العودة   شبكة صدفة > المنتديات العامة > ابحاث علميه و دراسات

ابحاث علميه و دراسات Research , analysis, funding and data for the academic research and policy community , ابحاث , مواضيع للطلبة والطالبات،أبحاث عامة ،بحوث تربوية جاهزة ،مكتبة دراسية، مناهج تعليم متوسط ثانوي ابتدائي ، أبحاث طبية ،اختبارات، مواد دراسيه , عروض بوربوينت

إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 06-07-2011, 01:58 PM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة


الاقتصاد المصريّ
من الاستقلال إلى التبعيَّة
1974 - 1979

ج2

عــادل حُسَين

الفهرس

الفصل السادس
(1974)بداية الهجوم الانفتاحي.. الأحلام والنتائج. 4
مقدمة. 5
هوامش الفصل السادس.. 285
الفصل السابع
(1975)تطوير الهجوم واستمرار المقاومة. 352
هوامش الفصل السابع. 510
الفصل الثامن
(1976)هبَّةُ يناير تؤجِّل إعلانَ الاستسلام534
مقدمة. 535
هوامش الفصل الثامن. 749
مُلحَق الفصل الثامن. 778
الفصل التاسع
(1977/ 1978) فتــرة الاستســلام797
هوامِش الفصل التاسِع. 1097
مُلحق الفصل التاسع. 1156
خُلاصة خطاب النوايا المُقدَّم إلى صندوق النقد الدولي. 1156
الفصل العاشر
(1974/ 1979) التَغيُّراتُ الهيْكليَّة والبِنيَويَّة، والسَّلام الأمريكي الإسرائيلي. 1176
هوامش الفصل العاشر. 1595
الخلاصة. 1731


الفصل السادس


(1974)
بداية الهجوم الانفتاحي.. الأحلام والنتائج

مقدمة
نبدأ في هذا الفصل، محاولة التحليل الديناميكي المركب للتطورات الاقتصادية.
ووفقًا للمفاهيم والنماذج التي حددناها، قلنا إن مصر كانت قد حققت خطوات مهمة باتجاه الاستقلال السياسي والاقتصادي في النصف الثاني من الخمسينيات، وأثناء الستينيات، وقادت أقطار المنطقة في نضال ثوري في الاتجاه نفسه، ولبلورة الانتماء إلى مشروع قومي عظيم، وارتبط هذا النضال بعلاقات دولية مناسبة، وبدور نشِط بين الدول التابعة والساعية للاستقلال والتنمية الجادة. ولا شك، أن مُجمل هذه السياسات كان خلف عدوان 1967 بالمساندة المباشرة من الولايات المتحدة. إن كافة النواقص التي تسجَّل ضد ثورة 23 تموز/ يوليو، لا تجعلنا نهدر إنجازات هائلة لشعبنا باتجاه الاستقلال. ومن يفعل ذلك يسهم (بقصد أو غير قصد) في الحملة السياسية والنفسية الشرسة، التي تهدف إلى تقويض الثقة بالنفس، وبقدرتنا على أن نحقق أي شيء بإرادتنا المستقلة، وهي حملة تستفيد منها القوَى التي استعمرتنا تقليديًّا، وخاصة الولايات المتحدة وإسرائيل، وتشبه الحملة التي تعرضنا لها مع هزيمة الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي في القرن التاسع عشر.
ويهمنا – في السياق الحالي – أن نركز الانتباه على عدد من التغييرات الداخلية التي أحدثتها القيادة الثوريَّة للدولة.
* فقد حققت سيطرة الدولة الوطنية على مفاتيح الاقتصاد القومي.
* وهذه السيطرة مكَّنت من مواجهة العالم الخارجي من مركز قوة نسبي.
* ومكنت أيضًا من البدء في تنمية شاملة، وتنمية صناعية، وفق تخطيط وأولويات محددة من القاهرة، تحمل سمات مهمة لتنمية متمركزة حول ذاتها، وتتولى التنفيذ والإدارة مؤسسات وطنية، تربي أجيالاً من الكوادر الفنية المبدعة والملتزمة وطنيًّا.
* وإنجاز كل ذلك، كان معركة ضارية ضد قوَى القهر الخارجية ومصالحها، وكان يتطلب تغييرات اجتماعية عميقة، فتم إقصاء الطبقة الرأسمالية الكبيرة (المرتبطة بدرجة أو أخرى بالقوى الخارجية) عن مواقع السيطرة الاقتصادية، وأعيد توزيع الناتج القومي على نحو أفضل؛ لتغليب علاقات التعاون بين الطبقات الوطنية.
هذه الإنجازات لم تكن بالشمول أو العمق الواجب، والمؤسسات التي تولتها لم تكن بالكفاءة المطلوبة، ولكن كانت – مع ذلك – كافية لدعوة القوَى الخارجية للتدخل بالقوة المسلحة في محاولة لتقويض ما تحقق. وهذا الهدف السياسي من العدوان في عام 1967، تأجل تنفيذه إلى ما بعد حرب عربية ناجحة في تشرين الأول/ أكتوبر 1973، فكافة السياسات التي انتهجت بعد الحرب (وضمنها السياسات الاقتصادية) كانت انحرافًا متزايدًا عن طريق الاستقلال، وهذه السياسات المركبة كانت سياسات الخطوة خطوة.. من الاستقلال إلى التبعية. ورغم السهولة البادية التي تمت بها العملية، فإن الأمر لم يخلُ من محاولات للمقاومة، ولكن
لم تكن المقاومة حركة سياسية جماهيرية، ولم تكن قادرة – بالتالي – على إيقاف الردة. فالهَبَّات الجماهيرية (حتى في ذروة كانون الثاني/ يناير 1977) لم تكن امتدادًا لجهد منظم يعِي أبعاد المخططات المضادة، ويواجهها بسياسات ثورية تؤيد الجماهير. ظلت الهبّات في مناسبات متفرقة وحول قضايا جزئية. وكان شأنها في ذلك شأن محاولات العناصر التكنوقراطية والبيروقراطية الإيجابية (داخل مؤسسات الدولة)، فقد حاولت هذه أيضًا أن تعوق الردة بأساليبها الخاصة، وبغير رؤية سياسية شاملة، فتهاوت محاولاتها المتناثرة. ولا شك أن هذه الردة، والسهولة التي تمت بها، تحتاج فحصًا وتفسيرًا.







آخر مواضيعي 0 أنا أَيضاً يوجعنى الغياب
0 ﺃﻋﺪُﻙ !
0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 أنا وانتي.. حكاية بريئة
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
رد مع اقتباس
قديم 06-07-2011, 01:59 PM رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة

أولاً – الإطار العام للتغيرات:
(1) لا نهدف في هذا الكتاب إلى تقديم تاريخ متكامل لهذه الفترة، فمن الناحية العملية يتعذر تحقيق ذلك؛ حيث إننا بصدد فترة نعيشها، وهي فترة من الحرب الممتدة (ساخنة وباردة) بكل ما يعني ذلك من تلاحق للأحداث. والمصادمات والتغيرات المفاجئة للدارس، ترجع في قسم منها إلى أن التطورات في مثل هذه اللحظة التاريخية غير العادية لا تخضع دائمًا للحسابات الكمية الباردة؛ ولذا يصعب التنبؤ بهذه التطورات – قبل حدوثها – ويصعب أيضًا تحليلها – بعد أن تحدث، خاصة وأنت لا تملك فرصة للتأمل الطويل؛ لأن تدفق التغيرات والقفزات لا يتوقف ولا يهدأ. إلا أن بعض التغييرات تبدو للباحث أيضًا كمفاجأة؛ لأن كثيرًا من الأسئلة الجوهرية، تحتاج إجاباتها إلى معلومات كثيرة غير متوافرة. ويبدو أحيانًا أن المعلومات المتوافرة الآن لأهل عالمنا، ومعايشي عصرنا، أكثر من المعلومات التي كانت متوافرة لأجدادنا عن عالمهم وعصرهم. ويبدو بالتالي أن قدرتها على فهم ومتابعة ما يحدث حولنا أصبحت أفعلَ. ولكنني أعتقد أن هذا التصور غير صحيح، وخاصة بالنسبة للباحث؛ فكل ما يقال عن ثورة المعلومات وثورة الاتصالات، أدى إلى زيادة كمية هائلة في المعلومات المتاحة، وأدى إلى سرعة خرافية في تداولها بين دائرة واسعة من المواطنين، ولكن ظل تجدد الأحداث الفعلية، واتساع نطاقها، أعلى من إنجازات ثورة المعلومات والاتصالات. وأهم من ذلك أن نوع المعلومات لم يتغير كثيرًا، أي أن ما يسمح بإلقاء الضوء عليه – رغم كل ما يقال عن تعمق الممارسات الديمقراطية– لا زال بعيدًا عن دائرة مهمة من القرارات، ولا زالت قنوات الاتصال السرية تحتجز المعلومات المعاصرة الأكثر أهمية وتأثيرًا في تفسير ما يحدث حولنا.
إن الدارس للسياسات الدولية، يرتكب حماقة بالغة، ويصل إلى استنتاجات في منتهى السذاجة؛ إذ اعتمد على ما ينشر باعتباره حقيقة قابلة للاستخدام المباشر، فهو مضطر – صراحة أو ضمنًا – إلى استخدام فروض كثيرة لسد الفجوات الكبيرة في معلوماته. وتساعده في ذلك المفاهيم النظرية التي توصل إليها البحث العلمي في مجال العلاقات الدولية. والمجاهيل لا تقتصر على محتوى السياسات الدولية، ولكن على وسائل الحوار، وأساليب اتخاذ القرارات وأساليب تنفيذها. أي على قواعد اللعبة كلها. إن الإدارة الفعلية للعلاقات الدولية إدارة سريَّة. وقد كشفت هذه الحقيقة تحقيقات الكونجرس الأمريكي حول أنشطة المخابرات المركزية، وكذلك ما نشرته الصحافة الغربية. ولا نقصد أنه تم الكشف عن بعض الجرائم الوحشية التي ارتكبت سرًّا في الدول التابعة والاشتراكية، فالجرائم والتدخلات العنيفة تظل حالات خاصة، وهذا الإطار من الممارسات كان - على أية حال - سرًّا معلنًا، ولم يضِفْ ما نُشر بشأنه أخيرًا إلا بعض التفاصيل. فتدخل المخابرات المركزية في أحداث جواتيمالا، وإيران (مصدق) والكونغو (لومومبا) وكوبا، وشيلي.. إلخ، كان معلومًا (1). ولكننا نقصد أنه بات مكشوفًا الآن، أن الإدارة الفعلية اليومية لمجمل العلاقات الدولية إدارة سريَّة، والمخابرات هي مجرد مؤسسة مهمة ضمن المؤسسات العامة في هذه الإدارة أو هي المؤسسة الأشهر في هذا المجال.
(2) أشرنا إلى أسلوب صندوق النقد والبنك الدولي ووكالة التنمية، في الإدارة السرية للسياسات الاقتصادية في الدول التابعة، وكشف فيليب أجي مدى الصلاحيات الواسعة للمخابرات المركزية، وأساليب عملها المتنوعة ضمن استراتيجية الإدارة الأمريكية للتحكم في التطورات السياسية اليومية لهذه الدول؛ بحيث تظل في موقع الخضوع والتبعيَّة. وتكلفت كتابات أخرى بكشف طرف من الدور السري للشركات العابرة للجنسية في التخطيط والتنفيذ للسياسات الفعلية، بالتعاون مع الحكومات المعنية (2). وقد نسجل هنا أن كل ما كُشف من وثائق ومعلومات تجنب كشف الدور الأمريكي السري في المنطقة العربية، وتجنب بالتحديد دائرة الصراع العربي – الإسرائيلي (3). وبشكل عام، فإن معلومات أجي المهمة، وكذلك ما جاء في الكتابات الأخرى، لم تصل إلى كشف أسلوب إدارة العلاقات في المستوى الأعلى، على مستوى كبار المسئولين، ويبدو أن المصادر المصرية ألقت ضوءًا خاصًا على هذا الجانب، ونشير هنا إلى ما كتبه علوي حافظ وحسنين هيكل، فالأول استُخِدم كقناة موصلة إلى الرئيس الراحل عبد الناصر بعد 1967. وشهادته تكشف عينة من أدوات وآليات إدارة حوار سري بين الإدارة الأمريكية وعبد الناصر (4). استخدم في التمويه باكستانيون (أحدهم أصبح رئيسًا لبنجلاديش بعد الانقلاب ضد مجيب الرحمن) على هيئة مستثمرين ورجال أعمال، واشتملت المحاولة على انتقاء شخصية مناسبة موالية للغرب وقريبة من عبد الناصر (علوي)، واستخدمت الشفرة والأسفار السرية إلى اليونان وجنيف ولندن، ومن خلال الدور المسنود إلى الوسيط كان مقصودًا دعم مركزه عند
عبد الناصر، وكان مستهدفًا في الوقت نفسه تجنيده للمخابرات المركزية؛ بإغراءات مالية وسياسية؛ حيث لوَّح له بأنه يمكن أن يكون رئيسًا للجمهورية (إذا لم يقبل – وقد زعم أنه فعل ذلك – فإن مجرد التلويح بالمنصب يحدث أثرًا مهمًا عند الرجل، وإذا قبل أصبح هذا ورقة تهديد يمكن أن تستخدم ضده عند عبد الناصر، وبالتالي ورقة ابتزاز مناسبة لاستخدامه كعميل). ولكن ما يعنينا على أية حال، هو أسلوب الاتصالات السرية، لإدارة العلاقات بين الولايات المتحدة والدول الأخرى على أعلى المستويات. ويفهم من كتابات علوي أنه لم يكن القناة السرية الوحيدة.

إلا أن شهادة هيكل (الأقرب من مركز الأحداث والقرارات) أكثر أهمية وتحديدًا، عن فترة أخرى من الأحداث (5)، وهو يقرر أنه خلال عام 1972 بأكمله، كان يجري استخدام قناتين للاتصال بين مصر والولايات المتحدة، كانت القناة الأولى هي قناة الاتصال العادي بين وزارتي الخارجية هنا وهناك، وكانت القناة الثانية السرية؛ من خلال المخابرات المصرية والمخابرات المركزية الأمريكية. وفي العام نفسه جرت محاولات عديدة لإقامة اتصالات سرية متنوعة مع المستويات المصرية العليا، ويروي حسنين هيكل مثلاً أن رئيس شركة البيبسي كولا (دونالد كندال) وهو صديق شخصي لنيكسون، جاء إلى القاهرة، واتصل به (وعلاقاته بالسادات في ذلك الوقت كانت وثيقة) عن طريق زكي هاشم (محامي مصري له علاقات وثيقة بدوائر الأعمال الأجنبية وأصبح وزيرًا للسياحة بعد ذلك)، وكان اقتراحه أن يتم ترتيب اجتماع سري بين هيكل وكيسنجر في منزل كندال. ولكن لم يحدث هذا الاجتماع (حسب رواية هيكل). وفقط في شباط/ فبراير 1973 تم لقاء سريّ على مستوى عالٍ، بين كيسنجر وحافظ إسماعيل (وكان مستشار الأمن القومي آنذاك). كان مقترحًا في البداية أن يكون اللقاء في قاعة أمريكية قرب برشلونة، ثم تعدلت الترتيبات بأن ذهب حافظ إسماعيل في زيارة رسمية إلى واشنطن؛ حيث تقابل معه الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون (23 شباط/ فبراير) ولم يظهر كيسنجر في هذا اللقاء إلى فترة قصيرة؛ حتى
لا يبدو أنه مهتم بقضية الشرق الأوسط، وتمويهًا بالتالي عن اجتماعه السري مع حافظ إسماعيل (في اليوم التالي) في منزل رئيس شركة البيبسي كولا.

في الاجتماع مع نيكسون، أكد الرئيس الأمريكي على أن المناقشات المقبلة مع مصر ينبغي أن تتم (كما كان الحال مع الصين وفيتنام) على مستويين: مستوى وزارة الخارجية حيث يمكن أن يكون كل شيء معلنًا، والمستوى الآخر خلال القنوات السرية التي يشرف عليها كسينجر، ودون معرفة وزارة الخارجية الأمريكية. والمستوى الآخر – كما قال نيكسون – هو القناة الموصلة إلى تسوية حقيقة. ولا بد من ضمان السرية؛ إذ إن إسرائيل لا ينبغي أن تعلم شيئًا عمّا يجري (طلب نيكسون من جنرال سكو كروفت عدم تسجيل هذه الفقرة في المحضر).
وفي الاجتماع مع كيسنجر قيل لحافظ إسماعيل إن ثلاثة مبادئ ينبغي أن تحكم التعامل "الثقة المتبادلة – لا غش – السرية الكاملة".
وأثناء القتال في تشرين الأول/ أكتوبر كانت حلقة الوصل عبر المخابرات، أي حلقة الوصل غير المرئية، عاملة طول الوقت، بين القاهرة وواشنطن، وفي تبادل الرسائل العاجلة بين السادات ونيكسون (6)، ومع تطور العلاقات أصبحت اللقاءات المباشرة (وفي اجتماعات مغلقة) بين الرؤساء،
أو بين الرئيس المصري والمبعوثين على مستوى عالٍ، ظاهرة عادية ومتكررة، ويشابهها الاتصال التليفوني المباشر. وأعتقد أن الرئيس السادات، قد كشف تمامًا طبيعة الإدارة السرية، وما تضمنه من إخفاء للمعلومات والتدابير الأساسية، حين قال – حسب رواية حسني مبارك "إن تواجد المعلومات كلها عند فرد واحد عمل خطير، ويجب أن يكون هناك على قمة المسئولية من يشارك الرئيس فيما لديه من معلومات وخطط موضوعة لكل الاحتمالات... "وقال الرئيس إنني قررت أن أضع غيري معي في الصورة، صورة العمل بكافة جوانبه"، فعين مبارك كنائب لرئيس الجمهورية (7).

(3) ومؤكد أن هذا الأسلوب لا يمارس مع الولايات المتحدة وحدها، فالاتحاد السوفيتي يستخدم أسلوبًا مشابهًا، والعلاقات السوفيتية الأمريكية، تتم أيضًا بالأسلوب نفسه (ولكن بمؤسسات أكثر رشدًا عند الجانبين) (8). ولسنا بصدد تقييم هذا الأسلوب في إدارة العلاقات الدولية، فحسبنا الآن أن نعرف قواعد اللعبة كما هي، وندرك على ضوء هذه المعرفة أن معلوماتنا عمّا يحدث حولنا محدودة جدًا. وقد يصح للباحث أن يحاول إجابة الأسئلة على طريقة علماء الحفريات الذين يتصورون شكل الحيوان وحجمه من قطعة عظم وبعض الأنياب. هذه مسألة واردة وهامة، ولكن مع كل المصاعب التي أشرنا إليها، يتعذر على هذه المحاولة أن ترقي إلى مستوى تركيب تاريخ متكامل. وقد قررنا من البداية، أننا لا نهدف إلى محاولة من هذا النوع، فتركيزنا موجه إلى التغير في السياسات والبنية الاقتصادية. وهذا الاختيار لا يعفينا من كل المصاعب، ولكن يقلل منها أن المعلومات في هذا الجانب أوفر للأحداث؛ لأن التطور في النظام الاقتصادي المصري لا يمكن فهم أسبابها الكاملة،
أو استيعاب نتائجها البعيدة، بغير تذكّر دائم لأهمية المنطقة العربية حضاريًا؛ ولخطورتها وحساسيتها استراتيجيًّا. أو بغير تتبع يقظ لتطور الصراع على أرض المنطقة منذ حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973. إن تحليلنا يهدف إلى تطبيق مناسب للنتائج النظرية الممثلة في نموذج التبعية/ الاستقلال. وكما وصلنا إلى هذا النموذج – نظريًّا – عبر منهج مركب، فإن محاولة تطبيقه أو استخدامه في دراسة الحالة المصرية، حتى مع تركيزنا على الجانب الاقتصادي، تتطلب مراعاة المنهج المركب، أي مراعاة المتغيرات غير الاقتصادية التي أثرت في شكل ومضمون التطورات الاقتصادية موضع التحليل، في الحالة المصرية على وجه التحديد. فنظرًا لطبيعة المنطقة، ولوزن التحدي الصهيوني في تحديد السياسات المصرية؛ ونظرًا لأهمية الدور المصري في الاستراتيجية العربية يصبح مضمون ما تحقق داخل مصر أكبر جدًا من مجرد انتكاس في التطور الاقتصادي لقطر من الأقطار. إن حجم ونوع المصيبة يتحدد بأثر هذه الانتكاسة على الدور المصري في النهضة العربية، وكذلك بأثر هذه التطورات على المستقبل الصهيوني، وعلى استمرار وإحكام الهيمنة الغربية الأمريكية؛ حضاريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا على هذه المنطقة الهامة من العالم. ومن المفارقات التاريخية أن هذا الحجم الهائل للمصيبة، تحقق بعد أول حرب تحريرية ناجحة ضد إسرائيل، وقوى السيطرة الدولية التي ساندتها.

(4) من المؤكد أن حرب 1967 حققت أهدافًا أساسية لإسرائيل، ولكنها لم تحقق مباشرة أهداف الولايات المتحدة، فرغم إضعاف هيبة وتماسك الأنظمة الساعية للاستقلال في المنطقة، ورغم حقيقة أن احتلال الأراضي واجه هذه الأنظمة بمهمة استنزفت طاقتها، فإن بلورة النتائج على النحو الذي استهدفته السياسة الأمريكية، لم تتحقق، ومواصلة الاعتماد على عنصر الزمن وحده؛ لكي تركع هذه الأنظمة وتصفى. بدا مع السبعينيات أنه مسألة غير مضمونة تمامًا، مع موالاة الاستعداد العسكري، ومع مزيد من التدخل (بل الوجود) السوفيتي. مسألة أخرى كان تقلق الولايات المتحدة وهي أن إسرائيل (بامتداداتها الصهيونية داخل المؤسسات الأمريكية) أصبحت قوة مزعجة، وهامش استقلالها في الحركة وصل إلى أبعاد منذرة، خاصة وإسرائيل في قلب منطقة تحتل موقعًا متقدمًا في الاستراتيجية الأمريكية.
إن جوهر الدور الأمريكي المفتَرض بين الدول العربية كان يقوم على عملية تبادل بعض الأراضي العربية مقابل تصفية الاتجاهات المتمردة في المنطقة. وهذه العملية تتضمن أن تكون الأراضي المحتلة في 1967 رهن تصرف الإدارة الأمريكية، تعيدها قطعةً قطعة وفْق تطورات الصفقة مع الأطراف العربية المعنية. ولكن هامش الاستقلال الإسرائيلي بعد 1967 جعل التحكم في الأراضي المحتلة ملكًا للقرار الإسرائيلي، قبل أن يكون في يد الإدارة الأمريكية، فأصبح مستحيلاً من الناحية العملية أن تلعب الولايات المتحدة الدور المتوقع منها.
وهذا التحليل – بكل نواحيه، والذي لا يخلو من فروض– يؤدي إلى فرض آخر، وهو أن الولايات المتحدة كانت تبحث عن مخرج. ولعل هذا يقربنا من تصور بعض ما حوته الاتصالات السياسية، ويفسر عديدًا من الأحداث لمن يحاول أن يُعد تصورًا تقريبيًّا للتطورات السياسية العامة منذ أوائل السبعينيات (9).
ووفقًا لما نشره مصدر مصري مسئول عن الاجتماع السري لحافظ إسماعيل، فإن كيسنجر أوضح أن الولايات المتحدة تفضل بحث مشاكل الشرق الأوسط بالتفصيل، مع الأطراف المعنية وحدها ومباشرة، وبعيدًا عن الاتحاد السوفيتي. وبالنسبة لمصر، فإن عليها أن تفكر فيما هي مستعدة لتقديمه، مقابل انسحاب إسرائيلي جزئي. "والضمانات بالكلام لا تكفي؛ فالتنازلات المتوقعة من مصر سياسية وأرضية"(10) وهذا كلام لم يكن مرضيًا، ولكن كان مؤشرًا إلى احتمال تدخل أمريكي في الصراع. والعرض الأمريكي مثَّل تقديرًا معينًا لتوازن القوى، عبر عنه كيسنجر فيما بعد للمسئولين الإسرائيليين على النحو التالي: "إنني أتذكر الآن أن حافظ إسماعيل أبلغني عدة مرات أن الوضع الحالي
لا يمكن أن يستمر، وسألني عمّا إذا كانت الولايات المتحدة لم تفعل شيئًا في مواجهة هذا الاحتمال".. وأضاف كيسنجر أنه "لم تبدُ على وجهي مجرد ابتسامة خفيفة، ولكنني ضحكت في داخلي وضحكت. حرب؟ مصر؟ لقد اعتبرت ما قيل كلامًا فارغًا، وتبجُّحًا بلا أي مضمون" (11).

ويبدو الآن أن الاتصالات السريَّة خلال 1972، 1973، لم تنجح في انتزاع الموافقة على كل التنازلات العربية، فكيسنجر كان يقول لكبار الدبلوماسيين العرب (25 أيلول/ سبتمبر 1973) إن "ما نحتاجه، هو أن نعثر على وسائل تمكننا من تحويل ما هو غير مقبول لكم حاليًا، إلى وضع يمكنكم أن تعيشوا معه"(12). ولكن أهم من ذلك أن الاتصالات السرية مع الجانب الآخر كانت – على ما يبدو – أكثر فشلاً في إقناع الإسرائيليين بتسلُّم الولايات المتحدة بعض الأراضي؛ لاستخدامها في صفقتها. ولعله عبر عن هذا المعنى للقادة الإسرائيليين حين قال: "إنني لا أودُّ أن ألوم أحدًا، ولكن كان ممكنًا أثناء عام 1973 أن نمنع الحرب، إذا كنا قد تنبهنا لما هو قادم.. بدلاً من عمل شيء كنا نتبادل النكات حول الأحذية التي تركها المصريون خلفهم عام 1967" (13).
(5) المهم، حدث بعد تجميد ظاهر للموقف، وبعد وقف طويل لإطلاق النار، أن تحركت القوات المصرية والسورية، وفْق مخطط عربي محكم موحد، في 6 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1973، كانت الحرب محدودة بمقياس الأرض التي دار عليها القتال، وبمقياس الزمن الذي استغرقته، ولكن من المؤكد أن الأرض المحدودة والزمن المحدود شهدا كثافة في القتال، ومعدلاً في فقد العتاد، لم تخبرهما حرب سابقة (13). ومن المؤكد أيضًا أن هذه الحرب العسكرية بامتداداتها الاقتصادية (النفطية) لسعت بنيران الصراع كل أنحاء الأرض، بل وانعكس البُعد العالمي للحرب في شكل عسكري مباشر، حين أعلنت القوتان العُظميان رفع حالة التأهب النووي في مرحلة من المراحل.
إن حرب تشرين الأول/ أكتوبر – بهذا المستوى، وبهذه الخطورة – تبلور ما يقال عن الأهمية الاستراتيجية لمنطقتنا، وعن نوع الصراعات داخلها ومن حولها. إن حرب تشرين الأول/ أكتوبر كان مفروضًا – في كل الأحوال – أن تغير صورة المنطقة، وتؤثر تأثيرًا هامًا على التوازنات الدولية التي كانت قائمة قبلها (14). وقد حدث هذا فعلاً، ولكن في عكس الاتجاه الذي كان ممكنًا، والذي تطلعت إليه أمتنا، في نضالها الطويل لتحرير الإرادة.
(6) ما سبق الحرب، وما دار حقيقة أثناء الحرب، يحمل كثيرًا من علامات الاستفهام. ولكن بوسعنا أن نقرر – وفق ما أعلن من كل الأطراف – أن حملة الخِداع الاستراتيجي ضد إسرائيل، كانت ناجحة تمامًا. وغرور القيادة الإسرائيلية أوصلها إلى حد الاستهانة بالتقارير المؤكدة حول التحركات العربية على الجبهتين، والتي بلغت حدًّا لم يعد ممكنًا إخفاؤه. ومعروف الآن أن الإدارة الأمريكية اتفقت مع إسرائيل في تفسيراتها لتطور الموقف، وطلبت منها ألا تبدأ القتال بضربة وقائية. وللحقيقة كانت جولدا مائير نفسها قد استبعدت مثل هذا الإجراء؛ بسبب الثقة الزائدة في قوتها "التي لا تقهر"، وفي الضعف المهين للأعداء.






آخر مواضيعي 0 أنا أَيضاً يوجعنى الغياب
0 ﺃﻋﺪُﻙ !
0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 أنا وانتي.. حكاية بريئة
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
رد مع اقتباس
قديم 06-07-2011, 02:00 PM رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة

في المرحلة الأولى من القتال، انهارت القوات الإسرائيلية معنويًّا وماديًّا. وهامش الاستقلال الذي حققته إسرائيل بعد 1967، منعها - من البداية - من طلب النجدة الأمريكية بصوت عالٍ، فاكتفت بطلب قائمة متواضعة من الأسلحة، ولكن مع تعاظم الخسائر ابتلعت كبرياءها، وبدأت في الصراخ. في مساء 8 تشرين الأول/ أكتوبر كان كيسنجر يبشر السفير الإسرائيلي، بأن بلاده ستحصل على طائرتين فانتوم خلال 24 ساعة (وفقًا للقائمة التي سبق أن قدمها)، فإذا بالسفير يستنكر: "طائرتان؟ إن إسرائيل تحتاج عشرات".
ولكن رغم الإلحاح وحركة المكوك التي قام بها السفير بين البيت الأبيض والخارجية والدفاع، تلكأ البنتاجون في إرسال المعدات الحربية المطلوبة، وثبت في هذه الأثناء أن إسرائيل عاجزة تمامًا إذا تُركت وحدها. وأبلغت واشنطن السفير الإسرائيلي (10 تشرين الأول/ أكتوبر) أن السوفييت يتحركون في الأمم المتحدة لوقف القتال؛ حتى يتجمد الموقف في نقطة يملك العرب فيها المبادرة، وإسرائيل لم تتمكن بعدُ من مجرد الإعداد لهجوم مضاد، فرفض السفير الإسرائيلي هذا العرض باسم حكومته، وعاد إلى الإلحاح في إقامة جسر جوي أمريكي فورًا لمواجهة الجسر الجوي الذي أقامه السوفييت مع مصر وسوريا. ولكن في مساء 12 تشرين الأول/ أكتوبر كانت الأعصاب الإسرائيلية قد احترقت تمامًا، وكان الدبلوماسي الإسرائيلي يقول لكيسنجر: "إذا لم يبدأ جسر جوي أمريكي كثيف إلى إسرائيل فورًا؛ فإنني سأعلم من ذلك أن الولايات المتحدة ترتد عن تعهداتها وسياستها، وسنستخلص نتائجَ بالغة الخطورة من كل هذا" (15). (كان هذا تهديدًا بالهجوم العلني على الموقف الأمريكي في ظل أزمة ووترجيت الحرجة)، ولكن لم يكن هذا التحذير سببًا كافيًا لتغيير الموقف الأمريكي؛ فالموقف لم يتغير إلا بعد اعتراف من جولدا مائير، بأن الموقف الإسرائيلي أصبح ميئوسًا منه. وتوضيح ذلك أن كيسنجر طلب في اليوم نفسه (12 تشرين الأول/ أكتوبر) رأي القيادة الإسرائيلية في قرار– تحرك الولايات المتحدة – لوقف إطلاق النار، مع بقاء قوات كل طرف في أماكنها، على أن يطبق بعد 12 ساعة من صدوره (لإتاحة فرصة للقوات الإسرائيلية لتحسين مواقعها). وكان رد مائير (بعد اجتماعها مع ديان وإليعازر رئيس الأركان) كالتالي: "في سوريا هناك تقدم ضئيل والمقاومة أصبحت أكثر ضراوة؛ بسبب تدخل العراقيين. (والقوات المصرية صامدة بقوة في مواقعها على القناة). وعلى ذلك، ينبغي أن نوافق على السيناريو الذي تقدم به كيسنجر، ودون مد الوقت". ولم يستطع إيبان والسفير الإسرائيلي دينتز، تصديق ما يقرآه؛ فالقيادة الإسرائيلية قبلت ما كانت ترفضه منذ يومين، ودون وقت إضافي 12 ساعة. "لقد تبيَّنوا بسرعة أن القيادة الإسرائيلية لا تعتقد أنها تستطيع تحسين موقفها خلال 12 ساعة، وأنها تخشى أن كل ساعة إضافية قد تجعل الموقف أكثر سوءًا" (16).
فقط بعد انتزاع هذا الاعتراف، بدأ الجسر الجوي الكثيف.
قد يلاحظ هنا – وفي الفترة نفسها – شيء من الغموض في الموقف المصري، فهو لم يبادر ولم يقبل وقف إطلاق النار في اللحظة المناسبة. وفي الوقت نفسه، توقفت القوات المصرية عن التقدم إلى المضايق لإحراز نصر عسكري حاسم (17). وشائع أن السوفييت كانوا ضمن المستنكرين للموقف بعد انهيار خط باريلف، وبعد حالة الشلل والارتباك التي أصابت القيادة الإسرائيلية في الأيام الأولى من القتال. ومعروف أيضًا أن السوفييت اقترحوا وقف القتال في لحظة مناسبة. وتفسير الموقف المصري قد يرجع إلى أخطاء سياسية، أو إلى تقييمات للموقف العسكري لا نعلمها. ولكن هل يمكن أن نفترض أيضًا أن الاتصالات السرية أسهمت في صياغة الموقف المصري في تلك الفترة؟ يمكن أن نفترض مثلاً أن الولايات المتحدة قدمت وعودًا مجددة بالتدخل السياسي الحاسم في الصراع، بعد الأداء العسكري العربي الرائع، وألمحت إلى حرصها على تجنب التدخل السافر والكثيف لدعم إسرائيل؛ كمحاولة لتحسين صورتها في العالم العربي، وإعدادًا لقبول الولايات المتحدة كوسيط في التسوية المرتقبة. ومثل هذا الكلام كان يشجع القيادة المصرية على إطالة أمد القتال؛ لتأكيد النتائج السياسية المترتبة على العبور الناجح والرائع لقناة السويس (ويدخل في ذلك وعد السعودية بالتدخل نفطيًّا إذا استمر القتال مدة معقولة (18). ولكن قد نتصور أيضًا أن الولايات المتحدة حذرت في الوقت نفسه من مواصلة القوات المصرية للتقدم. فاقتلاع القوات الإسرائيلية من المضايق يعني أن القوات المصرية ركبت سيناء؛ أي أصبح الطريق مفتوحًا إلى حدود مصر الدولية، بل إلى الأراضي الإسرائيلية. وبالتالي أصبح تحرير سيناء بالقوة مسألة متاحة، وأصبحت الحاجة إلى الدور الأمريكي لاستعادة الأرض حاجة محدودة. إن تعظيم الدور المصري/ العربي في تحرير الأرض، وفي صياغة التسوية لا يستبعد الدور الأمريكي، ولكن يحد منه، ويخلق توازنًا بين القوتين العُظميان، وكل هذا مرفوض من الولايات المتحدة، ويتنافى مع مفهوم السلام الأمريكي.
(7) على أية حال، حدث - بعد أن أُعيدت إسرائيل إلى المقاس المطلوب، وإلى الاعتماد المُطلَق على قوة الولايات المتحدة - أن تحولت الإدارة الأمريكية إلى الجانب العربي لتعيده أيضًا إلى المقاس المطلوب. وكان هذا يعني "استعادة التوازن العسكري في المنطقة، وتزويد الولايات المتحدة بالتالي بوسيلة ضغط دبلوماسية؛ لتشكيل مفاوضات ما بعد الحرب". كان الدعم الأمريكي في اليونان مصدرًا أساسيًّا لمعلومات إسرائيل عن تحديد منطقة اللقاء بين الجيش الثاني والثالث. وبعد أن كانت إسرائيل تطلب وقف إطلاق النار في 12 تشرين الأول/ أكتوبر، تطورت الأمور إلى أن أصبحت مصر هي التي تطلب وقف إطلاق النار، وعللت القيادة المصرية موقفها – صراحة – بأنها بصدد موقف أمريكي جديد، وقد علل كيسنجر تغير الموقف الأمريكي، بأنه أمر لا يتعلق بالصراع المحدد بين العرب وإسرائيل، ولكنه يدخل في الحسابات الدولية التي لا ينبغي أن تسمح للسلاح السوفيتي بهزيمة السلاح الأمريكي، أي أن المسألة تكاد تكون مسألة فنية، أو مجرد هيبة. وهذه مغالطة بطبيعة الحال؛ لأن وقائع ونتائج القتال في الصراع المحدد بين العرب وإسرائيل، تدخل أيضًا في الحسابات الدولية للولايات المتحدة، بل تأتي أولاً، كعامل حاسم في تحديد صورة المستقبل لمنطقة تحتل موقعًا أساسيًّا في الاستراتيجيات الدولية.
في 16 تشرين الأول/ أكتوبر وصل كوسيجين إلى القاهرة، وكشف عن خطورة النتائج المترتبة على التسلل الإسرائيلي إلى الضفة الغربية للقناة، وتقول مصادر مختلفة إنه حصل على موافقة الرئيس السادات على قرار بوقف إطلاق النار. ولكن يقول الرئيس السادات إن كوسيجين بقي في القاهرة أربعة أيام، وبعدها عاد إلى موسكو "وفي أذنه عبارة واحدة: إني لن أوقف إطلاق النار.. وفي أذني عبارة واحدة: أوقف النار". إلا أن الرئيس يقول أيضًا: إنه "في يوم 19 تشرين الأول/ أكتوبر (يوم عودة كوسيجين إلى موسكو) تدخلت أمريكا، وأعلنت أنني غير مستعد لمحاربة أمريكا، فوافقت على وقف إطلاق النار، وأرسلت للسوفييت ليخبروا أمريكا" (19).
في 10 تشرين الأول/ أكتوبر كان كيسنجر في موسكو. كان الموقف يتطلب قرارات عاجلة، وكان يتطلب مشاورات حول طبيعة التطورات السياسية المقبلة. وبالنسبة لكيسنجر كان من أهدافه أيضًا، كسب مزيد من الوقت لصالح إسرائيل في أرض المعركة. ولكن صدر رغم هذا – عن اجتماع موسكو – القرار بوقف إطلاق النار. وفي طريق العودة توقف كيسنجر في إسرائيل، بعد أن كانت القيادة الإسرائيلية قد استوعبت المعنى السياسي المقصود من صدور قرار كهذا دون مشاورات سابقة معها. كان هذا المعنى لا يقل خطورة في مضمونه عن القرار نفسه.
ولكن من المسلم به أن إسرائيل لم تتمثل عمليًّا لوقف إطلاق النار، بل استخدمت القرار في تنظيم قواتها، وفي شن هجوم هام؛ لتحسين موقفها على الضفة الغربية في القناة، فهل كانت الولايات المتحدة بعيدة عن ذلك؟ كل الشواهد تدل على غير هذا، فبالتأكيد كانت مواقع إسرائيل التي طلب قرار 22 تشرين الأول/ أكتوبر وقف القتال عندها، تجعل موقف قواتها في الضفة الغربية بالغ الحرج، وبالتالي كانت الوقائع في ميدان القتال لا تضع الولايات المتحدة على مسافة متقاربة من الطرفين، كانت الوقائع تجعلها في موقف المدافع عن إسرائيل في مواجهة موقف مصري أقوَى. ولم يكن هذا ما تطلبه. وحسب رواية إسرائيلية، فإن كيسنجر سأل في إسرائيل: كم عدد الأيام المطلوبة لإكمال الحصار على الجيشين المصريين في الضفة الشرقية في القناة؟ وتراوحت الإجابة بين 3 و7 أيام. فعلق كيسنجر: "حسنًا، إن وقف إطلاق النار في فيتنام لم ينفذ في الوقت المتفق عليه تمامًا"(20). ويقول جولان: "إن كلماته بدت لمستمعيه بمثابة إشارة مرور (غير مباشرة) لاستمرار القتال". ولكن سواء قالها كيسنجر بهذا الشكل غير المباشر، أو بشكل مباشر، فإن رسائل السادات إلى بريجنيف ونيسكون توالت كل ساعة حول تطورات الموقف واستمرار إسرائيل في القتال. وجاء في رد نيكسون (24 تشرين الأول/ أكتوبر) أنه أبلغ الحكومة الإسرائيلية أن استمرارها في عمليات عسكرية هجومية سيؤدي إلى أوخم العواقب فيما يتعلق بعلاقات الولايات المتحدة – إسرائيل في المستقبل".
وأضاف أن الحكومة الإسرائيلية نفت أنها تقوم بعمليات هجومية "ويستحيل أن نحدد من هنا الوقائع الحقيقية". وهذه العبارة الأخيرة – كما قال هيكل – لم تكن مقنعة تمامًا، ودعمت شكوك الروس في أن إسرائيل قد سُمِح لها – وبتعمد - أن تواصل انتهاكاتها لوقف إطلاق النار.
(8) رغم العجز عن احتلال الإسماعيلية، وعن اقتحام السويس، كان الجيش الثالث والسويس تحت الحصار، حين صدر القرار الثاني لوقف إطلاق النار (24 تشرين الأول/ أكتوبر) فأذاع السادات نداء إلى بريجنيف ونيكسون لتشكيل قوة سوفيتية – أمريكية لحفظ السلام. وبعد الرسالة بساعات تلقى الرئيس الأمريكي رسالة حادة ومنذرة من بريجنيف. تبنت الرسالة اقتراح السادات، ثم أضاف بريجنيف: "إنني أقولها بصراحة: إنه إذا رأيتم أنه يستحيل أن نعمل معًا في هذا الموضوع، فإننا سنكون مواجَهين بالضرورة الملحة لتناول مشكلة اتخاذ الخطوات الملائمة من جانب واحد. إن إسرائيل لا يمكن أن يُسمح لها بالمضي في انتهاكاتها".
كان مستحيلاً أن تقبل الولايات المتحدة دخول قوات سوفيتية، منفردة أو مع قوات أمريكية، في هذه اللحظة، وفي المنطقة العربية، وضد إسرائيل. فإذا تمكن الروس من التواجد في الشرق الأوسط باعتبارهم المنقذين للعرب – كما قال كيسنجر – يصبح إخراجهم بالغ الصعوبة، ويتزايد نفوذهم على تدفق النفط إلى الغرب. وقد فسرت رسالة بريجنيف في مجلس الأمن القومي الأمريكي، على أنها تهديد حقيقي بالتحرك، تؤيده المعلومات المؤكدة عن انتشار حالة التأهب بين القوات الأمريكية. وتطلب الأمر أيضًا تحركًا موازيًا لمحاصرة المشكلة في المنبع. أي منع تطور الموقف إلى حالة يضطر فيها السادات إلى طلب التدخل السوفيتي. ويتحقق ذلك بأمر حاسم إلى إسرائيل، يمنعها من ممارسة الحصار الكامل على الجيش الثالث (21). ويبدو أن الاتصالات السرية نجحت في تهدئة القيادة المصرية، وأقنعها باختيار البديل الأمريكي لإعداد ترتيبات مؤقتة غير رسمية. فتم إبعاد السوفييت مؤقتًا عن القضية العاجلة الساخنة. قضية إخراج الجيش الثالث من مخاطر الحصار.
(9) بالمفهوم الاستراتيجي، كانت النتائج السياسية والعسكرية بعد وقف إطلاق النار كارثة بالنسبة لإسرائيل؛ وإضعافًا لأوروبا الغربية واليابان. وتحسنت – في المقابل وبدرجات متفاوتة – المواقف النسبية للأطراف الأخرى: العرب – الاتحاد السوفيتي – الولايات (22). ولكن الدبلوماسية السرية التي صاحبت الحرب الساخنة، لم تتوقف في صراعها المميت أثناء الحرب الباردة التي بدأت فور وقف إطلاق النار، واستخدمت فيها كل الأدوات؛ بما في ذلك التهديد بتدخلات دولية عسكرية عند تجدد الاشتباكات.
بدأت الولايات المتحدة تحركها، وفق تقييم صحيح للتغير الذي أصاب توازن القوى الاستراتيجي بين العرب وإسرائيل (ويبدو أنها ارتاحت إلى ذلك) ونشرت على لسان كيسنجر تصريحات نصف علنية في هذا الاتجاه؛ ففي اجتماعه مع عدد من وزراء الخارجية العرب (17 تشرين الأول/ أكتوبر) قال كيسنجر إن "سبب الفشل السابق في تطبيق قرار 242 كان التفوق العسكري الكامل لإسرائيل.. كان العرب ضعافًا، وهم اليوم أقوياء. لقد حقق العرب أكثر مما كان يعتقد أي إنسان (بما في ذلك هم أنفسهم) أنه ممكن" (23). ووفقًا لمعلومات المصادر المصرية، فإن كيسنجر واجه الإسرائيليين بهذه الحقيقة: "قد يكون صحيحًا أنهم استعادوا المبادرة، ولكن أثبتت الأيام الأولى من القتال، أن عديدًا من مسلماتهم الاستراتيجيَّة كانت خاطئة: لقد أخذتهم المفاجأة – أثبت العرب قدرتهم على العمل المنسق – أزمة الطاقة تزود العرب بمَيزة سياسية". ولم يذكر طبعًا على لسان كيسنجر أنه ثبت أن قدرة إسرائيل على الحركة المستقلة أصبحت محدودة جدًّا.
هذا التقييم للتغير الاستراتيجي، أكده نيكسون حين وصف جولدا مائير "بأنها كُفْأَة جدًا، ولكن عنادها كان يقوم على إحساسها بالتفوق العسكري، والوضع الآن مختلف". إلا أن نيكسون أشار إلى ملاحظة أخرى، "لقد اتهمتمونا عام 1967 بالتواطؤ مع إسرائيل. ولكنكم جئتم هذه المرة لتتكلموا معنا (رغم المعونات الكثيفة المعلنة – ع. ح). ويشكل هذا فارقًا كبيرًا (24). ولا شك أن هذه الملاحظة الهامة لم تكن تقصد لقاءه العلني مع وزراء الخارجية العرب، بقدر إشارتها إلى الاتصالات السرية التي تواصلت دائمًا، قبل وأثناء القتال. ولا شك أن هذه الاتصالات كانت رصيدًا هامًا للتحرك الأمريكي في المراحل التالية.
كان هدف الولايات المتحدة في حربها الباردة – داخل المنطقة – تأكيد ما حققته من ترويض وإخضاع لإسرائيل، وكانت تهدف أيضًا، ومن خلال وعدها بإعادة الأراضي المحتلة، إلى إخضاع الجانب العربي لشروطها وإخراج الاتحاد السوفيتي من الساحة. وتطلب ذلك الاستفادة من الوقائع التي خلقها القتال، والتي لعبت الولايات المتحدة دورًا أساسيًّا في تشكيلها على نحو ملائم. لقد انتهت العمليات العسكرية إلى مأزق أو اختناق يواجه كل طرف من طرفي القتال. وبعد الاحتواء المؤقت لأزمة الحصار، وبعد التقاط الأنفاس، ظل الوضع بالغ الخطورة كما قال كيسنجر: "خط وقف إطلاق النار كان خطًا مجنونًا. تصور حربًا تنتهي بمثل هذه الطريقة؛ بحيث يحاصر الإسرائيليون الجيش الثالث بمحاصرتهم لمدينة السويس على الضفة الغربية في القنال، وفي نفس الوقت يجدون قوتهم المحاصرة هذه تدريجيًّا وقد أصبحت محاصرة بقوة مصر أكبر (بمساعدة قوات سوفيتية أو دونها) تعمل بالقرب من خط تموينها الأساسي في القاهرة"(25).
(10) إن الترتيبات المؤقتة وغير الرسمية، لم يكن من شأنها ضمان إمدادات كافية ومنتظمة للجيش الثالث. وبالتالي ظل الموقف منذرًا باحتمال تحرك عنيف لفتح الطريق عُنوة ولتجدد حرب شاملة. ولم يكن كيسنجر غافلاً عن احتمال التدخل السوفيتي في كل ذلك، (واصلت القوات السوفيتية المحمولة جوًّا حالة تأهبها بعد القرار بوقف حالة التأهب بين القوات الأمريكية). وكان شرحه للجانب الإسرائيلي يتضمن هذا السيناريو المحتمل: إذا لم تعطوا المصريين ممرًّا إلى الجيش الثالث سيأتي الروس بطائراتهم الهيلوكوبتر ليفعلوا ذلك. ماذا ستفعلون؟ هل ستطلقون النار عليهم؟ وماذا ستعمل الولايات المتحدة في تقديركم؟ الولايات المتحدة لن تسمح بتصرف سوفيتي من جانب واحد. إن هذا يجعل السوفييت أبطال العالم العربي. ولكي نمنع هذا، سترسل الولايات المتحدة الهليوكوبتر التابع لها هي محملاً بالطعام إلى الجيش الثالث" (26).
بوسعنا أن نتصور أن الاتصالات السرية التي أقنعت القيادة المصرية بقبول ترتيبات مؤقتة كانت مدعومة بوعد بإجراء خطوة أخرى، أي: بمواصلة التدخل من أجل صيغة رسمية ومستقرة. وبالتأكيد كانت الإدارة الأمريكية حريصة على احتكار حل هذه المشكلة الحساسة – من وجهة النظر المصرية. ولكن وضح منذ ذلك الوقت أن السياسة الخطوَة خطوة، تتضمن بالضرورة محاولةً دءوبًا لكسب الوقت، واستخدمت في المفاوضة كل فنون المناورة؛ لتحقيق ذلك(27).
خطوة إقامة طريق مستقر لتموين السويس والجيش الثالث، تطلبت تدخل كيسنجر لصياغة أسلوب التفاوض، وحين اجتمع الفريقان - المصري والإسرائيلي - عند الكيلو 101 (29 أكتوبر) تعثرت محاولة الوصول إلى اتفاق، وفي 30 أكتوبر كان إسماعيل فهمي في واشنطن للتباحث مع نيكسون وكيسنجر. وفي 31 أكتوبر وصلت مائير لنفس الغرض. ومثل هذا المنظر انتصارًا دبلوماسيًّا مُهِمًّا، أكد أن الولايات المتحدة أصبحت مقصد الطرفين؛ لحل المشاكل المستعصية. المباحثات مع الطرفين تناولت المشكلة الساخنة للجيش الثالث، وتصورات الخطوة التالية. كان موقف مصر أن تكون الخطوة التالية عودة القوات الإسرائيلية إلى خطوط 22 أكتوبر، وهذا الموقف كان مرفوضًا. ولكن أهم من ذلك أن مشكلة الجيش الثالث (التي تضغط على أعصاب المفاوض المصري) ظلت مؤجلة، رغم أن كل يوم، بل كل ساعة، كانت مليئة بالمرارة والمخاطرة. وفقط بعد خمسة أيام من وصول كيسنجر إلى القاهرة في أول زيارة (أي: في 11 نوفمبر) وقعت اتفاقية النقاط الست بشروط مهينة عند الكيلو 101 (وكانت القوات السوفيتية لا زالت تحت التأهُّب عند زيارة كيسنجر. أي: كان البديل الثاني لا يزال قائمًا أمام القيادة المصرية). ولكن كان كيسنجر يستخدم دائمًا في مفاوضاته مع مصر: "أو بوسعكم أن تحصلوا على الأسلحة من الاتحاد السوفيتي، ولكن لن تحصلوا على الأرض
إلا منا". وهذه المقولة ناقصة بدرجة مُخلة؛ فقد بدا في تلك الفترة أنه أصبح بوسع الولايات المتحدة أن تتصرف فعلاً في معظم الأراضي (على الأقل) التي تحتلها إسرائيل؛ نتيجة حرب أكتوبر. لكنْ فارقٌ كبير بين أن تستخدم الولايات المتحدة صلاحياتها في ردّ الأراضي، تحت ضغط القوة العربية (بمكوناتها المختلفة) في المقام الأول، وبين أن ترد الأراضي؛ لِقاء قبول مصر والدول العربية لوضع التبعية الكاملة للولايات المتحدة (هذا إذا كان صحيحًا أنها سترد الأراضي كلها في حالة الاختيار الثاني).

