ، وذلك بمساعدة أسطول عسكريّ كبير من البندقية .

ومدينة صور - كما ذكرنا من قبل - هي إحدى مدينتين لم يُسقطا بعدُ في كل الساحل الإسلامي الشامي على البحر المتوسط ، والمدينة الثانية هي عسقلان ولذلك فهي مدينة في غاية الأهمية ، ليس لحصانتها فقط ، ولكن لكونها أحد منفذين لا ثالث لهما للإمدادات البحرية الإسلامية .

وكانت صور في هذا الوقت تحت وصاية طغتكين أمير دمشق ، وهذا منذ سنة 506هـ\ 1112م ، ولكن الدولة العبيدية الخبيثة في مصر حاولت أن تستغل الظروف السيئة في بلاد الشام لتضم إلى حوزتها مدينة صور ، فدبَّرت مؤامرة لإقصاء الأمير مسعود ، وهو أميرها من طرف طغتكين ، مع أنه كان يتمتع بالكفاءة العسكرية والروح الجهادية ، وإستطاع الحفاظ على المدينة مدة أحد عشر عامًا كاملة ، مقاومًا ببسالة كل الهجمات الصليبية على المدينة ، ولكن السلطة العبيديّة فشلت بعد السيطرة على صور في الحفاظ عليها، وكانت النتيجة حصارًا محكمًا حول صور من الصليبيين ، وإشراف سكان صور على الهلاك لقلة الطعام والشراب ، لولا تدخل طغتكين الذي مُنع من الوصول إلى صور لإعتراض جيش أمير طرابلس بونز له ، ولكن طغتكين أفلح في إجراء مباحثات مع الصليبيين قضت بتسليم المدينة إلى الجيش الصليبي في مقابل تأمين أرواح السكان بكاملهم ، وبالفعل تمت الاتفاقية ، وقام الصليبيون بترحيل أهل المدينة إلى خارجها ، وبذلك سقطت المدينة الحصينة صور في 23 من جمادى الأولى سنة 518هـ\ أوائل يوليو 1124م ، بعد أكثر من 25 سنة لدخول الصليبيين أرض الشام !

وكانت صدمة كبيرة جدًّا للمسلمين ، خاصةً أن هذه الصدمة تزامنت مع مماطلة بلدوين الثاني في تنفيذ شروط إطلاق سراحه ، مما ينذر بضياع الفرصة الثمينة التي كانت في أيدي المسلمين !

رَفَع سقوط صور معنويات بلدوين الثاني ، ومن ثَمَّ فقد قرر أن ينكث عهده في مسألة ردِّ الحصون الإسلامية، بل قرر أن ينقض الاتفاق من أساسه ، فتحالف مع خصم تمرتاش، وهو دبيس بن صدقة الشيعيّ، والذي كان من المفترض على بلدوين أن يساعد تمرتاش في السيطرة عليه وإخضاعه، ثم جمع بلدوين الثاني جيوشه وجيوش أنطاكية ، إضافةً إلى جيش الرها بقيادة جوسلين دي كورتناي ، وكذلك جيش دبيس بن صدقة ، وتوجَّه بكل هذه الجيوش إلى حلب لحصارها ، وكان تمرتاش في ذلك الوقت في ماردين بعيدًا عن المشاكل !

ومن المؤكد أن بلدوين الثاني كان مطمئنًا إلى أن الزعيم المسلم لن يقدم على قتل الرهائن لا لضعفه فقط ، ولا لعلمه أن الشريعة الإسلامية تحرِّم قتل الأطفال ؛ ولكن لأن الرهائن ورقة ضغط رابحة سيحبُّ تمرتاش أن يحتفظ بها إلى آخر مدى ، فأراد بلدوين الثاني أن يمارس ضغطًا عنيفًا على تمرتاش ، فيقبل في النهاية أن يُطلِق الرهائن نظير رفع الضغط العنيف من عليه .

وهكذا وجد أهل حلب أنفسهم محصورين بقوات بلدوين الثاني وجوسلين دي كورتناي ودبيس بن صدقة ، وليس في وسطهم أميرهم ليدفع عنهم هذه الجيوش الضخمة !!

لقد كانت أزمة عنيفة !


وما أكثر الأزمات التي وقعت فيها حلب في خلال العقود الأخيرة ، منذ أيام رضوان بن تتش ثم إبنه ألب أرسلان فالخادم بدر الدين لؤلؤ ، وأخيرًا تحت حكم الأراتقة إيلغازي ثم بلك بن بهرام ثم حسام الدين تمرتاش .

وإن كنا نفهم الآلام التي مرت بها المدينة تحت حكم الطغاة رضوان وإبنه ألب أرسلان ثم بدر الدين لؤلؤ ، فلماذا تعاني المدينة تحت حكم الأراتقة ، وهم كما رأينا قادتهم على قدرٍ لا بأس به من حبِّ الجهاد ، وتوقير الشريعة ؟!

واقع الأمر أن الأراتقة المجاهدين الذين رأيناهم في قصة الحروب الصليبية بدءًا من سقمان بن أرتق، ومرورًا بإيلغازي بن أرتق ، وإنتهاءً ببلك بن بهرام كانوا جميعًا من القادة الناجحين الذين يقودون شعوبًا فاشلة !

والقائد الناجح العظيم يفشل إن كان جنوده أو شعبه من النوعية الفاشلة ؛ فجيوش الأراتقة ، بل وشعوبهم ، كانت تتحرك في هذه المعارك بدافع الحصول على غنيمة أو مال ، وبدافع تغيير مستوى المعيشة إلى أوضاع أفضل ، وبهدف ترك المدن الصغيرة والقرى للسكنى في المدن العظيمة كحلب وحرَّان ، وهذه الجيوش لو إنتصرت مرة أو مرتين لا يكتب لها دوام النصر ، ولو مُكِّنت في قطعة أرض أو مدينة ، فإنه لا يكتب لها دوام التمكين والسيادة ؛ إذ سرعان ما تنهار عند أول أزمة تنذر بضياع المال أو النفس ..

ولذلك فلكي يحقق المسلمون نجاحًا دائمًا وتمكينًا مستمرًّا ، وإستقرارًا في دولتهم ، وهيبة لا تهتز عند الأزمات لا بد أولاً من تربية شعبٍ على معاني الجهاد وحب الشريعة ، وهذا الشعب هو الذي سيُخرِج الجيش الفاهم والقائد الواعي الذي يستطيع أن يواصل مسيرة الجهاد الصعبة .

ولو راجعت قصص إنتصار وتمكين خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وطارق بن زياد وصلاح الدين الأيوبي وقطز ومحمد الفاتح ، وغيرهم من الذين مُكِّنوا في الأرض ستجد أن شعوب هؤلاء كانت شعوبًا عظيمة ، وتربيتهم كانت تربية راقية ، ومستواهم الإيماني والأخلاقي كان متميزًا ، وكفاءتهم العسكرية والسياسية والإدارية كانت عالية .

إنها منظومة متكاملة تحقق النصر في النهاية ، ولا يمكن أن يتم نصر متكامل مستمر لمجرد ظهور بطل متحمِّس ، أو رجل يحب الشهادة !


وواقع الأمر أننا لم نر حتى الآن في قصة الحروب الصليبية من يتناول القضية بهذه الطريقة ، إنما كان يتعامل المخلصون الذين ظهروا لنا في هذه القصة مع الموضوع بطريقة إدارة الأزمات ، وبطريقة حكومة الطوارئ ، التي تحاول قدر إستطاعتها بإخلاص الخروج من الأزمة ، لكن دون تخطيط حقيقي لمستقبل البلاد ، ودون وضع خطط واضحة لضمان سلامة البلاد لعشرات السنين المستقبلية .

وهذا ما يحزننا في زماننا الآن ، عندما نرى المتحمِّسين لقضية فلسطين أو العراق أو غيرهما من الأقطار الإسلامية المحتلة يقصرون همَّهم ووسائل مساعدتهم على جمع المال والإمداد بالغذاء والدواء ، بل والمطالبة بالذهاب إلى هناك للقتال والإستشهاد ! وهذا - لا شك - أمر مطلوب ، ولكنه لا يكفي بمفرده ، بل لا بد إلى جواره أن ننظر إلى المدى البعيد الذي نفلح فيه في تكوين شعب ، وفي تربية جيل يستطيع أن يحقق كل الآمال ، فلا يكتفي بتحرير البلاد المحتلة فقط ، ولكن يسعى إلى الإستمرار في الحفاظ على المكاسب ويحرص على دوام التمكين ، بل ويطمح في نشر دين رب العالمين في كل ربوع الدنيا .

وما أعمق الكلمات التي كان يحفز بها رسول الله شعبه أثناء فترة مكة ، حين كان يُعلِي طموحاتهم ، ويرفع من همتهم ، فلا يكتفي بفتح باب الأمل "بإحتمالية" النجاة من إضطهاد أهل مكة ، بل يؤكد على ذلك ويتجاوز هذا إلى طموحات رائعة حيث يقول : "وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ" ، بل إنه يقول لهم في صراحة : "يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، قُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تُفْلِحُوا" . وقال لعمِّه أبي طالب : "إني أريد منهم كلمة واحدة تدين لهم بها العرب ، وتؤدي إليهم العجم الجزية !!" .. قال أبو طالب : كلمة واحدة ؟! قال : "كلمة واحدة".

قال: "يا عم ، قولوا لا إله إلا الله" ؛ يقول هذا الكلام والمسلمون محاصَرون في مكة المكرمة ، وهم بعيدون عن كل أسباب التمكين المادية !

لا بُدَّ إذن من وجود قوَّاد ومربِّين ومصلحين وعلماء يرفعون سقف أحلام المؤمنين ، ويعيدون تربية الشعب على أساس متين ، يستخلص بوضوح من سيرة الرسول ، وكذلك من سير المجاهدين المجددين في تاريخ هذه الأمة ، والذين إستطاعوا أن يمكنوا للإسلام في الأرض .

ومع ذلك فإن مرحلة الأراتقة هذه كانت ضرورية ، ولا بد أن نشكر جهودهم مع كونها كانت مؤقتة ؛ إنهم حملوا الراية في زمان تخاذل الكثيرون عن حمل الراية ، وداموا على الجهاد مع صعوبته ، وألحقوا بعض الهزائم بالصليبيين منعتهم من التوسع الأكثر في بلاد المسلمين ، ومهدوا لمن يأتي من بعدهم ليكمل المسيرة ، وأنقذوا أرواحًا كانت من الممكن أن تزهق ، وديارًا كانت من الممكن أن تهدم ، ولعلهم لو ظهروا في زمانٍ إجتهد فيه من سبقهم في تربية الشعوب ، وتعليم الناس ، لكان لهم شأن آخر ، ولكن الأمور تجري بالمقادير !


ونعود إلى أهل حلب !


لقد وجد أهل حلب أنفسهم في حيرة شديدة، وشعروا أن البلد بلا قائد ولا رابط ، وأن قائدهم المفترض حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي ضعيف ، وحتى لو جاء بجيشه فلن يستطيع أن يدفع عنهم ، فهو لا يرغب أصلاً في مواجهة الصليبيين ، والجهاد صعب ، ولن يَقْوَى عليه إلا من يطلبه ، بل ويشتاق إليه .

ومن هنا قرَّر أهل حلب أن يستعينوا بقائد من خارج حلب يأتي ليتسلم زمام الأمور ، ومن ثَمَّ يَرُدُّ هؤلاء الغزاة عن المدينة الآمنة : حلب ! فبمَن يستعينون ؟! ..

إن معظم الزعامات التي كانت حولهم كانت في غاية الضعف ، ولم يكن أمامهم إلا أحد رجلين : إما طغتكين قائد دمشق ، أو آق سنقر البرسقي زعيم الموصل .

أمّا طغتكين ، فهو على الرغم من قوته وحفاظه على دمشق فترة طويلة فإنَّه لم يكن القائد المنشود ، وذلك أنه كان دومًا في حاجة إلى المعونة من الخارج ، بل كان أحيانًا يتحالف مع الصليبيين في فترات ضعفه ، وها هم الصليبيون يأتون بجيوشهم لحصار حلب غير معتبرين بقوة طغتكين القريبة من حلب ، ومن ثَمَّ فإن أهل حلب شعروا أن هيبة طغتكين لن تردع الصليبيين ، ولن تردهم خاسرين .

لكن القائد الآخر آق سنقر البرسقي شأنه مختلف ! فهذا القائد ، مع كونه لا يمتلك تاريخًا جيدًا في المنطقة ؛ حيث هُزم قبل ذلك من الصليبيين أثناء فترة ولايته الأُولى على الموصل ، إلا أنه يتمتع ببعض الخصال التي تجعل كفَّته أرجح من كِفَّة طغتكين .

فهو أولاً : يتمتع بدرجة عالية من الصلاح والتقوى تجعله يسير فيهم بالعدل والرحمة ، وهي صفات إفتقر إليها شعب حلب عدة عقود .

وهو ثانيًا : يمتلك جيشًا قويًّا هو جيش الموصل ، ويكفي أن أحد أبرز قادته هو عماد الدين زنكي الذي إشتهر أمره بين المسلمين .

وهو ثالثًا : يحكم شعبًا فاهمًا محبًّا للجهاد ، وهو شعب الموصل ؛ ولذا فجيشه يختلف عن بقيَّة جيوش هذا الزمان ، وهو يعلم كيف يكون الجهاد في سبيل الله ، وليس في سبيل الكرسيِّ أو المال .

وهو رابعًا : على عَلاقة جيِّدة جدًّا وشخصيَّة بالسلطان السلجوقيّ محمود ؛ ومن ثَمَّ فهو بذلك يضمن تأييدَ أكبر سلطة في العالم الإسلامي في ذلك الوقت .

وهو خامسًا : سيضيف قوة جديدة إلى المنطقة بالإضافة إلى قوة طغتكين ؛ لأن هناك سابق
إتحاد بين قوة الموصل وقوة دمشق أيام مودود رحمه الله ، فلو أُعيدت هذه الوَحدة بالإضافة إلى حلب فلعل ذلك يردع الصليبيين ويحقق النصر .

ومن هنا رجحت كفة آق سنقر البرسقي ، وأرسل أهل حلب من فورهم رسالة إستغاثة إليه ، تطلب منه القدوم لتسلُّم مفاتيح المدينة العظيمة : حلب !

وجد آق سنقر البرسقيّ أمير الموصل أن هذه فرصة لا تُعَوَّض لمواصلة الجهاد ضد الصليبيين ، خاصة أنَّ السلطان محمود قد أظهر رغبة في الجهاد قبل ذلك ، ومن هنا تحرك بسرعة ملبِّيًا نداء أهل حلب ، ووصلها بالفعل في ذي الحجة سنة 518هـ\ يناير 1125م ؛ ليُوَحِّد بذلك بين الإمارتين الكبيرتين : الموصل وحلب وإذا كنا قد رأينا شرًّا كبيرًا في غياب المجاهد بلك بن بهرام عن الساحة ، وإطلاق سراح بلدوين الثاني دون فائدة تذكر ، وحصار بلدوين وأعوانه لمدينة حلب ، وغير ذلك من الأحداث المؤسفة ؛ فإنه كان من وراء هذا الشرِّ خيرٌ كثير ، وهو توحيد قوة الإمارتين المهمَّتين : الموصل وحلب .

وهذه الوحدة وإن كانت لم تحقق أهدافها في أول أيامها ، إلا أنها لفتت الإنتباه إلى قيمة إتحاد هاتين الإمارتين ، وبذلك يُعتبر هذا الحدث نواةً لما سيحدث مستقبلاً من إتحاد إستراتيجي مؤثر بينهم .

أما لماذا تعتبر هذه الوَحدة مهمة جدًّا فذلك لأسباب عدة منها :


أولاً : تواصل إمارة الموصل مع إمارة حلب دون وجود فارق بينهما يعني إتصال الجسر العسكريّ من العراق ، بل من شرق العالم الإسلامي كله بما في ذلك فارس (مركز السلاجقة الرئيسي) ، مع أرض الشام حيث يوجد الصليبيون .

ثانيًا : الدعوات الجهادية الحقيقية كانت تظهر في الموصل ، فإذا تَوَحَّدَت الموصل مع حلب فإنه يُتَوَقَّع أن تسري هذه الدعوة في حلب ومنها إلى الشام ، بعد غياب حقيقي لهذه الدعوة في أرض الشام طوال السنوات السابقة .

ثالثًا : الإمكانيات البشرية والعسكرية للإمارتين كبيرة ، فإتحادهما يعني تكوين قوة صلبة تستطيع مواجهة الصليبيين .

رابعًا : وجود حلب تحت حكم الموصل التابعة أصلاً للسلاجقة والخلافة العباسية سيضع المسئولية رسميًّا على السلطنة والخلافة ، ولن يصبح الأمر مجرَّد تفضُّل بالمساعدة ، أو تبرُّع بالجهاد .

خامسًا : الجيوش العسكرية العراقية كانت تعاني دائمًا من عدم وجود قاعدة إنطلاق متقدمة في أرض الشام ، ولعلنا نذكر الأزمة التي وُضع فيها مودود رحمه الله عندما أَغْلَق رضوان حاكم حلب أمامه أبواب المدينة عندما جاء بجيوشه للجهاد ضد الصليبيين .

سادسًا :
هناك فرصة كبيرة لإنتقال علماء المسلمين من العراق ، وخاصة من الموصل وبغداد ، لإعادة بناء أهل حلب والشام عقائديًّا وفكريًّا ، وخاصةً أن سيطرة الباطنية على الأمور في أعظم مدينتين بالشام وهما : حلب ودمشق ، أدى إلى كثير من الإضطراب في مفاهيم الناس .

فهذه كانت بعض الفوائد من إتحاد الموصل مع حلب ؛ ولذلك ظهر الإحتفال بهذه الخطوة واضحًا عند كل المسلمين المخلصين المعاصرين للحدث ، كما ظهر ذلك أيضًا في كتابات المؤرخين ، وما زال يظهر في تحليلاتنا إلى زماننا هذا ، ولا شكَّ أن الوَحدة بصفة عامة أمر يدعو إلى الإحتفال والإهتمام .

وهكذا جاء آق سنقر البرسقيّ إلى حلب ، وبمجيئه رحلت القوات الصليبية حيث شعرت بقوة الجيش السلجوقي العراقي ، وتعاطف الناس في حلب معه ، ومن هنا لم يحدث صدام بين المسلمين والصليبيين .

رتَّب آق سنقر الأوضاع في حلب ، ثم عاد إلى الموصل بعد أن ترك فيها أميرًا يتبعه ، ثم ما لبث أن عاد إلى المنطقة في أوائل سنة (519هـ)\ مارس 1125م ، وزار إمارة شيزر ، وتسلم الرهائن الصليبية من سلطان بن منقذ أمير شيزر ، وذلك بناء على المعاهدة التي كانت تنصُّ بتسليم هؤلاء الرهائن لزعيم حلب في حال الإخلال بأي بند من بنود الإتفاق .

ثم بدأ آق سنقر الجهاد مباشرة ضد الصليبيين ، فإستطاع السيطرة على حصن كفرطاب بالقوة ، وهو من الحصون التي كانت في الإتفاق مع بلدوين الثاني ، ثم حاصر بعده حصن زردنا ، ونتيجة هذه الحملات إستنجدت أنطاكية ببلدوين الثاني الذي جاء مسرعًا إلى المنطقة ، خاصة أن إبنته الآن رهينة في يد آق سنقر البرسقي ، وإشترك معه في النجدة جيش طرابلس بقيادة الأمير بونز ، وكذلك جيش الرها بقيادة جوسلين دي كورتناي ، وترك آق سنقر حصار زردنا ، وإتجه إلى منطقة عَزاز شمال حلب ، حيث دارت موقعة كبيرة بين الطرفين إقتتلوا فيها قتالاً شديدًا ، ثم تمكَّن الصليبيون - للأسف الشديد - من إلحاق الهزيمة بالمسلمين ، لكنها لم تكن هزيمة ساحقة كما تُصَوِّرُها بعض الكتابات بدليل أن قتلى المسلمين كما ذكر إبن الأثير كانوا ألفًا فقط ، وبدليل قَبول الطرفين للجلوس للتفاوض بعد المعركة مما يُعطِي إنطباعًا بالتكافؤ النسبي بين الفريقين .

وكانت نتيجة المفاوضات كالآتي :


أولاً
: يُسَلِّم آق سنقر الرهائنَ الصليبيين إلى بلدوين الثاني .

ثانيًا : يحتفظ المسلمون بكفرطاب .

ثالثًا : تُعقد هدنة بين الطرفين لمدة معينة لم تحدِّدها المصادر ، ولكن من الواضح أنها كانت هدنة لمدة قصيرة ؛ لأن آق سنقر رجع مسرعًا إلى الموصل لإعادة ترتيب الأوضاع في جيشه ، وجمع المجاهدين لصدام جديد ، وقد ترك على حلب إبنه عزالدين مسعود بن آق سنقر .

كانت هذه هزة لآق سنقر لكنها هزة لم تُلْغِ زعامته ، ولم تزعزع مركزه ، ولم تُفقده ثقة السلطان محمود فيه ، ولا ثقة الشعوب الإسلامية في قدراته وإخلاصه ، ومن ثَمَّ فالآمال كانت لا تزال معقودة عليه في تحرير الأراضي الإسلامية من دنس الصليبيين .

وبينما يُعِدُّ آق سنقر عُدَّته للتجهز لصدام جديد بعد انقضاء الهدنة إذ الأخبار تأتي من الشام أن بونز أمير طرابلس إستطاع إنتزاع قلعة رَفِنِيَّة من أيدي المسلمين ، وهذه القلعة تابعة لحمص التي تتبع بدورها طغتكين أمير دمشق ، وهي قلعة في غاية الأهمية لسببين رئيسيين ؛ الأول لأنها تُشرف على طرابلس ، ومن ثَمَّ فهي تهدد أمن الإمارة الصليبية بكاملها ، والثاني أنها تشرف على الطريق بين بيت المقدس وأنطاكية ، ومن ثَمَّ فالسيطرة عليها يؤمِّن الإمدادت الصليبية من بيت المقدس إلى أنطاكية ، ومن الجدير بالذكر أن بلدوين الثاني شارك بونز في إسقاط قلعة رَفِنِيَّة ، وبالتالي نقض الهدنة التي كانت بينه وبين آق سنقر البرسقي .

هنا إستنجد طغتكين بآق سنقر الذي جاء من فوره بجيشه في منتصف عام 520هـ\ 1126م ، وأرسل آق سنقر إبنه عز الدين مسعود لقتال الصليبيين عند رَفِنِيَّة بينما توجه هو إلى حصار حصن الأثارب المهمِّ ، وهو من الحصون التابعة لأنطاكية ..

أقبل بلدوين الثاني مسرعًا ومعه جوسلين دي كورتناي أمير الرها ، وكان واضحًا أنه خشي من القوة المتنامية لآق سنقر ، ومن إصراره وعزمه على مواصلة الجهاد ، ومن تعاطف المسلمين معه ، ومن اتفاق زعماء الشام عليه ، فعرض عليه الصلح ، وعقد الهدنة من جديد، وهذه المرة سيدفع بلدوين الثاني الثمن ، وهو إعادة حصن رَفِنِيَّة الخطير للمسلمين !

كانت نتيجة مُرضية جدًّا لآق سنقر ، وخاصة أنها جاءت دون قتال ، وسيستعيد المسلمون حصنًا مهمًّا ، وسيأخذون بالهدنة الفرصة لإعادة تنظيم جيوشهم وأمورهم، ومن ثَمَّ وافق آق سنقر البرسقي وتسلَّم حصن رَفِنِيَّة ، وأبقى عز الدين مسعود إبنه في حلب ، وعاد أدراجه إلى الموصل .

لقد بدأ المسلمون الآن ينظرون إلى آق سنقر على أنه القائد الذي سيصمد في الحرب ضد الصليبيين ، وهذا - لا شك - أسعد المسلمين كثيرًا ، إلا أن هذه السعادة لم تكن في قلوب كل من يرقب الأحداث .

لقد كانت هناك عيون يملؤها الشرُّ ، وقلوب يغمرها الحقد ترقب هذا النمو لشعبية هذا المجاهد ، وهذه الآمال المعقودة عليه !!

إنها عيون الباطنية وقلوبهم !


إن هذه العصابات الإسماعيلية الشيعية المسلحة ما كانت لتستقر أبدًا أو تسعد وهي ترى جهودًا سُنِّيَّة مخلصة تهدف إلى توحيد الأمَّة ، وإعلاء راية الجهاد، وطرد الصليبيين ؛ لذلك قررت هذه القلوب الحاقدة والنفسيات المعقدة أن تتخلص من هذا الرمز الجديد ، كما تخلصت قبل ذلك من سلفه المجاهد مودود ، ومن قبله من الوزير العالم نظام الملك !


وفي اليوم الذي عاد فيه آق سنقر إلى الموصل ، وهو يوم الجمعة الثامن من ذي القعدة سنة 520هـ الموافق 26 من نوفمبر 1126م ، دخل آق سنقر رحمه الله المسجد الجامع لصلاة الجمعة ، وكان يصلي رحمه الله مع العامة وَسْط الناس ، وفي الصف الأول ، وإذا ببضعة عشر باطنيًّا يهجمون عليه في وقت واحد ، وتناوشوه بسكاكينهم وخناجرهم فسقط شهيدًا رحمه الله ، في يومٍ كان من المفترض أن يحتفل فيه المسلمون بإستعادة حصن رَفِنِيَّة !

إن طريق الجهاد شاقٌّ وطويل ، ومشاكله لا تنتهي، وآلامه كثيرة ، لكن مع ذلك يبقى الجهاد ذروة سنام الإسلام وأعلى ما فيه ، وعلى الأمة التي تبغي عزة ، وتهفو إلى ريادة وسيادة أن تتعوَّد على مثل هذه الصدمات ، ولا تيأس لفقدان رمز من رموز الجهاد ؛ لأن الله إذا إطَّلع على الصدق في قلوب الناس ، والرغبة الحقيقية في الجهاد ، رزقها مَن يحمل الراية ، وكثيرًا ما يكون هذا البديل أعظم ألف مرة ممن فُقد ، وهذا تدبير مَن لا يغفل ولا ينام .

ومع ذلك فلا يمنع أن تحدث هزة وأزمة مؤقَّتة بعد فقدان رمز مهمٍّ من رموز الجهاد والصلاح ، ولقد تزامن مع إستشهاد آق سنقر البرسقي رحمه الله عدة حوادث جعلت أحوال العالم الإسلامي في إضطراب أكثر وأزمة أكبر .

فمن هذا مثلاً حدوث خلاف عظيم بعد مقتل البرسقي بأقل من شهرين بين الخليفة المسترشد بالله والسلطان محمود ، وقد تطور هذا الخلاف حتى وصل إلى صدام بالجيوش ، وكادت مقتلة عظيمة بين الطرفين تحدث لولا أن الله سلَّم ، وقُمعت الفتنة ، وإعتذر الخليفة المسترشد للسلطان القويِّ محمود ، وإستقرت الأوضاع نسبيًّا .

ومن هذه الحوادث أيضًا وصول بوهيموند الثاني إبن بوهيموند الأول ، بعد أن بلغ سنَّ الرشد ، وكان وصوله في شوال (521هـ) أكتوبر 1127م ، ولم يكن يَقِلُّ شراسة عن أبيه ، حتى وصفه المؤرخ أسامة بن منقذ بأنه كان بليَّة على المسلمين .

وبهذا إستقرت أوضاع الصليبيين إلى حدٍّ كبير ، فبلدوين الثاني على رأس مملكة بيت المقد س، وجوسلين دي كورتناي على رأس الرها ، وبونز على رأس طرابلس ، وبوهيموند الثاني على رأس أنطاكية .

وقد سعى بلدوين الثاني إلى تقوية الأواصر بينه وبين مملكة أنطاكية، فإستقبل بوهيموند الثاني إستقبالاً حافلاً ، بل وعرض عليه الزواج من ابنته الثانية أليس ، فقَبِل بوهيموند الثاني ، وبذلك صارت الرابطة بين مملكة بيت المقدس وأنطاكية قوية ومتصلة .

ومن الحوادث العجيبة أيضًا التي أدَّت إلى إضطراب في صفوف المسلمين ، أن السلطان محمود إستخلف على الموصل وحلب بعد إستشهاد آق سنقر البرسقيّ إبنه عز الدين مسعود بن آق سنقر ، وكان رجلاً شهمًا شجاعًا ورعًا كأبيه ، وكان عازمًا على إستكمال مسيرة الجهاد ، وقد حاول أن يضم إحدى القلاع المجاورة لحلب إليها ، غير أنه مات فجأة في أثناء الحصار دون أن يتعرض إليه أحدٌ بشيء ، وكان ذلك في عنفوان شبابه ، وأحدث موته إضطرابًا كبيرًا ؛ إذ قام أحد المماليك وإسمه جاولي بمحاولة تنصيب أخي عز الدين مسعود ، وكان طفلاً صغيرًا ؛ من أجل أن يتولى هو الوصاية عليه ، وأرسل رسولين بذلك إلى السلطان محمود ، وإنخلعت قلوب العامة خوفًا من أن يقبل السلطان بهذا الوضع ، مما سيضع البلد على حافة هاوية ، فالأمر خطير ، والصليبيون يطرقون الأبواب بشدة ، ويحتلون بلادًا واسعة ، ويحتاج المسلمون إلى شخصيَّة مجاهدة صابرة قوية لا إلى طفل صغير يتحكم فيه ملك صاحب مطامع !!

أرسل جاولي - كما ذكرنا - رسولين إلى السلطان محمود ، وكان الرسولان هما القاضي بهاء الدين الشَّهْرُزُوري قاضي حلب ، وصلاح الدين محمد حاجب عز الدين مسعود البرسقي ، وكان جاولي قد وعدهما بالولاية والتقديم إذا أفلحا في إقناع السلطان محمود بما يريد .

ومع أن الرسولين قد وُعِدَا بمال ومنصب إلا أن الله لطيفٌ بعباده ، فقد إختار جاولي رسولين صالحين في قلوبهما رأفة على الأمة ، ونُصْحٌ لله ولرسوله وللمؤمنين ؛ ولهذا فقد قرر هذان الرسولان أن ينصحا السلطان بما يمليه عليهما الشرع والدين ، لا بما يرغب فيه جاولي أو غيره ، مضحِّين بذلك بدنيا قد وُعدا بها .

إلتقى الرسولان بشرف الدين أنوشروان بن خالد وزير السلطان محمود ، وقالا له في أمانة بالغة : " قد علمت أنت والسلطان أن ديار الجزيرة والشام قد تمَكَّنَ الفرنج منها وقويت شوكتهم بها ، فإستولوا على أكثرها، وقد أصبحت ولايتهم من حدود مارِدِين إلى عريش مصر ، وقد كان البرسقي (آق سنقر) مع شجاعته وتجربته وإنقياد العساكر إليه يكفُّ بعض عاديتهم وشرِّهم ، ومنذ قُتِل إزداد طمعهم ، وهذا ولده طفل صغير ، ولا بد للبلاد من رجل شهم شجاع ، ذي رأي وتجربة يذبُّ عنها ويحفظها ، ويحمي حوزتها ، وقد أنهينا الحال لئلا يجري خلل أو وهن على الإسلام والمسلمين ، فيختص اللوم بنا ، ويُقال : ألا أنهيتم إلينا جليَّة الحال ؟" .

رفع الوزير شرف الدين هذا الكلام المهم إلى السلطان محمود فإستحسنه جدًّا ، وإستدعاهما وشكرهما ، ثم سألهما عمن يُرَشِّحان لمثل هذا المنصب الخطير ، فعرضا له بعض الأسماء ، غير أنهما حسَّنا له إسمًا معينًا ورغَّباه فيه ، فقَبِل السلطان محمود ترشيحهما إذ خبر بنفسه قوة الرجل المرشَّح وخبرته وإخلاصه وورعه ، ومن ثَمَّ صار هذا الرجل الجديد أميرًا على الموصل وحلب ، وهذا المرشح الجديد والزعيم المرتقب هو عماد الدين زنكي رحمه الله ، وهو الزعيم الذي يحتاج منا إلى وقفات ووقفات ، فهو - كما هو معروف - من علامات الجهاد البارزة في تاريخ الأمة .

فما هي قصة هذا البطل العظيم عماد الدين زنكي ؟ وكيف علا نجمه وإشتهر أمره؟ وما خطواته في الإصلاح ؟ وما طريقته في التجديد والتغيير؟ وكيف كان تفاعل الشعب معه وموقف الأمراء منه؟ وما ردُّ فعل الصليبيين لظهور هذا النجم الجديد ؟










آخر مواضيعي 0 حلمي لأيامي الجايه
0 صفات الله الواحد
0 عيش بروح متفائله ونفس مؤمنه
0 إبتهال قصدت باب الرجا
0 كونى انثي
رد مع اقتباس
قديم 06-03-2011, 11:41 PM رقم المشاركة : 24
معلومات العضو
marmer

الصورة الرمزية marmer

إحصائية العضو








marmer غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

أصول عماد الدين زنكي

لا يمكن فهم شخصية عظيمة كشخصية عماد الدين زنكي دون العودة إلى جذوره وأصوله ، فبالنظر إلى حال أسرته وخاصة والديه ندرك الكثير من الأبعاد العميقة في حياته ، ونكشف السر وراء هذه الشخصية المتكاملة التي أجرى الله على يديها خيرًا كثيرًا للمسلمين .

والله علَّل الخير الذي أصاب الولدين في قصة موسى والخَضِرِ رحمه الله بأن الأب كان صالحًا ، فقال تعالى ‎: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) .
ففي هذه القصة بُعد عجيب ، ومعنى دقيق لا بد من الإعتبار به ، وهو أن الأب ترك الولدين مبكرًا ، ولم يكن عنده من العمر ما يكفي لتربية أولاده وتنشئتهم ، ومع ذلك فإن الله حفظ الولدين وأجرى لهما خيرًا واسعًا بسبب أن أباهما كان صالحًا .

وفي نفس المعنى يقول الله : ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا ) .

وهذه هي حالة بطلنا العظيم عماد الدين زنكي تمامًا ؛ فقد تركه أبوه وهو يبلغ من العمر عشر سنوات فقط ! أي أن عماد الدين زنكي نشأ يتيمًا ، ولكنَّ أباه كان يتقي الله ، وكان يقول الكلمة السديدة ، وكان صالحًا، فحفظ الله الإبن بصلاح الأب ، وهذا متكرر كثيرًا في التاريخ الإسلامي ، وكم من المغيِّرين والمجدِّدين للأمة نشئوا يتامى ، فما حرمهم ذلك من أن يكونوا قادة ومصلحين ، وليس الشافعي والبخاري ، وأحمد بن حنبل ، والحسن البصري ، وعبد الرحمن الناصر ، وقطز ، وعمر المختار إلا مجرد أمثلة ، بل إن رسولنا نشأ يتيمًا ، فكان أعظم إنسان عرفته البشرية .