وبالتأكيد كانت الولايات المتحدة تعمل – في خطواتها المتتابعة – على خلق الوقائع وتطويرها بطريقة تتفق مع هذا الاختيار الثاني، بل عملت تدريجيًّا على إغلاق الطريق الآخر المحتمل؛ بحيث لا يبقى أمام القيادات العربية هامش للمناورة المستقلة، ولا يصبح هناك إلا طريق واحد مفتوح، ترسمه الولايات المتحدة. وتبدأ هذه الترتيبات بإبعاد صياغة التسوية عن موازين الجو الساخن التي أنشأتها حرب أكتوبر وامتداداتها البترولية، والتي وضعت العرب في مركز قوة نسبية. كانت الولايات المتحدة تسعى للتسويف المتعمد، وكانت القيادات العربية، وبينها الملك فيصل، تدرك هذا المخطط لخفض درجة الحرارة، من خلال تجزئة المشاكل، ومعالجة كل جزئية بدم بارد (28). وإذا كانت سحب من الضباب قد تكثفت في سماوات العلاقات المصرية السوفيتية، فإن زيارة كيسنجر قد أضافت إلى السحاب الأسود عواصفَ رعدية شديدة، وإذا كان لدى السوفييت شك في نيات مصر وقيادة مصر، فإن هذه الزيارة.. أكدت لديهم أنني (أي: الرئيس السادات) اتفقت مع الأمريكان عليهم" (29).






آخر مواضيعي 0 أنا أَيضاً يوجعنى الغياب
0 ﺃﻋﺪُﻙ !
0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 أنا وانتي.. حكاية بريئة
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
رد مع اقتباس
قديم 06-07-2011, 02:01 PM رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة

(11) بعد التوصل إلى اتفاقية الكيلو 101 ظل وضع الجيش الثالث مقلقًا ومهينًا، ونشبت عبر الخطوط المتشابكة حرب استنزاف ضارية - غير مُعلنة - ضد القوات الإسرائيلية على الضفة الغربية للقناة. وإذا كان مطلوبًا مع ذلك احتواء الموقف، وإذا كان غير مسموح لأيٍّ من الطرفين أن يفجره، فإن الولايات المتحدة تملك - إذن وَحدها - إخراج الجيشين المتحاربين من هذا المأزق. وقد وعدت بذلك فعلاً، لكنْ لمَ العجلة؟ استطالة الزمن في هذا الظرف، مسألة مفيدة لانتزاع التنازلات من الطرفين عبر الاتصالات السرية. وبالفعل جاء كيسنجر في جولة نوفمبر، بعد أن كانت مصر قد عدَّلت من مسألة عودة القوات الإسرائيلية إلى خطوط 22 أكتوبر (التي تعكس رغبة في إضعاف الموقف الإسرائيلي، وتهديدًا بالتالي بالعودة للقتال إذا تعذر الاتفاق، وتهديدًا بالتالي بتنشيط الدور السوفيتي). كانت فكرة إجراء انسحاب إسرائيلي إلى خط أكثر استقرار من خطوط 22 أكتوبر قد قدمت باسم فض الاشتباك بين القوات المتحاربة. وبمنطق دفع الحركة بمعدل سريع (وفقًا للمصالح العربية). كان الاقتراح المصري أن تكون المرحلة الأولى من الانسحاب إلى خط العريش/ رأس محمد. وكان الملك فيصل يربط رفع الحظر البترولي بالانسحاب الكامل في بداية الاتصالات، ثم تعدل المطلب إلى "قدر معقول من
ألا نحاسب". وكان موقف كيسنجر في كل الأحوال "أنه تلزمني فترة ما بين ستة أشهر إلى سنة كاملة؛ حتى نصل إلى بداية شيء معقول" (30).

أذكر أيامها أن هذا التصريح أدهش الكثيرين من الفترة التي تصوروها طويلة قبل الوصول إلى "بداية شيء معقول". إلا أن كيسنجر أوضح أنه يمكن - في هذه الأثناء - أن تتحقق بعض الخطوات (فصل أول للقوات)، ولكن ليس قبل 31 ديسمبر (بحجة الانتخابات الإسرائيلية).
في 14 ديسمبر جاء كيسنجر إلى المنطقة. كانت التحركات المختلفة في تلك الفترة ضمن التحضير لمؤتمر جنيف. وبالتأكيد كان الاتحاد السوفيتي متحمسًا لحل القضية من خلال هذا المؤتمر، وبمشاركته النشطَة (بصفته أحد رئيسي المؤتمر). ونفترض هنا أن الإصرار السوفيتي على عقد المؤتمر، وموافقة الأطراف العربية (ردًّا على التسويف الأمريكي) دفعًا للولايات المتحدة التحرك السريع؛ حتى
لا تفقد ما كسبته، فحتى هذه اللحظة كان كيسنجر يدرك "أن السادات يملك بديلين: الأول أن يحاول ويحقق اتفاقًا، عبر مساعدة الولايات المتحدة، في جو من الاسترخاء. والثاني أن يحاول ويصل إلى اتفاق بمساعدة البريطانيين والفرنسيين واليابانيين والسوفييت، ولكن في مناخ من الأزمة الدولية مع الولايات المتحدة التي أصبحت مُتخلِّفة وراء الدول الأخرى"(31).

وما نُشر عن رحلة كيسنجر في ديسمبر يقول إنها كانت لتذليل العقبات أمام مؤتمر جنيف، ولكن يصعب تصديق ذلك، فحتى من خلال ما نشر يمكن اكتشاف حقيقة أن كافة المناورات والوعود قد استخدمت لاستبعاد السوريين، ولشق الصف العربي؛ بإعطاء أولوية خاصة لمصر، ثم لتفريغ المؤتمر من أي مضمون فعلي.
انعقد مؤتمر جنيف في 21 ديسمبر، ووفقًا لرواية الإسرائيليين، ألحَّ جوميكو – في لقائه الخاص مع وزير الخارجية الإسرائيلي (إيبان) – على أن المطلوب مواصلة المؤتمر (بلا انتظار للانتخابات الإسرائيلية)، والتوصل بسرعة على "تقدم ذي مغزى". وفهم الإسرائيليون أن مقصد السوفييت يتجاوز مجرد اتفاق مبدئي لفصل القوات. ولكن كانت جولة كيسنجر قبل المؤتمر، قد بحثت مباشرة مع مصر وإسرائيل مشروع اتفاق لفصل القوات. الاتصالات التي سبقت الزيارة، والمفاوضات المباشرة، أصرت على أن يعتدل الجانب المصري في مطالبه كشرط لتدخل الولايات المتحدة، فتعدلت المطالبة المصرية بأن يكون الانسحاب إلى خط العريش/ رأس محمد، واكتفت بأن يكون خط الانسحاب الأول إلى شرق المضايق. ويبدو أن الوعود الأمريكية في هذا الاتجاه كانت خلف الموقف المصري المتردد إزاء المساندة السوفيتية، وإزاء مؤتمر جنيف.
(12) في 10 يناير عاد كيسنجر إلى المنطقة، بعد إلحاح من مصر وإسرائيل. وبدأ دبلوماسية المكوك للتوصل إلى اتفاق للفصل بين القوات على الجبهة المصرية. وفي 17 يناير وقع الاتفاق فعلاً، ووضح أن كيسنجر فرض على كل طرف أن يقبل تجزئة مطالبه؛ فتحولت الخطوة المُرتقبة إلى خطوتين. فالانسحاب الإسرائيلي وفق الاتفاق، يكون فقط من المواقع غرب القناة، وأخذت إسرائيل - مقابل ذلك - تخفيفَ الوجود العسكري المصري شرق القناة، مع البدء في تطهير قناة السويس وتعمير مدنها. والشرط الأخير قد نتصور أن القيادة المصرية وافقت عليه اقتناعًا، وليس خضوعًا. ولكن من المؤكد أن إسرائيل والولايات المتحدة أصرَّا على ألا يكون المطلب مجرد قرار مصري مستقل، ولكن شرطًا أو جزءًا لا يتجزأ من الاتفاق، اتفق على عدم إعلانه. ويدعونا هذا إلى إلقاء الضوء على نوع من فنون العمل السري تكرر بعد ذلك كثيرًا. فبعد كل اتفاقية ثار الكلام حول البنود السرية، وأقسم المسئولون أنه لا توجد أيَّة اتفاقيات سرية مع إسرائيل، وواقع الحال أن هناك الآن أسلوب الاتفاق الثلاثي؛ فالحكومة المصرية توقع ما يسمى مذكرة إيضاحية، موجهة إلى الحكومة الأمريكية تتضمن التزامها بالشرط المعين، والحكومة الأمريكية توقع في نفس الوقت مذكرة إيضاحية إلى الحكومة الإسرائيلية تتضمن التزامًا بأن هذا الشرط المعين (كعودة الملاحة في القناة) سينفذ. هذا الأسلوب يضرب عددًا من العصافير بحجر واحد، فهو يتيح للحكومة المصرية (أو الإسرائيلية) أن تنفي أنها التزمت أمام الدولة الأخرى بالتزامات معينة، والحكومة الأمريكية تبدو كما لو أنها تلقت تفسيرًا أو اقتراحًا أو التزامًا من الحكومة المعنية، دون أن يكون لها دخل أو ترتيب في ذلك (ويذكرنا هذا بخطاب النوايا عند صندوق النقد الدولي، وإعلان السياسة عند البنك الدولي – راجع الفصل الرابع). ومن ناحية ثالثة، فإن التجاء الحكومتين المصرية والإسرائيلية إلى الولايات المتحدة لتبليغ الشروح والالتزامات، تأكيدٌ للدور الخاص للولايات المتحدة؛ كشريك مهيمن في إنشاء وتنفيذ الاتفاقية المصرية – الإسرائيلية. وقد نفترض بالمناسبة أن الولايات حصلت أيضًا على بعض هذه المذكرات أثناء المفاوضات والاتفاقيات؛ لتعبر عن التزامات خاصة قبلها، ولحسابها الخاص (بعيدًا عن القضايا المباشرة لمصر/ إسرائيل)، فهي وسيلة لها إلزام الاتفاقية أو المعاهدة، دون مثالب إجراءات التصديق الدستورية، وما تتضمنه من علنية، في حالة الصيغة التقليدية للاتفاقيات الدولية (ولم يتنبه المعارضون في مصر إلى هذا التكنيك الجديد).
المهم، كانت الاتفاقية الأولى لفصل القوات، تعني تأجيل الانسحاب الإسرائيلي إلى شرق المضايق لخطوة ثانية، وتأجل سداد الثمن المباشر لذلك (مرور الشحنات الإسرائيلية في القناة عند فتحها للملاحة) إلى حين التوصل إلى هذه الخطوة. ويقال إن مائير التفتت إلى كيسنجر بعد توقيعها للاتفاق وقالت: "إنني أعتقد بإخلاص وأمانة، أنك صنعت تاريخًا في هذا الأسبوع، وليس عندي أي شك في ذلك" (32). وهذا الارتياح الإسرائيلي مفهوم. ولكن تقبيل كيسنجر على الوجنتين – من الجانب المصري – واعتباره أخًا وليس مجرد صديق، هو الموقف غير المفهوم.
فاتفاقية الفصل الأول للقوات حققت التالي: تجميد صيغة مؤتمر جنيف – دعم اتجاه الولايات المتحدة للانفراد بتسوية النزاع وفق شروطها هي – يرتبط بكل ذلك إبعاد السوفييت سياسيًا عن منطقة النزاع، وعن الجانب العربي بالتحديد – انعكس ذلك مباشرة (بمجرد توقيع الاتفاقية) في أزمة إمداد القوات المسلحة المصرية بالأسلحة السوفيتية. وكانت القيادة المصرية تحاول تطويق مثل هذه الأزمات في الماضي، ولكنها قررت هذه المرة (18 أبريل) تنويع مصادر السلاح (هل كان هذا واردًا في مذكرة من المذكرات الإيضاحية؟) – أيضًا حققت الاتفاقية تصدعًا في الجبهة العربية المحاربة. صحيح أن السادات أعلن يوم توقيع الاتفاقية أن كيسنجر وعد بالتوصل إلى خطوة مشابهة على الجبهة السورية، ولكن منطق الخطوة خطوة بطبيعته يؤدي إلى بذر الشقاق والشكوك، خاصة وأن الخطوة الأولى تبدأ دائمًا من مصر، والمخطط الأمريكي والإسرائيلي يشير دائمًا ومنطقيًا إلى معاملة مصر معاملة خاصة (بصفتها الدولة الأقوى) لإغرائها بالابتعاد عن الآخرين؛ وتمهيدًا للبطش بهؤلاء الآخرين. ويمكننا أن نفترض أن المناورات التي تمت في تلك الفترة، والمعلومات (أو شبه المعلومات) التي سُرِّبت، أسهمت في خلق نتائج مطلوبة تمامًا من وجهة نظر كيسنجر(33). وبعد فترة كافية لحدوث هذه النتائج، حققت مفاوضات المكوك، اتفاقية فصل القوات على الجبهة السورية (28 فبراير). ومع طول الزمن، ومع الضغط، ومع "المجهود الشاق" الذي بذله كيسنجر، أعلنت الدول النفطية وقف قيودها على تصدير النفط (18/ 3)؛ اكتفاء بمجرد وعد من الولايات المتحدة بخطوة أخرى محدودة (وكان إنهاء الحظر والتقييد – كما ذكرنا – مربوطًا بشيء قريب من التسوية الشاملة). وبذا تخففت الولايات المتحدة من ضغط أوروبا الغربية واليابان، وتخلَّصت من منظر أن السعودية تفرض حظرًا على الولايات المتحدة.
والخلاصة، أن اتفاقية الفصل الأول للقوات، بكل النتائج السابقة، أضعفت إمكانية اللجوء إلى بديل استخدام القوة. أسهم الاتفاق إسهامًا أساسيًا في خلق وقائع ومؤسسات تجعل اختيارَ بديلٍ للخطوة خطوة مغامرةً صعبة. وبالتالي استراحت الولايات المتحدة إلى ما حققته، وجاءت زيارة نيكسون للمنطقة، تعبيرًا عن تدشين المرحلة الجديدة من السيطرة. قلنا: إن النتائج المباشرة بعد وقف العمليات العسكرية كانت تعني – بالمعنى الاستراتيجي – خسارة لإسرائيل، واستفادة بدرجات متفاوتة للجانب العربي وللاتحاد السوفيتي وللولايات المتحدة. ونشهد الآن بأن الدور النشط، والمكثف للسياسة الأمريكية (وعلى رأسها كيسنجر) في تلك الفترة الحرجة، أدى إلى تغير سريع في المعادلة. فالاتحاد السوفيتي فقد دوره أو كاد، والولايات المتحدة أصبحت في موقع السيطرة والمستفيد الأول من نتائج الحرب. ونضيف إلى هذا أن التوازن النسبي بين طرفي الصراع المحليين والمباشرين تعدلت أيضًا على نحو واضح، فتدعم الموقف الإسرائيلي، وساء الموقف العربي. حدث هذا لأسباب عديدة، على رأسها اختلال التوازن في التسليح، وليس أقلها إدارة إسرائيل لمعركتها الدبلوماسية بكفاءة أعلى، ومستفيدة من الأدوات المختلفة المتاحة، ولكن لا ننسى أيضًا أن تحيزات هنري كيسنجر شخصيًّا، ليست فوق مستوى الشبهات(34).
ثانيًا – الهجوم المخطط لتقويض الاستقلال الاقتصادي:
(1) الخطوة خطوة، سياسية متكاملة:
إن الموافقة على نزع مخالبنا وأنيابنا، بينما الأرض
لا زالت محتلة، يعني تسلًُّم الولايات المتحدة "للتوكيل المصري" في قضية الصراع. ويعني أننا لن ندفع الولايات المتحدة للتدخل بدافع الضغط والتهديد، ولكن سنجذب انتباهها بالإغراء، ويتضمن الإغراء مشاركة أو منافسة إسرائيل في تحقيق وحماية المصالح الأمريكية. والقرار المصري – بهذا المفهوم – كان قرارًا بالانسحاب في ظروف تبدو مواتية للتقدم. وكان طبيعيًّا أن يطلب من الجانب العربي، ومن مصر بشكل خاص، إثبات حسن النية بعد تاريخ "أسودَ" من الكفاح ضد الإمبريالية.

كان لا بد أن تساعد مصر في إعادة ترتيب الأوضاع داخل المنطقة على نحو يكفل اطمئنان الولايات المتحدة على مصالحها، ويكفل احتواء النتائج التي كانت محتملة بعد الحرب. وداخل مصر، كان استقلال الإرادة (سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا) يتنافى مع "حسن النية" ونبذ أسلوب التهديد. وفي هذا النطاق، لم تكن الخطوة خطوة مجرد تعديلات متتابعة في مواقع القوات العسكرية على الخرائط، فعمقها الحقيقي، تمثل فيما كان يحدث داخل مصر: في ارتباطاتها الدولية – في علاقاتها العربية – في وضع مؤسساتها السياسية وقواتها المسلحة – في التغيرات الأيديولوجية والاقتصادية والاجتماعية – ثم في علاقتها مع إسرائيل. باسم الخطوة خطوة، وبذريعة الأزمات في البيت الأبيض، وانتخابات الرئاسة، والعناد الإسرائيلي، مرت الأعوام واستفادت الولايات المتحدة وإسرائيل من تبدد الجو الساخن الذي أنشأته حرب أكتوبر. والولايات المتحدة (التي كانت منشغلة جدًا في الانتخابات والأزمات) لم تغفل لحظة عن التدخل الفعلي في الشرق الأوسط. الانتخابات كانت تشغلها فقط عن التقدم بمقترحات متكاملة حول قضية الصراع العربي – الإسرائيلي، ولكنها لم تغفل لحظة عن تعميق التناقضات العربية، ولم تغفل أبدًا عن إحكام سيطرتها على مواقعها النفطية في الخليج، ولم تغفل أبدًا عن إحداث ثورة مضادة متكاملة في مصر وغيرها، ولم تنشغل طبعًا
أو تقصر في تسلح إسرائيل. وإثباتًا لحسن النية؛ ولأننا حلفاء الحاضر والمستقبل، كان لا بد أن تقبل القيادة المصرية بكل ذلك، كان لا بد أن تقبل لعبة "الإستربتيز" فتخلع عن الشعب المصري مكتسباته التاريخية.. قطعة قطعةً.. إن هذا التحليل يؤكد المسئولية الجسيمة للقيادة المصرية، فالولايات المتحدة لم تتسلل إلى مصر من النافذة، ولم تقتحم الأبواب عُنوة، ولكنها عادت في وضح النهار، وبدعوة رسمية، ويبدو أيضًا أنها كانت تستعد لهذا اليوم، فتخطيطها كان جاهزًا ومحكمًا(35). وكما قلنا كان هذا التخطيط – تحت عنوان الخطوة خطوة – شاملاً لكافة المجالات.
وفي دراستنا لتطور الجانب الاقتصادي، (كما في الجوانب الأخرى)، ينبغي
ألا نغفل أبدًا عن فرض أن هناك تدبير وتخطيط لإحداث ما حدث.

وتبرر هذا الفرض، مفاهيمنا العامة حول طبيعة العلاقات الدولية، وحول التبعية المفروضة، ودور صندوق النقد والبنك الدولي، ووكالة التنمية الأمريكية، فالأشقاء الثلاثة مؤسسات تخطط وتدير السياسات اللازمة اقتصاديًّا؛ لإعادة إنتاج النظام الدولي القائم على دول مسيطرة ودول تابعة. ومعروف أن هذه المؤسسات تقوم بمجهود مضاعف وأكثر تنسيقًا في الدول التي حاولت التمرد، فبعد نجاح "الجهات الأخرى" في التصفية السياسية لمحاولة الاستقلال، يكون الأشقاء الثلاثة جاهزين لدعم هذا الانتصار بالسياسات الاقتصادية الملائمة لإعادة النظام الاقتصادي إلى أوضاعه "الطبيعية"، أي إلى التبعية من جديد، بأقل آلام ممكنة، وبأقصى سرعة. وفي حالة مصر، بدورها القائد في صراعات ومستقبل المنطقة، لا نتصور أن يكون الموقف مختلفًا. إن الممارسة الاقتصادية هي، في التحليل النهائي وبالتحديد، الممارسة المرتبطة مباشرة بتوفير الحاجات المعيشة لمجتمع ما. والتوصل (عبر طرق مختلفة) إلى أن تكون إدارة النسق الاقتصادي من الخارج، تأكيد لتبعية هذا المجتمع لمن يديرون نسقه الاقتصادي.
وكما كان استخدام احتلال الأراضي مجالاً للعمل المخطط والتآمر السري، ويساعد في محاولات استعادة الولايات المتحدة بالذات لإدارة النسق الاقتصادي المصري، فإن الهجوم على الجبهة الاقتصادية – بهذا الهدف – لا بد وأن يكون بدوره مجالاً للتخطيط والتآمر السري المدبر، وتستفيد من نتائجه سياساتٌ الخطوة خطوة في جبهة الصراع العربي – الإسرائيلي، وفي الجبهات الأخرى.
ومع ذلك فإن فرض "التدبير والتخطيط الخارجي لإحداث ما حدث في إدارة وبنية الاقتصاد المصري" لا يقوم فقط على الاستدلال المنطقي؛ فالمعلومات المتاحة – رغم أنها غير كاملة بطبيعة الحال – تؤيد صحة هذا الفرض (كما يتضح من فصول الكتاب – خاصة من السادس إلى العاشر) وسنلحظ أيضًا أن استخدام هذا الفرض، يساعد في تفسير كثير من التطورات التي يصعب تفسيرها بغيره. وغنيٌّ عن البيان أن تركيزنا على دور المخططات الخارجية، لا يعني إغفال القوَى الاجتماعية والسياسية المحلية، ولكن التركيز يعني أن القوة الخارجية – بإمكانياتها المختلفة – كانت القائد والمخطط لمسار الثورة المضادة. وهذا طبيعي؛ فالثورة المستقلة تتطلب - بحكم تعريفها - قيادة محلية وعقلاً مستقلاً، والثورة المضادة لإملاء التبعية تتطلب – أيضًا بحكم تعريفها – قيادة خارجية. يتطلب الأمر طبعًا استخدام أدوات محلية، ولكن العقل والقيادة للقوى التي تفرض سيطرتها. وعلى كلٍّ، فإن الخلاف في هذا الأمر، لا يعكس خلافًا نظريًّا، بقدر ما يعبر عن نجاح الممارسات السرية في إخفاء الدور الحقيقي للقوى الخارجية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، في القطاع الاقتصادي (كما في القطاعات الأخرى) (36).
(2) بيع الأحلام:
أ- كان الموقف بعد أكتوبر 1973 يشيع – من الناحية الاقتصادية – تفاؤلاً عامًا بإمكانيات المال العربي، وبإمكانيات الموقف الجديد للولايات المتحدة، وللغرب بشكل عام. والقفزة الهائلة والسريعة في الفوائض المالية العربية بالذات، خلقت حالة غريبة من انعدام الوزن "في المنطقة العربية، لا عند النفطيين فقط، ولكن عند جيرانهم أيضًا، وفي غياب تصور نظري متكامل، ومع سيادة قصر النظر السياسي، وتقلص الإرادة المستقلة، كان لا بد من تفاقم الحالة، وأصبح هناك وهمٌ عام بأن تيارًا متدفقًا من الأموال السهلة في طريقه إلى مصر؛ ليحل كافة المشاكل. ولم يكن الوهم بلا أساس، فالأموال العربية كانت بالفعل متغيرًا يبشر بإمكانية إيجابية كبيرة، ولكن تحول الإمكانية إلى فعل كان يحتاج عديدًا من الشروط المعقدة، والتعامل مع الإمكانية كما لو كانت فعلاً متحققًا يفضي إلى كوارثَ.






آخر مواضيعي 0 أنا أَيضاً يوجعنى الغياب
0 ﺃﻋﺪُﻙ !
0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 أنا وانتي.. حكاية بريئة
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
رد مع اقتباس
قديم 06-07-2011, 02:07 PM رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة

وقد أسهمت الولايات المتحدة في إذكاء هذا الوهم، وفي إشاعة المفاهيم الخاطئة؛ كغطاء أيديولوجي لغزوها السلمي– ومؤكد أن إسهامها كان مخططًا، ومؤكد أيضًا أنها تمكنت - من خلال حلفائها وعملائها - من التشويش الناجح، فتصرفت غالبية القوى الوطنية بوحي من الحلم اللذيذ، حلم تدفق البترو/دولارات، والدولارات التي تمكننا من استيراد كل ما حُرمنا منه، وخاصة في مجال الاستهلاك؛ أسوة بإخواننا النفطيين. وحتى في مجال التنمية، كان الحلم اللذيذ يقضي بأن العملية أصبحت ميسرة مع تدفق الأموال من الخارج.
ب- والتحرك الواعي لتسويق هذا التصور الجديد كان نشطًا في كل المستويات، فنقرأ مثلاً في وثيقة للبنك الدولي (مفروض أنها محظورة النشر، أيّ مواجهة لقيادات النخبة السياسية الحاكمة) كلامًا ورديًّا حول المستقبل الجديد للاقتصاد المصري، تقول الوثيقة: "إن هناك تزايدًا ضخمًا في القدرة المالية في العالم العربي، ولمصر موقف فريد حياله يرجع إلى عدة عواملَ مركبة: دور مصر التاريخي الطويل والثقافي في المنطقة، ومناصرتها النشطة والمتواصلة للقضية العربية، وزعامتها السياسية، وحجمها بوصفها أكبر دولة عربية، وذات صناعة وهياكل مالية متطورة، وقوة عمل. وتلك العناصر مجتمعة، تجعل مصر تتمتع بموقف لا مثيل له في المنطقة يجعل في إمكانها جذب استثمار الأموال من الدول العربية الغنية بالبترول، ومن جهة أخرى، إمداد هذه الدول بعدد كبير من العمال المهرة، الأمر الذي ينجم عنه تحويل مقدار كبير من النقد إلى مصر" (37).
ج- وفي تقرير آخر (محظور النشر أيضًا) مقدَّم إلى اجتماع مغلق لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (oecd) ينكشف حجم الوعود المحددة التي أغرقت بها القيادات السياسية المصرية. يقول التقرير: "كان متوقعًا بعد زيادات سعر النفط في أكتوبر وديسمبر 1973، أن كمية تقرب من 5 بليون دولار، قد تتدفق من فوائض الدخول المتعاظمة للدول العربية المنتجة للنفط، إلى الدول العربية الأقل ثراء، وبالتحديد إلى مصر. ومنذ ذلك الحين، كانت هناك تقديرات بأن مصر وحدها تلقت وعودًا بما يزيد على 5 بليون دولار كمعونة واستثمار. وبالإضافة لذلك، تلقت مصر أيضًا تعهدات سخيَّة من كل الدول الغربية الصناعية، ومن الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية" (38).
د- والحقيقة أن زيارة الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون للقاهرة (12 يونيو 1974) كانت قد سبقتها زيارة لروبرت مكنمارا (رئيس البنك الدولي – 27 فبراير 1974)؛ حيث قابل الرئيس السادات، وأبلغه أن البنك سيُولي مصر اهتمامًا خاصًا إذا "صححت" سياساتها الاقتصادية، وفق توصيات صندوق النقد الدولي.. وفي مايو وفدت بعثة الصندوق لمناقشة المسئولين، وتقديم "التوصيات". أيضًا سبقت زيارة نيكسون جولات لوزير خارجيته في منطقة الشرق الأوسط. ومنذ جولته الأولى (5 نوفمبر 1973)
لم يكن كيسنجر يعد لاتفاق النقاط الست عند الكيلو 101،
ثم لاتفاق الفصل الأول للقوات (17 يناير)، بمعزل عن تصور عام وتام للدور الأمريكي في المنطقة العربية، أو بمعزل عن تصور للتطورات المرتقبة في العلاقات الثنائية بين مصر والولايات المتحدة، ونجحت جهود كيسنجر في إنشاء لجنة التعاون المشترك برئاسة وزيري الخارجية المصري والأمريكي (31 مايو). ومعروف الآن أن أحاديث كيسنجر مع كبار المسئولين – في تلك الفترة – تضمنّت وعودًا بمساعدات اقتصادية سخيَّة. ويؤكد هذا اعتراف "شيهان" (المطِّلع والقريب الصلة من هنري كيسنجر)، فهو يقول: "إن جوهر سياسة كيسنجر بشأن الشرق الأوسط، كان ذا مستويين: المستوى الأول، هو احتواء النزاع العربي الإسرائيلي الذي اعتبره مُستعصيًا تقريبًا، "أمَّا المستوى الثاني فهو الترويج للتكنولوجيا الأمريكية، التي يتوقُ إليها العربُ جميعًا (بما في ذلك الراديكاليون) والتي تساعده على كسب الوقت بينما يقوم بالانتهاء من المشكلة الأولى: وكان يقول للعرب: إنني أعرف ما تريدون وهو عودة أراضيكم، الأمر الذي اجتهد في تحقيقه، وفي الوقت نفسه سأقدم لكم كل شيء تريدون الدخول في مناقشته من أجل القرن العشرين". وبالنسبة للمسئولين المصريين: "كانت السياسة الموازية (أي: المستوى الثاني) تعني التأييد الأمريكي والأموال الأمريكية وتشجيع المستثمرين الأمريكيين، وأمراء البترول على إنقاذ الاقتصاد المصري – وناهيك عن تشجيع دول غرب أوربا على بيع الأسلحة للسادات؛ نظرًا لأن مخطط كيسنجر الطويل الأمد هو القضاء على الاتحاد السوفيتي باعتباره مصدر الأسلحة الرئيسي بين الدول العربية" (39).