إذن من هو الأب العظيم الذي بصلاحه حفظ الله له ولنا هذا الإبن الجليل عماد الدين زنكي ؟!

إنه آق سنقر الحاجب التركماني ! وكما هو واضح من إسمه فهو من قبائل الأتراك ، من قبيلة تُعرف باسم ساب يو ، وهي قبيلة تمتعت بمكانة رفيعة عند السلاجقة الأتراك .

وكان آق سنقر من أصحاب السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان ، وهو السلطان العظيم الذي إمتدت حدود دولته من الصين شرقًا إلى آسيا الصغرى غربًا ، وكان عادلاً حسن السيرة ولذلك لم يكن يُقرِّب منه إلا الصالحين ، ويكفي أن وزيره الأول كان نظام الملك ، وهو من أعظم الوزراء في الإسلام ، وحاجبه كان آق سنقر والد عماد الدين زنكي ، فهذا من أدلة صلاح السلطان ملكشاه الذي يسَّر له الله البطانةَ الصالحة .

وكان آق سنقر مقرَّبًا بدرجة كبيرة إلى قلب السلطان ملكشاه لدرجة أنه أنعم عليه بلقب عجيب ، وهو قسيم الدولة ، ومعنى اللقب أن يقتسم معه إدارة الدولة وشئونها ، وهي منزلة رفيعة جدًّا .

ثم كانت هناك أحداث صعبة تمرُّ بها بلاد الشام ، حيث كانت تمزِّقها صراعات سياسية خطيرة ، خاصة منطقة حلب حيث كان يتنازع السيطرة عليها ثلاث قوى رئيسية : أما القوة الأولى فهي قوة مسلم بن قريش العقيليّ صاحب الموصل وحلب .. وأما القوة الثانية فهي قوة تتش بن ألب أرسلان أمير دمشق ، وهو أخو السلطان ملكشاه ، ولكنه كما ذكرنا قبل ذلك كان خبيثًا فاسدًا ، وكذلك صار أولاده من بعده وهم رضوان ودقاق وأما القوة الثالثة فهي قوة سليمان بن قتلمش مؤسِّس إمارة سلاجقة الروم ووالد قلج أرسلان الأول الذي مرَّ ذكره في بدايات قصة الحروب الصليبية .

وكنتيجة مأساويَّة لهذا الصراع قُتل مسلم بن قريش على يد سليمان بن قتلمش ، وأصبح الطريق إلى حلب مفتوحًا لسليمان ، ولكن أهلها رفضوا تسليم المدينة له ، وأرسلوا إلي السلطان العادل ملكشاه ليتسلم مدينة حلب ، فوافق السلطان ملكشاه ، وجاء بجيشه ، لكن في هذه الأثناء قُتل سليمان بن قتلمش على يد تتش بن ألب أرسلان ، وإنطلق تتش ليستولي على حلب ، غير أنه وصلها مع وصول جيش أخيه ملكشاه ، ووجد تتش أنه لا طاقة له بهذا الجيش العملاق ، فإنسحب وترك المدينة لملكشاه .

وكان الوضع في حلب سيِّئًا للغاية نتيجة الصراعات الدموية التي دارت في المنطقة فلم يجد السلطان ملكشاه حلاًّ لإصلاح أوضاعها إلا بتسليم إدارتها إلى الرجل الذي يثق في قدراته وأخلاقه وورعه ، وهو قسيم الدولة آق سنقر الحاجب ، وكان ذلك في شهر شوال (479هـ) يناير 1087م ، وهكذا بدأ الحكم السلجوقي لمدينة حلب ، بل وأعطاه إلى جوار حلب عدة مدن في المنطقة منها حماة ومَنْبِج واللاذقية .

تسلَّم آق سنقر الحاجب رحمه الله المدينة وهي في حالة مزرية من الفوضى والاضطراب بفعل الصراعات الكثيرة التي كانت بين حكام وأمراء المنطقة؛ مما جعل الحكام الذين تولوا حكمها لا يلتفتون أبدًا إلى أمورها الداخلية ، أو إلى حياتها الاقتصادية، فتراجعت واردات البلاد ، وفُرضت ضرائب باهظة على السكان ، ونتيجة لغلاء الأسعار , إنتشر اللصوص في المدينة، وإنعدم الأمن ، ومن ثَمَّ تعطلت الحركة التِّجارية، كما تراجعت الزراعة ، وهذا كله - لا شك - أثَّر سلبًا في كل قطاعات المجتمع .

ومع هذا التدهور الرهيب في كل مناحي الحياة إلا أن آق سنقر بدأ يمارس عمله بنشاط ، ساعيًا بكل طاقته أن يصلح الأمور كلها ، وكانت نظرته شمولية ، فلم يهتم بجانب على حساب آخر ، بل تناول الأحوال جملة واحدة .

إهتم آق سنقر بداية بالحالة الأمنية الخطيرة التي كانت تعاني منها حلب ، فأقام الحدود الشرعية ، وطارد اللصوص وقُطَّاع الطريق ، وقضى عليهم ، وتخلص من المتطرفين في الفساد .

وإضافةً إلى هذه السياسة التي تعتمد على وجود شرطة قوية عادلة تدافع عن الحقوق ، وتستخدم سلطتها في حماية الناس بدلاً من التسلط عليهم ، إضافةً لهذه الشرطة فإن آق سنقر لجأ إلى سياسة أخرى عجيبة آتت ثمارًا رائعة وفي وقتٍ محدود ؛ ذلك أنه أقر مبدأ المسئولية الجماعية لكل قرية أو قِطَاع في المدينة ، مما يعني أنه في حالة إذا هوجمت قافلة أو إنسان ، فإن أهل القرية يتحملون مسئولية الدفاع عنه ، وإذا سُرقت أمواله ، فإنهم يجتمعون معًا لتعويضه عما سُرق، ومن ثَمَّ أصبحت مهمة الحفاظ على الأمن هو مهمة الجميع ، ولا يمكن أن يشك الناس في لص أو عصابة مجرمين دون الإخبار عنها ؛ لأن المسئولية أصبحت جماعية وليست فردية ، وهذا له مرجع في الشريعة ، حيث مبدأ "العاقلة" ، بمعنى أن أفراد العائلة الواحدة أو القبلية الواحدة ، أو القرية الواحدة يتعاقلون فيما بينهم ، أي يتعاونون فيما بينهم لجمع الدِّيَة المطلوبة من أحدهم ، أو سداد الدين عنه ، وبذلك تعود الحقوق لأصحابها مهما كانت كبيرة .

ونتيجة لهذه السياسة البارعة ، ونتيجة للتطبيق الدقيق لها ، ونتيجة للإستخدام الصحيح لجهاز الشرطة في الإمارة ، عمَّ الأمن والأمان في كل الربوع وفي غضون أشهر قليلة ، وانعكس ذلك - ولا شك - على حركة التجارة والزراعة ، وإنعكس على حركة الأموال والبضائع ، ومن ثَمَّ تحسَّن الاقتصاد بشكل ملموس وإنخفضت الأسعار ، وتوفَّرت المنتجات ، وصار لحلب شأن عظيم بين الإمارات المجاورة .

ولا بد أن نؤكِّد هنا على أن آق سنقر رحمه الله كان حريصًا تمامًا على إقامة الحدود الشرعية ، مع أن الكثيرين قد يعتقدون أنها ستترك مجتمعًا مشوَّهًا نتيجة قطع أيدي السارقين ، وقتل القاتلين ، ورجم الزناة المحصنين ، وجلد الزناة غير المحصنين ، وجلد شاربي الخمر ؛ قد يعتقد البعض أن المجتمع في حلب أصبح مشوَّهًا نتيجة تطبيق الحدود في وجود الكثير من المفسدين والمجرمين ! لكن واقع الأمر أن هذا لم يحدث ؛ لقد كان تطبيق الشريعة مع مجرم أو اثنين رادعًا لبقية المجرمين ، ولم تَنْقِلْ لنا المصادر أن عددًا كبيرًا قد عوقب بهذه الحدود ، إنما نقلت أن الأغلب الأعم من المجرمين إرتدع عن جرائمه ، وصدق الله إذ يقول : (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ، فأصبحت حياة حلب وأمنها وعزِّها وتحسُّن اقتصادها وعلوّ شأنها في تطبيق القصاص ، وفي الإلتزام بالحدود الشرعية ، وفي التطبيق الحرفيِّ لكتاب الله وسنة رسوله .

ونتيجة هذا الأمن المتناهي نادى آق سنقر في أهل حلب بأمر عجيب جدًّا ، وهو أن لا يرفع أحد متاعه من الطريق إذا أراد أن يذهب إلى مكان بعيد ثم يعود ، بل يتركه دون حراسة ، وهو ضامن له ألا يُسرق !!

لقد كان أمنًا عجيبًا تحدَّث عنه الناس هنا وهناك .

ومما يُروى في هذا الصدد قصة عجيبة ، وهي أن آق سنقر كان قد مرَّ بقرية من قرى حلب، فوجد أحد الفلاحين - وكان لا يعرف آق سنقر - قد فرغ من عمله في حقله ، ويستعد لحمل أداة من أدوات الزراعة على دابته ليحملها إلى القرية ، وكانت هذه الآلة مغلَّفة بالجلد ، فقال له آق سنقر : ألم تسمع مناداة قسيم الدولة بأن لا يرفع أحدٌ متاعًا ولا شيئًا من موضعه ؟ بمعنى أنه يضمن لك حفظه من السرقة ، فقال الفلاح : حفظ الله قسيم الدولة ، وقد أُمِّنَّا في أيامه ، وما نرفع هذه الآلة خوفًا عليها من السرقة ، لكن هنا حيوان يقال له ابن آوَى (حيوان مثل الذئب) تأتي إلى هذه الآلة فتأكل الجلد الذي عليه ، فنحن نحفظه منها ونرفعه لذلك .. فعندما عاد قسيم الدولة إلى حلب أمر الصيَّادين فتتبعوا هذه الحيوانات في كل الإمارة ، فصادوها حتى أفنوها !

لقد كان أمنًا يخرج عن حدِّ الواقع إلى الخيال !

ولم يكن إسهام آق سنقر في هذا المجال فقط ، بل نجد إسهاماته العمرانية مثلاً ما يثبت أنه كان قائدًا متوازنًا مهتمًّا بكل التفاصيل في إمارته ، وقد جدَّد رحمه الله منارة مسجد حلب الجامع ، وما زال إسمه منقوشًا عليها إلى اليوم .

وأما في المجال العسكري ، فكان قسيم الدولة رحمه الله منظمًا إلى أبعد درجة ، وكان له جيش نظاميّ معظمه من التركمان ، وكان له أيضًا جيش إحتياطي مكوَّن من العرب والتركمان ، وكانت القوات الاحتياطية تبلغ عشرين ألف مقاتل .

وصار قسيم الدولة آق سنقر رحمه الله حديث الناس كلهم أجمعين ! وأحبَّه أهل حلب حبًّا جمًّا ، بل شُغِف بأخباره عامة المسلمين .

يقول المؤرخ إبن القلانسي في ذيل تاريخ دمشق عن آق سنقر : "وأحسن فيهم السيرة ، وبسط العدل في أهليها ، وحمى السابلة (الطريق المسلوك) للمترددين فيها ، وأقام الهيبة ، وأنصف الرعية ، وتتبع المفسدين فأبادهم ، وقصد أهل الشر فأبعدهم ، وحصل له بذلك من الصيت ، وحسن الذكر ، وتضاعف الثناء والشكر ، فعمرت السابلة للمترددين من السفار ، وزاد إرتفاع البلد بالواردين بالبضائع من جميع الجهات والأقطار" .

وقال إبن الأثير في حقه : "وكان قسيم الدولة أحسن الأمراء سياسةً لرعيته ، وحفظًا لهم ، وكانت بلاده بين رخص عام وعدل شامل وأمن واسع" .

وقال إبن كثير: "كان قسيم الدولة من أحسن الملوك سيرةً ، وأجودهم سريرة ، وكانت الرعية في أمن وعدل ورخص" .

كانت هذه هي حياة قسيم الدولة آق سنقر رحمه الله .

ومع هذه الروعة فإنَّ هذه الحياة لم تكن تعجب الجميع ! بل كان هناك مَن ينكر عليه خيره ، ومن يكره فضله ، ومن يحقد عليه لأجل صلاحه وورعه !!

وعلى رأس هؤلاء كان تتش بن ألب أرسلان أخو السلطان ملكشاه ، وكان تتش يطمع في بسط سيطرته على الشام بكاملها ، وفي وجود مثل هذا الحاكم العادل في حلب فإنَّ ذلك سيصعب عليه ؛ فالناس يحبونه ، وكذلك السلطان ملكشاه ، فماذا يفعل تتش ؟!


لقد كان تتش ذكيًّا في شرِّه ! فبدأ في السعي في ضم كل الإمارات الشامية بإستثناء حلب ؛ لأنه يعلم أن ملكشاه يحب آق سنقر ، فلا داعي لإستثارة السلطان عليه ، ثم إنه أثار حملة السلطان لمساعدته بأن ذكر له أن بقية الإمارات الشامية واقعة تحت تهديد النفوذ العبيديّ ، فأمر السلطان ملكشاه أمراء الشام بما فيهم آق سنقر أن يساعدوا تتش في حروبه ضد العبيديين .

لكن قسيم الدولة كان يدرك أطماع تتش الإنفصالية ، وكان في نفس الوقت عظيم الوفاء للسلطان ملكشاه ، لكنه لم يستطع أن يطعن في تتش لكونه أخَا ملكشاه ، وهذا دفعه لمساعدة تتش بغير حماسة ، مما أوغر صدر تتش عليه أكثر وأكثر ، بل وراسل أخاه السلطان ملكشاه في أمر قسيم الدولة .

أراد السلطان ملكشاه أن يحل الأزمة برفق ؛ فهو لا يريد أن يغضب كلا الطرفين ، ومن ثَمَّ فقد إستدعى كل أمراء الشام بما فيهم آق سنقر وتتش إلى مقرِّه في فارس ليتباحثوا في أمر الشام ، وهناك قام تتش بصراحة بإتهام آق سنقر بعدم الإخلاص للسلاجقة ، وهذا دفع آق سنقر لأن يدافع عن نفسه ، بل وإتهم تتش بالكذب ، ومن العجب أن السلطان ملكشاه أقرَّ آق سنقر على رأيه ، ورفض عزله ، وأوصى أخاه تتش بعدم التعرُّض له !

وكان هذا اللقاء في رمضان 484هـ ، أي بعد خمس سنوات من ولاية آق سنقر على حلب، لكن في السنة التالية حدث أمر مفجع وهو وفاة السلطان ملكشاه في شوال 458هـ\ تشرين الثاني 1092م ، وتولى بركياروق إبنه الأكبر الولاية على السلطنة السلجوقية الكبرى ، وهذا أغضب تتش الذي كان يطمع في هذا المنصب الرفيع ؛ ولذلك قرر تتش أن يتحرك بالقوة العسكرية لحرب إبن أخيه بركياروق ، والسيطرة على السلطنة بالقوة !!

ولكن تتش كان يخشى من وجود قوة آق سنقر خلف ظهره ، وفي نفس الوقت كان يريد أن يستغل قوته العسكرية الكبيرة في تحقيق مطامعه ، فأمره أن يأتي على رأس جيشه ليعاونه في حرب بركياروق بن ملكشاه !!

وقع قسيم الدولة آق سنقر في أزمة كبيرة ؛ فهو يعلم أن قوة تتش أكبر بكثير من قوته ، وهو في النهاية أخو ملكشاه السلطان المتوفَّى ، وعم السلطان الحالي بركياروق ، لكن في نفس الوقت هو على وفائه للسلطان العظيم ملكشاه ، ويريد أن يحفظه في إبنه ، كما أنه يعلم أطماع تتش ، ويعلم أنه ليس بالشخصية الجديرة بحكم المسلمين ، فماذا يفعل ؟!
لقد فكَّر قسيم الدولة في خطة خطيرة ! قد يدفع ثمنها من حياته يومًا ما، لكن لم يجد أمامه حلاًّ آخر !

لقد قرر قسيم الدولة أن يخرج بجيشه مع تتش ، ويوهمه أنه سيقاتل معه ، فإذا إلتقى الجيشان ، ترك قسيم الدولة جيش تتش وإنضمَّ إلى جيش بركياروق !

إنها خطة خطيرة ستقضي تمامًا على قسيم الدولة لو إنتصر تتش ! لكنَّ قسيم الدولة كان يرى أن الحق مع بركياروق ، ليس لأنه الوريث الشرعيّ للحكم فقط ، ولكن لكونه أصلح وأتقى ألف مرة من تتش ؛ ولذلك ضحَّى بأمنه وحياته من أجل الدفاع عن هذا الحق .

إنه نوعية فريدة حقًّا من الرجال !

ونفَّذ قسيم الدولة خطته ، وفي سنة 486هـ إلتقى جيش تتش مع جيش بركياروق في مدينة الرَّيِّ بفارس ، وفعلاً إنسحب آق سنقر بجيشه وإنضم إلي بركياروق ، وفعل نفس الشيء أمير الرها بوزان ، وكان وفيًّا كذلك للسلطان الراحل ملكشاه ، فإختلَّ توازن جيش تتش ، ومن ثَمَّ إنسحب مهزومًا من الرَّيِّ ، وعاد إلى الشام بخُفَّي حُنَيْن ، لكنه عاد بقلبٍ أشد حقدًا على قسيم الدولة آق سنقر .