هـ- ولم يقتصر الأمر على الوعود، فقد تطلبت اللعبة التلويح ببعض "البشائر" فقفز رقم المنح المقدم من الأقطار العربية النفطية أثناء حرب أكتوبر وبعدها، وكذلك خلال عام 1974. وبعد اتفاقية الفصل بين القوات، اكتظت الفنادق بطوابير ممن جاءوا بصفة مستثمرين، ويبدو الآن أن أغلبهم كانوا جواسيس وأفاقين، أو على أحسن الفروض، مستثمرين غير جادين. وإلى جانب هؤلاء تدفقت عروض شركات البترول العالمية – وخاصة الأمريكية – لعقد اتفاقات (من 22 نوفمبر 1973 حتى 18 ديسمبر 1974 كان العدد 23 اتفاقية منها 21 مع شركات أمريكية). وفي تلك الفترة بالذات (بعد الارتفاع الكبير المفاجئ في أسعار النفط) كان هذا التدفق لشركات البترول ذا أثر نفسي ساحق.
و- قدم نيكسون وكيسنجر إلى السادات - في تلك الأيام- "العديد من الوعود – وعودًا بتقديم مساعدات اقتصادية، وأخرى بتزويد مصر بقوة نووية تُستخدم في الأغراض السلمية" (29). وكان "مجموع المساعدات والاستثمارات الأمريكية المتوقع بثقة – أثناء زيارة الرئيس نيكسون – يصل إلى 2000 مليون دولار كحد أدنى(40).. ولذلك، وحين تقرر إصدار القانون رقم 43 لسنة 1974 لاستثمار المال العربي والأجنبي والمناطق الحرة، كانت مناقشته تعكس هذا الجو العام؛ فالحكومة متعجلة لإصدار القانون؛ تعبيرًا عن جديتها في فتح الأبواب "لاستقبال الأموال" قبل وصول نيكسون، وبالفعل قدمت المشروع في 19 مايو 1974، وتشكلت لجنة مشتركة من اللجنة التشريعية واللجنة الاقتصادية، ولجنة الخطة والموازنة ولجنة القوى العاملة (في مجلس الشعب) لدراسة المشروع على وجه السرعة، فعقدت اللجنة المشتركة أول اجتماعاتها في يوم 21 مايو، ورغم أن المناقشات تميزت بالترحيب الساذَج والسوقي، فإن أية كلمة تحفُّظ كانت تثير رعب ممثل الحكومة، فيسرع إلى تحذير الأعضاء "تعلمون أن رأس المال حساس، وأخشى مع حرية الصحافة التي نحرص عليها جميعًا، وحرية المناقشة، أن تنقل بعض عبارات يساء فهمها في الخارج؛ فالغاية التي نتوخَّاها جميعًا، هي الانفتاح على الدنيا دون خوف" (41).. ورغم أن اللجنة المشتركة كانت تعقد الجلسات المتوالية، وتندفع في إنجاز المهمة، نجد أن ممثل الحكومة يقول: "إن الحكومة ترجو من السيد رئيس اللجنة بوصفه وكيلاً للمجلس، التعجيل بنظر مشروع قانون استثمار المال العربي والأجنبي"(42)، وحين انتهت أعمال اللجنة في أول يونيو كان رئيس المجلس في ذلك الوقت (حافظ بدوي) يقول كلامًا من قبيل "نريد أن نحس بإشراقة فجر جديد، نريد أن نحس بالدنيا وقد تفتحت لنا، فنحن في حاجة إلى أن نفتح الأبواب، نحن في حاجة إلى أن يطل علينا الفجر الجديد (...) أرجو أن نفتح للرخاء أبوابنا، وأن نفتح في الحياة آمالنا، وأن ننظر بعيدًا عن هذه المحاذير التي سمعتها من الأخ أحمد طه (عضو يساري في المجلس)، نريد أن نبتعد قليلاً عن هذه المحاذير، ولنعتمدْ دائمًا على الله"(43).. وحتى رجل أكثر احترامًا كعبد العزيز حجازي، (كان النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء) كان يدلي بكلام يقرب أحيانًا من الهذيان. كان في وضع المدافع الأول عن مشروع القانون، وكان يُسكت أي معارضة، بمجرد الإشارة إلى فيض الأموال والمشروعات التي تنتظر قانون الاستثمار؛ ففي الجلسة العامة لمجلس الشعب، أعلن أن "هناك مبالغ كبيرة معروضة علينا؛ كقروض أو مساهمات في مجالات كثيرة؛ كالبترول والبتروكيماويات والغزل والنسيج، واستصلاح الأراضي، وكل هذا يؤكد وجود الثقة، وبقي توفير الحوافز للمستثمر".. وعند تحفظ البعض على تأجير الأراضي الزراعية للأجانب، قال عبد العزيز حجازي: إنه "يود أن يقول بهذه المناسبة، إننا الآن بصدد مشروعين صغيرين معروضين علينا، في مساحة 300 ألف فدان غرب النوبارية؛ الأول لتربية الحيوان، والثاني لتحديث وتصنيع الإنتاج الحيواني، فهل يجوز لنا أن نرفض أحد هذين المشروعين؟ بالطبع لا". ورغم تصفيق الغالبية لهذه البشائر، أضاف الرجل بشرى أخرى: "فعلى سبيل المثال، تقدم المستثمرون اليابانيون بعرض لاستصلاح واستزراع مساحة نصف مليون فدان في الأراضي الصحراوية، على أن يستخدموا في هذا المشروع كل إمكاناتهم وخبراتهم للبحث عن المياه الجوفية، واستزراع هذه المساحة، مع تحملهم كافة الأعباء، كما يحدث تمامًا بالنسبة للبحث عن البترول... فهل نرفض تعمير الصحراء؟ لا أعتقد أن أحدًا منا يوافق على ذلك، وبالتالي فمثل هذه المسائل يجب أن نتناولها بأفق واسع ورحب"(44).
وسط هذا الطوفان من التصريحات الوردية، وافق مجلس الشعب في حماس عارم على القانون 43 لسنة 1974، وفي جلسة واحدة (9 يونيو 1974)، وقبل وصول نيكسون بثلاثة أيام.. وكان التفاؤل الاقتصادي غارقًا في التفاؤل السياسي العام للمسئولين بالنسبة لموقف الولايات المتحدة، بعد اتفاقية يناير. كانت التصريحات تؤكد مثلاً "أن كيسنجر استطاع – تحت قيادة الرئيس نيكسون – أن يحدث ثورة رائعة في السياسة الأمريكية في منطقتنا"(46). وقيل: "إن الموقف في أمريكا تغير تغيرًا حاسمًا"(47).. وتعبيرًا عن هذا التفاؤل، بدأ العمل فعلاً في تطهير القناة وفي التعمير، وصرح الرئيس بأنه يفكر في مستقبل مئات الألوف من الجنود والضباط الأبطال الذين حققوا لمصر معجزة العبور، وأنه يرى أن الدولة لا ينبغي أن تكتفي بأن توفر لكل منهم معاشًا، بل يجب أن تعد له عملاً يحبه ويسعده (48).
ز-.. وهكذا تضافر التضليل الأمريكي مع المماشاة الكاملة من القيادة السياسية، ومع التطلع إلى الخير الغامر عند فتح الأبواب، وانعكس ذلك في أغرب ترحيب برئيس الولايات المتحدة، الذي قتلت أسلحته إخواننا وأبناءنا منذ شهور. وكان نيكسون ومن معه على رأس المندهشين، ويبدو أن المرافقين له أدركوا أن حملة الوعود والتضليل وصلت إلى أبعاد تنذر بالخطورة والنكسة، حين يثبت كذبها (49).
وبالفعل، كان البيان المشترك – في ختام الزيارة – بداية للإحباط؛ فلم يكن هناك التزام محدد بمعونات عاجلة بأي قدر، واكتفى بوعود عامة أو محدودة مثل "وقد وافقت الولايات المتحدة على المساعدة في تدعيم الهيكل المالي لمصر. ولدفع هذه العملية يزور مصر في المستقبل القريب وليم سايمون وزير الخزانة للولايات المتحدة أقصى مساهمة ممكنة للتنمية الاقتصادية في مصر؛ وفقًا لتفويض من الكونجرس، وتشمل تطهير قناة السويس، ومشروعات التعمير، وإنعاش التجارة المصرية. وبالإضافة إلى ذلك، ستولي الولايات المتحدة اهتمامًا ذا أولوية خاصة، لاحتياجات مصر من السلع الزراعية".. وإذا لاحظنا أن قرار المساهمة في تطهير القناة وفي التعمير سبق زيارة نيكسون، ولأسباب تتعلق بتأكيد أثر فصل القوات، وتدعيمًا لسياسة التهدئة في الجبهة المصرية الإسرائيلية، فإن الجديد الذي وعدت به الزيارة يصبح محدودًا جدًا. ولا يغير من ذلك أن ينص البيان على مجموعات العمل المشتركة التي تبحث مشروعات ومقترحات تقدم إلى اللجنة المشتركة التي حدد لها أن تجتمع برئاسة كيسنجر في واشنطن، في أواخر عام 1974. لقد نص البيان على ست مجموعات عمل مشتركة:
1. مجموعة لبحث خطط إعادة فتح قناة السويس، وتعمير المدن على طول القناة ودور الولايات المتحدة في هذه الجبهة.
2. مجموعة لتقديم التوصيات حول زيادة الإنتاج الزراعي باستخدام أحدث المنجزات التكنولوجية.
3. مجموعة لتطوير البحث العلمي وتركز على تبادل العلماء.
4. مجموعة لمساعدة الحكومة المصرية في تطوير الخدمات والأبحاث الطبية.
5. مجموعة لتشجيع التبادل الثقافي من خلال المعارض والزيارات.
6. ثم مجموعة (قد تكون الوحيدة التي بدا أنها تتناول أمورًا واعدة ومحددة، وترتيبها في البيان المشترك بعد مجموعة قناة السويس)، وهي مجموعة عمل مشتركة لبحث وتقديم توصيات بإجراءات تهدف إلى فتح الطريق أمام إسهام الاستثمار الخاص للولايات المتحدة في مشروعات مشتركة في مصر؛ ولزيادة التجارة بين البلدين. وتوجيه فرص الاستثمار وفقًا لاحتياجات مصر للدعم المالي والتكنيكي والمادي من أجل النمو الاقتصادي.
وتشجع الولايات المتحدة وتدعم مشروعات المؤسسات الأمريكية في مصر، وجدير بالذكر أن المشروعات التي يتفاوض بشأنها حاليًا في مجالات: البتروكيماويات، الغذاء والآلات الزراعية، تنمية الأرض الزراعية، الطاقة، السياحة، البنوك – وجمع من القطاعات الاقتصادية الأخرى. وتزيد القيمة التقديرية للمشروعات التي تبحث جديًا عن 2000 مليون دولار. إن التكنولوجيا ورأس المال الأمريكيين بالارتباط مع القدرة الاستيعابية لمصر، ومع قوة عملها الماهرة، وفرص الاستثمار المنتج عندها، ويمكن أن تسهم بفاعلية في دعم التنمية للاقتصاد المصري".
هذا شيء قد يبدو محددًا (لغير المدقق).. وهو رقم قد يتفق مع الوعود التي سبقت الزيارة (2000 مليون دولار) ولكن من المؤكد أن المسئولين المصريين كانوا يأملون في مكونات مختلفة لهذا المبلغ الموعود، كان الأمل في "معونات" سائلة أو شبه سائلة لتدعيم ميزان المدفوعات، وليس في مشروعات هي – على أحسن الفروض – تحت الدراسة
ولم تتقرر بعد، وإذا تقررت، فإن عائدها بعيد (وعلى كل فإنها لم تتقرر حتى الآن!).

وهناك شيء آخر يبدو محددًا ومبهجًا، فتعويضًا عن الأحلام الضائعة في معونات نقدية أو سلفية، أعلنت حكومة الولايات المتحدة في بند خاص، أنها ستقدم إلى مصر التكنولوجيا النووية "ستبدأ الحكومتان المفاوضة حول اتفاق للتعاون في مجال الطاقة النووية، تحت إجراءات أمنية يتفق عليها، وعند إبرام هذا الاتفاق تكون الولايات المتحدة مستعدة لبيع مفاعلات نووية ووقودًا لمصر، وسيمكن هذا مصر مع بداية الثمانينيات من توليد كميات إضافية كبيرة من الطاقة الكهربائية، لدعم احتياجات تنميتها المتزايدة بسرعة"(50).
ولا شك أن هذا العرض كان من أهدافه الإبهار، ولكن كان رأي بعض الفنيين الوطنيين أن بديل المحطات النووية (حال حدوثه في ظروف سياسية معينة) لا يعتبر أفضل البدائل المتاحة لإنتاج احتياجاتنا من الطاقة الكهربائية، ففضلاً عمّا يتضمنه هذا العرض من محاذير اقتصادية وفنية، فإنه يعني– حال حدوثه – تسلُّم مفتاح الطاقة التي تسير اقتصادنا – ودون ضرورة – لقوة عظمى تتعارض مع طموحنا للاستقلال. أي أنه أداة جديدة لفرض الهيمنة. ولم يكن متصورًا بطبيعة الحال أن تسمح الولايات المتحدة باحتمال استخدام هذه المفاعلات في غير الأغراض السلمية. وستستخدم هذه الذريعة لفرض رقابة واسعة مباشرة. ومع كل، كان المفروض أن يشرع في إقامة هذه المحطات عام 1976، وأن تبدأ في العمل عام 1983، ولكن الكونجرس
لم يعتمد الاتفاق حتى الآن. وهذا يؤكد تدخل الاعتبارات السياسية في إقامة وتشغيل محطات نووية، وهو يبدأ أيضًا فرحة من تصوروا أيامها أنهم حصلوا من الولايات المتحدة على شيء محدد.. شيء "يدخلهم إلى القرن الواحد والعشرين"(51).



(3) تصورات التنمية بين القوى الوطنية والبنك الدولي:
أ- إن الأحلام والأساطير التي شاعت حول الأموال التي ستنهمر، انعكست في بعض المناقشات الاقتصادية والتنموية. في أواخر 1973 وأثناء 1974 كان كلام عجيب يكتب ويقال في محافل محترمة. وكان مطلوبًا بالتالي تأكيد بديهيات كادت تضيع في زحمة الأحلام. عبد العزيز حجازي كان يقول مثلاً إننا "كدنا نصبح أفقر شعوب المنطقة، بينما الثراء والبناء والتعمير وعلامات الانتعاش المادي واضحة في الدول العربية الشقيقة من حولنا"(52). وهذا الكلام كان يتكرر على لسان كل المسئولين الكبار، وكل الكُتاب والمحدثين الذين سيطروا فجأة على كل وسائل الإعلام، وكان يتكرر أيضًا على لسان اقتصاديين وفنيين يتحدثون بوقار شديد. كان بعضهم يخرج من هذه المقارنة بأن أداءنا الاقتصادي والسياسي كان منحطًا (وكأن الدول "الغنية" حققت ثراءها بالجد والاجتهاد وليس "بخبطة" البترول!).
فما كان حالنا يختلف عن حالهم بهذه الدرجة لولا الحرب، "ولولا تحويل بلدنا من قطر زراعي إلى بلد صناعي، وتحويل مجتمعنا من مجتمع رأسمالي إلى مجتمع اشتراكي"، ولولا محاولاتنا "لنشر الثورة والاشتراكية من حولنا؛ مما يخلق لنا المتاعب مع دولة عربية وأجنبية حاولت الإطاحة بالنظام الثوري القائم عن طريق تجويعنا بوقف مساعداتها والتآمر علينا، بل العدوان السافر على أراضينا كما وقع في عام 1956. فأثر ذلك كله على اقتصادنا" (كهذا مثلاً كتب وحيد رأفت) (53).
ب- إن انتشار السوقية والتشويش في الفكر الاقتصادي والتنموي، لم يكن مجرد سذاجة؛ فالتخطيطات الخارجية كانت تذكي هذا الاتجاه، ولكن لم يخل الأمر مع ذلك من محاولات لطرح تصورات نظرية على قدر من الجدية؛ لتبيان التعديلات المطلوبة في النظام والسياسات الاقتصادية، للتلاؤم مع المتغيرات الجديدة؛ أي لتحديد المضمون المقترح لما يسمى بالانفتاح الاقتصادي، ونكتفي هنا بالإشارة إلى أطروحات عبد المنعم القيسوني (باعتبار أنه تولى بعد ذلك مسئولية القطاع الاقتصادي) والقيسوني لم يعرف عنه أنه اشتراكي متطرف؛ ولذا كانت تصوراته ترشح القطاع الخاص المصري والعربي دور أكبر، وبالنسبة لأهداف التنمية قال إنه "قد يكون من مصلحتنا أن نبدأ بالصناعات الخفيفة لاستغلال الطاقات العاطلة وأن نعطيها الاهتمام الأكبر، فهي أرخص أنواع الاستثمار. أما الصناعات الثقيلة مثل صناعة الحديد والصلب وغيرها، فإنها تحتاج لموارد كبيرة، وقد يكون من المصلحة أن نؤجلها بعض الشيء" إلا أن القيسوني ظل في ذلك الوقت مدافعًا عن إنجازات الخمسينيات والستينيات لتدعيم الاستقلال الاقتصادي. "فلم يكن كافيًا أن نحصل على الاستقلال السياسي، بل كان لا بد أيضًا أن نسيطر على الأوضاع الاقتصادية في بلادنا". والحديث عن الانفتاح الآن – كما يقول – يأتي بعد أن مصرنا المنشآت الاقتصادية الأجنبية في مصر، وبعد أن سيطرنا على مراكز التحكم الاقتصادي في البلد، وشعرنا أننا مسيطرون على حياتنا الاقتصادي؛ (ولذا) أصبح بإمكاننا أن نفتح بعض المجالات، دون خوف أو تردد لرءوس الأموال العربية والأجنبية". ومن سياق الدراسة يتأكد أن القيسوني كان لا يضع البنوك ضمن "بعض المجالات" المفتوحة، وهو ينص على أن من مهام الانفتاح الأساسية فتح الأبواب للأموال العربية" بالذات، والتعامل مع الشرق والغرب "نفتح على الجميع بلا استثناء"(45)، يعني هذا العرض أنه حتى بالنسبة لشخص كالقيسوني، كان ما حدث بعد ذلك، بعيدًا عن تصوراته.






آخر مواضيعي 0 أنا أَيضاً يوجعنى الغياب
0 ﺃﻋﺪُﻙ !
0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 أنا وانتي.. حكاية بريئة
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
رد مع اقتباس
قديم 06-07-2011, 02:09 PM رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة

ج- إلا أن المحاولة الأهم لطرح تصور نظري تمثلت في ورقة أكتوبر (مايو 1974)، ففضلاً عن صفتها كوثيقة رسمية، فإنها أشمل وأعمق وأكثر راديكالية مما جاء في دراسة القيسوني، وقد وصفت بأنها تصور استراتيجي حتى عام 2000، وحددت في إطار هذا أن استراتيجية التنمية هي جزء من استراتيجية حضارية تهدف إلى خلق إنسان جديد بقيم تتصل بتراث المنطقة، وكان طبيعيًا أن تتناول كافة الممارسات الاجتماعية والسياسية، ولم تنس استهداف خريطة جديدة لمصر. وفي الجانب الاقتصادي، قدمت ورقة أكتوبر تقييمًا إيجابيًا لمنجزات ثورة 23 يوليو، وحاولت أن تعيد الرشد والاتزان أمام المتغيرات الجديدة. جاء في هذه الورقة:
* إن شعبنا قد غير ظروف حياته منذ يوليو 1952، وعلى مدى الاثنين والعشرين عامًا الماضية، ودون إغفال للسلبيات فإن "ما أريد أن أؤكده هو أن التقييم الموضوعي لما حدث يفضي إلى نتيجة لا يمكن أن ينازع فيها منصف، وهي أن المحصلة النهائية كانت إيجابية إلى حدود بعيدة وعميقة".
* "إن النضال من أجل حرية الإرادة الوطنية لا ينتهي بخروج المحتل، ولكنه ممارسة يومية مضنية ومكلفة، وإن كانت ثمارها في المدى الطويل أعظم بكثير مما يتوهم البعض كسبه من أي تبعية".
* "لقد أرجف الذين زعموا أننا نريد أن نلغي الميثاق،
أو أن نعدل عن اشتراكيتنا، أن وثائق الثورة لا تنسخ بعضها، ولكنها تكمل بعضها البعض". وإذا كان منهاجنا الأساسي هو حرية الإرادة الوطنية في اتخاذ القرار، وفي صياغة المستقبل، فإن الممارسة الفعالة لهذه الحرية تقتضي حسابًا دقيقًا لكل ما يحيط بنا من ظروف؛ لنقرر لأنفسنا ما هو خليق فعلاً بتحقيق أهدافنا في البناء والتقدم".

* إن معركة البناء لا تقل مشقة وتعقيدًا عن معركة العبور، وهي مثلها تحتاج إلى التخطيط الدقيق، والعمل الشاق وروح التضحية والعطاء".
* "إن فترة ما بعد الحرب تفرض تضحيات وجهودًا
لا تقل عن تلك التي فرضتها الحرب ذاتها، وعلينا – إذن - أن نتذكر دائمًا هذه الحقيقة، وأن ندرك أن الرخاء يحتاج منا إلى عمل كثير وطويل وشاق". ولكننا "نرفض أن يكون التقدم لصالح قلة تنعزل عن الجماهير، وترتبط بأساليب حياة غريبة عنها. ونريد أن تشارك أوسع الجماهير في صنع التقدم، وفي الاستفادة العادلة من ثمراته"... "إننا يجب أن نفهم الاشتراكية بالعقل والقلب معًا. ولذلك يجب ألا ننقطع عن التفكير في جماهيرنا الأكثر حرمانًا. وفي وسائل توفير أكرم سبل العيش والأمان والتقدم لها، فالأمم تقاس بمستوى قاعدتها العريضة، لا بمستوى قممها القليلة".

* ومع فتح أكتوبر العظيم ونتائجه الواسعة، فإن "دولة مثل مصر بوسعها اليوم أن تمد خطوط التعاون الدولي في اتجاهات متعددة، وأن تستفيد من كل الفرص التي يتيحها الوضع العالمي الجديد، مدركين أن قوتنا الذاتية وروابطنا العربية وعلاقاتنا الإفريقية، وانتماءنا لحركة عدم الانحياز، أسلحة أساسية في أيدينا لنرعى مصالحنا، وندافع عن حقوقنا، ونحول دون أن يتم أي اتفاق على حسابنا".
* "دور القطاع العام في المرحلة المقبلة بالغ الأهمية؛ ففي ظل سياسة الانفتاح وتشجيع القطاع الخاص والاستثمار العربي والأجنبي، يظل القطاع العام هو الأداة الأساسية لتنفيذ أية خطة للتنمية، وهو الذي يتولى المشروعات الأساسية التي لا يقدم عليها غيره؛ ذلك أن القطاع العام هو وحده الذي يمكن أن تلزمه الخطة إلزامًا مباشرًا، في حين أن التخطيط للقطاعات الأخرى له معنى مختلف، ويتم بأساليب غير مباشرة؛ كالضرائب والائتمان والأسعار، والحوافز والإعفاءات، كما أن القطاع العام يظل الأداة الأساسية للتعبير عن الإرادة الوطنية في تشكيل اقتصادنا القومي. إنه الضمان الرئيسي لأن تظل القرارات الاقتصادية الهامة قرارات مصرية، تعبر بالفعل عن استقلال مصر الاقتصادي".
* "إنا ندرك تمامًا أن عبء التقدم والبناء يقع أساسًا على عاتق الشعب المصري (...) أمَّا عن رأس المال الأجنبي فليس عندي من رد على المتشككين خيرٌ مما جاء في الميثاق".. "وقد أوضح الميثاق أننا نقبل المساعدات غير المشروطة والقروض، كما نقبل الاستثمار المباشر في النواحي التي تتطلب خبرات عالمية في مجالات التطوير الحديثة. وهذا بالدقة هو خطنا".
كذلك "فإن الانفتاح الذي أعلناه، هو انفتاح على العالم كله شرقه وغربه؛ لأننا ندرك تمامًا أن تنوع علاقتنا الاقتصادية الدولية هو الأساس المادي لحرية حركتنا السياسية (...) ويهمني في هذا الصدد أن أخص بالحديث أولاً المال العربي".
* "التنمية ليست عملاً عفويًا، يتم كيفما اتفق، في تلقائية كاملة، إنما التنمية عمل علمي يقوم على التنبؤ بالمتغيرات المحلية والإقليمية والعالمية في آجال زمنية معينة، ويعد التصور الوطني لمواجهتها (...) على أن هذا كله يحتاج إلى تغيير وتطوير في فلسفة التخطيط، وفي أجهزته ومسئولياته، ويجعلها أكثر دقة، وأكثر مرونة، وأوسع مخيلة، فهناك التخطيط للقطاع العام، الذي هو رأس الحربة في معركة التقدم والبناء لتحديد أهدافه، وإعادة رسم أولوياته، وهناك التخطيط الذي يخدم الاستثمارات الوافدة، بإعداد الدراسات المسبقة، وبتوفير حاجياته في إطار الاقتصاد القومي في مُجمله".
* * *
هذه النقاط لا تمثل ملخصًا دقيقًا، وقد لا تحيط إحاطة كاملة بالمفهوم النظري العام خلف ورقة أكتوبر؛ فهي نقاط مختارة (وقد لا تخلو من تحيز) بهدف إبراز الموقف الذي اتخذته الورقة حِيال القضايا الأساسية التي كانت، ولا زالت، محل خلاف حاد بين القوى السياسية المختلفة داخل المجتمع. وبالتأكيد فإن هذا الموقف كان يعني أن تأثير القوى الوطنية الواعية كان لا يزال قريبًا من مركز إصدار القرارات الاستراتيجية (55).
د- ومن الطريف أن البنك الدولي حين أراد تلخيص ورقة أكتوبر، ركز على نقاط مختلفة، فكتب "أن الجدل الدائر حول إجراء تغيير في الاستراتيجية الاقتصادية، والاتجاه الذي حددته ورقة أكتوبر، يتلخص أساسًا فيما يلي:
* أدت حرب أكتوبر في عام 1973 إلى توحيد كافة قطاعات المجتمع المصري، وينبغي أن تستخدم تلك الوحدة في "معركة البناء" التي يتمثل هدفها في تحديث المجتمع المصري.
* ويتمثل العنصر الأساسي في عملية التحديث في تسريع النمو الاقتصادي، ويتطلب هذا إجراء تغييرات في مهام القطاعات المختلفة، وفضلاً عن ذلك، فإن مصر تحتاج مساعدة هائلة من الخارج، في شكل معونات مالية وتكنولوجية، ومن ثم يتعين عليها انتهاج سياسة اقتصادية متوجهة للخارج.
* قام القطاع العام بدور حاسم في التنمية السابقة لمصر ولكن أوضحت الخبرة عددًا من النواقص، وبالتحديد فإن هذا القطاع عانى من: أ- إفراط في البيروقراطية. ب- إلحاق بعض الأنشطة التي لا تتفق مع مهمة القطاع العام، وكان ينبغي أن تترك للقطاع الخاص.
بيد أنه في التحليل النهائي نجد أن القطاع العام، قد لعب دورًا إيجابيًا، لا سيما في تنفيذ مشروعات كبرى، وزيادة الإنتاج، ودفع تكلفة سياسة مصر للعمالة الكاملة، وتثبيت الأسعار، وكان المطلوب إعادة توجيه القطاع؛ بهدف تخليصه من العقبات، ورفع كفاءته. وفي المستقبل يكون التركيز الرئيسي لأنشطة القطاع العام على:
أ- أن يكون الأداة الأولى لتنفيذ خطة التنمية (حيث إنه كان القطاع الوحيد الذي يلتزم مباشرة بالخطة).
ب- أن يقوم بالمشروعات الأساسية؛ لتنفيذ خطة التنمية التي لا ترغب أو تستطيع القطاعات الأخرى أن تقوم بها.
جـ- أن يقدم خدمات أساسية للاستثمار الخاص والأجنبيّ.
* القطاع الخاص كعامل منتج كان قد أصابه الشلل؛ وذلك بسبب عدد من "السياسات المتناقضة" في الماضي. وقد حان الوقت لإنهاء هذه الظروف، ولإمداد القطاع الخاص بالاستقرار، والتشجيع لتعظيم الإنتاج.
* ورغم أن العبء الأساسي للتنمية، يقع على كاهل مصر؛ فإنها لا تزال في حاجة إلى قدر كبير من الموارد الأجنبية، وقد أدَّت الأوضاع المتغيرة في العالم أن أصبح توافد الكميات الضروريَّة من رأس المال الخارجي؛ ممكنًا جدًا، إذا توفرت استجابة مناسبة.
وكانت الظروف الجديدة ذات طابعين: الأول كان زيادة الموارد المالية للعالم العربي، فمالكو هذه الفوائض قد يرغبون في استثمار جزء منها في مصر؛ بسبب الروابط التاريخية والحضارية؛ ولأن مصر يمكن أن تقدم ملاذًا اقتصاديًا سليمًا. والعامل الثاني تمثل في الوضع الذي تبوأته مصر بعد حرب أكتوبر والذي حفز الدول الأخرى، إلى أن تأخذ أهدافها وجهودها مأخذ الجد، وترغب في الاستثمار بها. وينبغي أن تمسك الاستجابة المصرية بتلك الفرص الجديدة – وبصياغة ورقة أكتوبر فإن "مسئوليتنا الوطنية لا تسمح بتجاهل هذه الفرص". بيد أن الاستفادة من ذلك تتطلب موقف (توجه للخارج)، وكانت مصر مستعدة لانتهاج هذه السياسة بتوفير كافة الضمانات القانونية الضرورية للمستثمرين الأجانب.
* إن جهد التنمية لا يمكن أن يكون مسألة عشوائية، وإنما يجب أن يتم في إطار مخطط، والأوليات المحددة للخطة ينبغي أن تؤكد على إقامة صناعة حديثة، وزراعة كثيفة ذات عائد مرتفع، وعلى تنمية النفط والطاقة والسياحة.
* وأخيرًا ينبغي التأكيد على أن الأهداف الاجتماعية
لم تهمل، وقد أكدت ورقة أكتوبر على "أن التنمية الاقتصادية لا يمكن أن تستقيم وتنطلق، إلا إذا سايرتها تنمية اجتماعية بمعدلات متكافئة". وكجزء من تنمية اجتماعية متوازنة على نحو أفضل، ينبغي أن يكون هناك نمو متعادل بين الأقاليم، وبذلك يقل التفاوت الذي اتسع بين العاصمة والمحافظات(56).

كان هذا ما فهمه خبراء البنك الدولي من ورقة أكتوبر، وهدفهم يعكس تحيزًا مضادًا لتحيزنا، فقد ركز البنك على ما يرضيه، أو اختصر في النقاط التي يختلف معها، مشوهًا
أو مغفلاً ما كنا نعتبره الجوهر الإيجابي، فبينما ألحت ورقة أكتوبر على مفهوم الاستمرارية في ثورة يوليو، وعرضت كافة تعديلاتها المفترضة في هذا الإطار، عرض البنك هذه التعديلات منفصلة عن أصولها؛ وكأساس لشيء مختلف تمامًا. وارتبط بذلك تجاهل مفهوم الاستقلال في اتخاذ القراءات الاقتصادية، ولم يكن هذا على سبيل السهو؛ فهو يعكس حنق البنك على هذا المفهوم، وبالتالي على الاتجاه العام للورقة. وقد عبر عن هذا الحنق صراحة حين أورد في بند مستقل، وبعد تلخيصه لورقة أكتوبر تقييمه الخاص لسياسة مصر الاقتصادية قبل الانفتاح، فكتب: "أن الاقتصاد المصري – وقياسًا على تطوراته في العقد الأخير – اتسم بهيمنة القطاع العام (عقب التأمينات الواسعة النطاق في 1961)، وبضوابط جامدة على الأسعار، والواردات والاستثمار. وفي الواقع على كافة القرارات الاقتصادية الجوهرية، وكذلك بتخطيط مركزي مفصل لمعظم المشروعات والسياسات، وبلجوء متزايد إلى الأوامر الإدارية كوسيلة لتنفيذ السياسة، وبانعدام المنافسة، وبالإنتاجية المنخفضة في معظم القطاعات، وبمعدل متدهور من الاستثمار والمعونة الخارجية.. وباختصار، أصبح الاقتصاد منعزلاً ومصابًا بالأنيميا، وقد تقدمت ورقة أكتوبر باستراتيجية جديدة جريئة؛ لتمكينه من الخروج من عُزلته النسبية، وأصبحت هذه الاستراتيجية معروفة باسم: سياسة الانفتاح، وتعني أساسًا: التحرك نحو اقتصاد أقل صرامة، ويسمح فيه لكل من القطاع الخاص والاستثمارات الأجنبية بدور نشِط وتنافسي" (57).

هذا التقييم القاتم يعكس رفض البنك للمضمون الأساسي لورقة أكتوبر ولمفهومها في الانفتاح. ولا يتسع المجال لعرض رأينا. ولكن لا بد أن نشير إلى أن تقرير البنك الدولي نفسه عرض في موضع آخر تقييمًا مختلفًا لتجربة التنمية المصرية في الستينيات: "فخلال الفترة 60 – 1967 نما الناتج المحلي الإجمالي بمعدل حقيقي 6% سنويًا تقريبًا – في المتوسط. وقد رافقت ذلك زيادة مطردة في مستوى الاستثمار الذي وصل إلى 18% من الناتج المحلي الإجمالي، وفي المدخرات المحلية (أكثر من 14% في 66/ 1967). وحتى منتصف الستينيات، كان هناك تدفق ملموس لرأس المال الخارجي. وبعد حرب 1967 ضعفت الاستثمارات بسبب تحويل الموارد إلى مستلزمات الدفاع؛ ولنضوب تدفق رءوس الأموال (إلى مصر). خلال 68 – 1972 كان صافي التدفق متجهًا إلى الغرب إذا أخذنا في الاعتبار (سداد) فوائد الديون. وكان هناك تدهور في مستوى الاستثمار (وصل إلى 12% من الناتج الإجمالي في 1972) وفي معدل النمو للناتج المحلي الإجمالي، فكان في المتوسط حول 3% سنويًا بالأسعار الثابتة، في الفترة 67 – 1973. وانخفضت أيضًا المدَّخرات المحلية إلى حوالي 8% من الناتج القومي في 1973" (58).
هذا التقييم – مع تحفظنا – يختلف تمامًا عن التقييم السابق، فالمعدلات التي اعترف بها – حتى 1967 – تعني تسليمًا بنجاح جهود التنمية في مرحلة التأميمات الواسعة، والتحليل لهبوط المعدلات بعد 1967 يشير إلى الحرب والضغوط الغربية، وليس إلى "مصيبة" القطاع العام والتخطيط المركزي كما قيل في التقويم السابق!
على أية حال، كان اهتمامنا بمنظور البنك الدولي؛ بسبب أن هذا البنك هو المرجع الفني المختص للدول الغربية ولدوائر الأعمال، فيما يختص باستراتيجيات التنمية في الدول التي يتعامل معها. ورغم أن البنك الدولي كان في هذه المرحلة – كالولايات المتحدة وصندوق النقد – يتحسس الخطى، وحَذِرًا في إبداء الملاحظات، فإن معارضته لمفاهيم ورقة أكتوبر كانت واضحة حسب العرض السابق، وزادها وضوحًا في فقرة تقول – تحت عنوان (عوامل ضغط على التنمية) – إن "الاستراتيجية الجديدة التي وضعت خطوطها في ورقة أكتوبر، قد تفتح مجالاً للتنافس بين الأهداف واتباعها جميعًا، وفي نفس الوقت يمكن أن يكون بمثابة فرملة للتنمية، ويمكن تحديد مجالات هذا التنافس المحتمل في: توزيع عادل للدخل يتعارض مع الحوافز التي ينبغي توفيرها من أجل نمو القطاع الخاص – الحماية المفروض تقديمها للصناعة، ونتائج ذلك على الكفاءة الاقتصادية – ترشيد نظام الأسعار (ويشمل كلا من الأسعار المحلية وسعر الصرف) من ناحية، وتثبيت الأسعار من ناحية أخرى – اللامركزية في اتخاذ القرار، وفي مواجهتها الحاجة إلى الإبقاء على بعض أهداف اجتماعية محددة مركزيًّا" (59).
* ولكن ينبغي أن نسجل أن ورقة أكتوبر كانت بالفعل نشازًا غريبًا وسط النغم السائد، وسجلت "الطليعة" وقتها هذه الملاحظة، فكتبت: "ماذا بعد الموافقة على ورقة أكتوبر؟ مفروض أن الوثيقة أصبحت إطارًا للتحرك السياسي في مختلفة مؤسسات الدولة، ونرجو أن تكون المبادئ التي تضمنتها دليلاً يوجه الحوار، ويحصر الخلاف في المرحلة المقبلة".. وأشارت الطليعة إلى تعارض الورقة مع اتجاه الإعلام "فعلى ضوء الوثيقة لم يعد مقبولاً مثلاً أن تصور المرحلة الماضية على أنها مجرد كم هائل من السلبيات، وعلى ضوء الوثيقة لم يعد مقبولاً أن ينكر البعض كل ما جاء في الميثاق".. كذلك لم يعد مستساغًا نشر أفكار خاطئة عن الأسباب الموضوعية للمتاعب الاقتصادية. لم يعد مستساغًا تصوير هذه المصاعب، على أنها مجرد نتاج للقطاع العام والسياسات "الاشتراكية" الخاطئة. وأن مجرد فتح الأبواب، بلا حساب سيقدم حلاً سحريًّا لكل المشاكل (..) أيضًا لم يعد مقبولاً أن يمتد الحوار إلى المقارنة بين اقتصاديات السوق، واقتصاديًّا التخطيط المركزي، وأيهما أفضل.. فقد حسمت هذه القضية". كذلك "أكدت الوثيقة ما نص عليه دستورنا في المادة 30 حول دعم القطاع العام". "هذه مجرد عينة من المبادئ التي تحددت في ورقة أكتوبر. وهي تختلف مع كثير ما قرأناه وشاهدناه خلال الأشهر الماضية في وسائل إعلامنا" (60).
كانت ورقة أكتوبر آخر محاولة من العناصر الوطنية في الدولة للتصدي نظريًّا للغزو الخارجي وضغوط أعوانه (61). والنقد الحقيقي لورقة أكتوبر أنها كانت مجرد ورقة، وقد خنقت إعلاميًّا حتى ماتت. وبعد ثلاث سنوات من الانتكاسات الفعلية أعلن الرئيس السادات دفنها رسميًّا مع كل المواثيق السابقة للثورة. إن هزيمة ورقة أكتوبر، وما رشحته من سياسات، لم تكن هزيمة في ندوة فكرية مع البنك الدولي، وما أشبه، فهي هزيمة ولدتها كل القوى التي تناولناها. والبنك الدولي بالمناسبة لم يقتحم الميدان على نطاق واسع في العام الأول للانفتاح، منتظرًا دور الحكومة الأمريكية وصندوق النقد.
(4) صندوق النقد الدولي (المطالبة بخفض سعر الصرف وإلغاء الدعم):
أ- بحثنا في الفصول (2، 3، 4) تدخلات الحكومة الأمريكية المباشرة وتدخلات البنك الدولي على مستوى المشروع والقطاع، وتوجنا البحث بمحاولة لإعادة تشكيل صورة عامة، أيدناها بعرض معلومات مركزة ومتكاملة لشرح طبيعة الهيئات الدولية واستراتيجيتها في فرض وإدامة التبعية بقيادة الولايات المتحدة، وحاولنا أن نعمق هذا العرض نظريًا (الفصل 5). وبدءًا من هذا الفصل يتناول التحليل متابعة تدخل القوى الخارجية (بشكل مباشر أو غير مباشر) على مستوى الماكرو لإحداث التغييرات المناسبة في بنية الاقتصاد القومي ككل. والتدخل على مستوى الوحدة والقطاع (التدخل من أسفل) والتدخل على مستوى الاقتصاد الكلي أكثر خطرًا. ووصل القوى الخارجية إلى درجة التأثير الفعال على الإدارة المركزية للاقتصاد الكلي أكثر خطرًا. ووصول القوى الخارجية إلى درجة التأثير الفعّال على الإدارة المركزية للاقتصاد يعني أنها ضمنت تحقيق هدفها الرئيسي، فالتدخل على مستوى الوحدة يتحدد إطاره، ويتغلغل، بقدر نجاح القوى الخارجية في صياغة استراتيجية التنمية والسياسات الاقتصادية، والمؤسسات المنفذة لهذه السياسات.
وقد "ظلمنا" في الواقع دور صندوق النقد الدولي في الحالة المصرية، فدوره أثناء تحليلنا للديوان المصرية لم يظهر بالقدر الذي يتكافأ مع خطورة هذا الصندوق كما شرحناها، أو مع حقيقة الدور الفعلي الذي أداه. وعذرنا في ذلك هو السرية التامة التي أحاطت تحركات الصندوق؛ بحيث
لم يظهر اسمه في الوثائق المعلنة إلا لمامًا، ولكن آن لنا "أن نرد اعتباره"، ونكشف دوره الطبيعي كرأس حربة في الهجوم المشترك.

ب- كانت آخر "مشاورات" أجريت مع صندوق النقد الدول قبل حرب أكتوبر في الفترة 10 – 19 فبراير 1973"(62). جاء في قرار مجلس المديرين التنفيذيين للصندوق (13 يونيو) بعد بحث التقرير المقدم عن نتائج المشاورات:
* بعد عامين من استعادة ملموسة للحيوية الاقتصادية تحت ظروف من الاستقرار النسبي، تباطأ نمو الاقتصاد المصري منذ 1970، وبرزت من جديد ضغوط على الموارد ومع الضوابط الشاملة للأسعار، انعكست هذه الضغوط أساسًا في مصاعب ميزان المدفوعات. ويعتقد الصندوق أنه لا بد من تدعيم السياسات المالية، وبالتحديد يجب الحد من اعتماد الحكومة على الجهاز المصرفي.
* تدعو الخطط الرسمية لزيادة الاستثمار؛ من أجل رفع معدل النمو الاقتصادي. ويعتقد الصندوق أن تحقيق هذا الهدف سيحتاج إعادة توجيه السياسات الاقتصادية؛ بحيث تحسن تخصيص الموارد وتخفف الضغط على النقد الأجنبي.
* وقد اعترفت السلطات المصرية لبعض الوقت بضرورة إصلاح جذري في نظام النقد الأجنبي يحقق تحسنًا متواصلاً في القطاع الخارجي، ويقلل الاعتماد الكبير الحالي على الضوابط والاتفاقات الثنائية. وأثناء الأعوام الأخيرة اتخذت خطوات محدودة في هذا الاتجاه، وكانت النتيجة على أي حال نظامًا معقدًا من تعدد أسعار الصرف. ويعتقد الصندوق أنه من مصلحة مصر أن تشرع بلا تأخير في إصلاح أساسي لنظام النقد، وهو يوصي في الأثناء بتبسيط التعدد في أسعار الصرف، وبتوسيع نظام الحوافز. ويجب أن تبذل جهودٌ متزايدة أيضًا؛ لإنهاء الترتيبات اتفاقات الدفع الثنائية مع أعضاء الصندوق.
ج- كانت المشاورات، في نطاق المشاورات الدورية التي يجريها الصندوق مع الأعضاء؛ وفقًا للمادة 14 من اتفاقيته، التي سمحت للدول الأعضاء؛ بتطبيق ترتيبات مؤقتة قبل الانتقال إلى الالتزام العام الذي تفرضُه المادة 8 من الاتفاقية (إعلان حرية تحويل العملة – الامتناع عن فرض أيَّة قيود على المدفوعات الجارية المستحقة إلى غير المقيمين – عدم التمييز بين الأعضاء في المعاملات الخارجية إلا بموافقة مسبقة من الصندوق). وتتراوح الترتيبات التي يقبلها الأعضاء، أو يقبلها الصندوق بين بدائلَ كثيرة. وعلى ذلك كان القرار المُتخذ قبل الشروع الفعلي في سياسة الانفتاح، يشير باتجاه "التوصيات" التقليدية للصندوق، ولكن بتحفظ شديد، والتوصيات ذات الصياغة المحددة تقتصر على الحد من اعتماد الحكومة على الجهاز المصرفي (وهذا مطلب لا يعترض عليه)، أما الإصلاحات النقدية فيبدو أن السلطات المصرية أنشأت السوق الموازية (سبتمبر 1973) كاستجابة "محدودة" لهذه التوصية (بالإضافة إلى اعتبارات واقعية). وبالنسبة لاتفاقيات الدفع (التي يعترض عليها الصندوق من حيث المبدأ) اقتصرت المطالبة على أن تنهي بعض الاتفاقيات مع الدول أعضاء الصندوق (أي: استُثنيت مجموعة الدول الاشتراكية).
* وفي مايو 1974 – بعد إعلان الانفتاح وقبيل زيارة نيكسون – وفدت بعثة من الصندوق لإجراء مشاورات جديدة برئاسة جون جنتر. كانت المشاورات هذه المرة أكثر شمولاً، والتوصيات أكثر صراحة. ويشير تقرير البعثة إلى العجز في ميزان المدفوعات وتراكم المتأخرات. وقد أبدت البعثة انزعاجها من حجم القروض، وأن نسبة كبيرة منها ذات طبيعة قصيرة الأجل (1/2 الدين كان يستحق خلال 4 أعوام) وهذه القضية – كما يقول التقرير – كانت تقلق أيضًا الجانب المصري، وإعادة التوازن – من وجهة نظر الصندوق – لن يكفي في علاجها الدخل المتوقع من القناة أو البترول كما اقترح الجانب المصري، فالأمر يتطلب إصلاحًا جذريًّا للقطاع الخارجي، يكون مدخلاً للإصلاح الاقتصادي الشامل، "فالقطاع الخارجي – بمنظور سياسة الانفتاح – يقدم الموقع الأفضل لبداية عملية الترشيد. وهذه العملية ينبغي أن تستند إلى أساس من سياسة ملائمة للنقد الأجنبي. والخطوات التي اتخذتها بالفعل السلطات المصرية تمثل بداية (تطبيق سوق موازية رسمية مع إجراءات نحو لامركزية القرار، فيما يتعلق بالتجارة الخارجية).
ومن المهم دعم هذه البداية كخطوة رئيسَةٍ نحو إنشاء سعر معدل وحيد للصرف، عند مستوى واقعي، وإعادة هيكلة الأسعار في قطاعات التجارة الداخلية والخارجية، وفي نفس الوقت، فإن المؤسسات المسئولة تحتاج إلى إصلاح، وبالتحديد فإن برنامجًا ديناميكيًّا لزيادة الصادرات لا بد أن يُنَفَّذ.
وتعتقد البعثة أن الوقت مناسب لتلك الإجراءات، ومن المسلم به أن تلك الإجراءات، سيكون لها تأثير على الأسعار المحلية، ولكن الزيادات في بعض الأسعار ضرورية؛ لتغيير التوازن النسبي بين القطاعين المحلي والخارجي؛ حتى تخفف حدة اختناقات النقد الأجنبي عبر الزمن (التشديد للمؤلف).
ولكن الجانب المصري لم يتفق في المشاورات حول مناسبة الوقت لهذا الاندفاع في الإجراءات، فيسجل تقرير البعثة أن المسئولين المصريين يوافقون على هدف التوسع في السوق الموازية؛ وصولاً إلى سعر واحد للصرف، ولكن "كانوا يرون أن مثل هذه الخطوة الكبيرة قد تؤدي إلى استنزاف كبير لموارد النقد الأجنبي المتاحة، أو إلى معدل عالٍ من زيادة السعر؛ ولأن هذه النتائج قد تضعف القبول الذي تلقاه سياسة الانفتاح؛ فإنهم يميلون إلى اتخاذ منهج تدريجي".
* والحقيقة أن شرح خبراء البنك الدولي لملابسات اللحظة التي رآها الصندوق مناسبة للتوسع في تنفيذ برنامجه التقليدي، يدعم رؤية المسئولين المصريين آنذاك؛ إذ يقول البنك: إنه "تتعين ملاحظة أن هذه السياسة للتحرر الاقتصادي، قد اتبعت في مناخ سياسي واقتصادي دولي غير مواتٍ إلى حد بعيد". ويقصد التقرير بهذا المناخ أنه "كانت تسيطر على اقتصاد مصر في عام 1974 ضغوط منبعثة من القطاع الخارجي، ولكنها انتشرت على بقية الاقتصاد. فعلى الجانب الخارجي، اشتملت الضغوط على التقدم البطيء نحو السلام في الشرق الأوسط، وعلى الارتفاع الشديد في أسعار واردات مصر الرئيسَة، والانكماش في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وبطء المسحوبات من المعونات السهلة ومن رأس المال الأجنبي الخاص. وعلى الجانب المحلي، أدى تصاعد الأسعار العالمية للغذاء إلى زيادة صافي دعم الموازنة لمواد الاستهلاك الشعبي بما يقرب من ثلاثة أضعاف؛ حيث حاولت الحكومة تثبيت الأسعار المحلية للمواد الغذائية المستوردة" (63). ولا تعنينا في هذا الكلام تفاصيل تحليل وتقديم أوضاع الاقتصاد المصري عام 1974، فنحن نختلف في بعض النقاط الهامة. وينبع خلافنا من رفض استراتيجية الانفتاح التي تتبناها الهيئات الدولية من حيث المبدأ، ولكن حتى لو أخذنا بهذه الاستراتيجية، فإن الظرف لم يكن مناسبًا للبدء فيها – باعتراف البنك الدولي – إذا لم يكن مقصودًا إحداث انهيار. فالظرف الذي وصفه البنك الدولي تطلب من أية دولة محترمة إحكام الإدارة المركزية للاقتصاد، حتى مع اقتناعها بالتوجه تدريجيًّا نحو الانفتاح (كما حدث في الدول الغربية أثناء الحرب وبعدها) ولم يحدث أبدًا أن كان مثل هذا الظرف فرصة للانفتاح الفوري وإلغاء القيود؛ لأن الانفتاح الفوري والكامل في مثل هذه اللحظة يورث الكوارث.
وقد سجل تقرير البنك الدولي أيضًا اعتراضًا مبدئيًا ومنطقيًا للمسئولين المصريين على توصيات صندوق النقد الدولي، فيقول: "إن الحكومة واعية بالتشوهات الناتجة عن قيام سعر للصرف مبالغ فيه، ولكنها تشعر أن التخفيض الفوري لقيمة الجنيه، ليس الجواب الأكثر ملاءمة.
وتنهض هذه الحجة على أساس أن الصادرات المصرية تشمل عددًا كثيرًا من السلع ذات مرونة سعرية منعدمة (الصادرات "التقليدية" القائمة على القطن) وتذهب إلى دول الكتلة الشرقية (حوالي 64% من صادرات مصر عام 1974 إلى منطقة الاتفاقيات الثنائية)، بينما تتكون معظم الواردات المصرية من سلع ضرورية (وبالتالي لا يمكن الحد منها) تأتي أساسًا من كتلة العملات الحرقة (حوالي 74% من الواردات عام 1974 مصدره هذه البلاد). وعلى ذلك، فإن الإجراء التقليدي بتخفيض العملة، وإعادة توحيد سعر الصرف، قد يؤدي فقط إلى زيادة موقف النقد الأجنبي سوءًا، في المدى القصير)... والطريف أن التقرير علق على وجهة النظر المصرية بأن "هذا القلق الذي تشعر به السلطات ليس قلقًا بلا مبرر" ولكن لم يرتب على ذلك إلا ضرورة أن تنفذ السلطات التوصيات المقدمة من صندوق النقد؛ بحجة أنه
ما دام "الاقتصاد سيفتح على أية حال أمام المنافسة الخارجية، فمن الواجب أن نبدأ في اتجاه التزام سعر للصرف يعكس حقائق الموقف؛ تجنبًا لسوء تخصص الموارد" (64). وهذا كلام مسطح، ومجرد ترديد لأكذوبة المفعول السحريّ لتغيير سعر الصرف، وبغض النظر عن ظروف الزمان والمكان، وعن الاعتراضات العملية المثارة، وهذا الكلام يقال رغم أن البنك الدولي يعترف بأن مشكلة العجز في ميزان المدفوعات (وأحد جوانبها الأساسية زيادة الصادرات) لا يحلها مجرد خفض سعر الجنيه المصري، فالسلع الصناعية هي "رأس الحرية في عملية الوصول إلى معدلات نمو أعلى في مجال نمو الإنتاج والصادرات. ولكن المنافسة في الأسعار لا تكفي في حد ذاتها بالنسبة لهذه السلع. فهناك اعتبارات هامة أخرى مثل النوعية والتصميم، ومدى الثقافة في السلع وتكاليف الإدارة وتوفر قطع الغيار بصفة منتظمة وتوصيل الاعتمادات إلى المشترين المحتملين. وهكذا فإن إحداث تغيير هيكلي كبير في اتجاه الصادرات أو تركيبها، سوف يتطلب قدرًا كبيرًا من الإجراءات بخلاف ترشيد سعر الصرف، وينتظر أن يستغرق التنفيذ الناجح لهذه السياسة الشاملة فترة الخطة الخمسية القادمة بأكملها على الأقل" (65).