أعاد بركياروق قسيم الدولة آق سنقر إلى إمارة حلب تابعًا له ، وذلك في ذي القعدة 486هـ ، وأمده بقوات إضافية لأنه كان يتوقع ضربة إنتقامية وشيكة من تتش .

وسرعان ما جاءت هذه الضربة ، فقد جمع تتش عدة جيوش ، وتقدم صوب حلب لإمتلاكها ، وخرج له قسيم الدولة بعد أن استغاث ببعض الأمراء التابعين لبركياروق ، لكنَّ الأمراء تأخروا في القدوم ، مما جعل قسيم الدولة يواجه تتش بجيشه وحده، وكانت الهزيمة المفجعة ، وأُسِرَ آق سنقر ، وقام تتش بقتله على الفور !

كانت هذه المأساة في يوم السبت 9 من جمادى الأولى 487هـ\ مايو 1094م ، وهكذا إنتهت فترة حكم آق سنقر - وهي ثمانية أعوام - لمدينة حلب ، ويشهد الجميع أنها كانت من أزهى عصور حلب مطلقًا .

هذه هي قصة الرجل العظيم قسيم الدولة آق سنقر الحاجب !

هذه هي قصة الرجل الذي تربَّى في بيته عماد الدين زنكي !

لقد قُتل قسيم الدولة آق سنقر ، بينما لم يتجاوز ابنه عماد الدين زنكي عشر سنوات !! لقد كان عماد الدين زنكي طفلاً صغيرًا ، ولا بد أن كثيرًا من الناس أشفقوا عليه من الضياع ، وكم من الأيتام ضاعوا ويضيعون ! لكن عماد الدين زنكي لم يضِع ، بل أعزَّه الله ونصره ، ولم يمُتْ إلا وهو على رأس إمارة واسعة ، وكان من أحبِّ خلق الله إلى قلوب العباد .

إن قسيم الدولة وإن كان لم يترك لإبنه مالاً كثيرًا ، ولا منصبًا رفيعًا ؛ فإنه ترك له أشياء أخرى كثيرة أعظم كثيرًا من المال والسلطان .

لقد ترك له أولاً رعاية الله وحفظه ، وكفى بهذه الرعاية ميراثًا ! لقد كان قسيم الدولة ورعًا تقيًّا قائلاً للحق دومًا ، حتى قال ابن العديم : " وكان قسيم الدولة شديد التقوى ، عميق الإيمان" .

وهذه التقوي حفظت الإبن الصغير الضعيف كما وعد الله : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ) .

وترك قسيم الدولة لإبنه ثانيًا حبًّا عظيمًا للشريعة وآدابها ، وتوقيرًا كاملاً لقوانينها وحدودها ، ورأى عماد الدين زنكي بعينيه بركات تطبيق الشريعة ، فما تركها أبدًا .

وترك قسيم الدولة لإبنه ثالثًا إعلاءً لقيمة العدل ، حتى ترسخ ذلك في قلبه وكيانه ، فكَرِه الظلم بكل صوره ، وصار من أعدل حكام المسلمين كما كان أبوه .

وترك قسيم الدولة لإبنه رابعًا رحمة فطرية على الرعية ، حتى كان يقدِّم مصالحهم على مصالحه ، ويعفو ويصفح لو كان الخطأ في حقِّه ، ويرحم الضعفاء والفقراء ، ويأخذ الحق لأهله دون تجاوزٍ أو طغيان .

وترك قسيم الدولة لإبنه خامسًا تواضعًا عظيمًا ، جعله لا ينظر إلى بهرجة السلطان ، وعظمة الكرسيّ ، بل كان دائمًا متواضعًا لله يدرك فضل الله عليه ، ومن ثَمَّ لا يتكبر على خلق الله ، ولا يُعْجَبُ بما يحقِّق من نصر أو تمكين .

وترك قسيم الدولة لإبنه سادسًا مهارة إدارية وقيادية جعلته قادرًا على تحريك الجموع وسياستهم ، وجعلته محبًّا لفكرة الوحدة والتجمع تحت راية واحدة .

وترك قسيم الدولة لإبنه سابعًا حبًّا للجهاد وتعظيمًا له ، فحياته كلها كانت جهادًا ، وكذلك حياة إبنه ؛ لقد علَّم ابنه كيف يكون مجاهدًا في سبيل الله لا في سبيل الملك والمال ، كما علَّمه ركوب الخيل وفنون الفروسية ، فقد كان قسيم الدولة من أمهر الناس قتالاً ، ومن أعظمهم جهادًا .

وترك قسيم الدولة لابنه ثامنًا حبًّا في قلوب أهل حلب ، فقد تعلَّقت قلوبهم جميعًا بهذا الحاكم العادل الرحيم ، حتى قال إبن الأثير كلمة عجيبة تصف حب الناس له ، فقال : " توارث أهل حلب الرحمة عليه إلى آخر الدهر !!" أي أن كل أبٍ يُوصِي أبناءه أن يتراحموا على قسيم الدولة ، وهكذا إلى آخر الدهر! فأيُّ درجةٍ من الحبِّ كانت هذه الدرجة ! ولا شك أن هذا سيكون له مردود كبير على حياة عماد الدين زنكي .

وترك قسيم الدولة لإبنه تاسعًا حبًّا واضحًا للسلاطين العادلين الأقوياء لسلطنة السلاجقة ، فقد كان ولاء قسيم الدولة لملكشاه ، ولإبنه بركياروق من بعده ، وهذا أعطى وضوح رؤية كبير لعماد الدين زنكي ، فلم ينبهر في حياته بلقبٍ أو شخص ، إنما جعل ولاءه للسلطان العادل ، ولم يتشتَّت بين القوى المختلفة ، بل ظل ثابتًا في إتجاه واحد ، وهذا حقَّق له خيرًا كثيرًا في حياته .

وترك قسيم الدولة لإبنه عاشرًا وأخيرًا مجموعة من الأصدقاء الأوفياء الذين أحبوه في الله ، لشخصه لا لسلطانه ، فحفظوا إبنه اليتيم بعد موته ، تمامًا كما فعل قسيم الدولة عندما حفظ إبن السلطان ملكشاه بعد موته ؛ لأنه كان يحبُّ السلطان لله ، وهكذا دائمًا يحدث ؛ فالجزاء من جنس العمل ، والله يقول : (هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ ) .

فتلك عشرة كاملة تركها قسيم الدولة لإبنه الصغير عماد الدين زنكي ! فمَن مِن المسلمين ترك لابنه مثلما ترك قسيم الدولة لابنه ؟!

إن الناس تنشغل بترك المال والثروة ، وتأمين الشقة والسيارة ، وتوصية فلان وفلان ، ولكنَّ القليل الذي يترك مثل الذي تركه قسيم الدولة رحمه الله ، لكنَّ القليل أيضًا الذي يكون مثل عماد الدين زنكي ، فإعتبروا يا أولي الأبصار !







آخر مواضيعي 0 حلمي لأيامي الجايه
0 صفات الله الواحد
0 عيش بروح متفائله ونفس مؤمنه
0 إبتهال قصدت باب الرجا
0 كونى انثي
رد مع اقتباس
قديم 06-03-2011, 11:41 PM رقم المشاركة : 25
معلومات العضو
marmer

الصورة الرمزية marmer

إحصائية العضو








marmer غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

- نشأة عماد الدين زنكي

لا يحسبنَّ أحدٌ أن كل ما ذكرناه من فضائل في حياة قسيم الدولة آق سنقر كانت تخفى على الطفل الصغير عماد الدين زنكي ! فعقول الأطفال أوسع بكثير مما نتخيل ، وكان رسول الله يعرض على الأطفال قضايا في منتهى الحساسية ، وفي قمة العمق ، وما أروع عرضه للإسلام على الطفل الصغير عليّ بن أبي طالب ! وما أروع شرحه للعقيدة بكل تفصيلاتها للطفل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ! وما أروع إستشارته للطفل أسامة بن زيد رضي الله عنهما في قضية أهل بيته عائشة رضي الله عنها هل يطلِّقها أم يبقيها !!

إن عقول الأطفال تستوعب تصرُّفات الآباء في سنٍّ مبكِّرة جدًّا ، خاصَّةً في هذا الزمن الأول ، حيث كان الطفل يحفظ القرآن في عمر السابعة ، ويحفظ كتب الفقه والحديث وهو لم يبلغ العاشرة ، وكان يجاهد في سبيل الله وهو لم يبلغ الخامسةَ عشْرَةَ ، وكان يقود الجيش وهو لم يبلغ الثامنةَ عشْرَةَ ، وكان يحكم البلاد وهو لم يبلغ العشرين !!

إنها حياة جادَّة تستوعب إمكانيات الطفل وتنميها ، فتضيف إلى عمره أعمارًا جديدة ، بدلاً من الحياة اللاهية التي يبلغ فيها الشابُّ الثلاثين من عمره وأكثر ، وهو لا يمتلك بعدُ الخبرة التي تمكِّنه حتى من الإعتماد على نفسه .

مات آق سنقر ، وترك عماد الدين زنكي محمَّلاً بحبِّ الشريعة والجهاد ، وراغبًا في نصرة الدين والمسلمين ، وشاعرًا تمامًا بهموم أُمَّته ومشاكلها ؛ لذلك إختار عماد الدين زنكي في هذه السنِّ الصغيرة أن يحيا حياة الجهاد والجدِّيَّة .

ترك عماد الدين زنكي حلب بعد مقتل أبيه ، فلم يكن يستطيع - على رغم حبِّ كل الناس له - أن يعيش في بلدٍ يحكمه تتش قاتل أبيه ، وخاصَّة أن تتش كان ظالمًا فاسدًا لا ينظر مطلقًا إلى مصالح أُمَّته ، بل لا يصرف وقته ولا جهده إلا لمصالحه الخاصَّة فقط ..

فإلى أين انتقل عماد الدين زنكي ؟! , لقد انتقل إلى الموصل !


ولعلَّ هذا الإنتقال في الأساس كان لولاية كربوغا على الموصل، وكربوغا هو أمير تركماني تحدَّثنا عنه أيام بدايات الحروب الصليبية ، وكان صديقًا شخصيًّا لآق سنقر ، فلما مات إستقدم إبنه عماد الدين زنكي، وضمَّه إلى جيشه ، وكان هذا في سنة 489هـ ، وعماد الدين زنكي في الثانيةَ عشْرَةَ من عمره .

وأخذ يوالي تدريبه على الفروسيَّة والقتال وإدارة الجيوش ، وهكذا قَيَّض الله لعماد الدين زنكي من يصقل شخصيته ، وينمِّي مواهبه .

وإشترك عماد الدين زنكي فعلاً في القتال مع كربوغا لأوَّل مرَّة حين كان يخضع بعض الولايات لحكم السلطان بركياروق ، وكان عماد الدين زنكي لا يتجاوز في هذه المعركة الرابعةَ عَشْرَةَ من عمره .

وفي حياة كربوغا - وتحديدًا في سنة (491هـ) 1097م - إحتلَّ الصليبيون مدينة أنطاكية ، وأرسل السلطان بركياروق جيشًا بقيادة كربوغا لحرب الصليبيين ، ولكن الجيش مُنِيَ بالهزيمة كما مرَّ بنا ، ولا ندري إن كان الطفل عماد الدين زنكي كان مشاركًا في هذا القتال أم لا ، ولكن المؤكد أنه عاش قضية الصليبيين من أوَّلها ، فلا شكَّ أن كل الأحاديث التي كان يسمعها في بلاط كربوغا كانت تدور حول الصليبيين .

لقد عاش عماد الدين زنكي القصة من أوَّلها !

ومات كربوغا سنة (495هـ) 1102م ، وكان عماد الدين زنكي في الثامنةَ عَشْرَةَ من عمره ، وكان من توفيق الله أنَّ الذي تولَّى الإمارة في الموصل بعد ذلك كان جكرمش ، وكان أيضًا من أخلص أصدقاء الأب قسيم الدولة آق سنقر ، ومن ثَمَّ إستكمل مسيرة كربوغا في تربية عماد الدين زنكي ، وفي تقديمه على غيره ، وتعليمه كل فنون القيادة والإدارة .

إننا نرى بوضوح أن الله يُسَخِّر لعماد الدين زنكي مَن يضع قدمه على الطريق ، ويوجِّه خطواته التوجيه الأصوب .

وعند عزل جكرمش سنة (500هـ) 1106م ، حكم الموصل جاولي سقاوو ، لكن جاولي كان على خلاف الأمراء السابقين ، لقد كان ظالمًا فاسدًا لا يفكِّر إلاَّ في مصالحه ، بل وصل الأمر في سنة (501هـ) 1107م ، أي بعد سنة واحدة أن قرَّر جاولي أن ينفصل بحكم الموصل عن سلطة السلطان محمد السلجوقيّ ، وهو السلطان الذي خَلَف أخاه السلطان بركياروق منذ سنة (494هـ) 1100م ، وهنا يتَّخذ عماد الدين زنكي موقفًا عجيبًا ! لقد كان آنذاك في الرابعة والعشرين من عمره فقط ، ومع ذلك فقد قرَّر أن يخرج من جيش جاولي ، وهو رئيسه المباشر ، لينضمَّ إلى السلطان محمد السلجوقي ، وكانت هذه الخطوة في منتهى الخطورة عليه ، لكنه أقدم على هذه الخطوة دون تردُّد مُكَرِّرًا ما فعله أبوه قبل ذلك بخمسةَ عَشَرَ عامًا بحذافيره ! لقد كانت الرؤية واضحة تمامًا عند عماد الدين زنكي أن ولاءَه الرئيسي للسلطان العادل محمد السلجوقي ، وليس للأمير الظالم جاولي ، ولا بُدَّ أن يعلن هذا الولاء ، ولو كان الثمن منصبه ، بل ولو كان الثمن حياته !

ولكن الله سلَّم ، وحَفِظ عماد الدين زنكي ، وباءت ثورة جاولي بالفشل ، وعَرَف السلطان محمد السلجوقي القائد الشابّ الجديد عماد الدين زنكي إبن قسيم الدولة المشهور والمحبوب إلى ملكشاه والد السلطان محمد ، وأوصى السلطان محمد بعماد الدين زنكي خيرًا ، ورفع ذلك إسمه في عيون الجميع .

ثم كانت لحظة فارقة في حياة عماد الدين زنكي ، حين تولَّى أمرَ الموصل شخصيةٌ من أعظم الشخصيات في التاريخ الإسلامي ، وهو مودود بن التونتكين رحمه الله ، وقد مرَّ بنا طرف من حياته ، وكانت هذه الولاية مدة ستِّ سنوات ، كان فيها عماد الدين زنكي من أقرب الناس إلى مودود ، ومَنْ أدراك مَنْ مودود !!

إنه - كما مرَّ بنا - من أصلح الأمراء ، وأتقاهم لله ، وأحبهم للعبادة ، وأعدلهم مع الرعيَّة ، وأخلصهم في الجهاد في سبيل الله ، وأرغبهم في وَحْدَة المسلمين ، وأكرههم للصليبيين ، لقد أدرك عماد الدين زنكي مودودًا رحمه الله ، وكان عماد الدين زنكي في ريعان شبابه ، فقد صحبه حين كان يبلغ من العمر أربعة وعشرين عامًا ، وقُتِل مودود ، وقد بلغ عماد الدين زنكي ثلاثين عامًا ..

إنها فترة النضج الحقيقية في حياة المجاهد عماد الدين زنكي ، شَرِب فيها عماد الدين زنكي كل توقير وتقدير للشريعة .

وشرب فيها كيف يمكن بذل الوقت والجهد والنفس في سبيل إعلاء كلمة الله في الأرض ..
وشرب فيها كل المهارات القيادية والفنية والقتالية التي يتمتَّع بها مودود .
وشرب فيها الشجاعة والجرأة والفكر العسكريّ الصائب .
وشرب فيها في ذات الوقت كراهية كبيرة للصليبيين الذين إستباحوا بلاد المسلمين ، وللباطنية الذين قتلوا مودودًا رحمه الله ، وللزعماء التافهين الذين تركوا مودودًا في أزمته ، بل أغروا به سفهاءهم ليقتلوه !

ومع مودود - وفي سنة 507هـ\ 1113م - شهد عماد الدين زنكي موقعة الصِّنَبَّرة ، حيث ذاق حلاوة النصر على الأعداء ، وذاق طعم العزَّة والكرامة ، وأبلى عماد الدين زنكي في هذه الموقعة بلاءً حسنًا غير مسبوق ، وأظهر شجاعة نادرة ، ومقدرة قتالية فذَّة ، حتى إكتسب شهرة واسعة في كل بلاد المسلمين ، وصار حديث الناس ، كما كان أبوه حديث الناس وأشدّ !

ثم قُتِلَ مودود رحمه الله .

وكانت صدمة كبيرة لعماد الدين زنكي ، فقد أحبَّه حبًّا شديدًا من أعماقه ، ثم إنها كانت صدمة لإكتشافه بحجم المؤامرات الدنيئة في العالم الإسلامي ، وعَلِم على وجه اليقين أن قتال الصليبيين مستحيل في وسط هذه الأجواء ، وليس هناك بُدٌّ من إصلاح الداخل قبل الصدام مع الأعداء الخارجيِّين .

ثم تولَّى آق سنقر البرسقي ولاية الموصل للمرَّة الأولى ، وذلك من سنة (507هـ) 1113م إلى سنة (509هـ)1115م ، وإشترك معه عماد الدين زنكي بقوة في معاركه ضد الصليبيين ، وحاصر معه الرها وسُمَيْساط وسروج ، مما زاد من شهرة عماد الدين زنكي لدى الجميع .

ثم بعد عزل آق سنقر البرسقي سنة (507هـ) 1115م ، وتولية جيوش بك دخل عماد الدين زنكي تحت زعامة الأمير الجديد ، وعندما حاول جيوش بك أن يقوم بمحاولة إنقلابية على السلطان محمود سنة (514هـ)\ 1121م ، رفض عماد الدين زنكي أوامر قائده الأقرب جيوش بك ، وأصرَّ على الولاء للسلطان الأعلى محمود ، وقد فشلت هذه المحاولة الانقلابية ، ورفع هذا كثيرًا من أسهم عماد الدين زنكي عند السلطان محمود .

ثم أُعِيد تولية آق سنقر البرسقي على الموصل سنة 515هـ ، فعاد عماد الدين زنكي من جديد إلى تبعيَّته آق سنقر البرسقي ، وعندما إنتُدِبَ آق سنقر لإدارة الأمن في بغداد للسيطرة على بعض الأمور الخطيرة سنة (516هـ) 1122م ، وكان دُبَيْس بن صَدَقَة قد قاد ثورة في بغداد للسيطرة على الحكم هناك ، أخذ آق سنقر عماد الدين زنكي معه لثقته في قدراته العسكرية والإدارية ، بل إن آق سنقر البرسقي ولَّى عماد الدين زنكي منطقة واسط حيث المركز الرئيسي لدبيس بن صدقة ليكون في مواجهته مباشرة ، ممَّا يدلُّ على عظيم ثقة آق سنقر في القائد العظيم عماد الدين زنكي .. وبالفعل إستطاع عماد الدين زنكي أن ينتصر على دبيس ويعيد الأمور إلى نصابها ، ولما هاجمت الأعراب مدينة البصرة هجمات متكرِّرة أعطى آق سنقر ولاية البصرة لعماد الدين زنكي للسيطرة على الأوضاع هناك ، فنجح في فترة وجيزة أن يُسَيْطِر على الأعراب ويمنع هجماتهم ، مما جعله بحقٍّ رجل المهام الصعبة في الدولة السلجوقية .

وكان ولاء عماد الدين زنكي في كل هذه الأحداث للسلطان السلجوقيّ وأمرائه ، ولم يكن للخليفة العباسي ، إنما كان يُدَافِع عن الخليفة العباسي في بغداد لأن مصالح السلطنة كانت متوافقة مع مصالح الخلافة، ولكن عند تَعَارُض مصالح السلطنة مع الخلافة ، مثل الخلاف الذي حدث سنة 519هـ بين السلطان محمود والخليفة المسترشد بالله ، كان عماد الدين زنكي يقف إلى جوار السلطان دون تردد ، وهذا في رأيي أمر طبيعي ومُتَوَقَّع ، مع أنه قد يُسَبِّب لنا حرجًا في الفهم ، عندما نجد أن عماد الدين زنكي يقف بجيشه أحيانًا في وجه الخليفة ، لكنْ تعالَوْا نفهم حقيقة الأمر بهدوء ، وهذا سيساعد في فهم كثير من الأحداث المستقبليَّة ..
لقد عاش خلفاء بني العباس منذ فترة طويلة جدًّا تجاوزت المائتي سنة تحت السيطرة العسكرية لغيرهم، فكانت السيطرة تارة للأتراك ، ثم أخرى للبويهيين الشيعة ، ثم أخيرًا للسلاجقة ، وفَقَدت كلمة الخلافة كل معنًى لها ، وصار الحكم كله في يَدِ الحاكم العسكري الذي يملك الجيوش والوزارات والأموال والقرارات والإتفاقات الدُّوَلِيَّة ، والأمور الداخلية الأمنية وغيرها ؛ وفي ظلِّ هذه الأوضاع توارث الخلفاء اللقب والثروات الشخصيَّة فقط ، وكان أقصى أحلام كلِّ خليفة أن يُسَيْطِرَ فقط على الأمور في بغداد ، ولا أقول العراق !


بمعنى أنَّ الخليفة في أفضل أحواله كان كالمحافظ على بغداد ، بينما السلطان المهيمن على الحكم يحكم دولة شاسعة من الصين إلى الشام ، وتضمُّ بين طيَّاتها العراق بما فيه بغداد ، وكان السلاطين - وخاصة السلاجقة - يحافظون على بقاء الخليفة كرمز ليجمع الأُمَّة حول معنًى واحدٍ ، ويُعِيد إلى أذهانهم دومًا أنهم أُمَّة واحدة ، وصار وضع الخليفة في الدولة الإسلامية كوضع الملك أو الملكة الآن في البلاد التي أصبحت تُدَارُ بنظام جمهوري كإنجلترا وإسبانيا وكندا وهولندا ؛ فهو مجرَّد رمز يذكِّر الناس ببعض المعاني الجميلة ، ولكن ليس له دخلٌ في الحكم أو الإدارة أو أيِّ قرار .

ولكن أحيانًا كان الخليفة - كما في حالة المسترشد بالله في قصَّتنا - يجد في نفسه قوَّة ، وتُرَاوِدُه الطموحات الكبيرة أن يُعِيَد للقب "الخليفة" هيبته الحقيقية ، فيُكَوِّن جيشًا من أهل بغداد وما حولها ، ويبدأ بمهاجمة السلطان ، ومحاولة فرض الرأي عليه ولكن هذا في الحقيقة وضع مقلوب ، فبعيدًا عن الألقاب فإنَّ تَشَتُّتَ السلطة بين خليفة وسلطان يُضعف الولاء عند الجميع ، ويُدْخِل البلاد في حالة من الاضطراب غير المقبول ؛ ولذلك كان عماد الدين زنكي يقف بصرامة مع السلطان القويِّ في مواجهة الخليفة الضعيف ، مع أنَّ قوَّة الخليفة كانت أحيانًا تقوى محلِّيًّا حتى تتغلَّب على جيوش السلطان المحلِّيَّة في بغداد أو ما حولها ، لكنها تبقى في النهاية محلِّيَّةً .

ثم إنَّ عماد الدين زنكي بدأ في الظهور أكثر وأكثر نتيجة النجاحات المتتالية التي يحقِّقُها ، ممَّا جعل السلطان محمود سلطان السلاجقة العظام في فارس يستدعيه إلى أصفهان ، ويُقَرِّبه منه ، ويُولِيه ثقته ، ويزوِّجه أرملةَ كندغدي ، وهو أحد أكبر أمراء السلطان ، ثم ولاَّه على إمارة البصرة في سنة 518هـ ، ثم عيَّنه في سنة 521هـ في منصب خطير ، وهو "شِحْنَة العراق" أي مدير أمن العراق بكاملها ، بل وزاده على ذلك أمرًا عظيمًا ، وهو أن جعله بالإضافة إلى إدارة الأمن في العراق "أتابكًا" لولديه ألب أرسلان ، وفروخ شاه ؛ والأتابك هو المربِّي ، فأصبح عماد الدين زنكي هو الأتابك عماد الدين زنكي ، وأصبح مسئولاً عن تنشئة أولاد السلطان تنشئة عسكرية سياسية شرعية متميزة ..

لقد كان طريقًا طويلاً صعبًا بدأه عماد الدين زنكي في سنٍّ صغيرة مبكرة ، وعاش حياة جدية تمامًا ، ولم يكن يلهو في حياته كما يلهو الأطفال أو الشباب ، إنما كان رجلاً بمعنى الكلمة ، يعيش هموم أُمَّته ، ولا يهتم بسفاسف الأمور ؛ فأجرى الله على يديه من الخير الكثير ، وحقَّق نجاحات عظيمة ، وكان كلُّ ذلك تأهيلاً لما هو آتٍ، فقد كان على موعد في مستقبله مع مهمة أثقل ، ووظيفة أصعب ، وهي مواجهة الكيان الصليبي الذي إستقرَّ في بلاد الإسلام منذ ثلاثين سنة ، وباءت محاولات المسلمين في كل السنوات السابقة بالفشل في إخراج الصليبيين من الأراضي التي إحتلُّوها ، فكانت هذه المهمة تحتاج إلى رجلٍ من طراز عماد الدين زنكي !

لقد كان من قدر الله أن سخَّر الرسولين اللذين أرسلهما جاولي - المملوك الذي سيطر على الأمور في حلب - ليعرضا على السلطان محمود إسم عماد الدين زنكي ليتولى أمور الموصل وحلب ، وبالتالي يواجه الصليبيين بمهارته المعروفة ، ووجد الإسم قبولاً عند السلطان محمود دون تردد ، ومن ثَمَّ عهد إلى عماد الدين زنكي في 3 من رمضان 521هـ\ 13 من سبتمبر 1127م بولاية الموصل والجزيرة (شمال العراق) وما يفتحه من بلاد الشام ، لتبدأ بذلك مرحلة مهمة في التاريخ الإسلامي تُعرف بالدولة الزنكية التي بدأ تأسيسها عماد الدين زنكي في سنة 521هـ ، وتبدأ في نفس الوقت مرحلة جديدة من مراحل الصراع الإسلامي- الصليبي في قصة الحروب الصليبية .

- عماد الدين زنكي أتابك الموصل

عماد الدين زنكي شخصية فريدة في التاريخ الإسلامي ، ورأينا كيف كانت جذوره طيبة ، وقد ترك له والده آق سنقر الحاجب رحمه الله كلَّ خير ، ورأينا كذلك تدرجه في الأعمال والمناصب حتى وصل إلى رئاسة إمارة الموصل ، وهو منصب رفيع جدًّا ، لكن كم من الأمراء وصلوا إلى هذا المنصب قبل ذلك ، ولم يغيِّروا أحداث التاريخ ! لكن عماد الدين زنكي لم يكن كعامة الأمراء بل كان متميزًا متفردًا مؤثرًا في كل من حوله ، ناقلاً للأمة الإسلامية بكاملها نقلة نوعية كان لها من الأثر ما تجاوز عشرات السنين !

وما أبلغ ما قاله عماد الدين الأصفهاني وهو يصف عماد الدين زنكي رحمه الله حين قال : "كان قطبًا يدور عليه فلك الإسلام !" .. لقد صوَّر العماد الأصفهاني عماد الدين زنكي بأنه أصبح مركزًا لكل عمل مهم في الأمة الإسلامية ، فصار كل شيء إسلامي في زمانه مرتبطًا به ، متأثرًا بأفعاله ! وهي درجة لا يصل إليها إلا أعاظم المسلمين ، وأكابر المجددين .

إنني أعتبر عماد الدين زنكي بشخصيته المتميزة "رجل المرحلة"! إنه الرجل المناسب الذي توفرت فيه الصفات التي تؤهِّله للأخذ بيد الأمة في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ الأمة ، وهذا من فضل الله عليه وعلى الناس ، وهذا من رحمة الله بالمسلمين ، فهو يرزقهم في كل مرحلة من مراحل حياتهم قائدًا يحمل من الصفات ما يصلح لعبور هذه المرحلة بكل ما فيها من أزمات .

ولقد جمع عماد الدين زنكي من الصفات ما تجعله يصلح أن يكون "نموذجًا" للحاكم المسلم ، بحيث تصبح أقواله وأفعاله وأخلاقه واختياراته معيارًا تستطيع أن تحكم به على صلاح حاكم أو فساده ، وليس هذا مبالغة ، بل هو قليل من كثير .. ولعله من المناسب أن نقترب أكثر من شخصية عماد الدين زنكي فنطَّلع على جوانبها وصفاتها وأهم مميزاتها ، وذلك قبل الخوض في تفصيلات قصته في إمارة الموصل ، وخطوات تغييره للواقع الأليم الذي كانت تعيشه الأمة ، وهذا الإقتراب من شخصيته سيضع أيدينا على المفاتيح المهمة التي ينبغي لكل مصلح أن يتحلى بها ؛ ولذلك فهي من أهم النقاط في هذا البحث الخاص بالحروب الصليبية .. وصفات الخير فيه كثيرة ، ولكن من أهمِّها ما يلي :

أولاً: الإخلاص والتجرد لله

وهذه كانت صفة غالبة على كل حياته رحمه الله، وبها كان يُنصر ويتمكن ، ولعل القارئ يتعجب من ذكر صفة الإخلاص كصفة واضحة في حياة عماد الدين زنكي ؛ لأن الإخلاص صفة قلبية ، وهي بين العبد وبين الله ، ولا يطَّلع عليها عموم الناس، ولكن الإخلاص له شواهد وعلامات ، وكل هذه العلامات والشواهد رأيناها بوضوح في حياة عماد الدين زنكي ؛ لذلك نشهد له بهذا ، ونسأل الله أن يتقبل كل أعماله الصالحة .

فمن شواهد الإخلاص في حياته مثلاً ثباته على الفكرة طيلة أيام عمره ؛ فقد جعل قضية إخراج الصليبيين من بلاد المسلمين قضية حياته ، فبذل جهده في هذه القضية عشرين سنة متصلة هي مدة حكمه للمسلمين ، هذا غير السنوات التي سبقت إمارته ، والتي كان فيها يشارك الأمراء السابقين في غزو الصليبيين وجهادهم .

إن الرجل الذي يتذبذب بين الإخلاص لله والعمل للذات وللنفس ، يغيِّر كثيرًا من قضاياه تبعًا للظروف ، أما أن تمر الأعوام تلو الأعوام وعماد الدين زنكي لا يتغير ولا يتبدل ، فهذا معناه أنه رجلٌ يعمل لله .

ومن شواهد إخلاصه أيضًا تقديمه لمصالح المسلمين على مصلحته الشخصية ، فقد خاطر كثيرًا بملكه الشخصيّ في سبيل نصر المسلمين ، وما أروع ما فعل حين وُضع في مأزق عسكري في أحد حروبه ضد الصليبيين سنة (532هـ) 1137م ، فقرر الإستعانة بجيوش السلطان السلجوقي مسعود ، فقال له أحد المستشارين : إن هذا قد يشجِّع السلطان على ضم حلب إلى أملاكه ؛ فتضيع بذلك من زنكي .. فقال عماد الدين زنكي : "إن هذا العدو (الصليبيين) قد طمع في البلاد ، وإن أخذ حلب لم يبق بالشام إسلام ، وعلى كل حال فالمسلمون أولى بها من الكفار!" .

وهذه الرؤية الرائعة تختلف كثيرًا عن رؤية عموم الأمراء الذين رأيناهم في قصة الحروب الصليبية ، حيث كان الأمير لا يخاطر بالإستنجاد بأميرٍ آخر خوفًا من أن يتملك هذا الأمير الجديد كل شيء ، بل لا يمانع بعض الأمراء من الإستعانة بالصليبيين في سبيل الحفاظ على ملكهم ، بل وأكثر من ذلك فقد دبَّر بعض الأمراء مؤامرات لقتل الزعماء المسلمين المجاهدين خوفًا من دخول إماراتهم تحت سلطة الزعيم المجاهد ، وما أحداث قصة مودود رحمه الله منا ببعيد !

ومن شواهد إخلاصه أيضًا أنه كان يخاطر بحياته في المعارك فلا يقاتل في أخريات الصفوف ، أو بمنأى عن المخاطر ، بل كان يتقدم الجميع ، وكثيرًا ما يكون أقرب الناس إلى العدو ؛ ولقد فَرَش في ليلة من الليالي بساطًا كبيرًا ، ووضع عليه الطعام ، وكان محاصِرًا لإمارة الرها ، فنادى في جيشه قائلاً : "لا يأكل معي على مائدتي هذه إلا من يطعن معي غدًا في باب الرها!" أي أنه سيصل في قتاله غدًا إلى أقرب النقاط من الحصن ، حيث سيباشر محاولات كسر الباب بنفسه ، وهذا سيجعله في مرمى سهام العدو ، وسيعرِّض حياته للهلكة ، لكنه كان يفعل ذلك دومًا رحمه الله ؛ وعندما قال كلماته هذه لم يتقدم إليه ليأكل معه غير أمير واحد ، وصبي آخر لا يعرفه ! فقد أحجم الجميع لمعرفتهم بإقدام عماد الدين زنكي ورغبته الصادقة في الشهادة ، وقد قال الأمير للصبي الصغير : ما أنت وهذا المقام؟ فكأنه يستصغر شأنه ، ويشك في ثباته ، فقال عماد الدين زنكي: " دعه ؛ فإني أرى - والله - وجهًا لا يتخلف عني !"، وقد كان وثبت الصبي معه !

ومن شواهد إخلاصه أيضًا إجتماع الناس على حبِّه ؛ فقلوب العباد بين أصابع الرحمن سبحانه وتعالى ، وقد رأينا اجتماع أهل البلاد المختلفة على حبه ، ورأينا إجتماع الوزراء والقضاة وعلماء الدين على هذا الحب أيضًا ، ومن اجتمع له حب الناس بهذه الصورة فهو دلالةٌ على حب الله له ، والله لا يحب إلا المخلصين له .


روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة ، أن رسول الله قال : "إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحْبِبْهُ ؛ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ ؛ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ" .. فإذا رأيت حاكمًا قد وُضع له القبول في الأرض فأحبه الناس ، فهذا علامة على إخلاص هذا الحاكم وحب الله له .