وصحيح أن البنك الدولي يشرح موقفه في نطاق "تسويقه" لتصوراته الاستراتيجية المتكاملة، وما تتضمنه من دور الاستثمار الأجنبي والتبعية للأسواق الغربية – وهذه قضية أخرى – ولكن يبقى أنه يقول بصراحة إن زيادة الصادرات (بهدف تقليص أو إنهاء العجز في ميزان المدفوعات) لن يتحقق حلها السريع بمجرد تعديل سعر الصرف، والإجراءات المتشابكة المطلوبة لا يمكن إنجازها في الأجل المتوسط، إذن لماذا الإلحاح على البدء بتعديل واسع في سعر الصرف بالذات، وتحرير الواردات في الأجل القصير، بل فورًا، رغم أن أي عاقل يلمح عدم مناسبة التوقيت؛ حتى بين المتفقين على صحة الإجراء من حيث المبدأ؟
إن حديثنا السابق قد يسوغ للبعض أن يتحدث عن التناقض بين مدرسة صندوق النقد ومدرسة البنك الدولي،
أو بين المدرسة النقدية (من النقود) والمدرسة البنيوية ذات النظرة الأشمل لتكامل المتغيرات الاقتصادية، على أساس أن الأخيرة لا تقتصر على البنود التقليدية لبرنامج الاستقرار الذي يلح عليه صندوق النقد.

والبنك الدولي يشهد فعلاً انتعاشًا للاتجاهات البنيوية بعد أن اكتسب اقتصاديوه خبرة "وضع ومتابعة استراتيجيات التنمية في الدول التابعة. ولكن – كما سبق أن ذكرنا (الفصلان 4 و5) – ومن خلال تجربتنا العملية، نؤكد أن المسألة تناقضًا في الأساس، فهو تمايز في إطار التكامل، والتنسيق محكم بين المؤسستين. وقد نشير أيضًا إلى حقيقة أن تقرير البنك الدولي (الذي نقلنا عنه) رغم أنه شبه سرّي ومحدود التوزيع، فإن كاتبيه من الخبراء لا يعلمون – بالدقة- كل قواعد العمل المتفَق عليها، ولا يعتبرون بالتالي بدقّة عمّا يبلغه البنك الدولي للمستويات الأعلى من الدولة في الاجتماعات والوثائق الأكثر سرية. وقد صرح ماكنمارا الرئيس السادات (حين قابله عام 1974) بأن شروط البنك الدولي للبدء في "مساعدة" مصر، هي نفس شروط صندوق النقد، ومن الناحية العملية، كانت الآراء التي نقلناها عن البنك الدولي، تنتهي إلى ضرورة الإسراع في تنفيذ ما يقوله الصندوق.
* إذا قلنا إن الهدف الذي لا يخفيه صندوق النقد هو "إحداث بنيوية للاقتصاد" سنجد أن برنامج الاستقرار الذي صاغه (والمسنود من الولايات المتحدة والبنك الدولي) كان منطقيًا ومحسوبًا بواقعية. فالدعوة (في بداية 1974) للتوسع الفوري الكبير في السوق الموازية وصولاً إلى سعر موحد منخفض للجنيه المصري، كان لا بد أن يؤدي إلى كوارث، دون أي عائد اقتصادي إيجابي في المقابل. وهذا الإجراء مع إخراج الاستيراد من تخطيط الدولة في ظروف اقتصاد منهك. وندرة في النقد الأجنبي، ومعدلات تضخم فالتة في الأسواق الموردة، كان لا بد وأن يؤدي إلى توسع في استيراد سلع غير ضرورية، وبأسعار بالغة الارتفاع، أي يؤدي إلى انهيار في ميزان المدفوعات، وإلى غرق واختناق بالديون الخارجية في آخر عام 1974، رغم أن مشكلة الديون كانت واصلة بالفعل إلى أبعاد تثير انزعاج صندوق النقد الدولي (كما أشرنا) في بداية العام. إلا أن هذه النتيجة التي تبدو بدَهيَّة ومزعجة، كانت بالنسبة للصندوق وحلفائه تبدو بدَهيّة ومطلوبة. والفارق بين "مزعجة" و"مطلوبة" هو الفارق بين هدف وهدف.
إن الإغراق في الديون الخارجية، يبدو متعارضًا مع هذه التنمية المستقلة، وهذا صحيح بالقطع، ولكن إذا كان الهدف إخضاع بلد ما، وإرباك إدارته، فإن إغراقه في وضع المدين المعسر، وسيلة ممتازة ومجدية لتحقيق الهدف.
* على أيَّة حال، كان مشروع القرار المقدم من بعثة الصندوق إلى أعضاء مجلس المديرين التنفيذيين، في يوليو 1974، على ضوء تقرير بعثة الصندوق على:
1. كان نمو الاقتصاد المصري بطيئًا لعدد من السنوات، فالدفاع له عبء ثقيل، والاستهلاك بشكل عام زاد نصيبه من الموارد المتاحة، ونتج عن ذلك مستوى منخفض من الاستثمار، وقد أدت الصعاب المزمنة في النقد الأجنبي إلى قصور في قطع الغيار والمواد الخام، وبالتالي إلى نقص خطير في استخدام القدرة الصناعية، ويعتقد الصندوق أن تهيئة أساس للنمو الاقتصادي من جديد، تتطلب تغييرات بنيوية رئيسَة للاقتصاد، مع اهتمام خاص بتصحيح الأسعار النسبيَّة.
2. وقد اتخذت السلطات المصرية بعض الخطوات لترشيد القطاع الخارجي؛ كجزء من سياسة جديدة للانفتاح الاقتصادي. والصندوق يثني على الخطوات التي اتخذت حتى الآن، ولكنه يعتقد أن هذه السياسة يمكن نجاحها فقط في حالة إرسائها على سياسة أكثر واقعية للنقد الأجنبي. ويوصي الصندوق باتخاذ خطوات وإجراءات أخرى لتوسيع نطاق السوق الموازية، ولتقليل درجة التحكم الإداري في التبادلات الخارجية؛ تطلعًا إلى إنشاء سعر صرف موحد؛ كهدف نهائي عند مستوى واقعي.
3. كان التوسع في الائتمان المصرفي خلال العامين الماضيين كبيرًا على نحو غير ملائم، وضغوط الطلب الناتجة تم احتواؤها فقط بالاعتماد الكثيف على الضوابط. ويعتقد الصندوق أن الحاجة إلى دعم السياسات المالية المحلية لن تكون فقط لاحتواء ضغوط الطلب، ولكن أيضًا لزيادة الموارد المتاحة للتنمية.
4. اعتمدت مصر بشدة على ضوابط النقد الأجنبي والتجارة للحد من الطلب للنقد الأجنبي، ومارست أيضًا التعدد في أسعار الصرف. ورغم هذه الضوابط كان هناك اعتماد متزايد على الديون القصيرة الأجل، والمتوسطة الأجل، التي تؤدي إلى مصاعبَ في المستقبل. ويلاحظ الصندوق أنه على الرغم من بقاء متأخرات كبيرة على المدفوعات الجارية، فإن خفضًا أساسيًّا في هذه المتأخرات قد تحقق خلال العام الماضي. وتهدف السياسة إلى إنهاء المتأخرات في أقرب وقت ممكن. كان هناك أيضًا خفضٌ في درجة اعتماد مصر على اتفاقات الدفع الثنائية، ويوصي الصندوق باتخاذ خطوات أبعدَ في هذا الاتجاه. وفي ظل الظروف الحالية يمنح الصندوق موافقته حتى 31 يوليو 1975 على ممارسات مصر لتعدد أسعار الصرف؛ كنتيجة لترتيبات السوق الموازية. ويعيد النظر في هذه الممارسات أثناء مشاوراته القادمة مع مصر". (التشديد من المؤلف).
* ولا شك أن المقارنة بين قراري 1973، 1974 تكشف أن الأخير كانت صياغاته ومطالباته أصرح، ويعكس ذلك جو المشاورات التي سبقت كلا من القرارين، فالجانب المصري كان أكثر انفتاحًا، وأكثر استعدادًا بالتالي لعرض البيانات وتقبل "النصائح"، وعلى سبيل المثال تضمن قرار 1973 إشارة عامة إلى ضرورة إصلاح نظام النقد، وفي المقابل طالب قرار 1974 بالتوسع الفوري في السوق الموازية أي بالتوسع في ممارسة تعدد أسعار الصرف، وأوضح في نفس الوقت أنه يلح في هذا المطلب على مضض، ولمدة عام واحد؛ تطلعًا إلى توحيد سعر الصرف (طبعًا حول ما دون سعر السوق الموازية – أي: خفض السعر الرسمي للجنيه). ولكن ظلت توصيات الصندوق تعكس مع ذلك حقيقة أنه لا زال يواجه مقاومة على الجانب المصري.
ويلاحظ أن الصندوق استخدم – لتسويق توصياته – أساليب الغواية. فمشاكل التنمية هي في الأساس (كما يزعم) نقص في الموارد، وخاصة من النقد الأجنبي، وهذه يمكن أن تتوفر بشرط أن تقبل السلطات إجراء التغييرات البنيوية التي يطلبها الصندوق، وعلى رأسها "تصحيح" الأسعار المحلية (من خلال خفض سعر الصرف وإلغاء تدخلات التخطيط المركزي في تحديد الأسعار، أو ما يسمى بإلغاء الدعم في صوره المختلفة).
أيضًا يشير القرار إلى الفشل النسبي للتدخلات الحكومية المباشرة في التجارة الخارجية، وفشل تعدد أسعار الصرف، في منع تفاقم الديون الخارجية، وتراكم المتأخرات، وكان تقرير البعثة عن مشاوراتها في القاهرة، قد سجل أن الأمر يتطلب معونات خارجية كثيفة وعاجلة. "إن الموارد الخارجية لا تقتصر الحاجة إليها من أجل تحرير ملموس للواردات، فهي تساعد أيضًا على التخلص من المتأخرات الحالية على المدفوعات الجارية، وتقلل من الاعتماد على القروض القصيرة الأجل والمتوسطة الأجل التي تقترب من مستويات خطيرة". وكان طبيعيًّا أن يلوح الصندوق بعد ذلك إلى دوره وإمكانياته في هذا الاتجاه، إذا نفذت الحكومة شروطه، فمن "المتوقع منطقيًّا زيادة المعونات الخارجية والداخلية زيادة محسوسة، إذا صيغ برنامج مناسب للإجراءات الخارجية والداخلية".
إن عديدًا من المسئولين في الدولة وفي القطاع الاقتصادي كانوا – بحكم الانتماء المدرسي أو المصلحة – مع الاتجاه العام لبرنامج الصندوق. والوعد بالمعونات لم يكن – كما نعلم – في حدود الوعود التقليدية الموجهة للدول "النامية"، والمنظر المتوقع لبلايين الدولارات المنهمرة كان يدير الرءوس. ولكن حدث رغم كل ذلك اعتراض على تنفيذ البرنامج – وسط الظروف السائدة – بالطفرة التي يطلبها الصندوق. رفضت الحكومة التوجه السريع إلى خفض سعر الصرف (من خلال التوسع الكبير في السوق الموازية)، ورفضت خفض تدخلها في ضبط الأسعار. لقد أعلن الصندوق أن تدفق المعونات (بما في ذلك المعونات الخليجية) مشروط بتنفيذ البرنامج، وأكد البنك الدولي بالفعل أن قروضه مقيدة باستجابة الحكومة لتوصيات الصندوق، وأعلنت الحكومة الأمريكية نفس الموقف، فيما يتعلق بقروضها الميسرة من خلال وكالة التنمية، بل جعلت الالتزام "بتوصيات" الصندوق ضمن شروط تحركها النشط على ساحة المواجهة المصرية – الإسرائيلية. ومع ذلك أصرت الحكومة على الاعتراض. وقد يفسر هذا الموقف بأن الانهيار المؤكد (نتيجة للبرنامج) كان مسألة واضحة تمامًا، ويتعذر على أي مسئول اتخاذ قرار صريح بإحداثه. ومن ناحية أخرى نتصور أن القيادة المصرية قدرت أن الإمكانيات والاحتمالات التي فجرتها حرب أكتوبر تمكنها من دفع الولايات المتحدة للتحرك نحو التسوية، وجذب المساعدات المطلوبة، رغم تمردها على توصيات الصندوق، خاصة إذا كانت الأنظار موجهة إلى الدول العربية النفطية كمصدر أساسي لهذه المساعدات. إلا أن معارضة الحكومة لتنفيذ البرنامج كانت تحديًا يستدعي استخدام كل الإمكانيات المضادة الإجهاضية. فإحداث الانهيار هدف تكتيكي هام، يضع أصحاب "المساعدات" المنفذة في مركز القوة وإملاء الشروط، ويمكنهم بالتالي من إعادة تشكيل البنية الاقتصادية حسب المواصفات التي تلائمهم. وفشل صندوق النقد – بصفته طليعة اقتحام – في تحقيق المهمة تحقيقًا كاملاً، بضربة خاطفة ومباشرة، كان يتطلب تدخُّّل الجهات الأخرى.






آخر مواضيعي 0 أنا أَيضاً يوجعنى الغياب
0 ﺃﻋﺪُﻙ !
0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 أنا وانتي.. حكاية بريئة
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
رد مع اقتباس
قديم 06-07-2011, 02:11 PM رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة

(5) انهيار ميزان المدفوعات:
أ- "القطاع الخارجي – بمنظور سياسة الانفتاح – يقدم الموقع الأفضل لبداية عملية الترشيد (أي: عملية الإخضاع – ع. ح). وهذه العملية ينبغي أن تستند إلى أساس من سياسة ملائمة للنقد الأجنبي". هكذا أفصح صندوق النقد عن خطة العمل. ورغم أهمية هذا الكلام – كاعتراف – فإن كافة المفاهيم العامة كانت توصلنا طبعًا إلى هذا التحديد لاتجاه الهجوم. والنتيجة المُفجعة لعملية "الترشيد" في القطاع الخارجي أسفرت عن قفزة غير مسبوقة في عجز الميزان التجاري في آخر 1974 (أول أعوام الانفتاح الاقتصادي) إلى 1798.1 مليون دولار (وكان 662.3 مليون دولار عام 1973).. وحدث هذا الانهيار، رغم أن الصادرات السلعية في ذلك العام زادت إلى 1671.1 مليون دولار (مقابل 1004.3 مليون عام 1973) ولكن التدافع على الاستيراد من الغرب (دون زيادة مناسبة في التصدير) أوقعتنا في هذا العجز الرهيب. لقد ارتفع نصيب "مناطق العملات الحرة" من الصادرات المصرية عام 1974 إلى 36% فقط (مقابل 35% في العام السابق). وكان مفروضًا أن تكون هذه الزيادة الطفيفة من محددات تمدد الاستيراد من الغرب، ولكن حدث أن ارتفع نصيب الواردات من "مناطق العملات الحرة" إلى 71% من إجمالي الواردات (مقابل 60% في العام السابق). وأوقع من النسب هنا، أن نقول إن الواردات من الأسواق الغربية ارتفعت من حوالي 1000 مليون دولار إلى 2463 مليون عام 1974.
والمثير للدهشة أن هذا الاتجاه تحقق، رغم غياب تسهيلات ائتمانية بشروط معقولة، وليس فقط في ظل زيادة طفيفة في صادرات مصر إلى الغرب، وسجلت وزارة التخطيط هذه الملاحظة، فكتبت أن "ثمة ظاهرة مُلفتة للنظر، وهي عزوف الوزارات عن استخدام القروض والتسهيلات التي تقدمها الدول الاشتراكية، حتى هبطت نسبتها من المكون الأجنبي للاستثمار إلى إعادة التفاوض بشأن القروض المخصصة لمشروعات عدلنا عنها، أو تأجل تنفيذها لاستخدامها في مشروعات الخطة المقترحة"، وقد أضاف تقرير الوزارة أن هذا الاتجاه لا يتفق مع المفهوم الصحيح لسياسة الانفتاح، فالمفهوم الأساسي "أنها انفتاح على العالم كله شرقه وغربه، فمصر الحريصة على استقلالها الاقتصادي، وموقفها المبدئي كدولة رائدة في عدم الانحياز، ترى في تنوع علاقاتها الاقتصادية، تأكيدًا لعدم انحيازها وتأمينًا لاستقلالها"(66)، ولكن واضح أن هذا المفهوم كان في ذهن وزارة التخطيط وحدها، والدلالة الأساسية لكلامها السابق أن المسألة أصبحت خارجة تمامًا عن أي سيطرة مركزية؛ بحيث أصبح دور أجهزة التخطيط في موضوع خطير كهذا يقتصر على النقد وتوجيه النصح، "وإذا كانت أجهزة التخطيط غير قادرة على حسم مثل هذه الأمور الاستراتيجية، والتي لا تقرر وفق معايير فنية فقط، ولكن وفْق معايير سياسية واقتصادية وفنية معًا، إذا كان التخطيط قد فقد سيطرته، حتى في هذا المجال من تعاملنا مع الخارج... إذن ماذا بقي للحديث عن (الخطة) (67).
ب- تفسير البنك الدولي للانهيار: المهم، ترتب على هذا الاختلال الشديد، الغرقُ في الديون الصعبة. وأحمد
أبو إسماعيل محق في أن "المديونية التي تحققت عام 1974 لم تحدث من قبلُ في تاريخ البلاد. فهذه أول مرة في تاريخ مصر الاقتصادي، يتحقق فيها هذا القدر من القروض قصيرة الأجل في عام واحد" (68). وهو محقٌ أيضًا حين يضيف أننا "منذ ذلك التاريخ، ونحن ما زلنا في هذه المشكلة"(69)، ولكن من العبث أن يحاول أبو إسماعيل أن يتنصل بعد ذلك من مسئوليته حين تولى وزارة المالية، فهذا الاتجاه الخطر
لم يقتصر على عام 1974، ويحسن أن ننقل هنا تقييم البنك الدولي لهذا الموضوع:

"عام 1973 يكسر استمرارية نمط السلوك لميزان المدفوعات. قبل 1973 كانت مصر تعاني بطريقة مزمنة من عجز ميزان المدفوعات، إلا أن العجز للميزان لم يتجاوز أبدًا 6 أو 7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا الحد الأعلى تحقق فقط في أحوال استثنائية. وبعد 1973 تحرك العجز (معبرًا عنه كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي) في إطار 15 – 20 في المائة بدلاً من صفر – 7 في المائة. حدث انقطاع هنا. تغير واضح من نمط إلى آخر. الفارق في حجم ونسبة العجز في ميزان المدفوعات قبل وبعد (1973) ليس فارقًا في الدرجة، وإنما في النوع. التغير كبير جدًا في مستوى الجسامة والعواقب الاقتصادية لهذه التغيرات بالغة الدلالة" (التشديد للمؤلف).
ويستطرد تقرير البنك بعد ذلك إلى محاولة تعليل هذا الانكسار الخطير في المسار، فقد "كان هناك تحرك معاكس في الشروط الخارجية للتجارة بعد 1973 راجع إلى حد كبير من زيادة سعر القمح المستورد أربعة أضعاف، ولم تقابلها زيادات مقارنة في سعر صادرات القطن، وفي عامي 1974 و1975 ارتفعت أسعار مكونات الواردات والصادرات بدرجات غير متساوية، ولكن بشكل واضح، كان الرقم القياسي العام لأسعار الصادرات 1969/ 1970 = 100، و1974 = 213، و1975 = 215 – والرقم القياسي لأسعار الواردات لعامي 1974 و1975 = 239، أي أن الأسعار النسبية تحركت ضد الصادرات المصرية بـ 12 في المائة بين 1973 و1974، ولكن المؤشر الأكثر دلالة هو حركة نسبة أسعار صادرات القطن/ الواردات الزراعية التي انخفضت بحوالي 35 في المائة بين 1973 و1974، ومع ذلك، فإن الحركة المعاكسة في شروط التجارة ليست التفسير الوحيد، وقد لا تكون التفسير الأهم للتدهور الشديد جدًا في ميزان المدفوعات، فقد شهدت أحجام الواردات والصادرات تحركات في الاتجاه الخاطئ، أي بأسلوب ضار إلى أقصى حد من وجهة نظر ميزان المدفوعات، فللوهلة الأولى قد يتوقع الإنسان أن تؤدي زيادات أسعار الواردات إلى خفض في حجم الواردات، وزيادات أسعار الصادرات إلى توسع حقيقي في الصادرات. ولكن أحجام الواردات زادت بعد 1973، وانخفضت الصادرات. كان وقع التوسع في الطلب المحلي (لكل من الاستهلاك والاستثمار) ملحوظًا.. إن "مفعول الدخل" الذي عمل في الاتجاه المضاد "لمفعول السعر" كان - بوضوح - القوة السائدة، ويبدو أن الزيادة في الطلب المحلي قد نشطت الواردات، وحرفت الصادرات عن الأسواق الخارجية إلى الداخل"(70) (التشديد للمؤلف).
هذا العرض للبنك الدولي، يحتوي على قسم وصفي صحيح للانكسار الحاد والخطير في نمط السلوك لميزان المدفوعات. ولكن حين انتقل إلى التحليل والتفسير، ترك كثيرًا من الأسئلة مفتوحة، والإجابة التي قدَّمها كانت خاطئة أو غير مقنعة. فقد لاحظ مثلاً أن حركة الأسعار في تجارتنا الخارجية لم تؤدِّ إلى النتائج التي تتوقعها أو تبشر بها الهيئات الدولية، ولكنه "نسي" أن يسجل أن الأسعار (وبالتالي خفض سعر الصرف) لا تؤدي هذا الدور الحاسم الذين ينسبونه إليها لتحسين ميزان المدفوعات. فخفض سعر الصرف يؤدي – كما يقولون – إلى رفع سعر الواردات، فينخفض تلقائيًا الميل للاستيراد. ولكن حدث عام 1974 أن ارتفعت أسعار الواردات إلى أعلى؛ مما كان يمكن أن يتوقع في حالة خفض سعر الصرف (في ظروف عادية)، وكانت النتيجة زيادة حجم الواردات. وعني ذلك أن الأخذ بتوصيات الصندوق والبنك الدولي (بتخفيض سعر الصرف في عام 1974)
لم يكن يؤدي وحده إلى الإقلال من الواردات، ولكنه كان يؤدي بالقطع إلى الهبوط بحصيلة الصادرات (لانخفاض أسعار التصدير؛ نتيجة خفض سعر الصرف – أي: لمزيد من التدهور في شروط التبادل – مع وضوح العجز عن زيادة الكميات المصدرة؛ لتعويض انخفاض الأسعار).

والنتيجة الحتمية: مزيد من انهيار ميزان المدفوعات. ومفهوم طبعًا أننا لا نقصد إلى نفي أي أثر للأسعار على حركة الصادرات والواردات، ولكننا ننفي أن يكون للأسعار هذا الدور الحاسم، في إطار من تحرير التجارة من الضوابط المركزية، كما قالت وألحت التوصيات الدولية في عام 1974.
ج- المدخل الأول لتفسيرنا: لقد اعترف تقرير البنك الدولي بأن "الحركة المعاكسة في شروط التجارة، قد لا تكون التفسير الأهم للتدهور؛ ولذا أضاف التقرير أن "مفعول الدخل" عمل في الاتجاه المضاد "لمفعول السعر"، وكان القوة السائدة، فحدث التوسع الكبير في الطلب المحلي (لكل من الاستهلاك والاستثمار). وهذا التفسير خاطئ تمامًا – في تقديرنا – إلا أن الإجابة الصحيحة، تتطلب الغوص في نوع من التحليل، لم يكن متوقعًا أن يَلِجَهُ البنك الدولي في تقرير كهذا. فالإجابة الصحيحة، تبدأ بالفرض العام الذي نقيم عليه دراستنا، وهو أننا بصدد محاولة لإخضاع مصر، ولإعادة تشكيل أوضاعها - السياسية والعسكرية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية - على نحو يضمن استمرارها في التبعية. وهذه المحاولة تتطلب تخطيطًا مُحكمًا، فكل حرب (ساخنة أو باردة) تفترض، وجود خطة وهيئة أركان وإدارة عمليات. كل حرب تستخدم القوة بأشكالها المختلفة، وتستخدم الخداع والمراحل وتقسيم الأدوار، ولا بد أيضًا من ركوب المخاطرة المحسوبة، ودفع التكلفة المطلوبة لتحقيق الهدف.
* إذا تذكرنا هذا ونحن بصدد القطاع الخارجي، وما أصابه من انهيار، فإن من واجبنا أن نذكر أيضًا أن مخاطر خسائر التعامل مع العالم الخارجي من موقع ضعف، أوصلتنا في الستينيات إلى ضرورة التأميم الكامل للاستيراد، وتأميم القسم الأكبر من تجارة الصادرات، كان التأميم أداة ترشيد حقيقية، وأداة للاستقلال الاقتصادي، رغم كل النواقض التي أصابت التنظيم والممارسة(71). وقسم من هذه النواقض كان بسبب انخفاض مفهوم ومُبرَّر في مستوى الخبرة والكفاءة الفنيَّة والتنظيمية. ولكن قسمًا آخر (أعتقد أنه أهم) كان بسبب الإفساد والتخريب المنظم، والتوسع في هذا القسم الأخير هو "محاولات" "ترشيد" القطاع الخارجي (بمفهوم الصندوق ومن معه) والتي لم تتوقف برغم التأميم. فالتجارة الخارجية ليست مجرد تبادل في التصدير والاستيراد. ولكنها اقتتال في نطاق استراتيجيتين متصارعتين؛ استراتيجية تهدف إلى تأكيد الاستقلال، واستراتيجية مضادة تهدف إلى فرض التبعية، وقطاع التجارة الخارجية المؤمم (وخاصة على جانب الاستيراد) كان في خط المواجهة الأساسي، وعلى احتكاك يومي "بأعداء الاستقلال الاقتصادي". وكما في كل قتالٍ لا بد من خسائر إلى جانب الانتصارات، ولا يقتصر مفهوم الخسائر في قطاع الاستيراد الوطني على مجرد عقد بعض الصفقات بشروط غير مناسبة، فأخطر من ذلك عمليات الاختراق، وشراء بعض "الناس المُهمين"، وهذه مسألة متوقعة باستمرار في هذا القطاع بالذات، إذا أخذنا في الاعتبار إمكانيات الخصوم الهائلة؛ ولذا يتطلب الحفاظ على دور القطاع بالذات، إذا أخذنا في الاعتبار إمكانيات الخصوم الهائلة؛ ولذا يتطلب الحفاظ على دور قطاع الاستيراد في تدعيم الاستقلال أن يخضع القطاع لعمليات متابعة دقيقة من هذا المنطلق(72)، إلى جانب عمليات التطوير الفني والإداري.
ولكن إعلان الانفتاح، كان يعني على أيَّة حال، انتقال الدول العربية واحتكاراتها من مرحلة حرب العصابات،
أو حرب الاستنزاف، إلى مرحلة الاقتحام والهجوم الشامل.
وفشل الصندوق في توجيه ضربته المباشرة من خلال "سياسة ملائمة للنقد الأجنبي" لم يكن يعني أن عمليته
لم تنجح في فتح بعض الثغرات الهامة التي استثمرتها القوى المعاونة في تحقيق النتيجة المستهدفة من خفض سعر الصرف.

* فقد صدر قرار وزير المالية (64 لسنة 1974) لتطوير السوق الموازية (أُنشئِت في سبتمبر 1973؛ لتمارس من خلالها أنواع محددة من المبادلات بسعر مخفض للجنيه. الجنيه = 1.7 دولارًا). والسوق لم تكن مجرد ممارسة لتعدد أسعار الصرف، فهذا مطلوب ولا غبار عليه إذا كان الهدف إنشاء نظام نقدي فرعي مستقر ومكمل للنظام الأصلي، يزيد حصيلة الدولة من النقد الأجنبي (وخاصة مدخرات العاملين في الخارج) من خلال حوافز مناسبة ومرنة في سعر التحويل، بشرط أن يخضع التصرف في هذه الحصيلة لأولويات الميزانية النقدية. ولكن هذا الهدف لم يكن في نية صندوق النقد الذي بارك إنشاء السوق الموازية، ولم يكن أيضًا في نية السلطات المصرية عام 1974، وبالتالي كان تطوير السوق – في ذلك العام – لتوسيع نطاقها بشكل عام، وكمنفذ للقطاع الخاص إلى مجال الاستيراد، ودعم هذا ما أسمي بالاستيراد دون تحويل عملة(73). وتأكَّد كل ذلك بقرار رئيس الجمهورية بالقانون 137 لسنة 1974.
إلا أن التوسُّع في موارد وعمليات السوق الموازية، ظل محدودًا خلال 1974، وكان التوسُّع الحقيقي في النشاط الاستيرادي للقطاع الخاص عن طريق الاستيراد دون تحويل عملة (وهذه تسمية مضللة طبعًا، والأفضل أن نطلق عليه نظام الاستيراد الممول ذاتيًّا) وهذا النظام يسمح للمصريين الحائزين على نقد أجنبي في الخارج؛ باستخدام أرصدتهم في استيراد سلع (صدرت قائمة – في ذلك العام – بهذه السلع تضم 300 سلعة)، وكان متوقعًا مع التوسُّع في هذا النظام أن يصل حجم الواردات عن طريقه، وعن طريق السوق الموازية إلى 15% من إجمالي الواردات عام 1975.
ونظام الاستيراد الممول ذاتيًّا كان مثار نزاع لم يتوقف بين السلطات المحلية، والهيئات الدولية؛ فبعثة صندوق النقد الدولي تسجل في تقريرها أن الجانب المصري طلب رأي البعثة في مشروعه للتوسع في الاستيراد الممول ذاتيًّا، وكان رأي الصندوق أن التوسع في هذا النظام، سيكون على حساب السوق الموازية (وهذا صحيح؛ لأنه عبارة عن سوق سوداء للنقد الأجنبي، وأصحاب المُدخرات يفضلون التعامل مع هذه السوق؛ لأنها تعرض سعرًا أعلى لأرصدتهم) ومن ناحية أخرى، فإن المستوردين يفضلون أيضًا القيام بعملياتهم خلال هذا النظام؛ لأنه يتيح مرونة أوسع؛ فمجال المسموح به في نظام الاستيراد الممول ذاتيًا، أوسع من المجال الذي تتيحه السوق الموازية، وكان تقدير الصندوق أنه في حالة تعويم سعر الصرف في السوق الموازية، سيزداد سعر الجنيه المصري انخفاضًا، إذا كان نظام الاستيراد الممول ذاتيًا قائمًا ومتزايدًا(74). ولم يسجل التقرير رد الجانب المصري على هذه الحجج، ولكننا يمكن أن نتصور أن الموقف كان كالتالي: موقف صندوق النقد كان متسقًا مع أهداف فرض خفض كبير للسعر الرسمي للجنيه المصري، وتخليص التجارة الخارجية من السيطرة المركزية، وزيادة نصيب القطاع الخاص فيها، والتوسع في السوق الموازية، هو توسيع لدائرة التعامل المعلن بسعر مخفّض، وبالتالي خلق أمر واقع يسهل الانتقال الشامل إلى سعر الصرف الموحد المنخفض، وقد عبرت بعثة الصندوق عن هذا الرأي بصراحة، فقالت: إن اتجاهها هو "التوسع في السوق الموازية؛ حتى نتوصل إلى سعر واحد للصرف"، والأهداف الأخرى: القضاء على التحكم المركزي وزيادة نصيب القطاع الخاص، ينبغي أن تتحقق من خلال لهذا التوسع في السوق الموازية، والصندوق محق إذا رأى أن الاستيراد الممول ذاتيًا، يحقق مشاركة القطاع الخاص بشكل مشوه، وبطريقة لا تتسق مع باقي أهدافه، وهو يعوق استخدام السوق الموازية كأداة انتقالية.
ولا مانع من التذكير هنا بأن حكاية الاستيراد الممول ذاتيًا بدأت قبل 1967 كأمر واقع (فيما عرف أيامها ببضائع غزة)، وبعد العدوان تلقى هذا النظام اعترافًا قانونيًا محدودًا(75). ومع الإعلان الواسع عن الانفتاح الاقتصادي، قفزت عمليات الاستيراد - دون تحويل عملة - قفزةً هائلة ومتوقعة، فالجو السياسي العام فرض المشروعية القانونية لهذا السوق، ومع تكاثر الدخول الطفيلية وتراكمها، اتسع حجم الطلب على السلع الكمالية المستوردة. وكان تقدير صندوق النقد محقًا في أن منظمي هذه السوق يفضلون العمل من خلالها على العمل من خلال السوق الموازية. وكانت السلطات تدرك أيضًا هذه الحقيقة، وكانت تدرك أن انتعاش هذه السوق لا بد وأن يكون على حساب موارد واستخدامات السوق الموازية، ولكنها مضت مع ذلك في حفز الاستيراد دون تحويل عملة بدافعين متعارضين: دافع الاستسلام أمام فئة المستوردين الشرهة والمؤثرة بقوة على القرارات، ودافع آخر (قد يبدو غريبًا) هو أن بعض العناصر الوطنية قدرت أن التوسع من خلال هذا السوق (وليس من خلال السوق الموازية) قد يكون مقبولاً تكتيكيًا؛ حيث ظل هذا النظام يتيح للمسئولين ممارسة النفاق السياسي، فيسمحون من جهة لأصحاب الدخول العالمية بكل أنماط الاستهلاك السفيهة، ولمنظمي العملية بتحقيق أرباح خرافية، وفي نفس الوقت يواجهون الشعب بتصريحات حادة ضد من انحرفوا بأهداف الاستيراد دون تحويل عملة إلى استيراد الكماليات(76). ويضاف إلى ذلك أن إلهاء القطاع الخاص المستورد في عمليات الاستيراد الممول ذاتيًّا، خير من احتوائه داخل السوق الموازية، فتظل هذه تحت هيمنة القطاع العام، ويظل القطاع الخاص كمًا ونوعًا على هامش قطاع الاستيراد، وأيضًا فإن الاستيراد الممول ذاتيًا يظل سوقًا سوداء للنقد، وانحصار نطاق السوق الموازية، يعني تضييقًا لدائرة التعامل القانوني بالسعر المنخفض للجنيه، ويحدّ بالتالي من إمكانية استخدام السوق الموازية كمَعْبر للسعر الموحَّد المخفض، ويدعم هذا الموقف التفاوضي مع صندوق النقد. وبمعنى آخر، فإن العناصر صاحبة هذا التقدير أرادت أن تستخدم قاصدة ولحسابها، ما اعتبره الصندوق نظامًا معيقًا لأهدافه(77).
إلا أن هذا التقدير كان – في أحسن الفروض – من المحاولات المبعثرة للمقاومة، ولم يكن ممكنًا أن يصمد طويلاً، فنظام الاستيراد الممول ذاتيًا تبديد سفيه للموارد، ويصعب الدفاع عنه في أي مناقشة جادة، ومواصلة الدفاع عنه أعطت صندوق النقد فرصة أن يبدو في وضع المطالب فعلاً بالترشيد في مواجهة إدارة تحمي نظامًا فاسدًا. إن المحافظة على استقلال الدولة في وضع سياستها النقدية
لا يتحقق بهذه التكتيكات "الخائبة"، وإنما بنضال شاقٍ ومجموعة من السياسات الاقتصادية المستقلة التي تعتمد على التأييد الواعي من القوى الوطنية، وليس على تأييد السماسرة والمهربين، إن تأييد السماسرة والمهربين أبقى قرحة الاستيراد بالتمويل الذاتي، رغم اعتراض صندوق النقد ومن معه، ولكن السماسرة والمهربين فتحوا في المقابل الأبواب الأخرى للصندوق كي يرتع ويأمر.. وطوبى لمن يضحك أخيرًا!

* إن التراجعات التي تحققت في إطار التوسع في السوق الموازية، والاستيراد بالتمويل الذاتي، ظلت تمثل تعديلاً محدود الأثر في النظم الحاكمة للتجارة الخارجية. ولم يكن سهلاً في نفس الوقت إنهاء المؤسسة المصرية العامة للتجارة الخارجية التي يتم التعامل الخارجي الأساسي عبر شركاتها. الإنهاء الرسمي والقانوني لتأميم التجارة الخارجية وللاستيراد بشكل خاص كان متعذرًا في ذلك الوقت؛ ولذا كان لا بد من الالتفاف بهدف إفراغ هذه السيطرة الحكومية من مضمونها الحقيقي. وقد تمَّ ذلك بموافقة مجلس الوزراء في سبتمبر 1974 بإعادة تشكيل لجان البت؛ بحيث تصبح تحت إشراف الوزراء المختصين؛ طبقًا للتخصص السلعي، وصدر قرار وزير التجارة رقم 338 لسنة 1974 بإعادة تشكيل هذه اللجان (42 لجنة) ولتحديد اختصاصاتها، وكان الهدف المعلن لهذا التنظيم الجديد هو تحقيق اللامركزية، وسرعة البت في احتياجات القطاعات، وكان هذا الهدف يستجيب تمامًا للمطالبة التي ألحت عليها بعثة الصندوق في مشاوراتها.
* وإلى جانب هذا الإجراء، صدر قانون 93 لسنة 1974 الذي رخص للأشخاص الطبيعيين والاعتباريين من المصريين، ممارسة حق تمثيل الشركات الأجنبية في مصر. هذا القانون كان تراجعًا خطيرًا عن القانون 107 لسنة 1961 الذي قصر أعمال الوكالة التجارية على القطاع العام. وعودة القطاع الخاص إلى مجال التوكيلات تحقق تحت ضغط صندوق النقد ومطالبات الاحتكارات الأجنبية، وتدافع عملائها المصريين الذين يعلمون الأرباح الخرافية السهلة، الناشئة عن هذا المجال. كان القرار الجمهوري يشترط ألا يكون الوكيل من بين العاملين في الحكومة والهيئات العامة، والمؤسسات العامة، وشركات القطاع العام، ما لم يكن قد مضى على تركه العمل بها سنتان على الأقل واشترط القرار أيضًا ألا يكون عضوًا في مجلس الشعب أو المتفرغين سياسيًّا طوال عضويتهم. وذلك ما لم يكن عاملاً في هذا قبل عضويته. أيضًا ألا يكون الوكيل من الأقارب من الدرجة الأولى لأحد العاملين بالحكومة والهيئات العامة ومؤسسات وشركات القطاع العام، من الفئة العالية ومَن في مستواهم.
والحقيقة أن أهمية كل هذه الشروط (التي حرصنا على إثباتها) تكمن في أنها تفضح وعي من أصدروا القرار بأنهم يفتحون بابًا خطرًا، تتسلل عن طريقه الشركات العابرة للجنسية لخلق فئة عميلة. وتفضح الوعي بخطورة أن تكون هذه الفئة قريبة أو مندمجة مع مراكز إصدار القرارات السياسية. ولكن تحقق طبعًا ما كان محتمًا أن يحدث، فالشركات كانت حريصة على التعاون بالذات مع النوعيات التي حاول القرار أن يستبعدها. وتحقق ذلك بالفعل عبر كافة أشكال التحايل. وسجل هذه الظاهرة تقرير رسمي (بعد العام الأول من الانفتاح) فقال إنه "واكبت سياسةَ الانفتاح الاقتصادي ظاهرتان خطيرتان عليه؛ هما ارتفاع الأسعار، وانتشار العمولات والسمسرة".... والسمسرة أو العمولة
لا ينبغي أن "تدفع لذوي المناصب الرسمية أو المتصلة بهم، وينبغي ألا تدفع السمسرة في صفقات عادية أو بشروط مجحفة"(78).

وقد فاحت رائحة التدخل من كبار المسئولين في الأعمال والصفقات؛ بحيث اضطر الرئيس السادات إلى المطالبة بسرعة تطبيق قانون الكسب غير المشروع "لتحديد القلة المنحرفة، وبهذا ندعم الثقة في اقتصادنا، ونرفع عن القيادات عُقَد الخوف من اتخاذ القرارات؛ خشية الاتهام بالانحراف"(79). ولكن نبه تقرير آخر إلى "أن على جهات الرقابة أن تنشط في تعقب الدخول الحرام، وفي الفئات العليا من أصحاب الدخول في المجتمع، وعليها أن تقترب من مواطن الشك عن صفقات الملايين وتعاقدات الخارج التي
لا يمكن أن يظهر أثر الانحراف فيها في إقرار يقدمه صاحب الشأن"(80) (طبقًا لقانون الكسب غير المشروع).

وحاول محمود القاضي (عضو مجلس الشعب آنذاك) أن يكشف أبعاد هذا التطور الخطير. فتقدم بسؤال إلى الحكومة يقول إن "هناك مكاتب استشارات، ولكن تلك المكاتب
لا علاقة لها بالاستشارات، وإنما هو تنظيم لعمليات الوكالة، ولا أعرف ما هو الذكاء والنبوغ الذي ظهر فجأة على بعض صغار السن من العباقرة والأصهار. إنني أطالب الحكومة أن تقدم إلى المجلس بيانًا بأسماء أصحاب هذه المكاتب الذين ظهرت عبقريتهم مبكرة في مكاتب التوكيلات أو الاستشارات، وأن يتضمن البيان المذكور عدد وحجم العمليات التي قام بها هؤلاء الأشخاص وشركاتهم الجديدة منذ 1967 حتى اليوم؛ وذلك حتى نكون على بينة من الأمر، وحتى نقطع الألسنة التي قد تتطاول على أُناس شرفاء، ويجب أن يتضمن البيان أيضًا حجم العمليات التي قامت بها هذه المكاتب مع الحكومة أو القطاع العام" (81).

وجه هذا السؤال إلى الحكومة في بداية مناقشة مشروع الخطة والموازنة العامة، ولكن رئيس مجلس الوزراء، والوزراء تجاهلوا الأمر تمامًا، وقد عاد محمود القاضي إلى آثار الموضوع، وألح في إحراج الحكومة، وفي المطالبة ببيان الوكلاء من أقارب المسئولين، ولكن الفصل التشريعي الأول، انفضَّ قبل أن يتلقى صاحب السؤال إجابته(82)،
ولا زالت قائمة الوكلاء – حتى لحظة كتابة هذا الكلام – من الأسرار العليا للدولة. وقد توصلت دراسة علمية أخيرة إلى أن عدد أصحاب التوكيلات كان حوالي 700 (في أواخر 1977). وهم فريقان: فريق العملاء القديم. وفريق العملاء الجديد. الفريق الأول من أصحاب مكاتب التوكيلات المؤَمَّمة عام 1961، وكانت بعض عناصره قد نقلت أعمالها خارج مصر، ثم عادت بعد الانفتاح، وكان البعض الآخر بمثابة غواصات داخل القطاع العام، برزت إلى السطح وعادت إلى نشاطها الصريح منذ أواخر 1973، وحتى قبل قانون وقرار 1974 – أما فريق العملاء الجديد (وهو الأكثر عددًا) فكان من الوافدين إلى صفوف الوكلاء والوسطاء والسماسرة والمستشارين، معتمدين على نفوذهم السياسي وصلاتهم بالجهاز التنفيذي (83).

وقد تضخمت هذه الفئة سريعًا، وأصبح دورها المؤثر معروفًا رغمه كل حيل التغطية القانونية، وأصبح ذائعًا ومنشورًا في عام 1976 أن سوق الأعمال غاص بكبار المسئولين السابقين (اثنان من رؤساء الوزراء السابقين – 22 وزيرًا سابقًا – عشرات من رؤساء شركات القطاع العام السابقين – ووكلاء الوزارات والمحافظين – حسبما نشر) وأن معظم الصفقات الكبرى تتم الآن عن طريق هؤلاء المستوردين، كما أنهم حصلوا على أكبر التوكيلات التجارية(84). وقد قيل أكثر من هذا الكلام رسميًا، وفي مواجهة الحكومة، حين أعلن عضو مجلس الشعب (عباس المصري) أن "هناك عشر أو خمس أُسَر على الأكثر من هذه الطبقة توجد في أوروبا وفي أمريكا. ولا نستطيع أن نعقد صفقة واحدة في الخارج إلا إذا وقع عليها نفر من هؤلاء، وهم بعيدون كل البعد عن أن يتأثروا بما نقوله هنا، أو ما نفرضه من ضرائب ومن.. إلخ؛ لأنهم في الخارج.
إن أي مشروع نريد له تمويلاً خارجيًّا – وهذا أمر تعرفه كل الشركات – يقال للذي يذهب إلى الخارج أن هذا المشروع يجب الاتصال في شأنه بفلان أو فلان بالاسم حتى تتم الصفقة" وقد صاحت بعض الأصوات يومها تطلب إعلان الأسماء، فرد عباس المصري: "أعرف هذه الأسماء جيدًا، وبعض الزملاء يعرفونها... وبعض هذه الأسماء تنتسب إلى رجال عظماء يتكلمون كثيرًا عن النظام الاشتراكي، وبعض هذه الأسماء تنتسب إلى رجال عظماء يتكلمون كثيرًا عن النظام الاشتراكي، وبعض هذه الأسماء لها نسب جديد في مصر" (85). هذا الكلام حين يقال في أية دولة، يقفز ممثلو الحكومة للتصدي، ولكن الحكومة عندنا آثرت أن تصمت تمامًا، فلم تبادر إلى نفي الاتهام، ولم تطلب من العضو إعلان الأسماء!
ولم نذهب بعيدًا؟ لقد أصبح معروفًا ومنشورًا أن عددًا من المسئولين نسقوا أعمالهم في الخارج على هيئة شركة قابضة للتجارة الدولية، مقرها لوكسمبورج، اسمها شركة "مالتي تريد" (يناير 1974). وقامت هذه بإنشاء شركة مساهمة فرنسية مقرها الدائم في باريس، وهذه الشركة وراء غالبية صفقات استيراد السلع الاستهلاكية؛ بمعنى أنها تحصل على عمولات غير مبررة عن هذه الصفقات، بل "يقال إن هذه الشركة تحصل على عمولات عن صفقات غريبة ومعقدة؛ مثل صفقة استيراد مصر لسكر من الصين الشعبية، عن طريق تاجر يمني. فقد حصلت الشركة المذكورة على 10 في المائة من تلك الصفقة عمولة لها" (86).
أي أنها لا تعتق شيئًا.. وعلم أنها قامت خلال عامي 1975، 1976 بعمليات بلغت 655 مليون دولار، منها 20 مليون دولار قيمة صادرات مصرية لأوروبا، ويتضمن هذا أنها قامت بتوريد 36% من احتياجات مصر من القمح، وحوالي 70% من السكر، كما حصلت على تسهيلات حكومية فرنسية بقيمة 200 ألف طنًا من الدقيق لمصر، وأيضًا قامت بتوريد جانب من احتياجات الصناعة من الآلات وحديد التسليح والخردة والفحم.. وقد سجلت تقارير للرقابة الإدارية مخالفات وانحرافات متعددة، في الصفقات المنفذة من خلال هذه الشركة (87). وللعلم، كان أول رئيس لهذه الشركة عبد المنعم القيسوني (الذي أصبح فيما بعدُ رئيسًا للمجموعة الاقتصادية داخل مجلس الوزراء)، وخلفه حامد السايح (الذي أصبح وزيرًا للاقتصاد) ثم مصطفى خليل (الذي أصبح رئيسًا لمجلس الوزراء) (88)، ورغم أن النشر عن هذه الشركة، كان على هيئة اتهام واضح، لم تجسر الحكومة على الرد، وحين أثير الموضوع في مجلس الشعب، امتنعت عن الإجابة (89).
ورغم خطورة كل هذه المعلومات، فإن ما تنشره الصحف الأجنبية، حول علاقة كبار المسئولين وأقاربهم بقطاع التجارة، أكثر خطورة.
* وقد حاول الفنيون الوطنيون – عبثًا - إعادة السيطرة المركزية على حركة الاستيراد، والحد من الصفقات المريبة، فأعلنت مؤسسة التجارة – في تقرير رسمي – أن لجان البت تعمل بمعزل عن المؤسسة المتخصصة. التي يمكنها إعطاء الصورة الأدق لأسواق السلع الخارجية (..) وأنه من الأفضل أن تمثل المؤسسة وشركاتها تمثيلاً فعليًا في لجان البت"، وتساءلت المؤسسة عن المدى الذي ينبغي أن يسمح به لمكاتب القطاع الخاص والأفراد، للتقدم مباشرة "للجان البت" بالعروض؛ سواء بالنسبة للاستيراد أو التصدير، فالنظام الذي أصبح معمولاً به كان يسمح للقطاع الخاص والأفراد للتقدم مباشرة للجان البت بالعروض التي يحصل عليها من الموردين الأجانب وفي حالة إرساء العطاءات عليه، يتولى القطاع العام عملية الاستيراد، وفتح الاعتمادات؛ وبذلك تكون عمولة هذه العمليات للقطاع الخاص، وتتم عادة بينه وبين المورد الأجنبي. وفي الاجتماعات الرسمية كشف بعض المسئولين في مؤسسة التجارة أنه أصبح من الواضح أن بعض الاحتياجات لا يعلن عنها قبل وقت كافٍ؛ حتى يتمكن الجميع من تقديم العروض؛ وفقًا لفرص متكافئة في الاشتراك؛ ضمانًا للوصول إلى أفضل الشروط وأحسن الأسعار، فأحيانًا يعلن عن بعض الاحتياجات ويحدد أسبوعًا لتقديم العروض، ويكون مطلوبًا من المورد أن يقدم الأسعار، ويفتح خطاب ضمان لتأكيد جدية العرض المقدم منه، وبالتالي يقوم بالاتفاق مع السفن التي يشحن عليها وتكاليفها، وقال المسئولون الوطنيون إن ذلك، يوصف في بعض الأحيان بالتعجيز، وتكون الفرصة بطبيعة الحال لمن عرف بهذه الاحتياجات مسبقًا بطريقة أو أخرى (!). وفي بعض الأحيان أيضًا كان يتم الإعلان عن تصدير سلع معينة تضم عدة شحنات في الشهر نفسه، ويطلب من المستوردين تقديم الأسعار خلال ثلاثة أيام، مما يؤدي إلى أن يقول البعض، "إن سفن المشتري لا بد وأن تكون في الإسكندرية" (!).
وفي غياب المؤسسة - كجهاز تنظيم مركزي - يعطي النظامُ الجديد لجانَ البت المبعثرة سلطاتٍ كاملة لشراء ما تحتاجه من مستلزمات الإنتاج، ولكن حيث إن السلعة الواحدة قد تكون مطلوبة لأكثر من قطاع، فإن البت فيها – وفق النظام المستحدث – كان للجان متعددة، وأدى ذلك إلى شراء السلعة الواحدة بأكثر من سعر. كذلك لوحظ أن لجان البت (الغياب الخبرة المجمعة والمبلورة) تقتصر في دراستها للعروض على الناحية السعرية دون أن تأخذ في الاعتبار بعض الظروف الأخرى؛ مثل إمكانيات الموردين في التوريد، ومركز هؤلاء الموردين في الخارج، وضرورة تفضيل التعاقد مع المنتجين مباشرة ودون وسطاء، على الأقل لضمان التوريد، ولإقامة علاقات دائمة ومباشرة. ولكن في هذا الأمر لم تكن القرارات الخاطئة؛ بسبب نقص الخبرة فقط، فقد أشار البعض بصراحة إلى أن لجان البت تعرضت "لضغوط" من بعض الجهات لتفضيل عروض معينة (90).
وفي إطار توسيع السوق الموازية صدر قرار وزير التجارة رقم 286 لسنة 1974 (في 22/8/1974) بشأن السلع المسموح بتوريدها إلى البلاد؛ طبقًا للقرار 64 لسنة 1974، وقد سجلت الرقابة الإدارية وزن أصحاب النفوذ والتوكيلات، فقالت إنه "توالى بعد ذلك صدور قرارات وزارية لوزير التجارة، تضمنت إضافة أصناف أخرى للقائمة الأساسية وهي القرارات أرقام 148، 466، 555 لسنة 1974، وأرقام 62، 143، 259، 508 لسنة 1975، والقرار 227 لسنة 1976، وقد ردد كثير من المتعاملين في هذه الآونة أن صدور قرارات وزارية؛ بإضافة بعض السلع قد حقق لبعض المستوردين مكاسب طائلة؛ إذ كانوا يقومون بالشحن والسعي لدى المسئولين؛ حتى تصدر القرارات بإضافة ما قاموا بشحنه من سلع. وعند نشر هذه القرارات وعلم باقي المستوردين بها، يكون قد أُتيح لهؤلاء تحقيق مكاسب طائلة؛ مستفيدين - في ذلك - من ظروف احتياج الأسواق للسلع التي استوردوها" (91).
* هذه الثغرات الخطيرة في خطوطنا الدفاعية، دبرتها ووسعتها – بكل الطرق – قوى الغزو الخارجي؛ لإحداث الانهيار. فسيل الوعود والأكاذيب حول التدفقات الهائلة للمعونات، كان عماد الخداع الاستراتيجي في هذه المرحلة من الغزو، وقد ساعدت هذه الوعود في الإخلال بأي تقديرات رشيدة، وشلت إرادة المقاومة عند مستويات مختلفة من السلطة، وعند قطاعات وطنية كثيرة. من هذا الجو من الوعد بآلاف الملايين من الدولارات، كان طبيعيًّا أن تسود موجة الاستيراد من الأسواق الغربية على أوسع نطاق. ولمَ لا، والمعونات والمِنَح ستتولى السداد؟
إلا أن الخديعة لم تكن إحدى الأدوات الفعالة، وكانت موجهة بالتحديد إلى الفئات الوطنية التي كان يمكن أن ترفض التورط في هذه السياسات، لولا أن وعيها زُيِّف، وإرادتها شُلَّتْ؛ ولذا نشطت – إلى جانب الخديعة – التوجيهات السياسية المباشرة المرتبطة بالدور الأمريكي في الصراع المصري الإسرائيلي. فالحد من العلاقات الاقتصادية مع الدول الاشتراكية، كان جزءًا من مخطط إبعاد السوفييت عن منطقة الشرق الأوسط. وبالتالي كان لا بد أن يتسع الاستيراد من الأسواق الغربية – بقرار سياسي – رغم استحالة زيادة التصدير إلى هذه الأسواق بمعدلات معقولة. أيضًا كان لا بد من شرط دفع عجلة التعمير في منطقة قناة السويس (ويتضمن التعمير بالضرورة، زيادة في الاستيراد من الغرب).
وكان مفهومًا أن هذا التوجه السياسي، يؤثر حتمًا بالسالب على ميزان المدفوعات.
ولكن لم يكن كافيًا مع ذلك التزام القيادة السياسية بهذا التوجه لتحقيق كل النتيجة المطلوبة: أي انهيار ميزان المدفوعات؛ ولذا تدخلت الحكومات والشركات والبنوك الدولية لإكمال المهمة. فيلاحظ مثلاً أن الأسواق الغربية انفتحت عام 1974 بالذات للقطن المصري، واستوعبت القسم الأكبر من صادراته، ثم توقفت عن هذا الاتجاه في الأعوام التالية، فهل كان هذا محض صُدفة في أسواقٍ، تخضع معدلات ومناطق الاستيراد فيها، لقدر كبير من التوجيه الحكوميّ؟ جائز طبعًا أن تكون صدفة، ولكن جائز أيضًا – في إطار التصور العام للحركة – محاولة هذه الدول لدعم القرار السياسي، بتعديل التوزيع الجغرافي لتجارة مصر الخارجية، وللإيحاء بأن الاستغناء عن الأسواق التقليدية للقطن (في الشرق) مسألة ممكنة، ولحفز حركة الاستيراد من الغرب في العام الأول من الانفتاح.
أيضًا حدث أن تضافرت كل الجهات المتحالفة من أجل رفع أسعار الواردات بمعدلات غير طبيعية، ولا تتناسب مع معدلات التضخم التي كانت سائدة في الأسواق الموردة، ومثال القمح هنا صارخ؛ فواردات القمح زادت أسعارها أكثر من ثلاثة أضعاف. والقمح سلعة استراتيجية، وخضوع أسعارها لسياسات الحكومات في الغرب، مسألة لا خلاف عليها (4 دولة تحتكر تقريبًا صادرات العالم من الحبوب، وهي الولايات المتحدة – كندا – أستراليا – الأرجنتين. الولايات المتحدة تحتكم وحدها على 50% من الصادرات) وللتذكرة، فإن منع صادرات القمح ذات الترتيبات الخاصة في السداد (قانون 480) سلاح استُخدم كثيرًا في منازعات الولايات المتحدة مع الدول التابعة. وفي عام 1974 و1975 بالذات، كانت التصريحات العلنية حول استخدام القمح؛ كأداة للإخضاع السياسي تتطاير في جو شامل للدول النفطية والعربية، فإنه ظلت هناك مصلحة سياسية في رفع أسعار المواد الغذائية، وعلى رأسها القمح، وكان هناك دائمًا "من يصرخون بأن هناك علاقة مباشرة بين أسعار النفط، وبين أسعار الأسمدة والطعام، ومجاعة مئات الملايين في الهند وبجنلاديش والأقطار النامية الأخرى (غير البترولية) في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية" (92). أي كان هناك هدف إرباك اقتصاديات هذه الدول بشكل عام، واستخدام ذلك (ضمن أهداف أخرى) في الوقيعة بين الدول التابعة النفطية، والدول التابعة غير النفطية.
في هذا الإطار السياسي لاستخدامات القمح، نعتقد أن أثر المبالغة في رفع أسعاره على ميزان المدفوعات المصري
لم يكن صدفة. كانت الحكومة المصرية تتطلع – بسذاجة – إلى استيراد سلع زراعية بقروض طويلة الأجل من الولايات المتحدة، قيمتها 750 مليون دولار؛ وفقًا لبرنامج الغذاء من أجل السلام. كان هذا التطلع ضمن جو الآمال والأحلام، ولكن تبين أن كل الميزانية المقترحة، وفقًا للفقرة الأولى من القانون 480، للسنة المالية 1975، لا تتجاوز 742 مليون دولار، وفي نفس الوقت كان مخططًا ألا يزيد نصيب أي بلد– في سنة التكدير الشامل هذه – عن 10% من اعتمادات البرنامج. وعلى ذلك، خُصِّص لمصر 100 ألف طن من القمح (بدلاً من المليون التي طلبتها). وتلقت مصر – بمقتضى هذا البرنامج – شحنات مجانية من الولايات المتحدة خلال النصف الثاني من عام 1974 لم تتجاوز قيمتها 2.8 مليون دولار (93).

صحيح أن هذا الرقم عبرت به الولايات المتحدة عن "عواطفها"، وأن منزلة مصر عندها لا تقل عن منزلة شيلي وفيتنام الجنوبية (قبل تحريرها) وكوريا الجنوبية، ولكن ظل الرقم ضئيلاً جدًا بالنسبة للاحتياجات التي تولت الولايات المتحدة توريدها بأسعار خرافية، بالتعاون مع حلفائها السياسيين، في [كارتل] القمح؛ فقد بلغت واردات القمح 2.5 مليون طن خلال 1974 قيمتها 682.8 مليون دولار، والدقيق 200 ألف طن قيمتها 64 مليون دولار، وكان متوسط ثمن الطن المتري من القمح المستورد 28 جنيهًا عام 1972 و99 جنيهًا عام 1974.
واعترف البنك الدولي بأن غياب التمويل السهل للمواد الغذائية، ضاعف أيضًا من المشكلة؛ حيث اضطرت مصر إلى استيراد هذه المواد باستخدام تسهيلات ائتمانية قصيرة الأجل جدًا، وبأسعار فائدة مرتفعة، وكان هذا سببًا أساسيًّا خلف أزمة السيولة الحادة، التي تجتازها مصر حتى الآن(94).
وبالإضافة إلى هذه السلعة المسعرة سياسيًّا، وبقرارات حكومية أو شبه حكومية، أصبح معروفًا الآن أن أسعار السلع المستوردة من الأسواق الغربية كانت – بشكل عام – بالغة الارتفاع عن المستويات الطبيعية. ومع ذلك توسع الاستيراد، ولم ينكمش. وكما ذكرنا عبر البنك الدولي عن دهشته الطريفة من هاتين النتيجتين "المتعارضتين"، ومع أن الأمر
لا يبدو عجيبًا أو مُلغزًا.

* فالشركات العابرة للجنسية (بحكم مصالحها المتشعبة، وعملياتها الإنتاجية والتسويقية في مختلفة الدول) تتابع بانتظام التطورات الدولية، وتنصح حكومات دولها، وتتقبل النصح، حول السياسات المقترحة في المناطق والدول المختلفة. هذا كلام لا يختلف حوله. ولجان الاستماع في الكونجرس الأمريكي، والتحقيقات المجراة حول الشركات العابرة للجنسية، وحول شركات النفط في الشرق الأوسط وغيره، وعشرات الكتب الصادرة في الغرب، مليئة بالمعلومات والأمثلة الوفيرة. ومنطقة الشرق الأوسط (بكل ما فيها) وإخضاع الدول العربية – وعلى رأسها مصر –
لم تكن لتبعد أبدًا عن مبدأ التنسيق بين الشركات والحكومات المعنية، متضمنًا توزيع الأدوار. لقد استطاعت الضغوط السياسية من الولايات المتحدة والهيئات الدولية تسهيل مهمة المهاجمين؛ سواء من خلال الموقع الاستراتيجي الحاكم الذي احتلته الولايات المتحدة في إدارة الصراع المصري الإسرائيلي، أو من خلال ما صاحب ذلك من حملة التضليل العام، أو قرار التعمير، أو قرارات "اللامركزية" في الاستيراد، والسماح للقطاع الخاص بأعمال الوكالة التجارية. وكان على الشركات أن توسع هذه الثغرات بكل إمكانياتها على نسج شبكة العملاء وتقديم الرَّشاوَى على أوسع نطاق.

وخبرة رجال الأعمال الغربيين في فتح الأسواق بهذه الأساليب "القذرة" خبرة عريقة ومعروفة، رغم أن الامتناع الواضح عن تناول الوقائع الهامة عن الفساد في تحليل مشاكل التنمية في البلاد المتخلفة، يعتبر من أوضح الأمثلة حول تحيز "منهج ما بعد الحرب" (في دراسات التنمية) كما لاحظ وبحق ميردال. والعدد المحدود من الاقتصاديين الغربيين الذي تناولوا قضية الفساد (في دراسات منشورة)، كان رأيهم أن الرشوة ضرورة وعملية تشحيم غير ضارة لإدارة متضخمة وبطيئة. وأعتقد أن أحدهم كان صادقًا تمامًا حين أوضح "أن الفساد في هذه الدول ليس مجموعة من الظواهر المتفرقة، ولكنه نسق سياسيّ يمكن لمن يمارسون السلطة أن يوجهوه بدقة معقولة"، فهذا التشخيص صحيح إذا كان مقصودًا "بمن يمارسون السلطة" المؤسسات المعنية في الدول المسيطرة – في المقام الأول – "فعالم الأعمال كان نشطًا بشكل ملحوظ، في حفز ممارسات الفساد مع السياسيين وكبار المسئولين. إن أحد القضايا الهامة التي تلزم التقارير الرسمية والمناقشات العامة الصمت حيالها هو الدور الذي يلعبه رجال الأعمال الغربيون المتنافسون على الأسواق في أقطار جنوب آسيا، أو المشتغلون في استثمارات مباشرة في المشروعات الصناعية هناك؛ سواء بشكل مستقل،
أو كمشروعات مشتركة مع الشركات المحلية أو الحكومات. إن ممثلي دوائر الأعمال الغربية، لا يشيرون أبدًا إلى هذا الموضوع علنًا، ولكن بوسعي أن أؤكد شخصيًّا أنهم يعترفون صراحة في الأحاديث الخاصة، أنه من الضروري عادة أن يُرشَى المسئولون الكبار والسياسيون من أجل عقد صفقة، ولا بد من رشوة مسئولين كبار ومسئولين صغار؛ لكي يديروا مشروعاتهم دون عقبات عديدة، (…) وبين الأقطار الغربية، يقال عادة: إن الشركات الفرنسية والأمريكية والألمانية الغربية (خاصة) هي أقل الشركات تمنُّعًا في استخدام الرَّشاوَى لشق طريقها، بل يقال: إن الشركات اليابانية أسخى أيضًا في هذا الباب. ومن ناحية أخرى
لم أسمع أبدًا ادعاءً بأن الوكالة التجارية للبلاد الشيوعية قدمت أو دفعت رشاوى فردية" (95).

"الأساليب القذرة" ممارسة معروفة - إذن - ومسلَّم بها، تتولاها إدارات محترفة؛ كجزء من الآليات الضرورية لفرض التبعية وإعادة إنتاجها. وقد حدث بالفعل أن تدفق ممثلو دوائر الأعمال الغربية منذ 1973، مع عملاء المخابرات، والمغامرين من كل نوع، وعملت كل الجوقة على بيع الأحلام، وعقد الصفقات، فتحولت اللامركزية في الاستيراد إلى فوضَى شاملة.
ونجحت الفئة المحلية العميلة للشركات الدولية في لعب دورها المرسوم لفتح السوق المصري على مصراعيه. كان مطلوبًا من هذه الفئة تمرير أكبر كمية ممكنة من الصفقات، وبأسعار تزيد كثيرًا عن المستويات الطبيعية، وكان عائد هذه الفئة يتناسب مع نجاحها في أداء المهمة، فالميل الحدي للحوافز (عمولات ورشاوى مالية وعينية) يتزايد بكثرة مع زيادة حجم الصفقة، ومع ارتفاع سعرها، فجرى التسابق المجنون لعملاء الشركات نحو تحقيق الهدف. وقضية ارتفاع العمولات لا يختلف عليها في الأوساط المصرية المسئولة، فأحمد أبو إسماعيل اعترف مثلاً في بيان مكتوب بأن الواردات المصرية "تحملت أعباء إضافية من فوائد وعمولات استيراد مرتفعة" (96). إلا أن البعض يتصور أن ارتفاع أسعار الواردات؛ تم فقط بسبب العمولات المرتفعة (أي لتغطية تكلفة العمولات) وهذا غير صحيح. فالعمولات المرتفعة كانت – كما قلنا – حافزًا أيضًا لرفع أسعار الواردات.
ولا ينبغي أن نفهم حرص الموردين – في حالتنا – على رفع الأسعار؛ باعتباره مجرد حرص تقليد تقليدي على تعظيم الربح، فالشركات العابرة للجنسية، لا تتعامل مع الأسعار، في كل صفقة وفي كل مكان؛ وفق هذا المنطق البسيط (كالبقال أو صاحب معرض وورشة الأحذية، رغم أن حتى هؤلاء، لهم هامش ما من المرونة في تحديد الأسعار).
فسياسة الأسعار – في الشركة العملاقة – تتحدد مركزيًّا كجزء من التخطيط العام، وتتحدد مستوياتها في الفروع المختلفة، وفي الدول المختلفة؛ حسب معاييرَ متعددة، وتختلف هذه المعايير في الدولة الواحدة من مرحلة إلى أخرى. إنها تهدف – في التحليل النهائي، ومن مجمل عملياتها – إلى تعظيم ربحها، ولكن هامشها في المناورة من أجل تحقيق الهدف، هامش واسع؛ سواء في إطار النظرة الشاملة لأعمال الشركة المنتشرة في أرجاء العالم، أو في إطار المصالح الاستراتيجية للدولة الأم التي تتبعها إدارة الشركة، أو في إطار المصالح الاستراتيجية للدول الغربية.
ففي بعض المراحل، يمكن أن تمارس سياسة إغلاق من أجل فتح أسواق معينة (أي: تباع السلع بسعر التكلفة
أو بسعر يقل عن التكلفة). وفي أحيان أخرى، تمتثلُ هذه الشركات لقوانين وقرارات حكوماتها، فتمتنع تمامًا عن التعامل مع أسواق معينة، ضد توجهاتها التلقائية والغريزية لتوسيع عملياتها وزيادة أرباحها؛ احترامًا لاعتبارات استراتيجية وسياسة (بدا هذا واضحًا في محاصرة الدول الاشتراكية الأوروبية والصين وكوبا – ورغم الانفراج الدولي لا زالت هناك ضوابط سياسة مراعاة).

وفي أحيان ثالثة، لا تكون هناك مقاطعة كاملة؛ وفق قواعدَ صريحة معلنة، ولكن يحصر التعامل من خلال إرهاق العميل بتعقيدات مكتبية، أو برفع السعر، أو بالامتناع عن تقديم تسهيلات في السداد (وبدا هذا مثلاً في التعامل مع مصر في النصف الثاني من الستينيات وأوائل السبعينيات). وفي أحيان رابعة، يطلق العنان للشركات؛ كي تتسابق بلا أي ضابط خلف غرائزها؛ لزيادة المبيعات ومضاعفة الأرباح، طالما أن هذا يتسق مع الخط الاستراتيجي والسياسي العام (وأبرز مثال هنا حالة البيع للدول المصدرة للنفط؛ حيث تكونت كارتلات من الشركات لرفع الأسعار؛ كجزء من مخططات ما يسمى إعادة تدوير البترودولارات).
وتخطيط هذه الشركات لعملياتها – وضمنها تخطيط الأسعار – لا يخضع فقط للاعتبارات الذاتية لكل شركة، فهو يتأثر تأثرًا كبيرًا – كما رأينا – بالتطورات والتوجيهات السياسية للدول الغربية. ومن حقنا - على ضوء ذلك - أن نفترض أنه كان مطلوبًا من الشركات العابرة للجنسية والموردين – بدءًا من 1974 – أن تتنافس في إحداث الانهيار المدبر لميزان المدفوعات المصري، وما يترتب على ذلك من الإغراق في الدين. كان المطلوب من دوائر الأعمال، أن تحق بوسائلها "الخاصة" ما عجز صندوق النقد الدولي عن تحقيقه؛ من خلال خفض سعر المصرف الرسمي. ويعني ذلك أن التنافس في زيادة المبيعات ورفع الأسعار لم يكن مجرد استجابة للتطلعات التلقائية لدوائر الأعمال، ولكن كان يعني أن هناك ضوءًا أخضرَ أمام هذه التطلعات التلقائية؛ لكي تندفع بأقصى طاقة، مع ضمان بألا تتعرض هذه الأعمال إلى مخاطرَ اقتصادية شديدة؛ بسبب هذا التوسع في البيع إلى عميل مفلس.
د- التفسير الثاني (الديون المصرفية): ينقلنا هذا إلى الوجه الآخر للعملة، ونقصد تراكم الديون القصيرة الأجل. ودور هذه الديون أنها يسرت وحفزت زيادة الاستيراد (حجمًا وسعرًا)، وأدت في نفس الوقت إلى مزيد من تكلفته. وأيضًا كانت طبيعة هذه الديون (قصر الآجال والمعدل العالي للفائدة) وكانت استخداماتها (في أوجه لا تزيد موارد النقد الأجنبي) تجعل السداد عند موعد الاستحقاق مستحيلاً، وبالتالي كانت كل زيادة في الاستيراد بواسطة هذه التسهيلات، تعني مزيدًا من الغرق في مأزق لا خلاص منه. وقد تحدثنا عن جملة التخدير بالأحلام التي صاحبت الانفتاح الاقتصادي. وهذه الحملة المدبرة، جعلت عددًا كبيرًا من المخدوعين، ينتظر فيض المِنح العربية النقدية، والمعونات الأمريكية والغربية لمواجهة العجز المتصاعد في ميزان المدفوعات، وهذه الحملة لم يكن ممكنًا أن تحقق أهدافها بالكفاءة المطلوبة، ما لم تكن مصحوبة ببعض "البشائر" تهل بين الحين والآخر، وتحقق ذلك من خلال التدفقات النقدية من دول الخليج العربية التي يبدو أنها استخدمت، وفق مخطط بارع، فمن حيث الكم، كانت بالقدر الذي يكفي لإبقاء جذوة الآمال متقدة، ولا يكفي في نفس الوقت لوقف الحاجة إلى الديون الصعبة. ومن حيث الأسلوب، لم تتدفق المعونات وفق اتفاقية تحدد الكميات والتوقيت. فلو تحددت الأمور – كما في تحويلات دعم الخرطوم – يكن عمل حسابات تنبؤات واقعية، فلو تحددت الأمور – كما في تحويلات دعم الخرطوم – يمكن عمل حسابات وتنبؤات واقعية، ويصعب خلق جو الإرباك والتمني اللازم للإغراق في الديون الصعبة؛ ولذا بدا الموقف من خلال التدفقات غير المنتظمة أن الاحتمالات بلا سقف، وتتوقف على نجاح الاتصالات السياسية، وبالفعل كانت الاتصالات تحدث بعض النتائج، وخاصة في أواخر 1973 بعد حرب أكتوبر، ولكن دخلت المسألة – مع احتواء وسيطرة الولايات المتحدة للموقف – في آلية الإغراق، وأصبحت التدفقات غير المنتظمة مسألة مدبرة، وبمثابة "الجزرة" التي تحفز "الحمار" على مواصلة السحب على التسهيلات المصرفية، وتسهيلات الموردين.
فبعد حرب أكتوبر وصلت المنح العربية على 725 مليون دولار، وغطت هذه المنح 111% من عجز السلع والخدمات، وبإضافة سداد المدفوعات الرأسمالية، تكون هذه المنح قد غطت 62% من إجمالي الالتزامات المالية الخارجية لمصر. وهذه الصورة كانت بشيرًا طيبًا لاحتمالات عام 1974، وبالفعل زادت المنح غير المنتظمة إلى مجموعة 1264 مليون دولار في ذلك العام (تتضمن حوالي 221 مليون دولار منحًا بترولية)، ولكن على أمل المزيد من المنح، وبكافة الدوافع الأخرى التي تحدثنا عنها، كان مطلوبًا ومحتمًا أن يتجاوز عجز السلع والخدمات هذا المبلغ، فالمنح غطت 78% فقط من العجز، و55% من إجمالي الالتزامات المالية الخارجية. ولم تتقدم مصادر المعونة الأخرى لستر الموقف؛ فالبنك الدولي الذي وعَد بتقديم 200 مليون دولار في الفترة من يوليو 1974 إلى يونيو 1975، لم يتم توقيع اتفاقية محددة معه؛ وبالتالي لم يبدأ السحب الفعلي في عام 1974 (باستثناء قرض قناة السويس). ونفس الأمر بالنسبة للوعود التي تلقتها مصر من دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (oecd)، وبالنسبة للولايات المتحدة بالذات كانت الفجوة هائلة بين ما وعدت به القيادة السياسية، وبين ما اعتمدته فعلاً؛ فقد طلب الرئيس الأمريكي نيكسون من الكونجرس في أبريل 1974 اعتماد مبلغ هزيل (250 مليون دولار) كمعونة لمصر، وكتب نيكسون في رسالته إلى الكونجرس: "إن هذه المساعدات (لمصر والدول العربية)، ستُسهم في بناء ثقة هذه البلاد في الولايات المتحدة، وستدعم القوى المعتدلة في المنطقة" (24/4/1974)، وتحدث بعد ذلك كيسنجر إلى الكونجرس، وأوضح أن "هذه المساعدات هي محاولة لتكريس مؤشر جديد، يظهر لأول مرة منذ عقود من الزمان.
إن هذه المساعدات، هي الإسهام الأمريكي في خلق حوافز لدى كل الأطراف؛ لكي يديروا ظهورهم للحرب ويتوجهوا نحو السلام، ولكي يغيروا أولوياتِهم من الصراع إلى التعمير (...) حينما تدرسون مقترحاتِنا، نرجوكم أن تتذكروا فلسفتنا الأساسية، وهي تنمية التعاون ومنع المواجهات والضغوط علينا وعلى أصدقائنا وحلفائنا"(97) (26/4). ورغم الفجوة الهائلة بين الوعود الأولى وبين المبلغ المقترح (مشفوعًا بكل هذه التفسيرات) لم يعلن الكونجرس موافقته، إلا في أواخر العام، ولم يبدأ السحب عليه إلا عام 1975، وفي المقابل أدى التدهور في العلاقات مع الاتحاد السوفيتي إلى هبوط معدل السحب على اتفاقيات التعاون الاقتصادي والفني، وإلى إيقاف كامل التسهيلات للموردين، وارتبط هذا وذاك بالتزامات السداد في هذين الحسابين، فأصبح صافي حركة رأس المال من الاتحاد السوفيتي إلى مصر بالسالب لأول مرة، وبلغ صافي التدفق من مصر إلى الاتحاد السوفيتي 228 مليون دولار (183 مليونًا اتفاقيات تعاون + 45 مليونًا تسهيلات مورِّدين، بخلاف أقساط الديون العسكرية) وإجمالاً أوضح تقرير للبنك الدولي أنَّ حسابات القروض المتوسطة والطويلة الأجل، سجلت عام 1974 تدفقًا صافيًا من مصر للخارج (وإلى دول الكتلة الغربية كما إلى دول الكتلة الشرقية) يصل إلى حوالي 132 مليون دولار (52 مليون جنيه)، فرغم التيسيرات التي قدمها الموردون الغربيون، زاد إجمالي تسهيلات الموردين عن مدفوعات السداد لهذا البند بحوالي 21 مليون دولار فقط (8 مليون جنيه) بينما المدفوعات على هذه الديون وصلت إلى 402 مليون دولار (157 مليون جنيه) (98)، وقد طرح تقرير ثانٍ للبنك الدولي، تقديرًا آخر، جعل التدفق إلى مصر 273 مليون دولار (تسهيلات موردين) + 199 مليون دولار (قروض متوسطة وطويلة) مقابل تدفق من مصر 281 مليون دولار (تسهيلات موردين) + 195 مليون دولار (قروض متوسطة وطويلة) (99)، ولكن تظل النتيجة الجوهرية واحدة، رغم هذا التعديل في الأرقام. فرصيد حسابات القروض الطويلة والمتوسطة الأجل، ظل بالسالب، وإن كان العجز – حسب التقدير الأخير – أقل بأربعة ملايين دولار. وتضاف إلى كل هذا مدفوعات الفوائد (أساسًا على تسهيلات الائتمان المصرفي) وقدمت (في المصدرين) بحوالي 165 و112.7 مليون دولار على التوالي، وكانت النتيجة التي تسللت وانتشرت عبر كل ذلك و"في غياب أيَّة آلية للتحكم" – كما يقول البنك الدولي – تفاقم الديون المصرفية.
* في آخر الفترة (يناير/ مارس) وصلت التسهيلات المصرفية القائمة (شاملة غير المسحوبة) 512.8 مليون جنيه، وفي آخر الفترة (أبريل/ يونيو) وصلت إلى 635.7 مليون جنيه، وفي آخر الفترة (يوليو/ سبتمبر) بلغت 754.7 مليون جنيه، وفي آخر الفترة (أكتوبر/ ديسمبر)؛ أي مع آخر السنة، كان الرقم قد قفز إلى 1055.2 مليون جنيه (أو 2696 مليون دولار) (100). وكانت حوالي 440 مليون جنيه في نهاية 1973 (حوالي 1127 مليون دولار)، أي زيادة 139.6% في عام واحد. وبلغت الديون القائمة للمراسلين في الخارج (أي: الكميات المسحوبة أو خطابات الاعتمادات المدفوعة بوساطة هذه المؤسسات) 423 مليون جنيه (1082 مليون دولار) في نهاية 1974 بالمقارنة مع 195 مليون جنيه (449 مليون دولار) في نهاية 1973. وقد خلق هذا النوع من التمويل، بتكلفته الباهظة، أزمةَ سيولة خارجية حادة، وورث عام 1975 وضعًا يطالب فيه – خلال السنة – بسداد تسهيلات مصرفية وصلت قيمتها إلى حوالي 2050 مليون دولار. وبالنسبة لإجمالي الدين العام الخارجي المعلن، كان 31% مستحقًا للسداد خلال عامين، و40% خلال ثلاثة أعوام، 46% خلال أربعة أعوام(101).
* إن تسهيلات الموردين لا تعتبر في معظم الحالات ضمن الديون الميسرة، ومع ذلك فهو إجراء تقليدي لتشجيع المستوردين على زيادة مشترياتهم، ولكن هذا لا يعني أن الشركات تقدم هذه التسهيلات في أي وقت، ولأي عميل، وبأي مقدار، فهنا أيضًا يتحدد القرار بالأوضاع السياسية العامة، وبالأوضاع الخاصة للموردين، وبمدَى الثقة في اقتصاديات العميل، وفي قدرته على أداء التزاماته. ولكن الأوضاع السياسية تأتي أولاً. ويفسر هذا - إلى حد بعيد - هبوطَ تسهيلات الولايات المتحدة، ووقف القروض الحكومية الغربية. ومع الدور الأمريكي الجديد تغير الموقف، ويشير إلى هذا بصراحة تقرير البنك الدولي عن القروض. إلا أن التدفق الأكبر للديون، جاء في عام 1974، على يد البنوك (وليس عبر تسهيلات الموردين). وهذا "السخاء" – من البنوك – لا بد أن يكون أيضًا بقرار سياسي. فقد كان معروفًا تمامًا نضوب الموارد الذاتية للحكومة المصرية، وكان معروفًا أيضًا، أن المعونات النقدية لم تنهَمر على السلطات المصرية. كذلك لا يمكن أن يكون هذا التسابق بسبب الغفلة والبلاهة؛ فهذه الأوصاف لا تنطبق أبدًا على مصادر الإقراض الغربية (موردين أو بنوك)، ومن المسلم به أن البنوك الكبرى في الدول الغربية (وعلى رأسها البنوك الأمريكية) تسيطر على توزيع التسهيلات التمويلية في العالم، وفق شروط ومعاييرَ تحقق المصلحة السياسية والاقتصادية للدول المسيطرة، وعلى حساب الدول التابعة، وفي مواجهة "حالة خاصة" تتحدد سياسة هذه البنوك؛ وفقًا للتوجيهات والتكتيكات المحددة، ومركز التوجيه هو الحكومات الغربية (خاصة الحكومة الأمريكية – ولا ننسى أيضًا النفوذ الصهيوني) والهيئات الدولية (الصندوق والبنك وتوابعهما). وهناك "نظام للإنذار المبكر" أقامته الهيئات الدولية، ووظيفة هذا النظام – في الظروف العادية – إصدار توصيات محددة ضد تشجيع مزيد من تسهيلات الموردين والتسهيلات المصرفية إلى الدول "التي تقع في منطقة الخطر"(102)، وهذا "النظام" جزء من علاقات التشابك والتنسيق بين الهيئات الدولية، وبين المصارف والشركات الدولية، ووفقًا لهذه العلاقات لم يعمل "نظام الإنذار المبكر" عام 1974 بالنسبة لمصر (رغم توفر الدواعي الفنية لذلك)، بل تدافعت البنوك بحرص ودأَب غريبين، لإقراض مدين معسر!
* ولا يُخل بهذا التحليل، أن التوجه للإقراض المصرفي الواسع، تقابل مع التحرك التدريجي نحو إقامة خطوط ائتمان كبيرة مع البنوك العاملة في الشرق الأوسط، والمعتمدة بشدة على التمويل العربي، رغم استمرار توثيق الروابط التقليدية مع البنوك الأمريكية في أوروبا الغربية (كما يقول البنك الدولي) فأولاً: لا تخرج البنوك العاملة في الشرق الأوسط (وضمنها البنوك العربية الجنسية) بإدارتها وروابطها وتوجيهاتها عن شبكة البنوك الدولية. وثانيًا: ظلت البنوك الأوروبية والأمريكية مصدر الإقراض الأساسي. والصحيح أن المؤامرة في كل الأحوال مُوِّلت بالبترودولار؛ سواء في جانب المنح والمعونات، أو في جانب الديون المصرفية (سواء كانت ودائع البترودولار في مراكز الشرق الأوسط، أو في أفرع البنوك وخارج الشرق الأوسط).
وهذا النوع من التمويل، يهدِف من ناحية – إلى التخفيف من أعباء المخاطر الاقتصادية والسياسية، حول مصير هذه الديون (ومن هنا، السخاء في التسهيلات المصرفية، مقابل الشًُّح في تسهيلات الموردين). ومن ناحية أخرى كان هذا النوع من التمويل، يؤدي إلى تعميق التناقضات بين الدول والشعوب العربية.
هـ- التفسير الإجمالي: تمت "المؤامرة" بتدبير وتخطيط. ولا أعتقد أن هذا التحليل يقوم على الاختلاف أو الجموح في الخيال؛ فهو تحليل يستند إلى خلفية من المسلمات المعروفة والمنشورة عن آليات العلاقات بين دول السيطرة الغربية والدول التابعة، وإلى حقيقة أن الدول المسيطرة (والولايات المتحدة على رأسها) تلجأ إلى التخطيط في تحقيق أهدافها. وفوق كل ذلك، فإن تحليلنا يبدو تفسيرًا معقولاً لنتائجَ تبدو شاذة وغير مفهومة بغير هذه الفروض وهذا التحليل.
* و.. نعود الآن إلى التعليق على تفسير البنك الدولي لانهيار ميزان المدفوعات المصري؛ فقد سجل تقرير البنك أن التوسع في الطلب المحلي (لكل من الاستهلاك والاستثمار) كان ملحوظًا.. وأن "مفعول الدخل" الذي عمل في الاتجاه المضاد "لمفعول السعر" كان بوضوح القوة السائدة، ويبدو – كما يقول التقرير – أن الزيادة في الطلب المحلي نشطت الواردات، وصرفت الصادرات عن الأسواق الخارجية إلى الداخل. وهذا التفسير – على ضوء العرض السابق – لا يوصف بأنه سطحيّ، ولكن بأنه تفسير مغالط، فالنص على أن مفعول الأسعار لعِب دورًا مضادًا لمفعول الدخل، يتضمن إصرارًا على أن ارتفاع أسعار الواردات لعب دوره "التقليدي" في اتجاه خفض الاستيراد، ويعني هذا أن ارتفاع الأسعار، جعل الانهيار في ميزان المدفوعات أقل. وهذا الاستنتاج المطلق، والمجرد عن ظروف المكان والزمان المحددين، لا معنى له.
إن ارتفاع الأسعار لا يحقق خفضًا في الاستيراد، إلا إذا كانت التجارة الخارجية تُدار إدارة رشيدة، وتهدف – ضمن ما تهدف – إلى الحد من عجز ميزان المدفوعات، ولكن إذا أخذنا بالفرض الذي نبدأ منه التحليل، وهو أن هناك هجومًا مخططًا لإخضاع مصر، وأن انهيار ميزان المدفوعات سلاح مجرب في هذا الاتجاه، تكون زيادة الأسعار غير متعارضة في هذه الحالة مع زيادة حجم الواردات، بل إنهما يتعاونان معًا لتحقيق الهدف باتساق تام، والأدوات المستخدمة لإحداث الزيادة في الاتجاهين كانت نفس الأدوات: العمولات. و الرَّشاوَى – والتسهيلات الائتمانية الباهظة التكلفة. إن ارتفاع الأسعار لم يكن في حالتنا – إذن - "فرملة" للاستيراد، ولكنْ كان قوة دفع إضافية، تضافرت مع الزيادة المتعمدة في الاستيراد؛ ليكون الانهيار في ميزان المدفوعات أفعل.
هذه هي المغالطة الأولى، والمغالطة الثانية أن تقرير البنك صوَّر العملية كما لو أن زيادة في الموارد النقدية قد حدثت – كمرحلة – فأدت إلى زيادة الطلب الداخلي (لكل من سلع الاستثمار والاستهلاك) – في مرحلة تالية، وهذا تصوير يكون صحيحًا في حالة حصول مصر على مِنَح وقروض نقدية ميسرة، فأنفقت في زيادة الاستيراد – بطريقة غير رشيدة – رغم ارتفاع الأسعار، وإذا تم الأمر بهذه الصورة؛ فإننا لا نكون بصدد حالة تثير الفزع؛ إذ تكفي وقفة متأنية لتحليل ما تم – بأعصاب هادِئة – بهدف الترشيد، ولكننا – باعتراف البنك الدولي – بصدد كارثة، والكارثة لا تفهم
إلا على ضوء تصور معاكس تمامًا لتصور البنك، ووفقًا للوقائع الثابتة، فإن الموارد النقدية التي حصلت عليها مصر، كانت في قسم كبير منها مقيدةً بواردات بأسعار مرتفعة، أي: قدمت القروض الصَّعبة؛ لتنفيذ الواردات التي تم الاتفاق
أو التعاقد عليها، وبالتالي لم يزد الدخل فزاد الطلب المحلي، ولكن فرضت زيادة الطلب، فأدَّى ذلك إلى التورط في الديون الصعبة، أي أدى إلى زيادة الدخل بطريقة مشوهة.