ومن شواهد إخلاصه رحمه الله أيضًا أن الله نصره في معظم لقاءاته مع الصليبيين ، والله لا ينزل نصره إلا لأحبابه وأنصاره ومن أخلصوا له ، والآيات في هذا المعنى كثيرة؛ ومنها على سبيل المثال : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ) ، ومنها : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ ) ، (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) .

ومن شواهد إخلاصه أخيرًا حسن الخواتيم ، فسوف نرى أنه سيُقتل رحمه الله في ميدان الجهاد ، فهذه الخاتمة في هذا الميدان هي من أسعد الخواتيم ، وهي أمنية الصالحين ، ولقد قال رسول الله فيما رواه أحمد عن عمر الجُمَعِيِّ : "إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا إستعمله قبل موته" .. فسأله رجل من القوم ، وما أستعمله ؟ قال : "يهديه الله إلى العمل الصالح قبل موته ، ثم يقبضه على ذلك" .

فهذه بعض الشواهد على إخلاصه رحمه الله ، وهي سر تفوقه وتميزه ، فإن الله كان معه في كل خطواته ، مع نشأته يتيمًا ووحيدًا إلا أن الله سخَّر له من يتولى شئونه ، ويرعى أموره حتى صار إلى ما صار إليه .

ثانيًا : توقيره رحمه الله للشريعة والدين

وهذا أمر واضح في حياته رحمه الله ، فقد حرص على إقامة الحدود الشرعية في كل المناطق التي يحكمها ، وكان يلتزم بحكم الشريعة ويلزم بها الناس ، وما أكثر المواقف في حياته التي كان يجمع فيها الفقهاء ليأخذ رأيهم في المسألة ! وكان يُعطِي العلماء في إمارته منزلة عظيمة ؛ قال ابن الأثير عن القاضي بهاء الدين الشهروزري : "أن عماد الدين زنكي كان لا يصدر إلا عن رأيه" .

ومثل هذا الكلام قيل في معظم العلماء الذين عاصروا عماد الدين زنكي ، وقد إستقدم عماد الدين زنكي العلماء من كل مكان ، وأوكل لهم رعاية أمور الناس ، بل أوكل لهم تربية أبنائه ، فخرج أبناؤه على نفس الصورة البهية وأكثر ، وخاصةً نور الدين محمود وسيف الدين غازي ..

ولعل مما يؤكد على حبه للدين أنه سمَّى أولاده كلهم بأسماء مرتبطة بالدين ، فأولاده هم : سيف الدين ، ونور الدين ، وقطب الدين ، ونصرة الدين ؛ وهذه - والحمد لله - كانت سمة عامة في هذا الجيل ؛ ولذلك كتب الله له النصر ، فآق سنقر سمَّى إبنه عماد الدين ، ووُلد في هذه الفترة أيضًا صلاح الدين الأيوبي ، وكان القاضي لعماد الدين هو بهاء الدين ، وكان نائبه هو نصير الدين ، وهكذا؛ وهذا على خلاف الفترة السابقة لهذا الجيل ، حيث كانت أسماء الملوك والأمراء ترتبط بالدولة والملك ؛ ولذلك كثرت حينها الأسماء مثل : شرف الدولة ، وجناح الدولة ، وعضد الدولة ، وبهاء الدولة ، وتاج الملوك ، وشمس الملوك ، وما شابه ذلك من أسماء تدل على التمسك بالحكم لا بالدين .

ومع هذا التوقير الشديد للعلماء إلا أن عماد الدين زنكي رحمه الله ما كان يبخل بالنصح والإرشاد للعلماء بقدر طاقته ، وما أروع ما قاله لهبة الله بن أبي جرادة ، وهو من العلماء الأجلاء ، عندما ولاَّه قضاء حلب حيث قال له : "هذا الأمر قد نزعته من عنقي ، وقلدتك إياه ، فينبغي أن تتقي الله "!! وهذا من شدة توقيره للشريعة والدين ، حتى أصبح آمرًا للعلماء أن يتقوا الله .

ثالثًا : الشجاعة

وهذه صفة لازمة حتمية لكل من أراد أن يتولى شئون القيادة والإمارة ، وما أتعس الأمة لو تولى شئونها من يتصف بالخوف ، أو يغلب عليه الجبن !

وليست الشجاعة في ميدان الحروب فقط ، ولكن الشجاعة تكون قبل ذلك في مرحلة القرار ، فكثير من القواد لا يملك الشجاعة لأخذ قرار الجهاد أصلا ويتعلل بأنه لا يريد لأمته أن تعيش ويلات الحروب ! مع كون البلاد محتلة ، والكرامة مهانة ، والحقوق ضائعة ! لكن عماد الدين زنكي رحمه الله كان شجاعًا في كل شيء ؛ فكان شجاعًا في قراراته ، وشجاعًا في مواقفه المختلفة ، وشجاعًا في معاركه الكثيرة ، وهذا منذ أيامه الأولى ، وإلى آخر لحظات حياته .

ولقد شاهدنا شجاعته قبل ولايته حين كان يصحب أمراء الموصل كربوغا وجكرمش ومودود وآق سنقر البرسقي ، وإستمرت هذه الشجاعة بل زادت عندما تولى الإمارة ، وما أصدق الوصف الذي ذكره أبو شامة في حق عماد الدين زنكي حين قال : "وأما شجاعته وإقدامه ، فإليه النهاية فيهما ، وبه كانت تضرب الأمثال" !

أما إبن الأثير فقد قال عن عماد الدين زنكي : "وكان له الشجاعة في الغاية "! وقال في موضع آخر : "وكان أشجع خلق الله "! وفي موضع ثالث يقول : "وقد أظهر خلال معاركه شجاعة فائقة لم يُسمع بمثلها "! وفي موضع رابع : "فأظهر من الشجاعة ما لا يوصف" !

وهكذا كانت حياته كلها ، مما يدل على أن الشجاعة كانت صفة متأصلة فيه ، وليست عابرة في ظرف من الظروف ، أو موقف من المواقف .

رابعًا : العدل

لا بد أن يكون العدل صفة لازمة لأي حاكم صالح ؛ لأن الحاكم يملك القوة لفرض ما يريد ، فلو أراد الظلم لم يستطع أحد أن يمنعه ، ولو أراد العدل سعد به شعبه ، بل سعدت به الدنيا .

والعدل كان من السمات الرئيسية المميزة لعماد الدين زنكي ، حتى قال إبن الأثير في وصف فترة حكمه رحمه الله : "لا يقدر القوي على ظلم الضعيف !" .. وكان يوصي أمراءه دائمًا بالتخفيف على الرعية ، وتجنب أعمال السخرة ، وكان صارمًا في هذا الباب تمامًا ، ولقد إعتقل وزيره أبا المحاسن العجمي ؛ لأنه صادر بعض أموال الناس ، ولم يقبل له حجته ، فكان الشعب عنده مقدَّمًا على القادة والأمراء ، وكان شديد الحرص على ممتلكات الفلاحين البسطاء ، فيأمر جنوده بأن يسيروا وسط المزارع في منتهى الحذر ؛ لئلا يدوس أحدهم زرعًا لفلاح ، ولم يكن في زمانه يجسر جندي على أن يأخذ تبنًا لفرسه من فلاح بلا ثمن ، مع أن التبن سيؤخذ علفًا لخيول الجهاد إلا أن ذلك لا بد أن يكون بالثمن !
وإذا كان عماد الدين زنكي لا يسامح جنوده في تبنٍ أخذوه بغير ثمن ، فما بالك بالأراضي والأملاك والديار ؟!

لقد كان من عادة الأمراء قبله أنهم إذا دخلوا مدينة أو قرية كانت في حوزة غيرهم أخذوها وقسموها على الأجناد ، وبذلك تضيع ملكيات المالكين الأصليين ، حتى جاء عماد الدين زنكي فأقر نظام الإقطاعيات ورفض نظام الأملاك ، بمعنى أنه كان يعطي الأمير أو الجندي إقطاعية معينة في البلد المفتوحة يتولى إدارتها وتنظيمها وحمايتها دون أن يتملكها ، بل تبقى الملكية في يد المالك الأصلي ، ويدفع المالك ضريبة معينة مخففة للحكومة نظير التأمين والرعاية ، ومن هذه الضريبة يأخذ الأمير صاحب الإقطاع شيئًا ؛ أما الأرض فتبقى في يد مالكها ويتوارثها أبناؤه .. ولما ذهب إليه بعض أمرائه وجنوده الكبار يطلبون أملاكًا ، كما يفعل الزعماء غير عماد الدين زنكي ، قال لهم عماد الدين زنكي كلامًا من نور ! حيث قال لهم : "ما دامت البلاد بأيدينا (أي نحكمها) ، فأيُّ حاجةٍ بكم إلى الأملاك ؟! فإن الإقطاعات تغني عنها ، فإن خرجت البلاد من أيدينا ، فإن الأملاك تذهب معها (أي إذا تملك الصليبيون البلد ، فلن تنفع حينئذٍ ملكيته) ، ثم يكمل ويقول : "ومتى صارت الأملاك لأصحاب السلطان ظلموا الرعية ، وتعدوا عليهم ، وغصبوهم أملاكهم" .

إنه في هذا التصرف العادل يضع مصلحة الشعب والفقراء والبسطاء والضعفاء فوق مصلحة الأمراء والقادة ورجال الحكومة ، لكنه في الوقت نفسه طمأن قلوب الأمراء بأنه جعل لهم الإقطاعيات ، بمعنى مراكز القيادة والإدارة ، وجعل لهم دخلاً يتناسب مع حجم الإقطاعية ، فتحقق لهم ربح وفير دون الإخلال بحقوق الشعب ، بل إنه أدخل نظام التوارث في الإقطاعية ، فكان كثيرًا ما يُعطِي منصب حاكم الإقطاعية لإبن الأمير حال وفاة الأمير ؛ ليطمئن الأمير على مستقبل أولاده ، فلا يسعى في حياته إلى ظلمٍ يحفظ به أولاده بعد مماته .

ومن أروع مواقف عماد الدين زنكي بخصوص قضية الأملاك والإقطاعيات ما حدث عند فتحه للمعرَّة ، وأخذها من يد الصليبيين بعد إحتلال عدة سنوات !

لقد كان عماد الدين زنكي حنفيَّ المذهب ، وفي مذهب أبي حنيفة أن الأرض إذا إحتلها الأعداء غير المسلمين صارت دار حرب ، ثم إذا ردَّها المسلمون بعد ذلك صارت من أملاك الدولة ، فيأخذها بيت المال ، ويقسِّمها بمعرفته على مَن شاء من الناس دون النظر إلى الملكية السابقة للأراضي والديار .

فعند فتح المعرة جاء أهلها السابقون من كل مكان يطلبون أملاكهم القديمة ، فجاء عماد الدين زنكي بالفقهاء ليقولوا رأيهم في المسألة ، فأفتوا جميعًا برأي أبي حنيفة ؛ حيث إنهم جميعًا كانوا من العراق حيث ينتشر المذهب الحنفي ، وقالوا : إن الأرض لم تعد ملكًا لهم ، بل لبيت مال المسلمين (أي للدولة) !

فماذا فعل عماد الدين زنكي رحمه الله ؟! , لقد قال عماد الدين زنكي في فقهٍ عميق : "إذا كان الفرنج (الصليبيون) يأخذون أملاكهم ، ونحن نأخذ أملاكهم ، فأيُّ فرقٍ بيننا وبين الفرنج ؟ كل من أتى بكتاب يدل على أنه مالك لأرض فليأخذها " .. وبذلك ردَّ عماد الدين زنكي إلى الناس جميع أملاكهم ، ولم يتعرض لشيء منها .

وكان من منهجه رحمه الله ألا يبقي على مفسد ، وأنه يهتم بالأمن ونظامه في كل مكان ، فساد الأمن في كل مكان ، وقد كان هذا الأمن مضطربًا جدًّا خلال الفترة التي سبقت حكم زنكي ، وكان الناس لا يستطيعون قطع المسافات الطويلة دون حراسة ، حتى إن أهل الموصل كانوا لا يستطيعون الذهاب إلى الجامع الكبير الذي أُنشِئ خارج البلد إلا في يوم الجمعة ؛ وذلك خوفًا من السير بمفردهم دون حراسة ، لكن بعد حكم زنكي إنتشر الأمن والأمان ، بل زاد العمران ، وعمت البركة ، وتوسع الناس في البناء .

وهكذا سخَّر عماد الدين زنكي قوته لإرساء العدل ، فتحقق مراده ، بل أنعم الله عليه وعلى شعبه بما لا يتخيلون من خير وبركة .

ولم يكن هذا العدل خاصًّا برعيته المسلمين فقط ، بل شمل اليهود والنصارى ، فقد كان في ذات يوم في جزيرة إبن عمر ، فدخل عليه يهوديٌّ يشتكي أن عز الدين أبا بكر الدبيسي - وهو من أكبر أمراء عماد الدين زنكي - أخذ داره ليسكن فيها مدة بقاء الجند في الجزيرة ، فنظر عماد الدين زنكي نظرة غضب شديدة لعز الدين ولم يكلمه كلمة واحدة ، فتأخر عز الدين القهقرَى ، وعاد إلى البلد فأخرج خيامه ونصبها خارج البلد في مطر شديد ، ولم يستطع أن يؤخِّر إعادة الحق إلى اليهودي ليلة واحدة !

خامسًا : رقة القلب والمشاعر

ولعل الكثيرين يتعجبون من وجود هذه الصفة في عماد الدين زنكي ، أو في معرض حديثنا عن صفات الحاكم المسلم متمثِّلة في عماد الدين زنكي !

ووجه العجب أن الذي يشتهر عادةً عن القادة العسكريين هو الغلظة والجفاء وقسوة القلب ، كما أن الحاكم بما يقيمه من حدود ، وبما في يده من وسائل للعقاب قد يأخذ صورة مخالفة للرقة والرأفة ، غير ما إشتهر - للأسف الشديد - في بعض الكتب عن عماد الدين زنكي شخصيًّا أنه كان قاسيًا غليظًا !

وواقع الأمر أن صفة رقة القلب والرحمة من الصفات اللازمة للحاكم المسلم، وقد كان رسول الله أرحم الناس ، مع كونه حاكمًا وقائدًا ومجاهدًا من الطراز الأول .. وكانت هذه الصفة موجودة أيضًا في عماد الدين زنكي ، ولكن لجديته الشديدة ولإنشغاله طيلة حياته بالأمور الجسيمة العظيمة ، وبتحرير بلاد المسلمين من الغاصبين أُخذ عنه الإنطباع بالقسوة والغلظة على خلاف طبيعته .

إن ما ذكرناه سابقًا عن رفقه بالفلاحين ، وخوفه على أرزاقهم وأملاكهم وزرعهم وتبنهم ، لا يمكن أن يكون إلا من قلب رقيق مفعم بالمشاعر .

ثم إنه كان لا يؤاخذ الناس بالخطأ الأول ، وكان يعفو ويصفح إلى أبعد الحدود ، ولا يعزل أحدًا من منصبه إلا بتكرار الخطأ ، أو بإرتكاب ما لا يجوز معه الغفران ؛ ولذلك فإن معظم من عيَّنهم في الإمارات المختلفة ظلوا معه إلى آخر لحظات حياتهم ، أو إلى آخر حياة عماد الدين زنكي نفسه ؛ لأنه كان دائم الصفح عنهم .

وكان من عادته رحمه الله أن يتصدق جهرةً كل جمعة بمائة دينار ، وذلك رحمة منه على الفقراء والمساكين ، وكان يفعل ذلك جهرة ليشجع الأغنياء على الإقتداء به ، فيعم الخير على الجميع ، لكنه كان له في كل يوم صدقةٌ كبيرة لا يعرفها إلا وزيره فقط وفي هذا تُروى قصة لطيفة !

كان عماد الدين زنكي في يوم يركب خيله فعثرت به ، وكاد يسقط من فوقه ، فنادى على أمير كان معه ، وقال له كلامًا وهو حزين أو غاضب ، فلم يتبين الأمير ماذا قال عماد الدين زنكي ، ولكنه شعر بغضب عماد الدين زنكي ، وظن أن هذا الغضب تجاهه هو ، ولم يتجاسر على سؤاله ، فأسرع إلى بيته ليعلن لزوجته خوفه الشديد من أن يكون قد أخطأ ، فنصحته زوجته أن يذهب إلى نصير الدين جقر نائب عماد الدين زنكي ، ويحكي له القصة ، لعله يجد حلاًّ عنده ! وبالفعل ذهب إلى نصير الدين جقر وحكى له ، فقال : لا عليك ، إنما كان يطلب منك هذه الصُّرَّة .. وأخرج صُرَّة كانت معه وأعطاها للأمير ! فحملها الأمير إلى عماد الدين زنكي فأخذها راضيًا ، فرجع الأمير إلى نصير الدين جقر وقال له : كيف علمت أنه يريد الصرة ؟ فقال : إنه يتصدق بمثل هذا القدر كل يوم ، يرسل إليَّ يأخذه من الليل ، وفي يومنا هذا لم يأخذه ، ثم بلغني أن دابته عثرت به حتى كاد يسقط إلى الأرض ، فأرسلك إليَّ ، فعلمت أنه ذكر الصدقة .

لقد ربط عماد الدين زنكي بين تأخُّره في إنفاقه للصدقة ، أو نسيانه لها وبين تعثر دابته ، وهذا من شدة حساسيته ، ورقة مشاعره ، وإلتفاته إلى الإشارات والحوادث ، ولا يأتي كل ذلك إلا من قلب رقيق .. ثم انظر إليه وهو في غاية الشغل كل يوم بقتال وخطة وإدارة دولة كاملة ، ثم هو لا ينسى أن يتصدق يوميًّا على الفقراء والمحتاجين .