* ويثير السخرية، أن مسئولاً كأحمد أبي إسماعيل يكتب في أواخر 1977 أن عدم تدفق المنح الموعودة والقروض الميسرة في عام 1974، والغرق في الديون الصعبة، كان بسبب أن "الأصدقاء" كانوا يجهلون واقع الحال، "فالعرب كانوا يظنون أن مصر تمر بعملية بناء اقتصادي كبير؛ نتيجة لتطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي. وبالنسبة للأصدقاء الأمريكان، فقد لمست بنفسي ذلك في مايو 1975؛ فقد كان لديهم الانطباع بأن الحالة أحسن من الوضع الحقيقي لها، فلم يصدقوا أننا بحاجة إلى مبالغَ ضخمة لسداد التسهيلات المصرفية التي اقترضتها حكومة د. حجازي في عام 1974، وللحصول على احتياجاتنا من السلع الرئيسَة، إلا بعد أن اجتمعت بخبراتهم وناقشت هذه الاحتياجات تفصيلا"(103).
هذا الكلام يثير السخرية، إذا كان أبو إسماعيل يعتقد أن "الأصدقاء الأمريكان" نكثوا بوعودهم في موضوع المعونات، وطلبوا من الدول النفطية أن تَغُل يدها هي الأخرى؛ لأنهم تصوروا - خطأ - أن الأحوال الاقتصادية مزدهرة، وخاصة بالنسبة لميزان المدفوعات. إنني أصدق أن الأمريكان أبلغوا أبا إسماعيل بهذا الكلام فعلاً، ولكن بهدف ابتزاز المفاوض المصري؛ لكي يرفع أية ضوابطَ على حرمة المعلومات، وأيضًا لكي يخدعوه لعام آخر. وبالفعل حدث أن مواصلة الإغراق في الديون الصعبة، استمرت أيضًا خلال عام 1975، ولم تتدفق المعونات في هذا العام، إلا بالقدر وللوظيفة التي تمثلها الجزرة في حكاية الحمار، وقد فعلوا ذلك رغم أنَّ أبا إسماعيل ناقش معهم "الاحتياجات تفصيلاً"، يعني تأكد أنَّ المسألة ليست مسألة جهل، ولكنَّ أبا إسماعيل لم يفهم - حتى الآن – المسألة، أو لا يريد أنْ يفهم.
و- الصورة الواقعية لتجارة مصر الخارجية: بعد هذا العرض لنتائج "اللامركزية" و"تحرير التجارة الخارجية من القيود البيروقراطية"، يحسن أن ندعم فروضنا العامة، وحديثنا عن دور الوكلاء، وأرقامنا السابقة، بعرض صورة واقعية لما آلت إليه حركة الاستيراد الفعلية بعد الانفتاح. فقد تضافر مع رفع الموردين لأسعار مبيعاتهم، عجز ميناء الإسكندرية عن الاتساع لهذا الكم من الواردات بغير تخطيط، فتوالت غرامات التأخير، وكانت رافدًا آخر لزيادة تكلفة الاستيراد. في يونيو 1974، أعلنت حالة الطوارئ القصوَى في ميناء الإسكندرية؛ لأن 945 ألف طنًا من البضائع كانت مكدسة في المخازن وعلى الأرصفة وداخل الميناء. وفي نوفمبر 1974 كشفت مناقشات لجنة النقل بمجلس الشعب مع المسئولين أن استمرار التكدس في الميناء يكلف مليون دولار يوميًّا – في المتوسط – كغرامات تأخير للسفن، وفي آخر السنة قدر إجمالي ما تحمَّله الاقتصاد المصري؛ كغرامات تأخير (خلال 1974) بحوالي 49 مليون دولار(104).
* إلا أن قضية ميناء الإسكندرية أصبحت تتجاوز كثيرًا أنها قضية اختناق وغرامات تأخير، وما نفهمه من طبيعة هذه الظاهرة، يعني أنه لم يكن ممكنًا احتواء الأزمة بمجرد تطوير الأساليب الإدارية للميناء، فالفوضى التي بدأت مع التوسع المجنون في التعاقد على صفقات عجيبة وبأسعار شاذة، كان لا بد أن تُستكمل بحلقات مترابطة في سلسلة التلاعب فور إتمام التعاقد، وعقب خروج البضائع من المصنع وشحنها فوق بواخرَ مستهلكة في عبوات غير ملائمة، ثم في مرحلة ما بعد التفريغ في ميناء الإسكندرية. ويحسن أن نشير هنا إلى الدراسة التي قامت بها الرقابة الإدارية مع 18 جهة مسئولة في الدولة(105)، وتتركز الدراسة على مها تتعرض له السلع المستوردة في الميناء في خطوات متتالية:
1. فالسفن تفرِغ شحناتِها دون حصر سليم للبضائع، من حيث الكميات والماركات والعلامات، وحالة غير السليم منها، ودون مطابقة هذه البضائع مع المسجل على "مانفستو" السفينة! كان العمل يجري في السابق على أن تتولَّى شركات الملاحة والتوكيلات الملاحية تعيين العدد المناسب من "كتبة الحصر" على كل سفينة، ثم يتولى مندوب التوكيل الملاحي بعد ذلك مسئولية تتبع البضائع؛ وفقًا للحصر المحقق على السفينة لحين تستيفها بالساحة، إذا كانت واردة تحت نظام (تسليم صاحبه) أو تسليمها إلى "مخزنجي الاستلام" بمخازن شركة المستودعات إذا كانت واردة تحت نظام (تسليم مخزن). كانت تلك – كما تشير دراسة الرقابة الإدارية – الطريقة المتبعة في حصر كميات البضائع المفرغة من السفن؛ فهي مسئولية شركات الملاحة، والتوكيلات الملاحية تتولاها بصفته مالكة للسفن أو وكيلة عن مُلاكها، يلزمها القانون بتسليم البضاعة المنقولة إلى أصحابها أو وكلائهم بالحالة التي تسلَّموها عليها كمًّا وكيفًا.
"ولكن بعد أن تضاعف حجم الواردات، وانخفض مستوى الأداء، وتغيرت طبيعة العلاقات بين الفئات العاملة في الميناء، فإن الطريقة التي كانت متبعة سابقًا، لم تعد مطبقة من الناحية العملية". وليست المسألة مجرد إهمال بطبيعة الحال، فكَتَبَة الحَصْر لا يتبعون أية جهة حكومية أو قطاع عام، وإنما لهم جمعية تعاونية تقوم بتشغيلهم، "وهذه الفئة من أخطر الفئات في ميناء الإسكندرية"، والمعلومات (في قسم البحث الجنائي بشرطة ميناء الإسكندرية) تشير إلى أن عددًا كبيرًا من هذه الفئة مشاركٌ "في علاقات غير سليمة" مع بعض أطقم البواخر.
وهذه العلاقات تعني - من البداية - أن بوابة مصر مفتوحة على مصراعيها، فكتبة الحصر يمكن أن يثبتوا عُجُوزات وهمية في بعض البضائع؛ لكي تُعتبر عجزًا من ميناء الشحن (ويتولى كاتب التوكيل مع مخزنجي ومراقب الباخرة التابعَين لنفس التوكيل الملاحي - عمليةَ الاستيلاء على هذه البضائع التي تم إثبات عجز بها، ثم إخراجها من الدائرة الجمركية بطرق غير مشروعة) ويمكن أيضًا إثبات العكس، أي: إثبات وصول بضاعة لم ترد أصلاً، أو وردت بمواصفات مختلفة تمامًا؛ لتغطية تلاعب المتعاقدين. وتتكفل الحلقات الأخرى من العملية بطمس معالم هذه الجريمة، وقد حاولت شركات التوكيلات الملاحية (قطاع عام) التخلص من كتبة الحصر "ولكن أجهزة الأمن تدخلت لإعادتهم، واللجان الكثيرة التي شُكِّلت لحل مشكلة كتبة الحصر، ولوضع حد للسرقة، والتهريب والتلاعب لم تنتهِ إلى نتيجة".
2. نتيجة لانعدام الجرد السليم أصبح هناك تلاعب خطير في كميات ونوع البضائع المفرغة، قبل تخزينها أو جمعها (تشوينها) في الساحات، ويعقب ذلك تلاعب آخر أثناء التخزين، أو تواجد البضائع في الساحات، "فالبضاعة يتم تفريغها دون رقابة حقيقية، وعملية الاستلام والتسليم تتم دون وجود رقيب". وتتم بالتالي "سرقات ضخمة ويثرى المنحرفون ثراء فاحشًا" ويساعد ذلك تواطؤ عمال الشحن والتفريغ، فهم لا يلتزمون بالأصول الفنية، ويترتب على ذلك (مع ضعف العبوات المستخدمة في التغليف في كثير من الأحوال) - الإضرارُ بسلامة البضائع المفرغة، والعبث بها، وهنا أيضًا المسألة ليست مجرد إهمال "ويؤكد ذلك أن شركة واحدة هي شركة الشحن والتفريغ (قطاع عام) بها 4500 عامل من بينهم 900 عامل من ذوي السوابق، ومن بينهم من له 19 سابقة "وقد طلب رئيس مجلس إدارة هذه الشركة من الجهات المختصة نقلهم إلى جهات أخرى؛ حيث إن العمل في ظل هذا الوضع، يعتبر نوعًا من أنواع المساعدة على التلاعب والانحراف" (ولم يلتفت طبعًا لهذا الطلب).
ورغم التعليمات الجمركية بضرورة ترتيب الطرود غير السليمة فور دخولها المخزن، وجردِها بحضور مندوب الملاحة "والمخزنجي" ومندوبي الجمارك، إلا أنه كثيرًا ما يتأخر هذا الجرد لفترة طويلة، تُتاح فيها فرصة العبث بمشمول تلك الطرود، والتلاعب فيها.
3. تتعرض أثناء وجودها بالميناء أو ملاحتها الخارجية لسرقات منظمة، تتولاها عصابات متخصصة، والأمر العجيب أن نظام الحراسة داخل الميناء هو – نفسه – أحد الأسباب الرئيسية التي تساعد على حدوث السرقات والانحراف والتلاعب (!) فضلاً عن قلة العدد، وتجزئة المسئولية، فإن "عددًا كبيرًا من الحراس – كما يقول المسئولون بالميناء – ليسوا على مستوى مناسب من الأمانة".
....."وعندما تنتهي مراحل تداول البضائع الواردة إلى الميناء؛ بتسليمها لأصحابها وخروجها من الدائرة الجمركية تتعرض البضائع لكثير من المخاطر، لا سيما المملوكة منها للقطاع العام؛ حيث تبدأ سلسلة المخاطر من الطريقة السيئة التي يتم بها سحب البضائع – خصوصًا من الساحات المكدسة – دون مراعاة لسلامة البضائع، وكنتيجة طبيعية لهذا الوضع، فإن عملية الصرف تتم بعيدًا عن أية رقابة؛ مما يفسح المجال للانحراف والتلاعب، أو التواطؤ مع أمناء مخازن المستودعات".
4. وفي الطريق من الميناء إلى المخازن الرئيسية داخل البلاد، نكون في "ساعة السرقة الشاملة التي تجمع وحدها كل الصور التي تحدث في كل المراحل. إن أرتال السيارات التي لا تنقطع والقطارات التي لا تتوقف، والصنادل البحرية فوق النيل تشارك كلها في نقل تلال البضائع التي تستوردها الدولة، ولكنها – كلها أيضًا – تمضي على الطريق الذي يرسمه اللصوص (...) وعند وصول البضائع إلى المخازن تبدأ مرحلة سرقة من نوع جديد سرقة تستغل القصور في الإجراءات المخزنية التي تؤدي بالضرورة إلى الانحراف".
* هذا ما آلت إليه تجارة مصر الخارجية في ظل الانفتاح كما صورها تقرير رسمي من أعلى هيئة رقابية. وهذه الصورة البشعة، لم تشكلها العمليات المتناثرة لصغار الأوغاد واللصوص – كما حاول التقرير أن يقول – فمن المعروف تمامًا (بالتحديد لدى المسئولين في الرقابة الإدارية) أن هناك مؤسسات منظمة. وعلى رأس الآلاف من الأوغاد الصغار، تتربع قيادات من "ناس مهمين"، تستخدم الرَّشاوَى والضرب والقتل، وتستخدم نفوذها لتحقيق أغراضها؛ ولهذا السبب ألقي بتقرير الرقابة الإدارية (ومَن معها) في سلة المهملات(106).
إن هذه الصورة من النهب الواسع، والفوضى الشاملة قوضت - عمليًّا - ما بقي من مركزية الإشراف على الاستيراد (رغم التأميم الشكلي الذي كان لا زال سائدًا). لقد تكفلت جهود الوكلاء وبعثرة لجان البت، بخلق سلطة فعلية، تقرر في كثير من الحالات ما يستورد وما لا يستورد خلف ظهر السلطة الإسمية (المؤسسة العامة للتجارة)، ولكن
لم يكن هذا كافيًا لتحقيق الفوضى الكاملة، وفقط بمتابعة المسار الفعلي للسلع المستوردة. يمكننا أن نتصور بشكل ملموس، كيف تدفقت الصفقات الغربية، وكيف انهار ميزان المدفوعات، بعد أن أصبح الأمر خارج أي سيطرة،
أو متابعة. إن أبواب مصر لم تفتح على مصاريعها. ولكن
لم تعد هناك أبواب أصلاً.

ويمكننا أن نقدر أن الموردين الأجانب كانوا المستفيد الأول من هذه الجريمة، واقتسم معهم الأرباح الخرافية وكلاء الشركات الأجنبية (ومن في مرتبتهم). إن الأخيرين هم القيادة المحلية "للمافيا" التي أحدثت الانهيار. ولا يعني ذلك أن كل الفساد الذي سيطر على مسار الاستيراد كان بتدبير الجهات الأجنبية، بل ويعني أنه انحصر – على الجانب المحلي – في عملاء أو وكلاء الشركات الأجنبية. فانتشار الفساد داخل النسيج الاجتماعي له منطقه الخاص والغلاب، وبالفعل دخلت في العملية عصابات تهريب محترفة، وتجار جملة من خارج أصحاب التوكيلات، ولكن ظل واضعو المخططات الخارجية أصحاب المصلحة الأبعد في إطلاق هذا المنطق الداخلي لانتشار الفساد، بلا مقاومة أو ردع بهدف إشاعة الفوضى والإرباك في إدارة الاقتصاد المصري أثناء هذه المرحلة من الغزو. فضلاً عن أن واضعي المخططات الخارجية (من عملائهم) كانوا أيضًا أصحاب القسم الأكبر من المكاسب المباشرة.
إن الصورة السابقة لم تكتمل كلها عام 1974، ولكن اكتملت واستمرت في سنوات تالية تطلبها تحقيق الأهداف الموضوعة للمرحلة الأولى من الغزو. وهذه الصورة كانت للإسكندرية، حيث عمليات الاستيراد الأساسية، ولكن الصورة التي أضيفت بعد ذلك في بورسعيد كانت أكثر بشاعة.
(6) انفجار التضخم:
أ- هكذا حققت الهجمة المشتركة المضمون الأساسي لتوصية صندوق النقد؛ بخفض سعر الصرف. اعترضت الحكومة على هذا المطلب؛ لكيلا يحدث انهيار في ميزان المدفوعات، ولكن الانهيار تحقق، وأصبحت المطالبة بخفض سعر الصرف، مجرد مطالبة باعتراف قانوني، بعد اعتراف الأمر الواقع. وقد حدث تطور موازٍ لذلك في مجال تحرير الأسعار الداخلية من الضوابط المركزية. رفضت الحكومة توصيات صندوق النقد بإحداث قفزة في هذا المجال؛ لأن العواقب لذلك – من منظور أيَّة إدارة محلية للنسق الاقتصادي – يراها الأعمى؛ فالعواقب لذلك – في الظروف السائدة – قفزة وخيمة في معدلات التضخم، تزيد الاقتصاد المصري فوضَى وإنهاكًا، وتزيد التوترات الاجتماعية السياسية. ولكن هنا أيضًا كان ما تخشى منه الإدارة الاقتصادية، هو عين ما يهدف إليه الصندوق؛ كي تصبح الإدارة أكثر حاجة ليد خارجية تنتشلها من مأزقها، وأكثر استعدادًا بالتالي لقبول شروط الإنقاذ؛ ولذا تضافرت القوَى الأخرى لدعم محاولات الصندوق، ولم يكن كافيًا لرد هذه الهجمات مجرد أن تعترض الحكومة على قرار بتحرير الأسعار (كما اعترضت على خفض سعر الصرف). لقد عبرت الحكومة عن معارضتها في هذا المجال، وعن إصرارها على التحكم في الاتجاهات التضخميَّة، بقفزة في اعتماد الدعم المباشر للأسعار. كان صافي اعتمادات الدعم 11 مليون جنيه (1972) وزاد إلى 89 مليون جنيه (1973) ثم قفز إلى 322 مليون جنيه (1974) حسب تقديرات الميزانية، ووصل فعليًّا إلى 330 مليون جنيه. والحقيقة أن اعتمادات الحكومة لضبط الأسعار المحلية تجاوزت هذه الأرقام الصريحة، فالسكر المستورد – على سبيل المثال – كان يتلقى دعمًا مباشرًا (يدخل في نطاق الأرقام السابقة) ولكنْ، كان هناك دعمٌ آخر غير مباشر، يتمثل في تثبيت سعر السكر المنتج محليًّا عند مستوى يقل كثيرًا عن السعر العالمي. وما ينطبق على السكر المنتج محليًّا، ينطبق طبعًا على عديد من السلع الأخرى (كمنتجات نهائية أو كمستلزمات إنتاج)، بالإضافة إلى استمرار إنفاق الدولة على الخدمات المجانية.
ومع ذلك ارتفع الرقم القياسي لأسعار المستهلكين بنسبة 10% (حسب البيانات الرسمية)، وكانت نسبة الارتفاع أعلى في قسم الطعام والشراب (15%- وهذا القسم يمثل أكثر من 50% من استهلاك الأسرة المصرية) (107)، إلا أن التقديرات غير الرسمية ذكرت أن الارتفاع الفعلي في الأسعار بلغ نحو 20% في ذلك العام(108). ويعني كل هذا انخفاضًا حقيقيًّا في متوسط الأجر، وتدهورًا ملموسًا في مستوى معيشة أصحاب الدخول الثابتة، رغم كل اعتمادات الدعم. وهذه نتيجة منطقية؛ فالتحكم في الاتجاهات التضخمية (وفي الأسعار)
لا يمكن أن يتم بإجراء واحد يتيم، وإنما بمجموعة من السياسات المتكاملة، وفي غيبة هذه السياسات، أو بالأصح في وجود مجموعة من السياسات المضادة لتثبيت الأسعار، كان لا بد أن تتهاوَى قرارات الدعم، فهي في هذه الحالة تحمل عوامل هزيمتها في داخلها. إن صندوق النقد له سياسات متسقة منطقيًّا، وهو يعترف بأن هذه السياسات تؤدي عادة إلى رفع الأسعار (وإن كان الارتفاع المتوقع من سياساته أعلى كثيرًا مما يزعم). ولكن السلطات المصرية أرادت أن تنفذ سياسات الولايات المتحدة والهيئات الدولية في الانفتاح، وأن تمنع في نفس الوقت ما يترتب عليها حتميًّا من انفلات في الأسعار. والأداة المستخدمة (الدعم) لتحقيق هذا الهدف كان أعجز من أن تواصل الصمود طويلاً ضد هجمات العوامل المحدثة للتضخم من كل جانب.

ب- فالميزانية العامة مثقلة بعجز كبير (653 مليون جنيه عام 1974 مقابل 386 مليون عام 1973)؛ ووفقًا للبيانات النقدية بلغ إسهام الجهاز المصرفي في تمويل هذا العجز 320 مليون جنيه، وهذه القفزة في عجز الميزانية يفسرها إلى حد كبير أن إعانات الدعم زادت بنسبة 270%، في الوقت الذي لم تزد فيه الإيرادات الجارية إلا بنحو 12%، وهاتان النسبتان تبلوران التعارض غير المحتمل بين الأهداف، فالنسبة الأولى تشير إلى محاولة الحكومة للمحافظة على مستوى المعيشة للجماهير العاملة، والنسبة الثانية تكشف انخفاض معدل الزيادات في الإيرادات الحقيقية، فالمؤسسات العامة (وخاصة أرباح المؤسسة العامة للقطن) أسهمت به 20% من الزيادة المحدودة في الإيرادات الجارية، والرسوم الجمركية (أكبر بنود الإيرادات) زادت فقط بنسبة 16% رغم تضاعف قيمة الواردات (بسبب المتأخرات في السداد). ولا شك أن زيادة الإيرادات الحقيقية للموازنة العامة؛ لتمويل الدعم تمويلاً غير تضخمي، لا يمكن أن يتحقق إلا باستحواذ الدولة على نصيب متعاظمٍ من الفائض الاقتصادي الذي يبدد على يد أصحاب الدخول العليا.
وبشكل عام، فإن الموارد الحقيقية لمصر محدودة بالناتج القومي الإجمالي، وهي لا يمكن أن تتسع لتمويل التزامات الدفاع الوطني؛ ولتمويل الاستثمارات الضرورية؛ ولتثبيت (ولا نقول رفع) مستوى المعيشة للجماهير العاملة.. ثم أيضًا لتوفير البذخ للبعض، إن السياسة الاقتصادية كان يبدو أنها أمام خيارين: فإما أن تزيد إيرادات الخزانة زيادة حقيقة، وإما أن تضغط (أو تلغى) التزاماتها بالنسبة لاعتمادات دعم الأسعار.
ولكنَّ الحكومة ابتدعت ومارست مسارًا ثالثًا؛ فأصرت على مواصلة الدعم دون زيادة مناسبة في الإيرادات الحقيقية. وإذا تذكرنا المناخ السياسي العام الذي تحدثنا عنه، فإنه يبدو أن الحكومة أقامت حساباتها على فرض تدفق هائل من المعونات يسد الفجوة، والنتيجة العملية التي تمخضت عن ذلك كانت سد الفجوة بزيادة كم الإصدار النقدي، الذي حافظت به الحكومة (شكليًّا) على قدر كبير من التزاماتها المعلنة، فالعاملون يقبضون رواتبهم بانتظام، والاعتمادات تخصص على الورق لهدف الدعم. ووصل البعض من ذلك إلى أن سياسة الدعم على هذا النحو كان "لها أثرها السلبي على ارتفاع الأسعار في الداخل؛ نتيجة لما تضيفه من عبء على ميزانية الدولة، مما قد يضطرها إلى الالتجاء للاقتراض من البنك المركزي لتمويل هذه السياسة"(109).
ولكنني لا أعتقد أن الحصاد النهائي لأثر الدعم على الأسعار كان بالسالب، ولكنه من ناحية أخرى، لم يكن بالإيجاب بالقدر الذي يبدو من أرقام الاعتمادات، وفي كل الأحوال لم يكن ممكنًا لسياسة إبقاء الدعم أن تستمر على هذا النحو طويلاً، فالتزايد في طبع البنكنوت بهذه المعدلات مسألة خطيرة، ويُضاف إلى ذلك أن الدولة عمَدت إلى تغطية موقفها جزئيًّا بزيادة الاقتراض من الخارج، وبشروط صعبة لزيادة المعروض من السلع (بعد أن تلكأت المعونات الموعودة)، وهذه أيضًا مسألة خطيرة، ويستحيل عمليًّا الاستمرار فيها.
ج- والحقيقة أنه إذا كان إبقاء الدعم قد حدَّ - جزئيًّا ومؤقتًا - من التضخم، وحد بالتالي من عمق وسرعة إعادة توزيع الناتج القومي الإجمالي، إلا أن مجمل السياسات الاقتصادية كان يدفع في عكس هذا الاتجاه، ويحكم الحصار حول مفعول وإمكانية استمرار سياسة الدعم؛ فوفقًا لتوجيهات القيادة السياسية، والجهات الخارجية، تحولت بسرعة شعارات "تحرير" القطاع الخاص، إلى فوضى شاملة، فتكاثرت الأنشطة الطفيلية، وانتشرت كأورام سرطانية تفتك بالنسيج الاجتماعي في كل الاتجاهات، وهذه الأنشطة (المضاربة والتهريب والسوق السوداء والسرقات والعمولات و الرَّشاوَى.. إلخ) شكلت شبكة مترابطة للنهب واستخدمت هذه الفئة الصاعدة إمكانياتها المتنوعة (وعلى رأسها التوسع في إقامة العلاقات العضوية مع مستويات الغدارة الحكومية المختلفة) في الاستفادة من جو التضخم؛ لفرض فوضى متزايدة في نسق الأسعار. لم "تتحرر" الأسعار لتصبح أكثر عقلانية ومتسقة مع تكلفة الإنتاج، أو مع الأسعار العالمية كما زعم صندوق النقد، ولكن لتصبح خاضعة للأهواء، ولقدرة أصحاب الأعمال، ومبرمي الصفقات على تعظيم نصيبهم من كعكة الناتج القومي الإجمالي، ولم تنج اعتمادات الدعم نفسها من استنزاف هؤلاء الناس، وأصبحت هذه حجة إضافية تُستخدم ضد مبدأ الدعم، مع أن حقيقة أن هذه الفئة تلتهم جزءًا من اعتمادات الدعم يمكن أن تكون حجة إضافية لتصفية الأنشطة الطفيلية.
إلا أن تصفية الأنشطة الطفيلية لم تعد ميسورة؛ فقد انتشر أصحاب هذه الأنشطة بسرعة رهيبة، مستفيدين من كل الظروف المواتية المتاحة، وبالتالي غلظ قوامهم، وأصبحوا يملكون قدرة ذاتية على حماية مصالحهم ومواقعهم (إذا كان هناك من يكفر في مهاجمتها). ولكن لم يكن في قيادة السلطة من يفكر في مثل هذه المحاولة، بل كانت الاختيارات السياسية لقيادة السلطة تسبغ الحماية وتوفر الأمان. فالمساس بفئة الأغنياء الجدد يتعارض تمامًا مع مبدأ الانفتاح كما أملته الجهات الغربية، وقبلته القيادة المصرية، وكانت الحجة النظرية بالمناسبة أن هؤلاء الأفاقين الأوغاد هم مناط الأمل لإنهاض مصر والاقتصاد المصري!.
كان ممنوعًا – إذن - تصفية الأنشطة الطفيلية التي تولدت ثروات من غير عمل منتج، والتي تستحيل متابعتها في حالة تحصيل ضرائب (وهي نية لم تكن موجودة على أية حال) وترتب على كل ذلك تعذر زيادة إيرادات الميزانية، بل لم يكن ممكنًا منع استنزافها، وكان لا بد أن تتغلب في النهاية فوضى ارتفاع الأسعار على محاولات التحكم.
د- وقد نشير بشكل خاص إلى هدف التركيز على تعمير منطقة القناة (لأسباب استراتيجية) في ظروف فتح باب العمل في الأقطار المجاورة لعمال الإنشاء بلا ضابط (كهدف للانفتاح المرسل). إن الاستثمار في قطاع التعمير يولد بطبيعته ضغوطًا تضخمية (حيث إنه تيار من الإنفاق النقدي لا تقابله زيادة في الإنتاج السلعي)، وقد أدت المبالغة والفوضى في حسابات التكلفة، وندرة العمالة المدربة (نتيجة الهجرة) إلى مضاعفة النتائج التضخمية للتعمير، وإلى تشويه هيكل الأجور، وتسريع إعادة توزيع الناتج القومي لصالح أصحاب الأعمال.
هـ- إن حديثنا السابق أشار إلى أن قرار الحكومة بمواصلة التحكم في الأسعار، عارضته الأهداف والسياسات الأخرى، فأصابته عوامل التعرية وتآكل، ولكن أشاع المسئولون (لتبرير الخيبة) أن معدلات التضخم التي واجهناها بدءًا من عام 1975 كانت في الأساس مستوردة، بمعنى أن ارتفاع أسعار الواردات أدى إلى ارتفاع الأسعار في سوقنا المحلي. ولكن هذا التحديد للتضخم المستورد كانت تكفي لهدمه دراسةُ كريمة كريم، التي أثبتت أن الأثر الكمي لارتفاع أسعار الواردات، لم يكن المكوِّنَ الأساسي لارتفاع الأسعار داخل السوق المصرية (110). وقد عضدت هذه الدراسة نتائج دراسات أخرى لعدد من الاقتصاديين الوطنيين، أوضحت أن المتغيرات الأساسية التي أفضت إلى ارتفاع الأسعار، لا تخرج عن دائرة التحكم للدولة؛ أي أن التحكم في الأسعار كان ممكنًا من خلال سياسات اقتصادية متكاملة وملائمة(111).
ونحن نرفض طبعًا فكرة التضخم المستورد بالتحديد الذي طرحه الاقتصاديون الرسميون. ولو حصرنا بحثنا في إطار حسابات اقتصادية بحتة واستاتيكيَّة، فإن الرد الذي قدمته كريمة، يكفي - كما قلنا - لدحض هذه الفكرة. إلا أننا نرفض في الحقيقة تحليل أسباب التضخم بمنهج وحيد الجانب واستاتيكي؛ ولذا نختلف أيضًا مع منهج ونتائج الدراسات الأخرى التي أشرنا إليها. فبالمنهج المركب، وبالتحليل الديناميكي وفق مفهوم التبعية، لا يكون كم الإسهام المنخفض للأسعار الخارجية في مركب التضخم في سنة معينة، أساسًا مقبولاً للقول بأن التضخم الذي عانيناه منذ 1974 كان مشكلة داخلية في الأساس. كذلك لا يكفي أن نرصد أن غالبية المتغيرات الاقتصادية المؤثرة في معدلات التضخم مقيمة وعاملة داخل النسق الاقتصادي المصري؛ كي نستنتج أن التحكم في الأسعار ممكن. إن التضخم – في حالتنا المحددة– هو أساسًا اختلال في العلاقة الملائمة بين التدفقات النقدية من ناحية وتدفقات السلع والخدمات من ناحية أخرى، أو هو – حسب التعبير الشائع – نقود كثيرة تطارد سلعًا وخدماتٍ قليلة. والمتغير الأول (النقود) يتحدد بسياسة الإصدار والائتمان والمتغير الثاني (السلع والخدمات) يتحدد بقدرات الاقتصاد القومي على الإنتاج، وعلى نتائجَ تعامله مع الأسواق الخارجية، ولكن لا ينبغي أن ننسى أن كل هذه المتغيرات تظل تابعة للسلطة السياسية (بكل ما تمثله اقتصاديًّا واجتماعيًّا) صاحبة الصلاحيات الواسعة في صياغة هذه المتغيرات، وفي ترتيبها والتعامل معها.
والقول بأن في وُسْع الدولة أن تتحكم في الأسعار من خلال سياسات اقتصادية متكاملة وملائمة، ينطوي على فرض أن هذه السلطة (أو الإدارة المركزية) مستقلة، وقادرة على التعامل مع المتغيرات المختلفة وفق سياسات اقتصادية رشيدة تتخذها بعيدًا عن تسلط القوى الخارجية وحلفائها في الداخل. هذا الفرض (الاستقلال)، وهذه النتيجة (إمكان التحكم في الأسعار) يبرران بالفعل الحديث عن انفجار التضخم باعتباره مشكلة داخلية. ولكن كل هذا لا علاقة له بما نحن بصدد تفسيره في حالتنا. فالسلطة صاحبة الصلاحيات الواسعة (في الدول التابعة) توجه من الخارج، وسياساتها الاقتصادية (التي تفضي - ضمن ما تفضي - إلى معدلات معينة من التضخم) تحدد في جوهرها من الخارج. ومن هذا المنطلق ينبغي على الاقتصادي الوطني أن يكشف أن المتغيرات المُفضية للتضخم تخرج عن دائرة التحكم للدولة "الرسمية"، وأن انفجار التضخم بهذا المعنى، لا يكون مشكلة داخلية في الأساس. ليست القضية أن يقدم الاقتصادي وصفة تبدو معقولة لمكافحة التضخم، فأهم من ذلك أن تكون "الوصفة" قابلة للتشغيل، ويتطلب ذلك تحديد أن السبب الأول لإعاقة التشغيل يكمن في السلطة "الفعلية" الموجودة بالخارج، وفي التشويهات التي أحدثتها في البنية الاقتصادية والاجتماعية لتنسيق مع مصالحها وسياساتها.
من هذا المنطلق لن نحاكمَ العوامل الخارجية، ونعتبرها السبب الأول لانفجار التضخم، بمعيار أثر أسعار السلع المستوردة على هيكل الأسعار المحلية في سنة معينة؛ فهذا المعيار مفيد فقط في ظل إدارة مستقلة، ولكن في حالة الدولة التابعة تحاكم العوامل الخارجية بمعيار سياسة الانفتاح بشروط الدول المسيطرة، والتي لا تعني بالنس






آخر مواضيعي 0 أنا أَيضاً يوجعنى الغياب
0 ﺃﻋﺪُﻙ !
0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 أنا وانتي.. حكاية بريئة
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
رد مع اقتباس
قديم 06-07-2011, 02:14 PM رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة

(1) المجالات والتسهيلات:
أ- كان هناك اختراقٌ خطير آخر، للاستقلال الاقتصادي تمثل في القانون 43 لسنة 1974 – (استثمار المال العربي والأجنبي والمناطق الحرة) (112). وقد أشرنا في بداية الفصل إلى الجو الذي أحاط بمناقشة وإقرار هذا القانون، كانت الوعود بفيض من المنح والمعونات، تصاحبها وعود مماثلة بتدفق مشروعات الاستثمار المباشر. فقط نفتح الباب، ونترك لها باقي المهمة! وحدث أيامها أن ارتفعت أصوات تنبه إلى بدهيَّة أن تجارب الدول التابعة في الاستسلام لهذه الآمال كانت بلا أساس، "وأن الاعتماد على قوانين السوق وحوافز الربح يدفع الجزء الأكبر من رءوس الأموال الأجنبية الخاصة، إلى الانسياب تلقائيًّا نحو الدول الصناعية، وليس نحو الدول النامية. ففي الأولى (مهما فعلنا) أمان أكبر، وعائد أعلى.
وهذا الكلام صحيح، بالذات في مجال الصناعات المتقدمة ذات التكنولوجيا المعقدة والسريعة التجدد، وهو المجال الذي نتمنى أن تتقدم إليه المشروعات الغربية"(113) ولكن مثل هذا الكلام، لم يكن يجد من يسمعه، ورغم مرور الأعوام، ووضوح الخبرة العملية، ظل الأفَّاقون يشيعون الآمال؛ بحيث كان علي الجريتلي مضطرًا في عام 1977 إلى التذكير والتحذير "في ضوء التاريخ الحديث، من الإسراف في التفاؤل بشأن احتمالات ورود المال العربي الخاص؛ إذ يئُول معظم فائض النفط للحكومات العربية والهيئات الحكومية المتخصصة في استثماره، بينما نصيب القطاع الخاص منه ما زال ضئيلاً، فضلاً عن قلة عدد رجال الأعمال العرب في غير مجال التجارة" (114).
ب- وقد اشتمل القانون 43 على تنازلات سخيَّة للمستثمرين الأجانب، شملت إعفاءات ضريبية جمركية، وأباحت للمشروعات - المنشأة وفقًا لأحكام هذا القانون - حقَّ الاستيراد، وفتح حسابات بالنقد الأجنبي تستخدمها دون إذن أو تراخيص، خاصة لدفع قيمة وارداتها السلعية والاستثمارية، والمصروفات غير المنظورة، ولسداد أقساط القروض الخارجية وفوائدها، أو لأية أغراض لأزمة لهذه المشروعات، ولكن أهمّ من ذلك، كان اعتبار هذه المشروعات من شركات القطاع الخاص، حتى إذا كان الشريك من القطاع العام، وترتب على ذلك إبعاد المشروعات المشتركة من دائرة القوانين والتنظيمات المحددة للقطاع العام، والتي تيسر التخطيط المركزي. ويعني ذلك كما قال فؤاد مرسي أن "نظام الاستثمار الأجنبي سوف يشكل بمشروعاته اقتصادًا قائمًا بذاته داخل الاقتصاد المصري".. بل "ويبدو الخطر من احتمال تحول القطاع الأجنبي داخل الاقتصاد المصري، إلى قطاع ثالث قائد"(115)، وهذا القطاع يخرجه القانون أيضًا عن سيادة الدولة، فقد نص على ضمان بعدم التأميم، وهو نص يتعارض مع المادة 35 من الدستور، وقد علقنا أيامها بأن هذا النص "لا يؤكد ثقة المستثمر الأجنبي.. بالعكس، وهو يشكك المستثمر في مدى جدية الضمانات التي نقدمها، وفي مدى استعدادنا لاحترام هذه الضمانات" (116)؛ لأن القانون الحالي – كما يقول علي الجريتلي – "لا يقيد الحكومات المستقلة. والمبدأ المستقر دوليًّا، هو أن التأميم حق غير منازَع فيه للدولة ذات السيادة، بشرط دفع تعويض عادل للمستثمرين الأجانب. وقد أوفت مصر بالتزاماتها كاملة في هذا الصدد، في أعقاب التأميم الشامل، ودفعت قُرابة ثمانين مليونًا من الجنيهات الإسترلينية للحكومات المعنية، وتمت المفاوضات الخاصة بالتعويض بإشراف البنك الدولي" (117). ومن الطريف أن نذكر هنا أن الاتفاقيات المختلفة التي وقعتها الحكومة المصرية مع الدول صاحبة الاستثمارات المحتملة؛ بهدف التشجيع والحماية المتبادلة للاستثمارات لم تتضمن نصًا يمنع التأميم، وهذا طبيعي؛ لأن الدول "المحترمة" التي وقعت معنا الاتفاقيات رفضت أن يكون هذا من الضمانات المنصوص عليها؛ لأنها لا يمكن أن تلتزم من ناحيتها بشيء كهذا.
ج- وقد توسع القانون 43 في المجالات المفتوحة أمام رأس المال الأجنبي، فوفقًا للمادة الثالثة، نفتح الباب في التصنع والتعدين والطاقة والسياحة والنقل وغيرها من المجالات – استصلاح الأراضي البور الصحراوية واستزراعها، ومشروعات تنمية الإنتاج الحيواني والثروة المائية، ويكون هذا الاستصلاح والاستزراع بطريقة الإيجار طويل الأجل (50 سنة يجوز مدها إلى مدة أو مدد تصل إلى 50 سنة أخرى) – مشروعات الإسكان – شركات الاستثمار التي تهدف إلى توظيف الأموال في المجالات المنصوص عليها في هذا القانون – بنوك الاستثمار وبنوك الأعمال وشركات إعادة التأمين بالعملات الحرة – البنوك التي تقوم بعمليات بالعملة المحلية متى كانت في صورة مشروعات مشتركة مع رأس مال محلي مملوك لمصريين، لا تقل نسبته في جميع الأحوال عن 51%.
وأستأذن القارئ هنا في العودة إلى مقال مجلة الطليعة الذي ناقش إدخال المستثمرين الأجانب في كل هذه المجالات، على اعتبار أنه يحمل في صياغته نبض الانفعال في لحظة الصراع. سجل المقال أن القانون خرج على ورقة أكتوبر (التي كان الاستفتاء قد تم عليها منذ أيام)، وكانت الورقة تؤكد "ما جاء في ميثاق العمل الوطني من أننا نقبل المساعدات غير المشروطة، والقروض، كما نقبل الاستثمار المباشر في النواحي التي تتطلب خبرات عالمية في مجالات التطوير الحديثة. وقالت ورقة أكتوبر: "إن هذا بالدقة هو خطنا".
* ولكنَّ قانون الاستثمار، حدد مجالاتٍ لا تدخل في هذا الخط، فلماذا يدخلُ رأس المال الأجنبي في مجال السياحة – مثلاً – رغم أنها قطاع لا يحتاج إلى مهارة تكنولوجية عالية تفتقدها؟ قد يقال: إن المقصود هو المستثمر العربي.. ولكن القانون لم يحدد.
* ويلاحظ بشكل عام أن القانون لم يضع ضوابطَ كافية تمنع أن يترتب على الاستثمار الأجنبي مزيد من العجز في ميزان المدفوعات. ينبغي أن نطمئن إلى أن قيمة ما ستحوله المشروعات الأجنبية من أرباح وفوائدَ سنوية، وكذلك ما ستدفعه لقاء استيراد قطع الغيار ومستلزمات الإنتاج، لا يزيد على ما يدخل بلدنا من نقد أجنبي في مختلف أشكال رأس المال المستثمر. قد يقال إن النص على أن مشروعات الاستثمار سيُسمح بها في نطاق الخطة القومية (م3) يحقق الاطمئنان المطلوب، وإن الخطة ستراعي هذا الاعتبار عند اقتراحها قائمة المشروعات. وهذا صحيح إلى حد ما – ولكن سوابقنا مع تخلُّف التخطيط والمتابعة في مراحلَ كثيرة، وتحديد مشروع القانون لبعض مجالات استثمار رأس المال الأجنبي، يجعل الإنسان يقلق عند السماح بالعمل في مجال كالنقل. فهو – كالسياحة – لا يحتاج خبرات فنية، ولكنه يختلف عن السياحة مع ذلك؛ فالسياحة مصدر للنقد الأجنبي، وبالتالي فإن تحويل أرباحها إلى الخارج هو تحويل لجزء من النقد الأجنبي الذي أدخلته إلى مصر. ولكن في حالة النقل سيحصل صاحب المشروع على إيراداته بالعملة المصرية ثم يصدر أرباحه بالنقد الأجنبي.
* نفس الأمر في حالة الإسكان فوق المتوسط والإداري الذي يدفع إيجاره بالعملة المحلية، فإن لصاحب هذه المساكن تحويل صافي العائد إلى الخارج بالنقد الأجنبي، في حدود 6% سنويًّا من المال المستثمر.
وبالمناسبة، فإن القطاع الخاص المصري، يتجه في مجال الإسكان إلى الإسكان فوق المتوسط، ولا يسهم في حل مشاكل الإسكان لجماهيرنا الواسعة إلا بأقل القليل.. ولكن أصحاب الدخول العالية لا يكتفون بهذا، بل يطلبون أن يتجه رأس المال العربي أيضًا إلى خدمتهم.. ثم يتحمل المجتمع كله مهمة تحويل عائد هذه الخدمة المقدمة إليهم!. نحن
لا نطلب ضوابطَ في صلب القانون، تضمن أن تكون الحصيلة العامة لكل المشروعات، في ميزان المدفوعات إيجابية.

* مسألة أخرى: السماح لرأس المال الأجنبي باستصلاح الأراضي البور، واستزراعها بطريق الإيجار طويل الأجل وتنمية الثروة المائية. وفي مصر بالذات.. يعني هذا أن يشاركنا رأس المال الأجنبي في عائد السد العالي الذي حاربنا بالسلاح لإقامته. وهذا غير مقبول، فالسد العالي ليس من الهياكل الارتكازية التي تقيمها الدولة كي يستفيد منها توسُّع الاستثمار الخاص؛ المصري والأجنبي. السد العالي ليس توسيعًا لميناء، أو مدًّا لبعض الطرق. السد العالي مشروع تكلف 400 مليون جنيه، ودفع كل مواطن جزءًا من دخله من أجل إنشائه، والطبيعي أن تعود كل ثماره إلى مجموع الشعب، وليس على حفنة من أصحاب المشروعات الخاصة.
* أيضًا.. لماذا نسمح ببنوك العملات الحرة التي ستنافس بنوكنا المصرية في تجميع المدخرات العربية ومدخرات المصريين في الخارج؛ كي توجهها إلى أعمال لا تخضع لأولوياتنا.. ولكن تخضع لأوامر المراكز الرئيسَةِ لهذه البنوك في العواصم الأجنبية؟!.
وأخطر من هذا: كيف نسمح بقيام بنوك خاصة أجنبية ومشتركة، وتقوم بعمليات بالعملة المحليَّة؟
إن البنوك وشركات التأمين هي خط الدفاع الأساسي للقطاع العام.. وهي الضمان الأساسي لإمكانية تمويل التنمية، فبدون السيطرة المركزية على الموارد والتحكم في إنفاقها وفق الأولويات.. كيف نتحدث عن تنفيذ خطة مستقلة طموحٍ؟
* أيضًا بالنسبة للمناطق الحرة. لا توجد أيَّة ضمانات في مشروع القانون تمنع استخدام موقع مصر الممتاز في منافسة الصناعة المصرية داخل السوق العربية والأفريقية. بل ولا توجد ضمانات كافية لمنع استخدام هذه المناطق ضد الصناعات المصرية داخل السوق المحلية" (118).
* إن أخطر ما في قضية الاستثمار الأجنبي هو إمكانية أن يتحول القطاع الأجنبي إلى قطاع قائد، فهذا التحول الخطير يعني أن البنية الاقتصادية قد تكيفت تمامًا مع وضع التبعية. ومسألة أن هذا الاحتمال خطير كان من مسلَّمات النضال الوطني في مصر، فطلعت حرب كان يقول في عام 1920 إن "أملنا أن يخرج مواطنونا من هذه الأزمة (يقصد أزمة هبوط أسعار القطن عام 1920 بعد موجة التضخم الشديد التي صاحبت الحرب العالمية الأولى) بالعظات والعبر، وأن يستفيدوا من دروسها، فينظموا صفوفهم ويلجوا باب الاستقلال الاقتصادي، ويدخلوا ميدان العمل الصحيح، ويستثمروا أموالهم في مرافق بلادهم الحيوية على مختلف أنواعها، ويتكاتفوا فيما بينهم لترقية شئونهم الاقتصادية (...) ويمصِّروا الشركات الأجنبية التي يشكون في تصرفاتها بشراء أسهمها؛ حتى تكون لهم الكلمة العليا في جمعياتها العمومية"(119).. ولكننا في لَوثة ونكسة 1974 كنا في حاجة؛ لأن نناقش خطر الهيمنة الخارجية من أول وجديد!
(2) معركة السماح ببنوك أجنبية:
أ- على أيَّة حال، هذا التحول الكامل إلى بنية تابعة،
لم يكن متصورًا أن يتم في يوم وليلة، بل كان مقدرًا – عند الأقل من أصحاب النظرة الواقعية – أن الاستثمارات الأجنبية ستتلكأ؛ لأن الساحتين؛ السياسية والاقتصادية، لم تكونا قد هُيِّئتا بعدُ، على النحو الذي يكفيها ويرضيها، ولكن كان مقدرًا - في نفس الوقت - أن تتحقق خطوة هامة نحو الهدف، تكلفتُها بسيطة وأثرها حاسم. أقصد: محاولة الهيمنة على قطاع البنوك، وإنهاء الدور الحاكم للقطاع الحاكم في هذا المجال.

والحقيقة أن خطر عودة البنوك الأجنبية، كان القضية التي أثارت أكبر قدر من التحفظ والمعارضة، أثناء مناقشة مشروع قانون الاستثمار. وأعتقد أن هذا الموقف كان طبيعيًّا جدًا؛ لأن الخبرات المريرة للنضال الوطني – في هذه الجبهة بالذات – كانت ولا زالت حية في ذاكرة المعاصرين. وقبل المعاصرين وخبرتهم، كان إنشاء بنك مصر من النتائج الجوهرية لثورة 1919 الوطنية العارمة، وكان أجدادنا يدركون أن اقتحام القطاع المصرفي أساس للتحرك نحو الاستقلال الاقتصادي، وكان طلعت حرب يقول: إن "أموال البلاد معطلة؛ بعضها مُكتنَز، وبعضها في بنوك أجنبية، وكلاهما لا تستفيد منه البلاد شيئًا مذكورًا.
إن نظرة في تقارير هذه البنوك، تدلنا على أن الجزء الأكبر من أموالنا مستعمل خارج البلاد، في بونات على خزائن الحكومات، أو سَنَدات قروض الحرب، أو ما شابه ذلك من العمليات التي هي في مصلحة المساهمين فقط، ومصلحة الدول التابعة لها"(120). إلا أن قوى السيطرة الاستعمارية، كانت تدرك أهمية بقائها في هذا الموقع أداة أساسية لاستمرار سيطرتها؛ ولذا لم يكن التمصير سهلاً، وبعد أكثرَ من ثلاثة عقود من النضال، كانت البنوك الأجنبية في عام 1956 لا زالت تستحوذ على ما يزيد عن نصف جملة الودائع بالبنوك التجارية، وعلى ما يناهز نصف إجمالي قروض البنوك والكمبيالات المخصومة لديها (121). وكلنا يذكر تقرير وزير المالية والاقتصاد المصري حول دور البنوك الأجنبية، بعد تأميم قناة السويس؛ فقد استخدمت الدول الغربية هذه البنوك وسيلة للتخريب، وأصدرت إليها توجيهًا "بكف يدها عن إجراءات التمويل المعتادة؛ سواء في ذلك تمويل محصول القطن، أو التمويل الصناعي والتجاري، وكانت ترمي بذلك إلى إحداث تدهور في اقتصاديات البلاد لتثير اضطرابات عامة بها (122)، وأضاف الوزير أن "الأحداث أثبتت أن كثيرًا من فروع بنوك الدول المعتدية التي كانت تعمل في مصر، تمنح قروضها إلى عملائها في مصر؛ بناء على أوامرَ مباشرة تأتيها من الخارج. ومؤدَّى هذا أن سياسة الائتمان التي يقوم عليها الاقتصاد المصري كانت ترسم خارج البلاد؛ وفقًا لما تمليه مصالح غير مصرية– هذا على الرغم من أن النفوذ الذي كانت تملكه هذه البنوك الأجنبية، كان مستمدًا مما يتجمع لديها من أموال مصرية، وودائعَ يأتمنها المصريون عليها، ومدخرات يحتفظون بها لديها؛ إذ إنه لم يكن لديها بمصر رءوس أموال تُذكر" (123).
ووزير المالية والاقتصاد (صاحب هذا التقرير) كان
عبد المنعم القيسوني، ويشهد للرجل أنه عاد إلى تذكير الاقتصاديين المصريين، بمضمون الكلام السابق في مارس 1974؛ فقد أشار إلى دعوته لرؤساء البنوك الأجنبية في مصر في يوليو 1956، "وطلبت شخصيًا من رؤساء البنوك الأجنبية في مصر ألا يستغلوا وضعهم الخاص، ولا يستغلوا سيطرتهم على الموارد المتاحة تحت أيديهم للتأثير على الاقتصاد المصري؛ خصوصًا أننا كنا على أبواب موسم قطني جديد، وكان لا بد من تدبير الأموال لتمويل مشتريات القطن من المنتجين، وإعدادها للتصدرير إلى الخارج (...) ومن جهة أخرى كانت البنوك الأجنبية في مصر تتصرف إلى حد ما في موارد النقد الأجنبي المتاحة للبلد، وتعلمون حضراتكم أننا عندما أممنا قناة السويس قامت الدولة المستعمرة بتجميد أموالنا كلها لديها، وكنا متوقعين هذا، فحاولنا تهريب بعض هذه الأموال إلى دول أخرى قبل التأميم بثلاثة أو أربعة أيام؛ حتى لا تشعر هذه الدول بما كنا قد انتويناه تجاه قناة السويس، ولكن كانت الأموال التي تمكنا من توجيهها للخارج لا تزيد على 4 أو 5 ملايين من الجنيهات، وكانت البنوك الأجنبية - بطبيعة الحال - خاضعة لنظام الرقابة على النقد الأجنبي، ولكننا كنا نطبق الرقابة على النقد بشيء كبير من المرونة؛ بحيث إن البنوك الأجنبية كان في إمكانها أن تتصرف - إلى حد ما - في هذه الأموال: أموال الاعتمادات وحصيلة الصادرات.. إلخ، وفي طريقة استخدامها. طلبت منهم مراعاة المصلحة العليا للاقتصاد المصري في طريقة استخدامهم للأموال المحلية والأجنبية الموجودة تحت سيطرتهم. ولكنهم لم يستجيبوا لرجائي، وعملوا على تخفيض المبالغ المخصصة لتمويل القطن، كما عملوا على سرعة استنزاف مبالغ النقد الأجنبي التي كانت حرة تحت تصرفهم؛ بحيث يضعوننا أمام مشاكلَ اقتصادية داخلية وخارجية حرجة. وكان لا بد من اتخاذ إجراء مضاد، إجراء لحماية الاقتصاد المصري؛ ولمنع سيطرة الأجانب عليه، ولمنع تهديد الأجانب لنا، واستخدامهم لأموالنا المودعة لديهم لطعننا في صدورنا. وكان الرد الطبيعي على ذلك هو فرض الحراسة على بنوك الأعداء، ثم تمصيرها كليًا" (124).

للأسف نسي عبد المنعم القيسوني هذا الكلام بعد ذلك حين تولَّى قيادة ما أُسمِي بالمجموعة الاقتصادية داخل مجلس الوزراء، ولكن وقت مناقشة مشروع القانون لم يكن الجميع قد نسي بعد هذه الخبرة؛ ولذا عارض كل رجال البنوك الانفتاح في قطاعهم عند مناقشة قانون الاستثمار، وكان بين المعارضين أحمد زندو (محافظ البنك المركزي آنذاك) وحامد السايح (وكان رئيسًا للبنك الأهلي – وقد تغير موقفه بعد ذلك). ولكن ينبغي أن نشيد - بإعزاز خاص - بوقفة حسن زكي أحمد (الرئيس السابق لبنك القاهرة) الذي قاد ببسالة معارضة مجموعة البنوك، حتى أُقصِي من منصبه(125). إلا أن المعارضة لم تقتصر طبعًا على رجال البنوك، فقد تحدث رجال من مختلف الاتجاهات السياسية وعارضوا، ولكنْ هنا أيضًا، لعبت خمر الأحلام بالعقول الطيبة، وتمكنت العناصر المشبهوة من تنفيذ التوجيهات، فانفتح الباب أمام البنوك الأجنبية، وتتطلب هذه النتيجة وقفة خاصة.
ب- فمع أحلام تدفق المنح والمعونات، وأحلام تفجُّر البترول، وأحلام تدفق الاستثمارات الغربية، كانت هنا أيضًا أحلام أن تكون القاهرة سوقًا مالية للبترودولارات. وممثلو الحكومة كانوا يسربون هذا الأمل الخادع؛ فيدغدِغون الأعصاب، أثناء مناقشة مشروع القانون 43 في اللجنة المشتركة، وحين اتضحت المعارضة القوية لموضوع البنوك، كان وزير التأمينات يقول مثلاً: "نريد أن تكون القاهرة سوقًا مالية، كما كانت لندن في الماضي، خاصة أن هناك بلايين الجنيهات فائضٌ في الدول العربية، إذا
لم نشعرها بأننا ننفتح اقتصاديًّا، فستذهب كل هذه الأموال إلى تشيزمانهاتن في الخارج" (126).

ويضيف شريف لطفي، أن الهدف من قانون الاستثمار "ليس مقصورًا على الاستثمار في مجال الصناعة والزراعة فقط، بل إن أول أهدافه أن تتحول القاهرة إلى مركز مالي ونقدي دولي، وهذا هدف رئيسي، ومن ثم فإن كل ما يتعلق بالبنوك، وببورصة الأوراق المالية، يهدف إلى تحقيق هذا الهدف". وعلى ذلك، صوَّرت البنوك الأجنبية، على أنها ناقل للأموال إلى مصر، بل لفيض من الأموال، "فلا مجال للمقارنة بينها وبين البنوك التي كانت موجودة من قبل؛ كبنك باركليز مثلاً، فبنك باركليز كان عبارة عن فرع في مصر، وكان يتعامل في أموال المصريين فقط، ولم يكن يأتي بأية أموال من الخارج"(126) (وزير التأمينات) ويبدو أن أغلب المعارضين ابتلعوا وقتها هذا الطعم، فلم يتساءل أحدهم عن حقيقة أن هذه البنوك ناقلة للأموال من الخارج إلى الداخل، وعما إذا كانت قدرتها في ذلك تزيد عن قدرة البنوك المصرية. "فالبنوك المصرية والعربية والمشتركة تستطيع بما لها من مراسلين ومساهمات في بنوك (الكونسوريتا) العالمية المشتركة، وما تتمتع به من تسهيلات ائتمانية طائلة، تمويل التجارة الخارجية والاستثمار دونما حاجة إلى البنوك الأجنبية" (127). ولكن هذا التقييم – الواقعي – الذي كتبه علي الجريتلي (بعد سنوات من إقرار المصيبة) لم يجد أيامها من يقوله؛ لأن الأحلام كبست حتى على عقول المعارضين.
ج- كان الانفتاح في القانون 43 يسمح بقيام بنوك أجنبية 100% بحجة أنها فروع لبنوك خارجية، وتتعامل بالنقد الأجنبي فقط، وفي هذا النطاق، تمارس كل الأنشطة المصرفية؛ ابتداء من تقبل الودائع، إلى الإقراض طويل الأجل وقصير الأجل، حسْب نص المادة (3 – 5) فإن هذه البنوك تقوم "بالعمليات التمويلية الاستثمارية بنفسها؛ سواء تعلقت بمشروعات في المناطق الحرة، أو بمشروعات محلية أو مشتركة، أو أجنبية مقامة داخل جمهورية مصر العربية، وكذلك لها أن تقوم بتمويل عمليات تجارة مصر الخارجية". وقيل في الحوار إن "هذا السماح لا يضيف جديدًا؛ لأن هذا الفرع لا يزيد عن الأصل الموجود في لندن أو باريس، ونحن نتعامل مع هذا الأصل الآن، يبقى الجديد أن البنك يكون قريبًا منا، وفي هذا تسهيل للعمل".. وأشير أيضًا إلى أن "استخدام كلمة فرع في وصف أحد هذه البنوك، يقصد به فقط أن يتبع المركز الأم، وليس الشكل القانوني، فهذا الشكل يخضع لقانون البنوك، الذي يشترط أن تأخذ البنوك العامة في مصر شكل شركات مساهمة مصرية، خاضعة لرقابة البنك المركزي".. وقد فاتت كل هذه المغالطات على جهة المعارضين فانسحبوا بسرعة من موقف المعارضة المبدئية للبنوك الأجنبية إلى خط الدفاع الثاني: خط البنوك المشتركة التي تتعامل بالجنيه المصري، وقد عبر عن ذلك رئيس اللجنة المشتركة (جمال العطيفي) وكان من الأقطاب البارزين لجبهة المعارضة، فقال "أعتقد أنه لا اعتراض على البندين 4، 5 وأن النقاش كله يدور حول البند 6" (128).
وبالفعل تمكنت المعارضة من تكريز نيران شديدة، ومبررة تمامًا، على هذا البند؛ فقد تم تجاوز كل المحاذير السياسية والاقتصادية الخاصة بفروع البنوك الأجنبية (إمكانيات التآمر السياسي – الإخلال باستقلال ومركزية السياسة الائتمانية – استنزاف الكوادر المدربة من البنوك المصرية) بحجة أن أموالاً هائلة ستأتي من ورائها، ولكن ما هي الحجة التي يمكن أن تبرر احتمال كل هذه المخاطر وأكثر منها، في حالة البنوك التي تتعامل بالجنيه المصري؟ بنوك الاستثمار أو فروع البنوك "هذا موضوع آخر. إنما البنك الأجنبي الذي يجيء ليتعامل بالعملة المحلية، ماذا سيحمل معه؟ سيحمل رأسماله فقط، أي أنه لن يأتي بأي تمويل خارجي، يعني لن تحدث أية إضافة للاقتصاد القومي. بالعكس الودائع من عندنا (وسيزاحم البنوك المصرية مزاحمة غير متكافئة في اجتذابها) وعمليات البنوك التجارية مربحة جدًا، وبعد هذا سألتزم أنا أن أحول له أرباحه بالعملة الأجنبية. هذه هي المشكة التي تواجهنا فقط. كل رجال البنوك بلا استثناء، معترضين على هذا النص" (جمال العطيفي)(129).
ماذا كانت الحجة المقابلة؟ لم يكن أمام ممثلي الحكومة (وأبواق الجهات الأجنبية) إلا أن يلوِّحوا مرة أخرى بالأحلام، فأعلن مصطفى مراد أن "هذا البند أساسي. وهو يتيح للمصارف الأجنبية أن تتعاون مع المصارف المصرية في تمويل عمليات داخلية، وقبل ودائع داخلية مقابل الهدف الأساسي، وهو تقبل ودائع من الدول العربية"؛ أي أن الأمر صفقة الموافقة على البنوك المشتركة في مقابل مجيء الودائع العربية، وزاد وزير التأمينات من توضيح الوقف فقال: "يجب أن نقضي على الانغلاق الذي كنا فيه، وننفتح انفتاحًا حقيقيًّا، وأؤكد لكم أنه إذا قصرنا معاملات البنوك على الاستثمارات، ودون المعاملات المصرفية في الداخل، فلن يأتي إلى مصر أي بنك.
عمليات البنوك متكاملة، ولا يمكن أن نجزئها. إن أنصاف الحلول، وعملية مواربة الباب، لن تحقق ما نريده"(126).. وكالعادة، أثبت هذا الكلام فعاليته، فمرت الموافقة على البند 6، من حيث المبدأ، واضطر المعارضون إلى الانسحاب لخط الدفاع الثالث: من يكون الشريك المصري في هذه البنوك المشتركة؟
د- قال المعارضون إن الشريك مع البنك الأجنبي، ينبغي أن يكون بنكًا من بنوك القطاع العام، وكانت حجتهم أن الشريك الأجنبي سيكون بنكًا أو أكثر من البنوك الدولية الكبرى، وبالتالي ستمثل حصة رأس المال الأجنبي في الجمعية العمومية ومجلس الإدارة - ككتلة منظمة بمندوبين ملتزمين، فإذا كان التمثيل المصري المقابل من مساهمين مبعثرين، فإن كتلة البنك الأجنبي، يمكن أن تحكم سياسات البنك المشترك وتشك الإدارات وفق ما تراه، رغم أنها تمتلك 49% فقط من رأس المال بنص القانون. وقد عرض حسن زكي أحمد خبرته في هذا المجال "إنني كبنك القاهرة، أساهم بنسبة 40% في بنك القاهرة – عمان، وفي كل سنة أنا الذي أمثل الأغلبية – رغم أنني أملك 40% من الأسهم – لأنه قليلاً ما يتفق رأي الـ 60%" (126). وغني عن البيان أنه إذا تمكن الشريك الأجنبي من السيطرة الفعلية على سياسة إدارة البنك المشترك؛ فإن ضربة أخرى قاسية تكون قد وجِّهت إلى سيطرة الدولة على السياسة الائتمانية. ولكن ممثلي الحكومة (حسب التعليمات) كانوا لا يقبلون أقل من التسليم الكامل واستخدموا في النقاش حُججًا عابثة، فقال بعضهم إنه لا بد من إعطاء القطاع الخاص المصري فرصة المشاركة أيضًا في البنوك التجارية، فالقطاع الخاص من "مصريين أمناء على بلدهم، يهمهم ارتفاع قدرِه"، وأضاف وزير التأمينات آنذاك، أنه ليس مقبولاً في "عهدنا المشرق" أن نقول للمصري إنك لست محل ثقة؛ ولذا فإن النص على قصر المشاركة على القطاع العام دون الأفراد، إساءة لشعور المواطنين المصريين. وكان طبيعيًّا أن يرد رئيس اللجنة (العطيفي) بأن المسألة ليست مسألة ثقة أو عدم ثقة في المواطن المصري، ولكنها مسألة تنظيم؛ لضمان سيطرة الدولة على قطاع المصارف.. وهذه هي القضية، ولكن وزير التأمينات رد بتصريح بالغ الغرابة، فقال إنه يعتقد "كأستاذ جامعي، وأستاذ بنوك بالذات، أن البنك الأجنبي لا يأتي ليرسم سياسة هدم، ولماذا نفترض سوء النية، فنتوقع أن هذه البنوك ستأتي لتهدم"(129). وبالتأكيد كان التصريح بالغ الغابة، فقد كان بوسع المرحوم حسن شريف، أن يقول: إننا يقظون وقادرون على منع أي تخريب، ولكن أن يقال إن البنك الأجنبي بطبيعته لا يمكن أن يشترك في سياسة هدم، فإنَّ هذا – كما أوضحنا – كان يتعارض حتى مع خبرتنا المعاصرة. إلا أن المسئولين في تلك الفترة كانوا مستعدين لقول أي شيء، بل وصل الحال بعبد العزيز حجازي، إلى وضع تعريف جديد للملكية العامة للمجتمع؛ ففي العادة يأخذ ذلك شكل ملكية الدولة، وهي في هذا تختلف عن الملكية الخاصة التي هي ملكية فرد، أو بعض أفراد، وقد طالب المعارضون – كما سبق أن ذكرنا – بأنه إذا كان ولا بد من إنشاء هذه البنوك، فإن الشريك المصري الذي يملك 51% من الأسهم، يجب أن يكون أحد بنوك القطاع العام؛ وذلك حتى نظل مرتبطين – بأي قدر – بمبدئنا القديم، الذي كان ينص على أنه "يجب أن تكون المصارف في إطار الملكية العامة" (الميثاق – الباب السادس).
لقد طالب المعارضون بهذا، فإذا بحجازي يقول إنه "عندما نتكلم عن إطار الملكية العامة، فإنما نعني أن الغالبية فيها، أو الجزء الأكبر منها، السيطرة عليه للمصريين".. "وبالتالي فإنني أعتقد أن إطار الملكية العامة، محافَظٌ عليه بالكامل، في حدود النص الذي سبق أن شرحته؛ طالما أن الـ 51% في أيد أمينة وغير مستغلة" (130).. أي أن ملكية أي أصحاب أعمال مصريين "شرفاء" هي ملكية عامة!
و.. انتزعت الموافقة، ومر البندان 5، 6 من المادة الثالثة، بلا أي تعديل.
(3) تقييم لمعركة البنوك:
أصبح مطلوبًا الآن تقويم هذه المعركة، وما قيل فيها وحولها. وفي اعتقادنا أن المعارضين ابتلعوا فكرتين ساذجتين أو غير صحيحتين: الفكرة الخاصة بتحويل القاهرة إلى سوق مالية دولية. والفكرة الأخرى خاصة بدور فروع البنوك الأجنبية.
أ- وبالنسبة للمفهوم الأول، نبدأ بسؤال تبدو إجابته بدَهيَّة، ولكنها غابت مع ذلك عن الأذهان. والسؤال هو: ما هي السوق المالية؟ بشكل عام هي – ككل سوق – لقاء بين عرض وطلب. وتتميز السوق المالية بنوع السلعة التي تُتعامل فيها (أي: الأموال) وبنوع المؤسسات المناسبة لتنظيم التعامل في هذه السلعة المحددة. ويفترض هذا الوصف أن السوق المالية (محلية أو إقليمية أو دولية) ليست سوقًا عاملة في فراغ، فهي مرتبطة عضويًّا بنسيج النشاط الاقتصادي، فموارد السوق المالية (جانب العرض) هي نتاج عملية إنتاج اجتماعي، واستخدامات هذه الموارد (جانب الطلب) هي نتاج الحاجة إلى إعادة الإنتاج الاجتماعي وتوسيعه. وعلى ذلك تكون المؤسسات المطلوبة متطورة من داخلها لتحقق أهدافها المتنامية، وتخضع في هذا لمجمل التطورات في بنية المجتمع المعين، وفي بنيته الاقتصادية. (هذا صحيح إذا كان الحديث عن اقتصاد متمركز حول نفسه). والبنوك الغربية – ببنتها الحالية تشكلت وتطورت على نحو ملائم لمجمل التطورات التي حققتها هذه المجتمعات بشكل عام، ولكن لا يعني ذلك أن جوهر الوظيفة التي تحققها السوق المالية (ترتيب العلاقة بين العرض والطلب) ينبغي أن تؤدي دائمًا، عبر نفس المؤسسات في كل مكان وزمان.
هذا الإطار العام للتصور لم يكن حاضرًا كمدخل للبحث الجاد، فقد أطلقت شعارات السوق المالية الدولية، وانتشرت؛ كجزء من حملة التضليل العام وليس أكثر. وهذه الشعارات حققت مهمتها، فأزاغت الأبصار بعد تراكم المدخرات لدى الدول العربية النفطية؛ نتيجة رفع أسعار النفط. وقضية "إعادة تدوير" هذه الأرصدة الدولارية إلى الدول الغربية، وإلى الولايات المتحدة بشكل خاص، مسألة شغلت السياسيين الاقتصاديين في تلك الدول، فلم لا تدخل مصر في "اللعبة"؟ أليس مفيدًا لكل الأطراف العربية أن يكون جزء متعاظم من "إعادة التدوير" هذه إلى المنطقة العربية وإلى مصر؟ هذا التساؤل والتطلع من القوى الوطنية كان مشروعًا تمامًا، وإجابة التساؤل: نعم، ولكن كيف؟ هنا قيل على لسان المسئولين وأشباه المسئولين، كلام ساذج ومبتذل. قيل عن السوق المالية كلام عام كالذي نقلناه، فصرح بعضهم بأنها كسوق لندن في الماضي، دون أن يتذكر أن لندن أيامها
لم تكن فقط مركزًا ماليًا دوليًّا، ولكن مركزًا صناعيًا، ومركزًا سياسيًا دوليًا، وعاصمة لامبراطورية، وكأن كل هذه الاعتبارات لم تكن ذات تأثير مباشر على طبيعة وتشكيل – سوق لندن المالية الدولية في الماضي وحتى الآن. فكتب أحد التقارير الرسمية أنه "حتى تكون مصر سوقًا مالية، وسوقًا للودائع، لا بد من وجود خدمات حديثة، وفنادق مريحة.. إلخ(131)، ولكن أحدهم لم يكتف بهذه "الدعائم الأساسية" للسوق المالية الدولية فأطال في وصف الفنون الحديثة المستخدمة في الأسواق المالية الدولية الآن: التلكس والكومبيوتر والأزرار والأجهزة والدوائر التلفزيونية الخاصة التي تنقل على شاشتها آخر البيانات عن الأسواق الأخرى عبر التلستار..إلخ (132). ومثل هذا الكلام كان مقصودًا به إبهار المستمعين، وإقناعهم بأن حكاية السوق المالية، واجتذاب البترودولارات عن طريقها، مسألة لا يقدر عليها إلا "الخواجات" أصحاب هذه التكنولوجيا. ومع الانبهار لم يكن هناك من يتوقف ليلتقط أنفاسه، ويطلب بحث الموضوع بالتسلسل الطبيعي، فالهدف من إنشاء السوق المالية ينبغي أن يبحث أولاً، والمؤسسات المناسبة تبحث بعد ذلك، والتجهيزات التكنولوجية تأتي في آخر القائمة.

ليست القضية أن تكون القاهرة مجرَّد مركز إضافي من مراكز إعادة التدوير للبترودولار العربي، فالقضية موقع المحطة النهائية لسوق القاهرة الدولي. إن موقع العرض المرشح لتغذية سوق القاهرة المزعومة معروف، وهو الدول العربية صاحبة المدخرات، ولكن أين موقع الطلب؟ أين ستستخدم هذه الموارد؟ هل في الدول الصناعية الغربية أساسًا، أو داخل مصر والمنطقة العربية بشكل رئيسي؟ إذا كان الهدف هو الدول الصناعية الغربية، فإن البنوك الأجنبية تكون بالفعل أكفأ وأنسب للمهمة، فهي أدرى بظروف هذه الدول، وهي بالتالي أقدر على اجتذاب الودائع وتوظيفها، وهي أقدر على تقديم الاستشارات والخدمات، لمن يريدون توظيف أموالهم في استثمارات طويلة الأجل، ولمن يريدون الاحتفاظ بسيولة عالية؛ حيث تتوفر في الأسواق الغربية الأساليب والأدوات المتنوعة والمتطورة من أوراق مالية قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل، وكلها قابلة للتداول بيعًا وشراء من خلال أجهزة تعمل بدقة وسرعة. وكل هذا تقدمه فروع البنوك الأجنبية بفكاءة عالية من خلال اتصالاتها بمراكزها الرئيسية. إلا أن شبكة فروع البنوك الأجنبية – بهذا الشكل – هي مجرد قناة من قنوات التحويل، أو "إعادة التدوير"، إلى الدول الغربية. والأرباح الكبيرة التي تحققها من عمليات "الترانزيت" هذه، والتي تصدرها إلى الخارج، هي أيضًا قناة إضافية من قنوات التحويل. وإذا كان هناك من يتحدث عن سوق بيروت، وعن سوق البحرين، فإن هذه الأسواق لا يزيد دورها عما ذكرنا، وهو دور على هامش الأسواق المالية الدولية المركزية، وتابع لها، وإقامة سوق إضافية من نفس النوع مقرها القاهرة – بكل ما يتطلبه ذلك من تعديلات جذرية في المؤسسات السياسية والاقتصادية والمالية والنقدية – مسألة تهم البنوك والدول الغربية في المقام الأول، ولا تنتفع منها – على المستوى المحلي – إلا الفئات التي ترتبط مصالحها بتغيير النظام الاقتصادي بشكل عام، والفئات المتعاونة مع شبكة البنوك الأجنبية، وسوق الأوراق المالية بشكل خاص.
قد يقال إن الهدف مما كان يقال عن السوق المالية الدولية، هو إعادة تدوير البترودولار إلى داخل مصر، والمنطقة العربية، ولكن في هذه الحالة كان يسهل بقدر بسيط من التأمل استنتاج أن البنوك الأجنبية ليست وسيلة مناسبة للهدف؛ لأن هذا الهدف – ببساطة شديدة – يتعارض تمامًا مع استراتيجية هذه البنوك. فالبنوك الأجنبية مهمتها الأولى توظيف الأموال النفطية في خدمة الاقتصاد الغربي والأمريكي، وهي تحرص على أن يكون الكمُّ المُعاد تدويره إلى الدول التابعة (والدول العربية) محدودًا وموزعًا على هذه الدول وفق حسابات هذه البنوك، (وهي حسابات سياسية أولاً) وفي الأوجه التي تعيّنها. والتقاء الطلب العَربيّ مع العرض العَربي من البترودولار، على هذا النطاق المحدود، وبهذا الشكل غير المباشر (أي: عبر وسيط أجنبي) كان (ولا يزال) يتحقق فعلاً، ولم يكن يستدعي تشويه النظام المصرفي المصري، وتصفية استقلاله.
ب- وينقلنا هذا إلى فكرة إنشاء فروع للبنوك الأجنبية داخل مصر، وأنها ستجعل مهمتنا في التعامل مع البنوك الدولية أيسر، فالصحيح أن مهمة هذه البنوك هي التي أصبحت أيسر، مهمتها في السيطرة على موارد واستخدامات البترودولار داخل مصر. لقد تكلَّفت الاتفاقات السياسية، والترتيبات مع الهيئات الدولية، بفرض الوصاية الأمريكية على التدفقات الخاصة عبر قنوات البنوك، فأسرعت البنوك الأجنبية للاستحواذ عليها؛ كي تخرج بها عن تخطيط السلطات المصرية المركزية، ولتوظيفها على النحو الذي تمليه سياستها هي.
قال شريف لطفي: "إن البنوك الأجنبية في الماضي: كانت تستطيع أن تستثمر المدخرات المصرية في الخارج، وقد انتفى هذا الوضع كلية في ظل هذا القانون" (126)،
ولا أدري على أي أساس كان يجزم بهذه الثقة، وقد حدث على أية حال أن هذه البنوك لم تخيِّبْ ظننا، فهي لم تجلب مواردَ من الخارج، والودائع التي جمعتها بالنقد الأجنبي كانت في أغلبها ودائع من المصريين، وقامت بتوظيف قسم كبير منها في الخارج (انظر الفصلين الثامن والعاشر)، وعملياتها في مصر لم تكن في مجال الاستثمار إلا بشكل هامشي.

"هذه البنوك الأجنبية ماذا تعمل إذن؟ لا نستطيع أن نتجاهل أن البنك الأجنبي له أغراض سياسية، يأتي ويدخل السوق ويعطي السلف لناس قد لا يستحقون سلفًا: وهذا حصل في عدة بنوك أجنبية، (يعني البنك يروح فارش) ويقول الناس إن هذا البنك عظيم، فإذا سألنا لم يفعل ذلك، وهل هي مغامرة؟ فإن الإجابة هي أنه عمل ذلك؛ ليربط نفسه بناس أو شخصيات لها مفاتيح الدولة". هكذا حذر حسن زكي أحمد قبل وقوع الكارثة، ثم تساءل الرجل بعد شرحه: هل نحن مستعدون لهذا؟ وقال: مستحيل!(133)! ولكن ثبت للأسف أن المسألة "لا مستحيل ولا حاجة".
وبالمناسبة، فإن رقابة البنك المركزي لم تكن لتفعل شيئًا في هذه المواضيع، حتى لو كانت سياسة الدولة تتطلب ذلك، (وهي لم تكن تتطلب طبعًا في ظل الانفتاح)، فوفقًا للمادة 40 من قانون الرقابة على البنوك؛ فإن "على مجلس إدارة البنك المركزي أن يضع قواعدَ عامة تتبع في الرقابة على البنوك التجارية، ويجوز وفقًا لمقتضيات حالة الائتمان أن تتناول هذه القواعد تنظيم المسائل الآتية:
* تحديد نسبة ونوع الأموال السائلة التي يجب أن تحتفظ بها البنوك التجارية.
* تعيين الوجوه التي يمتنع على البنوك التجارية استثمار الأموال فيها، وتحديد الاحتياطات الواجب توافرها لمقابلة الأصول المعرضة لتقلبات شديدة في قيمتها، وتعيين الحد الأقصى لقروض البنوك التجارية واستثماراتها بالنسبة لأنواع معينة من القروض والاستثمارات.
كان هذا هو كل اختصاص البنك المركزي المصري في قانون الرقابة على البنوك إلا أن البنك المركزي كان إلى جانب هذه المهام، يمارس صلاحيات أخرى باعتباره مؤسسة بنوك، أي: كمالك للبنوك، وليس كمجرد رقيب عليها، وكان يملك بهذه الصفة أن يتدخل لإقراض عميل وتحديد المبلغ،
أو لعدم إقراض عميل آخر، وكل هذا لا يملكه كبنك في علاقاته بالبنوك الأجنبية والمشتركة؛ لأنها بنوك خاصة.