إنه لا يتكلف الرحمة ، إنها مزروعة في قلبه !


ومن رقة مشاعره أنه كان لا ينسى من أسدى إليه معروفًا ، حتى لو مر زمان طويل على هذا المعروف ، وقصته مع نجم الدين أيوب معروفة ؛ إذ إن نجم الدين أيوب أسدى معروفًا إلى عماد الدين زنكي في سنة (526هـ) 1131م حيث آواه في قلعته التي يحكمها في تكريت حين هُزم زنكي في أحد معاركه ، وردَّ له زنكي الجميل بعد ذلك بثماني سنوات في سنة (534هـ)1139م ، عندما ولاه حكم مدينة بعلبك بعد فتحها ، ولا يخفى على أحد أن هذا الرجل الذي يتذكر جميلاً فُعل فيه منذ ثماني سنوات هو رجل وفيّ ، رقيق المشاعر .

بل إنه لم ينس ناصر الدين كوري بن جكرمش فأقطعه إقطاعًا ؛ إعترافًا بجميل والده ، مع العلم أن والده جكرمش قدَّم لعماد الدين خدمةً برعايته ، والإهتمام به منذ أكثر من خمسة وعشرين عامًا !

لقد كان عماد الدين زنكي رجلاً وفيًّا رحيمًا رقيقًا غير أن الإنطباع الذي أخذ عنه بالقسوة لم يكن لشيء إلا لأنه كان جادًّا جدًّا في حياته ؛ مما أوهم كثيرًا من الناس أنه غليظ الطباع ، وهو على العكس من ذلك تمامًا ، ولعل الصفة التالية التي سنتحدث عنها ستفسر لنا هذا التناقض الذي يراه بعض المؤرخين .

سادسًا : الجدِّيَّة

وُلد عماد الدين زنكي ونشأ وعاش في ظروف تفرض عليه الجدِّيَّة في كل أموره ، فقد وُلد في زمان فتن ، كان التصارع فيه بين الأمراء المسلمين مشتهرًا، وقُتل أبوه في واحد من هذه الصراعات ، ونشأ عماد الدين زنكي يتيمًا ووحيدًا ؛ إذ كان لا أخ له ، وترك موطن نشأته حلب وإتجه إلى الموصل، وعاش حياة عسكريَّة منذ نعومة أظافره ، ورأى الصليبيين يجتاحون بلاد المسلمين ، فعاش القضيَّة بكل ذرَّة في كيانه ، وكان لا ينسى أبدًا أن الأقصى أسير في يد الصليبيين ، وأن أنطاكية والرها وبيروت وعكَّا وطرابُلُس وغيرها أيضًا في يد الصليبيين ، وأن أرواح المسلمين تُزْهَق ليلَ نهارَ ، وأموالهم وأعراضهم تُستباح بشكل متكرِّر .

هذه الظروف جعلت منه شخصًا جادًّا تمامًا ، وأيُّ شخص يفقد جدِّيَّته في مثل هذه الظروف هو رجل منزوع المروءة ، ليِّن الدين والعقيدة .

وهذا الجِدُّ الذي تميَّز به عماد الدين زنكي كان يمنعه من الإستسلام للراحة ، فلا يستريح ولا يَقْبَل بالترف ، وليس معنى هذا أنه لم يكن يبتسم، فالرسول كان أكثر الناس تبسُّمًا ولكنه كذلك كان أكثر الناس جديَّة ، وأكثرهم بُعدًا عن الهزل والمزاح ، وكان في مزاحه القليل لا يكذب ولا يتجاوز ، وهكذا كان نهج عماد الدين زنكي في حياته ، لقد كان دائم الفكر، كثير الصمت ، لا يتكلَّم مع الناس إلاَّ قليلاً ؛ لأن ذهنه دائم العمل لصالح المسلمين ، ودائم التدبير للأمور العظام ، وهذا كان يعطيه هيبة عظيمة ، كتلك التي كان يلاحظها الجميع على عمر بن الخطاب ، وهي هيبة غير منكرة طالما ليس فيها ظلم أو تجاوز أو كبر .

والأشخاص العظيمة دائمًا لها هيبة ، وراجعوا بعض المواقف من حياة رسول الله حتى نعرف أن هذه الهيبة غير منكرة بضوابطها الشرعية .

روى إبن ماجه عن أبي مسعود قال : أتى النبيَّ رجلٌ فكلَّمه ، فجعل ترعد فرائصه ، فقال له: "هَوِّنْ عَلَيْكَ ، فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ ".

فهذا رجل يرى الرسول فترتعد فرائصه ، مع أن الرسول كان أرحم الناس ، ولكن لهيبته ولمركزه ولإحترام الناس له إرتعدت فرائص الرجل ، فهوَّن عليه رسول الله وطمأن قلبه وهكذا كان عماد الدين زنكي رحمه الله .

خرج يومًا من قلعته ، وكان الحارس نائمًا ، فأيقظه حرَّاس عماد الدين زنكي ، فلمَّا إستيقظ ورأى عماد الدين زنكي سقط على الأرض من الخوف ، فقلبوه ، فوجدوه ميتًا !!

وليس معنى هذا غلظة في عماد الدين زنكي أو قسوة ، فما عُلِمَ عنه تجاوزٌ في معاملة الناس أو الرعيَّة ، ولكنها الهيبة التي جعلت له مكانًا عظيمًا في قلوب الناس .

وقد عاش عماد الدين زنكي حياة الجدِّيَّة دون تكلُّف ، فهو لم يكن يُرغم نفسه على الجدِّيَّة ، بل كان يأْلفها ويأنس بها ، حتى قال إبن الأثير في حقِّه : "كانت أصوات السلاح ألذَّ في سمعه من غناء القينات " .. فبينما كان هناك مَنْ يستمتع بسماع الموسيقى والأغاني ، كان عماد الدين زنكي يجد متعته في سماع أصوات السلاح ، سواء في ميادين الجهاد أو في ساحات التدريب .


وقد أثَّرت هذه الجدِّيَّة في هواياته رحمه الله ، فكان إذا أراد التخفُّف قليلاً من الأعباء الثقيلة التي عليه ، وأن يُرَوِّح عن نفسه ساعة فإنه كان يقوم بواحدة من ثلاث :

إمَّا أن يخرج إلى صيد الطيور والوحوش ، ولا يخفى ما في ذلك من تدرُّبٍ على الرماية والمناورة والتخفِّي ، وهو بذلك يُساعد نفسه على مهارة أعلى تعود عليه بالنفع في ميادين الجهاد، وكانت أحبُّ الهدايا إليه ما كان صيدًا ، وكذلك كان يُهدِي هو إلى الملوك والأمراء ما اصطاده هو من فهودٍ وصقور ونحو ذلك .

وإمَّا أن يتمرَّن على الفروسيَّة ويعقد مسابقات الخيل ، وكان رحمه الله من أمهر الخيَّالين ، وأعظم الفرسان .

وإمَّا أن يأخذ قاربًا ويتنزَّه منفردًا في نهر دجلة ، سابحًا في ملكوت الله ، متفكِّرًا في السموات والأرض ، أو متدبِّرًا في الأحداث والمواقف ، وهذه الخلوات كانت كثيرًا ما تفيض عليه بفكرة جميلة ، أو حيلة ذكيَّة ، أو بخشوع في القلب ، أو سكينة في الجوارح .

هذه هي لحظات الترفيه في حياة المجاهد العظيم عماد الدين زنكي رحمه الله !

سابعًا : الحسم

وهي صفة من ألزم صفات الحاكم الواعي ، ومن ألزم صفات عماد الدين زنكي أيضًا ؛ فكم أضاع التردُّد فُرَصًا على المسلمين ، وكم أدخل المسلمين في أزمات ومشاكل ! لقد كان عماد الدين زنكي حاسمًا في كل أموره ، فكان سريعًا ما يقطع بما يفيد ، ويبدأ في التنفيذ دون تردُّد .

ففي بداية ولايته أدرك أنه لا طاقة له بحرب الصليبيين قبل أن يُعِدَّ العُدَّة ، فعقد معهم هدنة مؤقَّتة ، ثم بعد ذلك تَراه يحارب ويجاهد ، ولا يقبل بأطروحات السلام من الصليبيين ، وفي كِلا الأمرين كان حاسمًا في عرضه للهدنة وفي سعيه للجهاد ، وكثيرًا ما قرَّر الهجوم في النهاية ، وفي ظروف أخرى كان يُقَرِّر الإنسحاب ، ويرى أنَّ الظروف لا تحتمل حربًا وقتها ، فلا يُكابر أو يعاند ، إنما يفكِّر سريعًا ، وينفِّذ سريعًا ، ويُرِيح الجميع بقراره الحاسم ..











آخر مواضيعي 0 حلمي لأيامي الجايه
0 صفات الله الواحد
0 عيش بروح متفائله ونفس مؤمنه
0 إبتهال قصدت باب الرجا
0 كونى انثي
رد مع اقتباس
قديم 06-03-2011, 11:42 PM رقم المشاركة : 26
معلومات العضو
marmer

الصورة الرمزية marmer

إحصائية العضو








marmer غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

ثامنًا : حسن السياسة

وَصَفَ إبنُ الأثير عماد الدين زنكي بأنه كان عظيم السياسة ، والسياسة كما عرَّفها إبن عقيل رحمه الله أنها : "ما كانت فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد ، وإنْ لم يضعه الرسول ولا نزل به وَحْيٌ " ..

وهذا هو التعريف الذي يعتمده إبن القيم رحمه الله ، ومفهوم طبعًا أنها لا تعني خروجًا عن الشرع ، ولكنها تعني إبتكار الوسائل المناسبة للعصر وللظروف لإصلاح حياة الناس وإبعادهم عن الفساد .

أمَّا السياسة في التعريفات المعاصرة فهي كما جاءت في معجم روبير : " فنُّ إدارة المجتمعات الإنسانيَّة ".. وكما جاءت في المعجم القانوني : " أصول أو فنُّ إدارة الشئون العامَّة" .
وسواء إعتمدنا التعريفات الإسلاميَّة الأصوليَّة ، أو التعريفات القانونيَّة الحديثة فإنَّ عماد الدين زنكي قد بلغ الغاية في السياسة بكل تعريفاتها .

لقد عاش عماد الدين زنكي في زمان مُلِئَ بالتقلُّبات والأحداث ، وتعامل مع شتَّى أنواع البشر ، ومختلَف الزعامات والقيادات، فكان حكيمًا في كل تصرفاته ، سياسيًّا في كل عَلاقاته ، وكان نادرًا ما يفقد إنسانًا ، أو يقطع عَلاقاته بأمير ، وكانت له من الأفكار السديدة ما يفلح به في إدارة المجتمعات الإنسانيَّة مهما كانت معقَّدة .

كان يُدرك رحمه الله مراكز القوى ، ويُقَدِّر قوَّة الخصوم بعناية ، وكان لا ينخدع بالألفاظ ولا بالألقاب ، وعَلِمَ من أوَّل أيَّامه أنَّ سلاطين السلاجقة أقوى بكثير من الخلفاء ؛ ولذلك جعل ولاءه واضحًا لهم ، لكنه لم يغفل حسن معاملة الخلفاء والتقرُّب إليهم ، لكن عند حدوث صدام حتميٍّ بين السلاطين والخلفاء ، كان يقف إلى جوار السلاطين لوضوح الرؤية عنده .

وعندما ضعف أمر السلاطين ، وصار عماد الدين زنكي هو القوة العظمى في الأُمَّة الإسلاميَّة ، لم يُعلن ذلك ليتجنَّب حدوث فتن ومكائد ، ولكنه أعلن أنه يحكم باسم ألب أرسلان السلجوقي ، مع أنه لم يكن لألب أرسلان أيُّ وزن إلى جوار عماد الدين زنكي ، ولكنه حُسْنُ السياسة الذي سكَّن جوارح ألب أرسلان والسلاجقة من ورائه ، وسكَّن جوارح العامَّة .

وكان له رحمه الله من الأساليب الذكيَّة التي يُفَرِّق بها بين الأحزاب المتحالفة ضدَّه ، وما أروع ما فعله لفكِّ تحالف الصليبيين مع البيزنطيين ، وكذلك لفكِّ التحالفات الإسلاميَّة ضدَّه ! وكلُّها أساليبُ يصلح أن تدرَّس في فنِّ السياسة .

وكانت له سياسته الخاصَّة في تحقيق النصر ، وإسقاط القلاع ، وفتح البلاد بأقلِّ خسارة ممكنة ، وكان بعضهم يتَّهمه بالغدر عند بعض المواقف ، لكنه كان يعتمد مبدأ "الحرب خدعة" ، وهو منهج نبويٌّ حكيم ، فكان يتجنَّب به الدخول في أزمات هائلة ، وسنأتي في تفاصيل قصَّته على بعض المواقف التي أخذوها عليه ، وتبرير فعله في هذه المواقف ..

وكان يُقَدِّر الشخصيات المعادية له ، ويحاول الإستفادة منها حتى لو كانت فاسدة وما أحكم ما فعله مع جاولي - وهو الأمير الذي كان يطمع في الولاية بعد مقتل آق سنقر البرسقي ، فذهبت الولاية إلى عماد الدين زنكي - إذ أقطعه عماد الدين زنكي إقليم الرحبة في حلب ! ولم يُقْصِه عن كلِّ شيء ؛ وبذلك تجنَّب أذاه، وأراح قلبه ، وإستفاد من طاقاته وقدراته .

بل فعل أكثر من ذلك مع دُبَيْس بن صدقة ، وهو زعيم قبيلة بني مزيد ، وكان شيعيًّا اثني عشريًّا ، وكان فاسدًا ، أظهر الفوضى والإضطراب في بغداد ، وحاول أن يخلع الخليفة ، وكان متعاونًا مع الصليبيين ، وكان شخصيَّة مكروهة بكل المقاييس ، ومع ذلك إستنقذه من أَسْرِهِ بدمشق ، ورفض تسليمه للخليفة ، بل إستخدمه وولاَّه بعض الإقطاعات ، وكان يهدف إلى إستخدامه في السيطرة على قبيلته الكبيرة بني مزيد ، وكان يستفيد أيضًا من عَلاقاته ومخابراته ، ولقد أرشد دبيسُ بن صدقة عماد الدين زنكي ذات مرَّة إلى مؤامرةٍ كان يحيكها له السلطان السلجوقي مسعود ، فعرف السلطان أن دبيسَ بن صدقة هو السبب في كشف المؤامرة فأمر بقتله فقُتِلَ ، فعندها قال عماد الدين زنكي : "فديناه بالمال (أي من الأسر) ، ففدانا بالرُّوح !" .

وكان يقرأُ أطماع مَن يحالفونه من القادة ، فيُريح بالهم ، ويعطيهم ما يريدون ؛ فيضمن بذلك ولاءهم وطاعتهم ، وإن كانت العَلاقات بينهم متوتِّرة وغير طبيعيَّة .

وكان يُحسن سياسة جنده ويُتْقِن سياسة الترغيب والترهيب ؛ فبينما كان يضاعِف لهم رواتبهم ، ويتعامل معهم بالرأفة والمودَّة كان عقابه صارمًا ، ولا يقبل تهاونًا أبدًا في أداء الوظيفة ، ولقد سمع مرَّة أنَّ أحد قوَّاده تعرَّض للنساء ، بينما كان عماد الدين زنكي وجنوده في سفر بعيد ، فأرسل فورًا مَنْ يعزله من منصبه ، ويجرِّده من كل ممتلكاته ، بل لمَّا عَلِمَ أنَّ الأمر تجاوز التعرُّض إلى التحرُّش الصريح أمر بقتله ، ثم قال كلمته الصارمة : " إن جنودي لا يفارقوني في أسفاري ، وقلَّما يُقيمون عند أهليهم ، فإنْ نحن لم نمنع مِن التعرُّض إلى حُرُمهم هلكْنَ وفسدْنَ " .. وبعدَ هذا العقاب الرادع لم يتجاسر أحدٌ على التعرُّض للنساء طيلة حكم عماد الدين زنكي رحمه الله .

ففي هذا الموقف نَرَاه قد جذب قلوب الجنود إليه من ناحية بعد أن أظهر حرصه الشديد على نسائهم ، وعَزَلَ قائدًا من أجلهم ، وفي نفس الوقت أظهر الردع المناسب لمن يخالف الأوامر ، ويتعدَّى على حدود الشرع ، ويأتي بالأفعال المنكرة القبيحة .

والحديث عن سياسة زنكي حديث لا ينقطع ، فقد إستطاع بتوفيق من الله أنْ يتعامل مع ظروف قاسية كأفضل ما يكون التعامل ، فصار بلا جدال من أعظم السياسيين في تاريخ الأُمَّة .

تاسعًا : كان عارفًا بالرجال

وهذه ملكة فريدة عزيزة يفتقر إليها كثير من الزعماء ، أمَّا عماد الدين زنكي رحمه الله فكان متميِّزًا فيها أشدَّ التميُّز ، فقد كان يمتلك القدرة على تقييم الناس ، فيعرف أصحاب المعادن الطيِّبة والمواهب النادرة فيقرِّبهم ، ويعرف خبثاء النفس ضِعاف القدرات فيُقصيهم ، ومن هنا فقد إلتفَّتْ حوله بطانة صالحة كان لها أشدُّ الأثر في تقوية مُلْكه ، وتثبيت حكمه .

ويكفي أنه اختار من رجاله جمال الدين الأصفهاني رحمه الله فأقطعه نصيبين ، وكان من أعظم علماء المسلمين ، وكان كريمًا واسع الكرم حتى لُقِّبَ بالجواد ، وكان إذا مرَّت بالناس ضائقة أنفق من جيبه الخاصِّ حتى يرفع الله الأزمة ، وكان من أعظم الناصحين ، وأوفى الأوفياء ؛ بل إنه لم يحفظ عماد الدين زنكي فقط ، بل حَفِظ أولاده من بعده ، وكان من أشدِّ الناس مساعدة لهم وفاءً لأبيهم .

وكان من رجاله أيضًا نصير الدين جقر ، وكان سياسيًّا عبقريًّا ، وعسكريًّا ماهرًا ، وكان نائبه على الموصل ، وكان الرجلَ المناسب حقًّا في المكان المناسب ، فقد كانت الموصل تموج بالفتن ، عند ولاية عماد الدين زنكي ، فضبط نصير الدين جقر الأمور ، ونظَّم حركة الأموال ، وحفظ الأمن ، وحصَّن المدينة ، وكان وفيًّا تمام الوفاء لعماد الدين زنكي ، وعرَّض نفسه لمخاطر كثيرة ليحفظ مُلْكَ عماد الدين ، حتى وصل الأمر إلى أنْ صَبَرَ على حصار الخليفة للمدينة ثلاثة أشهر كاملة ، فلم يُسَلِّم له ، مع أن الخليفة لو أسقط المدينة لكان مصير نصير الدين هو القتل ، بل إن نصير الدين دفع حياته ثمنًا لوفائه ، فقد دُبِّرت له مؤامرة قُتل فيها ؛ ليحاول المتمرِّدون السيطرة على الموصل ، لولا أن الله قيَّض آخرين لحفظ الحُكم لعماد الدين زنكي .

وأمَّا ما يتناوله بعض الناس عن ظلم نصير الدين جقر أو سفكه للدماء فهو تحليل لا يَنْظُر إلى الظروف التي كانت بالمدينة ، والأخطار التي أحدقت بها ، وليس إتخاذ التدابير لحفظ الأمن ظلمًا ، وليس القصاصُ من القتلة ومثيري الفتن سفكًا للدماء ، وقد ذكر إبن القلانسي في كتابه "ذيل تاريخ دمشق" في حقِّ نصير الدين جقر أنه كانت له أخبار في العدل والإنصاف ، وتجنّب الجور والإعتساف ، وذكر كلامًا كثيرًا يدور كله حول نفس المعنى ، ومن ثَمَّ فهو يستنتج في النهاية أن سلوك نصير الدين جقر محمودٌ من ولاة الأمور ، وأن قصده كان سديدًا في سياسة الجمهور .

وإستوزر عماد الدين زنكي أيضًا ضياءَ الدين أبا سعيد إبن الكَفَرْتُوثيّ ، وكان كما وصفه المؤرِّخون حَسَنَ الطريقة ، جميل العقل ، كريم النفس ، مرضيَّ السياسة ، مشهورًا بالنفاسة والرئاسة .

وكان زين الدين عليّ كجك بن بكتكين من أبرز رجال عماد الدين ، وإنظر إلى كلام إبن الأثير عنه ، إذ يقول : "كان زين الدين رجلاً صالحًا ، وكان معروفًا بالقوَّة والشجاعة والإقدام ، رءوفًا بالفقراء ، مواسيًا للمرضى ، إشتهر بالمحافظة على حسن العهد ، وأداء الأمانة ، ولم يمارس غدرًا قطُّ " .

وهذا قليل من كثير ، ولا يتَّسع المقام لذكر كلِّ نوَّاب عماد الدين زنكي وقوَّاده ووزرائه ، فهذه هي حكومته ، وهذه هي بطانته، وهؤلاء هم رجاله .

ولم يكن عماد الدين زنكي يُهْدِر الفرص ، بل كان يلتقط الرجال الأفاضل في حكمة بالغة ، ويستفيد من قدراتهم في مهارة فائقة ، ومن أمثلة ذلك أنه سمع بهرب أحد القادة من دمشق ، وكانت دمشق معادية على طول الخطِّ لعماد الدين زنكي ، وكان هذا القائد هو سوار بن أبتكين ، وقد سمع عماد الدين زنكي عن كفاءته ومهارته ، فإستقدمه وقرَّبه ولم يُقلِّل من شأنه وهو محتاج ، بل أكرمه وشرَّفه ، وأجرى له الإقطاعات الكثيرة ، بل أعطاه ولاية حلب وما يلحق بها من أعمال ، وإعتمد عليه في قتال الصليبيين ، وكانت لسوار بن أبتكين بصيرة بالحرب وتدبير الأمور ، وهكذا أسدى سوار خدمات جليلة لعماد الدين زنكي في أكثر من موقعة عسكريَّة ، وفي الدفاع عن حلب ، وقد إستمرَّ سوار في منصبه منذ قدومه من دمشق سنة 524هـ إلى مقتل عماد الدين سنة 541هـ ، أي سبعةَ عشَرَ عامًا كاملة .

وكان عماد الدين زنكي يُحْسن تقييم الرجال ، وبالتالي يُقَدِّر ما يصلح لمعاشهم ورواتبهم ، وقد كان يُعطي كمال الدين الشهْرُزُورِيّ عشَرَة آلاف دينار في السنة ، وهذا مبلغ هائل ، فقيل له : إن هذا كمال الدين يحصل له في كلِّ سنة ما يزيد على عشرة آلاف دينار ، وغيره يقنع منه بخمسمائة دينار .. فقال عماد الدين زنكي : بهذا العقل والرأي تُدَبِّرون دولتي ، إن كمال الدين يَقِلُّ له هذا القدر ، وغيره يكثر له خمسمائة دينار ، وإنَّ شغلاً واحدًا يقوم به كمال الدين خير من مائة ألف دينار .

وكان عماد الدين زنكي رحمه الله إذا تردَّد في أمر إنسان إختبره ؛ ليرى إن كان يصلح للقيادة ولحفظ الأمانة أم لا ، ومن ألطف ما يُحكى في هذا المضمار ما فعله عماد الدين زنكي مع مسئول ملابسه (طشت دار) ، إذ أراد أن يختبر أمانته وحُسن تصرُّفه ودرجة إهتمامه ، فأعطاه كعكة بالفستق واللوز فأمره أنْ يحتفظ بها حتى يطلبها منه ، وبعد سنة كاملة أرسل إلى الرجل وطلب كعكته ، فأخرجها الرجل من منديل كان معه ، وكان قد حفظها من الفساد بصورة من الصور ، فسُرَّ بذلك عماد الدين زنكي ، وعيَّن الرجل قائدًا لقلعة كَوَاشَى ، وهي إحدى قلاع الموصل .

فانظر إلى عماد الدين زنكي كيف كان يُدَبِّر شئون دولته ، واعلم أن هذه ملكات وقدرات قلَّ أن يوجد مثلها .

عاشرًا : الكفاءة الإدارية الفائقة

وهذه خاصية لا بد منها إلى جوار إختيار الرجال وحسن السياسة ، فالقائد قد يحسن إختيار أعدائه ، وقد يحسن أيضًا سياستهم فيجذب قلوبهم إليه ، ويضمن طاعتهم لأوامره ، لكنه قد يفشل في تنظيم حركة العمل بحيث يحقق أكبر نفع بأقل مجهود وأقل خسارة ، وبحيث يُنشِئ نظامًا محكمًا لا يتأثر بظروف طارئة أو أحوال عابرة .

ولقد كان عماد الدين زنكي رحمه الله إداريًّا من الطراز الأول ؛ فمع أن عماد الدين زنكي كان يؤمن بمركزية القرار والحكم ، إلا أنه كان يطبِّق هذا المبدأ في الأمور المصيرية المتعلقة بمستقبل الدولة ككل ، أما في أعمال الوزارات والإمارات والدواوين فكان يُعطِي صلاحيات كبيرة لنوَّابه ، وكان يفوضهم في أخذ القرار وتنفيذه ، وكان يوليهم ثقة كبيرة تدفعهم إلى الإبتكار والإبداع ، وكان قليل اللوم لهم ؛ مما دفعهم إلى الإحساس بالمسئولية ، وأشعرهم أن البلد بلدهم ، ومن ثَمَّ أفنوا حياتهم في سبيل الرقي بدولتهم ، وكان عماد الدين زنكي قليل التغيير لإدارته وعمَّاله ؛ فشعر الجميع بالإستقرار والأمن والإطمئنان ، ومن ثَمَّ إستقرت الأعمال وأحوال الناس .

وكان يهتم جدًّا بجمع المعلومات ، وكان له نوَّاب وعيون في كل مكان حتى في الإمارات المجاورة له ، فكانت لا تفوته صغيرة ولا كبيرة ؛ لذلك كان قليلاً ما يُفاجَأ في حياته بأمر بعد فوات الأوان ، بل كان دائمًا يعلم الأمور قبل تفاقمها ، ومن ثَمَّ كان يحسن التصرف فيها .

ولدقة عيونه وجهاز إستخباراته فإنه كان يستحيل على ملك أو أمير أن يعبر من أراضيه الواسعة دون علمه ، مع أن الحدود لم تكن واضحة كأيامنا الآن ، ولم يكن رسول يجرؤ على إجتياز مملكته دون إذنه ، وكان يرسل مع الرسول فرقة ترافقه من لحظة دخوله إلى لحظة خروجه ؛ لكي لا يُعطِي الرسول فرصة للتجول في البلاد ؛ فينقل أخبارًا قد تكون خطيرة .

وكان يوزِّع أمواله وأموال الدولة في الموصل وحلب وسنجار ، ولا يجعل خزينة الدولة في مكان مركزي واحد ، وكان يقول : " إن جرى على بعض هذه الجهات فتقٌ ، أو حيل بيني وبينه ، إستعنت على سدِّ الخرق بالمال في غيره " .

وكان يهتم إهتمامًا واسعًا بسهولة الإتصالات ، وبسلامة الطرق وأمنها ، وبجهاز البريد ، وكان يدرك تمام الإدراك أن سرعة وصول المعلومة قد تحفظ بلدًا ، أو تكسب معركة ..

وكان يهتم بالتخصص في المهنة ، فلا يضع عسكريًّا في منصب إداري ، ولا يضع عالمًا في منصب عسكري أو نحو ذلك ، وكان إذا إستقدم كفاءة من خارج البلد فإنه يرسله إلى أهل التخصص يعلمونه أحوال البلد والناس قبل أن يتولى المنصب ، فإن كان جنديًّا أو عسكريًّا قصد الأجناد فعرف النظام العسكري المتبع وأصوله ، وإن كان صاحب ديوان قصد أهل الديوان ، وإن كان عالمًا قصد القضاة ، وهكذا تقدَّم للغريب كل معونة وخدمة ، حتى يقول أبو شامة في وصف ذلك : " فيعود كأنه أهل! " ، أي يعود الغريب بعد هذا التدريب والإستضافة كأنه في أهله وليس غريبًا .. ولا يخفى علينا كيف يكون الإنتاج غزيرًا عند هذا الغريب ، سواء كان عسكريًّا أو موظفًا أو عالمًا ، خاصةً أن الرواتب في عهد عماد الدين زنكي كانت مجزية جدًّا .

وكان عماد الدين زنكي أيضًا يضع دائمًا الخطة البديلة ، ويفترض أسوأ الإحتمالات ، ويأخذ حذره منها ؛ ولقد سيطر على قرية البوازيج قرب تكريت وحصنها ، وذلك قبل أن يدخل الموصل خوفًا من عصيان الموصل عليه ، فجعل لنفسه مكانًا يأوي إليه في هذه الحالة ، مع أن إحتمالية عصيان الموصل كانت بعيدة !

ثم أخيرًا كان عماد الدين زنكي رحمه الله يحترم تمامًا السلم الإداري ، ويرفض أن يتجاوز مرءوس رئيسه المباشر إلى الرئيس الأعلى ، وهذا سيحقق فوائد كثيرة ؛ منها حفظ الهيبة للرئيس المباشر ، ومنها سلامة العمل ودقته ؛ لأن الرئيس المباشر قد يمتلك من المعلومات ما لا يمتلك الرئيس الأعلى ، ومنها حفظ وقت الرئيس الأعلى بدلاً من أن يخوض في كل القضايا ، ومنها عدم الإعتماد على شخصية واحدة ، بل نضمن سهولة سريان العمل وسلاسته حتى في غياب الرئيس الأعلى .

ومما يُروى في ذلك أن عماد الدين زنكي رأى ذات يوم مجموعة من حرسه الخاص يجتمعون ويقفون في مكان بحيث يراهم عماد الدين زنكي ، فعلم أنهم يريدون أن يشكوا إليه أمرًا ، فأرسل إليهم ، فقالوا أن رواتبهم قد تأخرت عن موعدها ، فقال : أشكوتم إلى الديوان ؟ قالوا : لا , قال : فهل ذكرتم حالكم لأمير حاجب (وهو بمنزلة قائد الحرس الملكي)؟ فقالوا : لا , قال: فلأيِّ شيء أُعطي الديوان مائة ألف دينار ، وأعطي الأمير حاجب أكثر من ذلك ، إذا كنت أنا أتولى الأمور صغيرها وكبيرها ؟! كان عليكم أن تشكوا حالكم إلى الديوان ، فإن أهملوا أمركم قلتم للأمير حاجب ، فإن أهمل أمركم شكوتم الجميع إليَّ ؛ حتي أعاقبهم علي إهمالهم ، وأما الآن فالذنب عليكم !!

وكاد عماد الدين زنكي يعاقبهم لتجاوزهم السلم الإداري ، لولا شفاعة أحد الأمراء لهم ، ولكنه في نفس الوقت ما أهمل القضية ، بل أرسل إلى الديوان وأمير حاجب وقال لهم : إذا كنتم تهملون أمر جندي الذين تحت ركابي ، ومن هو ملازمي في سفري وإقامتي ، وبهم من الحاجة إلى النفقات في أسفارهم ما تعلمونه ، فكيف يكون حال من بَعُد عنِّي ؟!
وشعر الديوان وأمير حاجب بخطورة الموقف ، وكانت رواتب الجند لم تصل بعدُ من الخزينة العامة ، فأعطى أمير حاجب الجند رواتبهم من ماله الخاص لحين قدوم الرواتب من الخزينة !

ويعلِّق إبن الأثير على هذا الموقف الإداري الفذِّ من عماد الدين زنكي فيقول : "بهذا الإجراء أصلح عماد الدين زنكي الجند لطاعة الديوان ، وأصلح الديوان للنظر في مصالح الجند ، وعظَّم نفسه عن أن يخاطَب في هذا الأمر الحقير" .

رحم الله عماد الدين زنكي ، فقد كان أمَّةً وحده ! وقد إختاره الله في هذا التوقيت ليعيد للأمة هيبتها ، ويعلي رايتها ، ويعز شأنها ، فكان بحقٍّ "رجل المرحلة".








آخر مواضيعي 0 حلمي لأيامي الجايه
0 صفات الله الواحد
0 عيش بروح متفائله ونفس مؤمنه
0 إبتهال قصدت باب الرجا
0 كونى انثي
رد مع اقتباس
قديم 06-04-2011, 12:06 AM رقم المشاركة : 27
معلومات العضو
طارق سرور

الصورة الرمزية طارق سرور

إحصائية العضو







طارق سرور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

كل الإحترام لك اختى مرمر على روعة هذا الطرح

ولى عودة لمتابعة القراءة الممتعة

جزيل شكرى وتقديرى اختى







آخر مواضيعي 0 خوف
0 اسرار
0 اللهم اجعلنا من المحسنين
0 اعرف مين هى مصر
0 البقلة
رد مع اقتباس
قديم 06-04-2011, 02:28 AM رقم المشاركة : 28
معلومات العضو
marmer

الصورة الرمزية marmer

إحصائية العضو








marmer غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

نورتنى طارق







آخر مواضيعي 0 حلمي لأيامي الجايه
0 صفات الله الواحد
0 عيش بروح متفائله ونفس مؤمنه
0 إبتهال قصدت باب الرجا
0 كونى انثي
رد مع اقتباس
قديم 06-04-2011, 07:14 AM رقم المشاركة : 29
معلومات العضو
ملكة بإحساسي

الصورة الرمزية ملكة بإحساسي

إحصائية العضو








ملكة بإحساسي غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

سلمت يداك حبيبتي
جزاك الله خيرا على المعلومات قيمة
اختيار رااائع وجميل بارك الله فيك
في حفظ الرحمن






آخر مواضيعي 0 برنامج DuDu Recorder v4.90 الافظل في تسجيل المكالمات والملاحظات
0 كن بشرا وليس اشباه بشر
0 كيف تجعل عطرك يدوم طوال السهرة
0 ازياء رائعه وانيقة للمحجبات
0 فساتين قصيرة وناعمة للسهرة
رد مع اقتباس
قديم 06-04-2011, 12:29 PM رقم المشاركة : 30
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: قصة الحروب الصليبية

معلومات تاريخية رائعة
سلمت مرمر
تقدمى كل جهد رائع ومفيد
يستحق كل التقدير
كل الشكر لك







آخر مواضيعي 0 أنا أَيضاً يوجعنى الغياب
0 ﺃﻋﺪُﻙ !
0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 أنا وانتي.. حكاية بريئة
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 06:07 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Content Relevant URLs by vBSEO 3.6.0 (Unregistered) Trans by

شبكة صدفة

↑ Grab this Headline Animator