لقد أخطأ المعارضون – إذن - حين تجاوزوا عن مخاطر فروع البنوك الأجنبية، وحين خدعوا في دورها المزعوم لجذب المدخرات العربية، فبهذا الخطأ – أخذت البنوك الأجنبية وأنصارها زمام المبادرة، فبعد التسليم بأنها "تفتح أبواب الأمل"، أصبح بوسعها أن تفرض ما تشترطه لمجيئها، وهو فتح الباب أيضًا أمامها لتشارك في العمليات المصرفية بالجنيه المصري.
ج- ولكن إذا كانت هذه هي حقيقة أسطورة السوق المالية الدولية، وإذا كانت هذه هي حقيقة الدور الذي تلعبه فروع البنوك الأجنبية، فهل كان هناك طريق آخر لإعادة تدوير الأموال العربية، أو لتوطين هذه الأموال في المنطقة العرقية؟ في ذلك الوقت (1974) كانت هناك إمكانيات واضحة. وحاليًا أصبحت الإمكانية أصعب بعد استقرار الهيمنة الأمريكية الغربية. في ذلك الوقت كان مطلوبًا أن تتم دراسات وجهود جادة من منطلق قطري وقومي مستقل، ويكفي أن نذكِّر هنا بالدراسات والجهود التي بذلها الأعداء لاستيعاب المدخرات العربية على الوجه الأمثل (134). إن الدراسات – على الجانب العربي – كان ينبغي أن تستوعب الحقائق التالية (135): من ناحية العرض:
* عرض الأموال في العالم العربي يأتي دائمًا كعرض فعلي ومباشر، وذي ضخامة غير عادية بالنسبة للأقطار النفطية؛ نتيجة لتقسيط مدفوعات الشركات النفطية على أقساط معدودة خلال السنة، فتحتاج تلك الأموال إلى إيجاد المقابل الفوري والآمن من الطلب؛ حتى لا تفوتها الفوائد التي يمكن الحصول عليها. وبما أن هذه الأموال لا تلقى في المنطقة العربية هذا الطلب الفعلي جاهزًا، فإنها تتجه بطبيعة الحال اتجاهًا جارفًا ومنطقيًّا نحو الأسواق الغربية؛ حيث يوجد الطلب بالشكل المرغوب فيه. وفي الحقيقة فإن أغلب الأموال لا تغادر الدول الغربية على الإطلاق، فهي تحول ببساطة من حسابات الشركات النفطية في لندن ونيويورك إلى حسابات الدول النفطية في نفس المراكز، ثم تنتشر بعد ذلك إلى الدول الأوروبية الأخرى، وإلى كندا واليابان.
* أصحاب تلك الأموال؛ سواء جهات حكومية أو جهات خاصة، يريدون إبقاء قسم كبير منها في شكل أموال سائلة، يمكن التصرف بها بأخف القيود والشروط.
في مقابل ذلك نلاحظ في جانب الطلب (أيام 1974 وحتى الآن) ما يلي:
* أنه طلب احتمالي في أحيان كثيرة، وليس طلبًا فعليًّا، يتمكن من استيعاب العرض فورًا، وبطريقة سليمة وآمنة، فالمشاريع المحتاجة إلى تمويل في كثير من البلدان العربية، لم تتبلور بصورة كافية.
* أنه طلب لأموال طويلة الأجل في الأساس (أو هكذا ينبغي أن يكون)؛ إذ إن معظم المشاريع تحتاج إلى وقت غير قصير في بعض الأحيان؛ حتى تدرَّ الأرباح التي من شأنها تأمين تسديد الأموال المقترَضة.
وتعني هذا الحقائق أن الالتقاء المحتمل بين العرض والطلب على الأرض العربية، لن يتم بغير دراسات جادة وترتيبات متنوعة، وهذه الترتيبات تتضمن مؤسسات مناسبة، وهي في حالتنا لا بد أن تكون في الأساس مؤسسات حكومية وشبه حكومية (136)، ولا أحسب أن في هذه الحقيقة ما يفزع، فحتى مع الدول الغربية تم القسم الأكبر من إعادة التدوير من خلال الحكومات والهيئات الدولية، والقسم الأقل قامت به الأسواق المالية الخاصة بإشراف ومساعدة الحكومات، ومن ناحية أخرى، ينبغي أن نتذكر أن الجهاز الحكومي في الدول النفطية – ممثلاً بالبنك المركزي أو وزارة المالية – هو صاحب الأموال النفطية الوحيد. وهو المسئول أساسًا عن توظيف القسم الأكبر من هذه البلايين من الدولارات، وهذه الحقيقة لن تغيرها أي حوافز تقدم للقطاع الخاص في هذه الأقطار.
والترتيبات عبر المؤسسات الحكومية، لا تعني أنها مجرد ترتيبات سياسية، فهي تضع بالقطع الدراسات والحسابات الاقتصادية في اعتبارها، ولكن في إطار نظرة سياسية أرحب، وهذه النظرة تشمل المواجهات والتعامل مع العالم الخارجي، وتشمل استقرار العلاقات الثنائية والمتعددة بين الدول العربية، وتشمل مفاهيم التنمية المتكاملة، وتضمن تحديد الأهداف المشتركة للأجل الطويل، وكل ذلك سيؤثر في منهج الحسابات الاقتصادية في هذا الإطار قدمت بشأنها دراسات كثيرة، ولكن كل هذا كان يتطلب تحرُّكًا نشطًا ومخططًا وكفئًا من جانب الطلب؛ ليس فقط لأن "عنصر الطلب يجب بالضرورة أن يكون أنشط من عنصر العرض في سوق تتميز بتنافس حاد على العنصر الأخير" كما يقول إبراهيم شحاته (137)، ولكن لأن واقع الحال، كان يجعل دول الطلب (وعلى رأسها مصر) مهيأة لأن تكون المبادرة والقادرة على حل المشاكل التي تحول دون لقاء العرض مع الطلب؛ سواء من حيث إعداد المشروعات، أو التقدم بالتصورات العامة الموجهة للتعاون، إذا لا يغيب عن تصورنا أن العاملين في الإدارات المركزية الضيقة للدول النفطية، أعدادهم قليلة، وكفاءاتهم لا تتسع للمهام المطلوبة، والخبراء الأجانب يتسببون من خلال النصائح الفنية (ودعك من الضغوط السياسية) في تشويهات خطيرة في استخدامات المُدَّخرات العربية.
ولكنْ هل الأنسب تسمية مثل هذه الترتيبات المقترحة: محاولة لإنشاء سوق مالية إقليمية؟ إن الترتيبات تتضمن جزئيًّا إنشاء نوع من السوق، ولكن الوزن الأكبر في المحاولة للسياسات غير المرتبطة كليًا بمنطق السوق؛ ولذا
لا يبدو أن إطلاق اسم سوق مالية إقليمية يعبر عن مجمل المحاولة التي تناولناها.. في كل الأحوال ينبغي أن نعي باستمرار أن المحاولة الأصيلة لإعادة تدوير قدر متعاظم من البترودولارات إلى المنطقة العربية، عبر مؤسسات وقرارات عربية، هي معركة حادة وعنيفة ضد المخططات الدولية الأمريكية، وهذا يؤكد - من جديد - دور مصر (أو الطلب) في المبادرة إلى اقتحام هذا الاختيار، ومن الناحية الاقتصادية كان يتطلب هذا من مصر، أول ما يتطلب، المحافظة على استقلال السياسات المالية والنقدية، وليس فتح الباب
بلا حساب للبنوك الأجنبية.








آخر مواضيعي 0 أنا أَيضاً يوجعنى الغياب
0 ﺃﻋﺪُﻙ !
0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 أنا وانتي.. حكاية بريئة
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
رد مع اقتباس
قديم 06-07-2011, 02:16 PM رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة

(4) نتائج القانون في العام الأول:
صدر القانون 43 لاستثمار المال العربي والأجنبي والمناطق الحرة، بعد إسكات الأصوات المعارضة، وحدث في التطبيق ما توقعناه، فقطاع البنوك كان المجال الوحيد الذي اندفع إليه رأس المال الأجنبي، فهم يدركون مثلنا وأكثر منا، الأهمية الاستراتيجية لهذا القطاع. إن دافيد روكفلر لم ينتظر حتى صدور القانون، فطالب أثناء مقابلته للرئيس السادات (فبراير 1974) بفتح مكتب لبنك تشيزمانهاتن الذي يرأسه (138)، وفي مفاوضات عبد العزيز حجازي مع وليم سايمون (وزير المالية الأمريكي في يوليو 1974) وقعت الوثائق الخاصة بإعادة العمل باتفاقية ضمان الاستثمارات الأمريكية في مصر، وتم الاتفاق في المباحثات على خطوات تتضمن:
1- السماح لأربعة بنوك أمريكية من الدرجة الأولى، بفتح فروع لها في مصر، وهي "تشيزمانهاتن"، و"فيرست ناشيونال بانك"، و"بنك أوف أمريكا"، و"الأمريكان إكسبريس".
2- تزور مصر مجموعة من 16 من كبار رجال الأعمال الأمريكيين الذين يمثلون 10 من أكبر الشركات الأمريكية خلال الفترة من 3 إلى 5 أغسطس لدراسة إمكانيات الاستثمار فيها (139).
ولكن البند الأول هو الذي أسفر عن نتائج سريعة، فحتى نهاية سبتمبر 1974 أعلنت الهيئة العامة لاستثمار المال العربي والأجنبي أن عدد المشروعات التي وافقت عليها بلغ إجمالي رأسمالها نحو 104.3 مليون جنيهًا، منها 54.9 مليون جنيه نقد أجنبي. ويخص الشريك الأجنبي من هذا الكلام الهزيل 22.9 مليونًا جنيه فقط، وتتضمن حصة الجانب المصري 75 مليونًا جنيه للقطاع العام و6.4 ملايين للقطاع الخاص. وبالنسبة للمشروعات بنظام المناطق الحرة، أعلنت الهيئة أنها وافقت على مشروعات قيمة رأسمالها نحو 91 مليون جنيه.
ورغم هزال كل هذه الأرقام بالنسبة للتوقعات، أكدت بيانات البنك المركزي أن المستثمر فعلاً بالنقد الأجنبي وفقًا للقانون 43، لم يتجاوز في آخر ديسمبر 1974 مبلغ 7 مليون دولار، أو حوالي 2.8 مليون جنيه مصري!
في مقابل هذا ثبت من بيانات هيئة الاستثمار أنه حتى مارس 1975، كان 19 بنكًا من البنوك العالمية قد طلبت افتتاح فروع لها في مصر. أوضحت البيانات أنه تمت بالفعل الموافقة على إنشاء خمسة بنوك، منها بنك مشترك يتألف من بنك مصر (51%) مع بنك فيرست ناشيونال شيكاغو، وبنك دي روما، وكذلك ووفق على إنشاء بنك ثالث يتألف من بنك الإسكندرية (51%) مع بنك باركليز (140)، ولم تمضِ فترة قصيرة، إلا وكان البنكان الأمريكيان الآخران في بيان حجازي – سايمون يبدءان أيضًا أعمالهما في القاهرة.
ب- هذا الغزو الذي أحدث تصدعًا مؤلمًا في مكتسبات الاستقلال الاقتصادي، بدأ مع إقرار قانون الاستثمار، وتأكد مع الموافقات التي تمت في أواخر 1974 وأوائل 1975. وقد يذكر للحكومة في ذلك الوقت أنها كانت مترددة أيضًا في هذا المجال، فرغم الاندفاع غير المسئول أثناء مناقشة مشروع القانون، أعلن أنه في الممارسة العملية ستصر الحكومة على أن يكون الشريك المصري – في حالة البنوك المشتركة – بنكًا من بنوك القطاع العام، وأنه لن يسمح للقطاع الخاص المصري بالمشاركة، أو بإنشاء بنوك تجارية خاصة. ولكنها في هذا الموقف – كما في غيره من المواقف– كانت تتراجع سريعًا أمام الضغوط؛ ولذا صرح وزير التعاون الاقتصادي – قبل استقالة الوزارة بشهر واحد– أن قرار الحكومة هو قرار مرحلي لمدة عام أو عامين (141). وقد حاولت الحكومة طمأنة القلِقين على مستقبل بنوك القطاع العام، فأعلنت أن شركات القطاع العام ستقصر معاملاتها على هذه البنوك، ولكن لم يكن إعلان الحكومة كافيًا للطمأنة؛ فالنسبة الأكبر من الودائع (ودائع القطاع الخاص والقطاع العائلي) مفتوحة لمنافسة محمومة من البنوك الأجنبية.
ج- ومع الاندفاع نحو تأسيس البنوك التجارية المشتركة، كان طبيعيًّا أن تمتد يد المراجعة إلى تنظيم قطاع البنوك كله، فألغيت عمليات الدمج السابقة (كان البنك الصناعي قد أُدمِج في بنك الإسكندرية، وبنك بورسعيد في بنك مصر). وبدأت إعادة النظر في الهيكل التنظيم للجهاز المصرفي على أساس إلغاء نظام التخصص (الذي تقرر 1971) وبحيث يعود كل بنك، وحدةً مستقلة تتعامل مع أية جهة، وفي مختلف الأغراض. ولا شك أن إلغاء تخصص بنوك الدولة يعني خطوة هامة لتفكيك البناء التنظيمي المتماسك للقطاع العام، ونذكر أن إسماعيل صبري (وزير التخطيط آنذاك) كان قد طرح – في فترة سابقة – تصورًا حول تنظيم قطاع البنوك، على نحو يتناسب مع أسلوب التنمية المخططة في مصر وكان التصور يقوم على:
1. تخصيص بنك للتجارة الخارجية.
2. تحقيق التخصص والتكامل بين البنوك التجارية الأخرى. (وكان هذا التخصص قد بدأ تنفيذه – فيما يتعلق بالقطاع العام). ونعتقد أنه – في ظل سيطرة الدولة على البنوك – لا معنى فعلاً للتنافس، أو لتعدد الفروع في نفس المكان.
3. توفير الرقابة الكاملة للبنك المركزي على البنوك التجارية بحيث يكون مجموع فروعها شبكة مصرفية واحدة، تغطي الجمهورية وتحركها في المقام الأول توجيهات البنك المركزي. أما الائتمان طويل الأجل؛ ففي تقديرنا أنه لا بد من وجود بنك للاستثمار في الجهاز المصرفي المصري، ويجب أن يتلقى هذا البنك الفائض الإيجابي لكل شركات القطاع العام، وعليه أن يوفر لكل شركة الاستثمارات المقررة لها في الخطة (142).
ونحن نعلم أن إسماعيل صبري ويحيى الجمل – من خلال موقعهما في مجلس الوزراء – سجلاً اعتراضهما على الغزو الأجنبي لقطاع المصارف، وعلى تشويه نظامه، ولكن اتجاه السياسة العامة، والضغوط، عصفت بكل التحفظات. وقد نرى إدخال تعديلات للتصور الذي عرضه إسماعيل صبري لتنظيم القطاع العام المصرفي، إذا كنا نستهدف جذب مدخرات واستثمارات عربية، ولكن إذا كان الهدف الكامن خلف التصور ثابتًا، وهو تطويع الأداء في الجهاز المصرفي لاحتياجات التنمية المخططة، فإن التعديلات كانت ستأخذ مسارًا مختلفًا تمامًا عن الذي تحقق. إن التعديلات المحققة كانت ردة سببها الغزو الخارجي، الذي يرمي إلى هدف مضاد.


(5) القانون لم يكن مع ذلك تسليمًا كاملاً:
يبقى في النهاية أن نسجل أن القانون 43 ظل يحمل بعض الضوابط، فمن ناحية كانت صلاحية الأجهزة التنفيذية في الموافقة على المشروعات وفي متابعتها واسعة نسبيًّا، ومن ناحية أخرى اشتملت المادة 2 على ما اعتبره كبار المستثمرين المحتملين مسئولاً أساسيًا – من الزاوية الاقتصادية – عن إحجامهم، فهذه المادة تعرف المال المستثمر الذي تتناوله أحكام القانون، وجاء في البند الأول من التعريف أنه "النقد الأجنبي الحر المحول لجمهورية مصر العربية، بالسعر الرسمي عن طريق أحد البنوك المسجلة لدى البنك المركزي المصري؛ لاستخدامه في تنفيذ أحد المشروعات أو التوسع فيها".
والنقطة المحددة هنا هي: السعر الرسمي. فقد رفض المستثمرون أن يُحسب نقدهم الحر المحول إلى/ ومن مصر بالسعر الرسمي، وتضامنوا بالتالي مع الهيئات "الدولية" التي تضغط لخفض سعر الجنيه، وقد عبَّر أيامها مصطفى كامل مراد عن رأي هذه الجهات، "فاقترح حذف عبارة (السعر الرسمي)؛ ذلك أن الاتجاه الآن إلى تعويم الجنيه المصري في السوق الموازية، وقد يجري مستقبلاً إنشاء بورصة (كامبيو)، فلن يكون هناك سعر رسمي للجنيه المصري؛ لأن سعره سيتغير باستمرار، حسب مركز الاقتصاد المصري". وأوضح مندوب الحكومة سبب التمسك بعبارة السعر الرسمي، وقال إنه "جرت مداولات كثيرة في اللجنة الوزارية عمَّا إذا كان من الأفضل إضافة هذه العبارة، أو لا داعي لذلك، وكانت الآراء كما يلي:
* إن ما جرى عليه العمل فعلاً حتى الآن، هو أن التحويل يكون بالسعر الرسمي، والمقصود بالسعر الرسمي في هذه الحالة سعر التحويلات، وليس سعر السوق الموازية،
ولا سعر حسابات "ج".

* إن الأرباح تحول أيضًا بهذا السعر الرسمي (...) وعلى ذلك رأت اللجنة الوزارية تسجيل ما كان معمولاً به في نص المشروع". وأضاف وزير المالية تأكيدًا للموقف الذي كانت تتخذه الحكومة من قضية تعويم الجنيه، والذي كان يعني في تلك الظروف خفضًا كبيرًا في سعره الرسمي، فقال "كلنا نتكلم عن تعويم الجنيه، ولكن ذلك لم يتقرر للآن، وما زال تحت الدراسة، وفي حالة تعويم الجنيه، فلن يكون له إلا سعر واحد" (143).
رابعًا – الانفتاح وتشويه الخطة الانتقالية:
(1) الإطار العام للخطة:
كانت خطة 1974 قد وضعت، وأصوات القتال لم تخفت بعدُ؛ ولذا كان إجمالي الاستخدامات الاستثمارية في تلك الخطة 550.5 مليون جنيه (بالإضافة إلى 25 مليون جنيه زيادة في المخزون السلعي)، وكان هدف النمو المحدد لها 6.6%. وكان طبيعيًّا أن يتناول الخطة تعديل ما في العام الأول للانفتاح، فاتخذ قرار وضع الخطة الانتقالية في أبريل(144)، وأعيد النظر في استثمارات النصف الثاني من سنة 1974 لكي تتمشى مع إطار الخطة الانتقالية، وتم ذلك بتقرير استثمارات إضافية لهذه الفترة. أما الفترة التالية في الخطة الانتقالية (وهي سنة 1975) فقد قدمت كخطة سنوية، والأولويات التي حكمت الفترتين كانت واحدة.
وعمليًّا، كان التعديل في برنامج النصف الثاني من سنة 1974، عبارة عن طلب اعتمادات إضافية تقدمت به الحكومة إلى مجلس الشعب، وجهت بشكل أساسي إلى التعمير. فجملة الاعتمادات الإضافية بلغت 194.3 مليون جنيه (منها 16.6 مليون جنيه خصمًا على الاستثمارات غير الموزعة)، وكان نصيب التعمير من هذه الاعتمادات 106.3 مليون جنيه (بنسبة 54.7%). وعلى هذا يعتبر الجزء الخاص بعام 1975 – داخل الخطة الانتقالية - الجهد الأكثر تكاملاً لأجهزة التخطيط، ونعرض إطار خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية لعام 1975 في هذا الفصل؛ لأنه يعبر عن تصورات التنمية كما سادت فعلاً في العام الأول من الانفتاح.
أ- يبلغ حجم الاستخدامات الاستثمارية المُستهدَفة نحو 1222.9 مليون جنيه (شاملاً الزيادة في المخزون وقدرها 40 مليون جنيه)، وإذا استبعد الإنفاق الاستثماري من هذا الرقم (11.5 مليون جنيه) والأرض (20.9 مليون جنيه) فإن إجمالي التراكُم الرأسمالي يكون 1190.5 مليون جنيه.
واستهدفت خطة 1975 الوصول بالناتج المحلي الحقيقي إلى 3757.2 مليون جنيه بزيادة قدرها 316.2 مليون جنيه عما كان متوقعًا تحقيقه في عام 1974، أي بنسبة 9.2% (بالأسعار الثابتة)، وترتفع الزيادة في الناتج المحلي إلى 388.9 مليون جنيه، أي بنسبة 10.7% (بالأسعار الجارية).
وتعني هذه الأرقام أن الخطة كانت طموحة جدًا من حيث الأهداف؛ فإجمالي الاستخدامات الاستثمارية المستهدفة (دون التغير في المخزون) يزيد عن ضعف ما كان مستهدفًا في 1974 (550.5 مليون جنيه) ويتجاوز ما تقرر لها بالفعل (728 مليون جنيه) بحوالي 455 مليون جنيه، وكان معدل نمو الإنتاج القومي الحقيقي في ذلك العام 3.14% (145). وقد عزت الخطة لارتفاع معدلات النمو المستهدف إلى "تشغيل الطاقات العاطلة، واستكمال المشروعات الجاري تنفيذها، فضلاً عن تزايد نشاط بعض المشروعات والقطاعات ذات الأهمية الخاصة؛ كمجمع الحديد والصلب، الذي يزيد إنتاجه بنسبة 200% ومجمع الألومنيوم الذي ينتج لأول مرة، وشركة "كيما" بعد عمرتها الجسيمة، وقطاعي التشييد والكهرباء".
ب- وبالنسبة لأولويات الخطة كانت: التعمير أولاً – ثم استكمال المشروعات التي قطعت شوطًا كبيرًا في التنفيذ – ثم الإحلال والتجديد والطاقات العاطلة لإزالة الاختناقات بهدف زيادة معدلات الإنتاج – ويقتصر الاستثمار في المشروعات الجديدة التي تلعب دورًا استراتيجيًّا في التنمية (مثل الأسمدة والأسمنت) أو التي تلبي حاجات ماسة للجماهير. ويلاحظ أن الاستثمارات العينية الموزعة في القطاع العام (نحو 1056.2 مليون جنيه) خصص منها 438.9 مليون جنيه للقطاعات السلعية (41.5%)، منها 196.3 للصناعة (أي 18.6% دون البترول والكهرباء)، وكانت نسبة الزراعة 4.3% والري والصرف 4%. وبالنسبة لاعتمادات الجهاز الإداري زنادت بحوالي 281.4 مليون جنيه عن عام 1974، منها 242.7 مليون جنيه لوزارة الإسكان والتعمير "لمواجهة أعباء التعمير"، وهذا المبلغ إذا أضيف إليه 134.3 مليون جنيه مخصص لهيئة قناة السيوس، يرتفع إجمالي الموجه لمنطقة القناة إلى حوالي 370 مليون جنيه، أي أنها استحوذت وحدها على 35% من إجمالي الاستثمارات للقطاع العام.
ج- هيكل التمويل: أوضحت الخطة أنها وضعت ضمن أهدافها معاودة بناء "مخزون سلعي استراتيجي، يمكن استخدامه لتوفير احتياجات القوات المحاربة وقت الحرب، ولضمان أقوات الجماهير، وإشباع حاجاتها في الحرب والسلم معًا دون أزمات حادة"، وهذا الهدف كان يعني في الحقيقة زيادة المبالغ المخصصة للمخزون إلى 275 مليون جنيه؛ وبذا وصل المطلوب للاستثمار والمخزون إلى حوالي 1466 مليون جنيه (1191 + 275)، وفي نفس الوقت قدرت الخطة المدخرات المحلية (= الاستثمار والمخزون – العجز الجاري في ميزان المدفوعات) بما لا يتجاوز 116 مليون جنيه، أي 7.9% فقط، وإذا أضيفت مبالغ الدعم العربي (مقدرة بـ 250 مليون جنيه) إلى المدخرات المحلية، لا ترتفع النسبة إلى أكثر من 25%، وتظل الخطة تنتظر كرم الجهات الخارجية لتوفير 75% من المطلوب.
د- السياسات الاقتصادية: لم تتناول الخطة الانتقالية السياسات المحددة التي تضمن تنفيذ الأهداف، وهذا الإغفال لم يكن على سبيل السهو، ولكنه انعكاس لنقص الصلاحيات المخولة لأجهزة التخطيط المركزية؛ ولذا اكتفت الوزارة بتوجيه بعض "النصائح والتعليقات" المتفرِّقة، واطمأنت - فيما يبدو - على ما يتضمنه هيكل الخطة نفسه من أدوات اعتبرتها كافية لتحقيق الأهداف، فقد تضمنت الخطة إسناد 91.5% من جملة الاستثمارات العينية الموزعة إلى القطاع العام.
(2) نقد الأولويات:
أ- بعد هذا العرض لإطار الخطة الانتقالية، ننتقل إلى الملاحظات، وقد وصف تقرير للبنك الدولي هذه الخطة بأنها "أولاً خطة مؤقتة لعبور فترة الظروف غير العادية التي نشأت عقب حرب أكتوبر 1973، توجهًا إلى مرحلة تكون العودة فيها إلى التخطيط المعتاد، ولخمس سنوات ممكنة. وثانيًا، فإنها المحاولة الأولى لإضفاء مضمون عملي لسياسة الانفتاح الاقتصادي؛ ولذا تعهد الخطة إلى القطاع الخاص بدور أكبر جدًا – الاستثمار الخاص المستهدف في 1975 حوالي ثلاثة أضعاف المستوى للعام السابق، وأيضًا إلى رأس المال الأجنبي، وثالثًا، تركز إلى حد كبير على مشروعات ذات فترة حضانة قصيرة؛ مثل مشروعات تحقيق التوازن، والتحديث، والاستخدام الأكمل للطاقة الصناعية القائمة. هذا التأكيد على ما يسمى "القطاعات الإنتاجية" يؤدي على أية حال إلى بعض الإهمال للقطاعات الاجتماعية" (146). وفي هذا الوصف التحليلي العام يصدق التقرير في (أولاً)، فالخطة اسمها انتقالية، وتقريرها يحدها هدفها بأنه "تثبيت وتقوية القاعدة التي سوف ينطلق منها الاقتصاد المصري خلال الخطط الخمسية القادمة". ويصدق تقرير البنك في (ثانيًا) أيضًا، فهي تعبير عن الممارسة العملية لسياسة الانفتاح (وليس لورقة أكتوبر)، وتعبير عن هذه الممارسة في إطار مفاهيم الانفتاح وتوازنات القوى في تلك السنة. هذه الممارسة كانت تعكس تراجعًا عن ورقة أكتوبر، ولكن تراجعًا غير كامل. وتركيز البنك الدولي على زيادة دور القطاع الخاص المصري والأجنبي، ولم يكن تركيزًا على أهم ما نعتبره تراجعًا عن ورقة أكتوبر، والحقيقة أن نصيب القطاع الخاص (98.2 مليون جنيه) كان يزيد فعلاً ثلاث مرات عن حجم استثماره المقدر في خطة 1974، وكان النصيب المعلن للقطاع العام – في المقابل – 1056.2 مليون جنيه، وكان يبدو بالتالي أن نسبة الاستثمار الخاص، ظلت 8.5% فقط.
أما (ثالثًا) التي جاءت في تقرير البنك الدولي (عن الأولويات) فإنها غير صحيحة. وسنتحرر هنا من تقييمات البنك الدولي؛ لنقدم تصورنا الخاص. ولا شك أن أولويات الخطة تقررت سياسيًّا، فهي قد تقررت – كما يقول تقرير الخطة – "في ضوء توجيهات السيد الرئيس ومناقشات اللجنة العليا للتخطيط السياسي".
ب- ويتضح ذلك تمامًا بالنسبة للنقطة ذات الأولوية الأولى – أي التعمير – فإن اعتبارات السياسة العليا هي التي قررتها، أقصد الاختيار الاستراتيجي لأسلوب حل للصراع المصري/ الإسرائيلي. في وقت من الأوقات صرح الرئيس السادات بأن عملية التعمير تبدأ عندما ينسحب آخر جندي إسرائيليّ من الأرض العربية (147). ولكن بعد اتفاقية الفصل الأول للقوات، ومع وعود محددة بانسحاب إسرائيليّ آخرَ في اتفاقية فصل ثان للقوات في أكتوبر، التزمت القيادة بالبدء في التعمير، وأسندت المهمة إلى عثمان أحمد عثمان، وكانت تعليمات الرئيس له: "إنني أريد إعادة بناء هذه المدن التي تقع تمامًا في مدن المدفعية الإسرائيلية. إنني أريد أن أوضح للإسرائيليين، أنني لا أنوي شن حرب ضدهم مرة أخرى"(148).
وقد دارت بالفعل عجلة التعمير بأقصى سرعة، واحتل الأولوية في خطة، تهدف إلى إنعاش اقتصاد مُنهَك، رغم أن التعمير – من الناحية الاقتصادية – كان يزيد من متاعب الاقتصاد المصري. وقد تدفقت الوعود والقروض بشكل مخطط نحو هذه الأولوية بالذات؛ إذ أسرعت الولايات المتحدة إلى قيادة عمليات تطهير مجرى القناة. وفي رسالة نيكسون إلى الكونجرس (24 أبريل) اقترحت معونة "لدعم" مصر (حوالي 250 مليون دولار) من أجل: 1- تطهير قناة السويس. 2- إصلاح المنشآت المدمرة. 3- المساعدة في إعادة بناء الاقتصاد المصري. ومن هذا المجموع المتواضع، اقترحت الرسالة تخصيص 170 مليون دولار لتعمير منطقة القناة (149). وفي يونيو قدمت الكويت 150 مليون دولار لنفس الغرض. وفي أغسطس قدمت السعودية 300 مليون دولار كمعونة عاجلة لتعمير منطقة القناة، أثناء زيارة للملك فيصل (وبالمناسبة كانت الصحافة المصرية قد توقعت أن تقدم السعودية 1.2 بليون دولار كقروض مُيسَّرة بالإضافة إلى معونة التعمير.. ولكن لم يحدث). وفي نوفمبر 1974 أعلن صندوق التنمية السعودي موافقته على التعاون في تقديم قروض لبعض المشروعات؛ كممول شريك مع البنك الدولي، وكان على رأس القائمة قرضٌ للإسهام في إعادة فتح قناة السويس للملاحة.
والبنك الدولي كان قد أعلن (بعد زيارة مكنمارا للقاهرة) عزمه على تقديم قروض قيمتها 200 مليون دولار لعدد من المشروعات (في السنة المالية يوليو 1974/ يونيو 1975) ولكن لم يستخدم عام 1974 إلا قرض قناة السويس (50 مليون دولار). أما إيران الشاه، فكان الاتفاق معها (849.6 مليون دولار) في مايو 1974 يشمل مجالات متنوعة، ويتكون من تسهيلات ائتمانية واستثمارات مشتركة. وأثناء زيارة الشاه (يناير 1975) كان على رأس المشروعات التي حددت استعادة التسهيلات الملاحية في ميناء بورسعيد (حيث لإيران منطقة تجارة حرة)، وكان مقترحًا أن تقيم بها مصنع بتروكيماويات، وخط لنقل البترول بين السويس وبورسعيد تشترك فيه إيران مع آخرين، بالإضافة إلى المساهمة في إعادة الملاحة في القناة وتطويرها من خلال عقد مع شركة يابانية (150).
ولا ننسى طبعًا أن اليابان قدمت بدورها 38 بليون ين (حوالي 60 مليون جنيه) قرضًا لإعادة الملاحة في القناة(151).
ج- واحتلال التعمير لموقع الأولوية الأولى مسألة يختلف معها جذريًّا كل من له تصور استراتيجي مغاير في مجال الصراع مع إسرائيل. ولكن حتى في نطاق التصور الاستراتيجي "الرسمي"، لم يكن مفهومًا أن يتسع نطاق العملية على النحو الذي صار، رغم أعبائها الاقتصادية الثقيلة. والطريف أن البنك الدولي – يزعم دائمًا أنه بعيد عن السياسة، ويقيس الأمور من زاوية اقتصادية فنية (ويضيف حاليًا أنه يهتم أيضًا بالنواحي الاجتماعية) ولكن هذا البنك الدولي لم يتوقف بأي تحفظ أمام قضية التعمير، بل تجاهلها تمامًا، وهو يحصر أوجه تركيز الخطة. ولكن لجنة الخطة والموازنة في مجلس الشعب، أثبتت في الحقيقة أنها تحذر. ورئيس اللجنة في ذلك الوقت (أحمد أبو إسماعيل) كان قد اكتسب سمعة طيبة عند الهيئات الدولية والدوائر اليمنية، باعتباره المنظر الاقتصادي للانفتاح غربًا بلا حدود، ولكنه توقف مع ذلك أمام قضية التعمير؛ إذ لاحظ "أن الكثير من المشروعات يتعلق بالتعمير والإسكان والمرافق، وهذه أنشطة لن تترتب عليها صادرات، ولكن الخطة تمول جانبًا كبيرًا من هذه بقروض، وهذا يضعف مركزنا الاقتصادي؛ ذلك أنه لن يمكن سداد مثل هذه القروض، إلا إذا أمكن زيادة الصادرات من المشروعات الأخرى زيادة ضخمة تكفي لسداد قروض المشروعات جميعها، وهذا أمر لا يتأتى لمشروعات حديثة التكوين، وكان واجبًا على المخطط للمحافظة على سلامة الاقتصادي المصري في علاقاته الخارجية، أن يعتمد في تمويل مشروعات الإسكان والتعمير والمرافق على المعونات، كما فعلت كثير من الدول التي مرت بها حرب" (152).
د- إلا أن مخاطر التعمير على هذا النطاق الواسع
لم تقتصر اقتصاديًّا على مسألة القروض المتعذر سدادها، فالعملية بطبيعتها تزيد الضغوط التضخمية (كما أسلفنا)، وعثمان أحمد عثمان الذي قرر تصدير عمال البناء والحرف المكملة بلا ضابط، كان هو نفسه المشرف على عمليات التعمير، ويدرك احتياجاتِها الكبيرة من هؤلاء العمال، وقد انعكس ذلك في تشوه هيكل الأجور على المستوى القومي، وكان ذلك ضمن أسباب مضاعفة التكلفة للأعمال الإنشائية عمومًا، ومعها الضغوط التضخمية. وللحقيقة لم يفت وزارة التخطيط في هذه النقطة أن تتقدم "بواجب الشرح والنصح" فسجلت أن عنق الزجاجة في أعمال الإنشاء والتعمير، يتمثل في عنصر العمالة "فقد بدأت الشكوى من نقص العمالة الفنية منذ العام الماضي بصفة خاصة؛ نتيجة للعمل في ليبيا (ولم يشأ تقرير الوزارة أن يضيف السعودية ودول الخليج). كما أن أعمال التعمير قد جذبت نسبة عالية من العمالة المتاحة؛ نظرًا للأجور المرتفعة في منطقة القناة، مما يخشى منه على معدلات التنفيذ في بقية المشروعات. وتجدُر الإشارة هنا إلى أن زيادة الأجور، لن تحل مشكلة العمالة في قطاع التشييد على المستوى القومي؛ حيث إن عرض العمالة الفنية أقل من الطلب بشكل واضح. كما أن ارتفاع الأجور يزيد من تكاليف التشييد؛ مما ينقص الحجم العيني المنفذ من الخطة؛ ولهذا فلا بد من التحفظ فيما يتعلّق بسفر عمال البناء في الخارج".

ولم يكن ممكنًا أن يستخدم التخطيط (بعد كل ما قال) كلمة أشد من "التحفظ" حتى لا يغضب الوزير القوي عثمان أحمد عثمان (ومن خلفه). وقد منح مجلس الشعب وزارة التعمير سلطات واسعة بمقتضى القانون رقم 62 لسنة 1974، وهذا القانون خوَّل الوزارة وضع خطة التعمير، ويسلمها سلطات مالية وإدارية واسعة، دون التقيد بالقواعد المنظمة للتصرف في النقد الأجنبي وباللوائح المالية، أو لوائح المناقصات والممارسات والمقاولات. وبمقتضى هذه الصلاحيات خرجت استثمارات تبلغ 242.7 مليون جنيه (وهي الاستثمارات المخصصة للتعمير) من دائرة الإشراف المركزي لأجهزة التخطيط. وقد أعلن مجلس الشعب في ردِّه على بيان الحكومة أن السلطات الواسعة المخوَّلة لوزارة التعمير
"لا تعني تحللاً من رقابة المجلس، بل تفرض مزيدًا من اليقظة والحزم"، ولكن هذا الحزم لم يظهر أبدًا، رغم أن كافة التقارير غير الرسمية كان تلِح على ضرورة التدخل، "فالتعمير يسير بطريقة عشوائية وغير مخططة" – هذا ما أعلنه مثلاً عضو مجلس الشعب المسئول عن متابعة هذا الأمر، وقد شرح الرجل أوجه الإسراف العجيب (153). وكتب في نفس اتجاهه ميلاد حنا (أستاذ الإنشاءات بهندسة عين شمس) وقال "إنه سأل المسئولين التنفيذيين عن سر هذا الإسراف، فأجابوا بأنهم - بدورهم - لا يعرفون السبب، وأنهم يتصورون أن هذه سياسة عليا!" (154).

وفي مجال التعمير، كان ذائعًا أيضًا المبالغة في الاستعانة بالخبرات الأجنبية، في أمور لا تستأهل أبدًا الاستعانة بالأجانب، وكانت هذه العملية تتم بالذات من خلال شركة "المقاولون العرب"، وأحاطت بذلك شبهات قوية. كذلك كانت التقديرات الرسمية (التي سربتها دوائر التخطيط في ذلك الوقت) تقرر أن حجم الأعمال المقدر إسنادها إلى قطاع المقاولات الخاص. في مناطق التعمير – يتجاوز 140 مليون جنيه أثناء خطة 1975. وباختصار يمكن أن نقول إن هذا التعمير كان مضخة هائلة لتحويل الموارد – بطرق غير مشروعة – إلى القطاع الخاص المشوه، وتمت هذه العملية تحت أعين الجميع، بل بمساندة ومباركة من جهات في قمة المسئولية والنفوذ.
هـ- لماذا غض البنك الدولي بصره عن كل ذلك،
ولم يتوجه بكلمة نقد "اقتصادي" واحدة إلى التوسع في قطاع التعمير أو إلى سلبيات الأداء
، رغم أن هذه السلبيات – من وجهة النظر الاقتصادية البحتة – لم تكن خافية على أحد؟ هذا السؤال قد يبدو للبعض مشروعًا، ولكنه بالقطع – وعلى ضوء مفهومنا للبنك الدولي – يعتبر سؤالاً ساذجًا. فكل ما نعتبره سلبيًّا، كان إيجابيًا تمامًا من المنظور الاقتصادي للبنك الدولي. من هذا المنظور أصاب قطاع التعمير – باتساعه وأسلوب أدائه – عديدًا من العصافير بحجر واحد:

حصر دائرة التخطيط المركزي والمتابعة المركزية؛ بإخراج أهم مجال للاستثمارات الجديدة من هذه الدائرة – أخل بالتوازن المعقول بين القطاعات الاقتصادية؛ فالتوسع في التعمير كان بالضرورة على حساب التوسع في قطاعات أخرى، وعلى حساب حصول هذه القطاعات على احتياجاتها من الاستثمار ومستلزمات الإنتاج، وإحداث الاختلال والإرباك، كان مفيدًا في هذه المرحلة – تأكد هذا الاتجاه من خلال زيادة تكلفة التشييد، ونُدرة العمالة، فمع أولوية التعمير، كان لا بد أن تهبط معدلات التنفيذ العيني للإنشاءات في المجالات التي لم تكن تحظى بمباركة البنك الدولي – وما ترتب على ذلك من ديون خارجية صعبة، وزيادة في الضغوط التضخمية، يساعد الحملة المشتركة لخفض سعر الجنيه، ويساعد في إشاعة الفوضى في هيكل الأسعار الذي حاولت الحكومة أن تحميه – وما يعتبر فسادًا ودخولاً طفيلية من زاوية معينة، كان من منظور البنك (ومن معه) إحداثًا لتراكم أوَّلِي سريع في يد عصابات من المغامرين، أي في يد قطاع خاص، حسب المواصفات المطلوبة، قطاع خاص انتفخ بدخول هائلة؛ نتيجة للسياسة الأمريكية والسلام الأمريكي؛ ونتيجة للتعامل مع الشركات الأجنبية. أليس كل هذا كافيًا لكي يلتزم البنك الدولي جانب الصمت، علامة على الرضا والارتياح؟ بالقطع يكفي، ودعك من مسألة أن التعمير كان – أيضًا – مطلبًا أمريكيًّا إسرائيليًّا لإقامة عائق أمام تجدد الاشتباكات العسكرية؛ ولتكثيف الوجود الأجنبي في حزام عازل بين القوات (سواء في شكل مصالح، أو في شكل خبراء التعمير والبترول).
(3) دلالة التركيز على الصناعة:
أ- كانت هذه الأولوية الأولى للخطة الانتقالية. إلا أن الأولويات التالية مثَّلت - إلى حد ما - محاولة التوازن أو مرحلة التردد في الانفتاح المطلوب. وقد حظيت هذه بمعارضة في تقرير البنك الدولي كما أسلفنا، وأيضًا في مجلس الشعب، فقد هُوجم استئثار القطاع العام بالنصيب الغالب من الاستثمار. ونقد تقرير لجنة الخطة والموازنة، ما وصفه بأنه مبالغة في التركيز على الطاقات العاطلة، وقال إن الزراعة لم تنلْ مكانها المناسب في الأولويات؛ حيث إن نصيبها من استثمارات 1975 لا يعدو 4.3%، "ويقل حجم ما خصص لوزارة الزراعة والإصلاح الزراعي من استثمارات في هذه الخطة، عمَّا خُصص لها عام 1974"، والحقيقة أن الخلاف بين الحكومة واللجنة، لم يكن في المفاضلة بين الزراعة والصناعة، ولكن في تحديد دور كل من القطاعين العام والخاص في إنجاز الأهداف العاجلة كما جاءت في خطة 1975.
إن تشجيع القطاع الخاص المنتج (كما هو الحال في الزراعة) ضرورة قومية، ولكن كان معقولاً أن تكون أولوية أو درجة التشجيع بقدر الإسهام المتوقع لهذا القطاع في تحقيق الخطة المعينة، وهي في هذه الحالة خطة إنعاش تهدف إلى تحقيق عائد سريع ومرتفع يمكن للدولة تعبئته لمواجهة الأعباء والالتزامات المتعددة، والتركيز على قطاع الزراعة – بوصفه المعروف – لم يكن ليحقق هذا الهدف، وإذا كان المطلوب – في المدى القصير – خطة تحقق – بقدر معقول من اليقين – عائدًا سريعًا، فإن التركيز لا بد وأن يكون على الصناعة (في القطاع السلعي) فهي بطبيعتها قطاع منظم، وكان مفترضًا – في 1975 – أنها خاضعة للإدارة المركزية، وهي بالتالي أقدر على تحقيق الهدف المطلوب لذلك العام، وقد تمسكت الحكومة، بموقفها من تحديد الأولويات، وتمسكت بهذا الحجم الكبير لاستثمارات القطاع العام، ولاستثمارات الصناعة، وكان موقفها في هذه الجزئية صحيحًا، ووفقًا لحسابات تبدو واقعية، ولكن نكرر كالعادة أن السياسات لا بد أن تكون متكاملة.
ب- وأعتقد أن من واجبنا أن نذكر – بالمناسبة – أن القطاع الخاص لم يكن "مظلومًا" جدًا، فأرقام الاستثمار العام أخفت نسبة محترمة من الأموال كان مفروضًا أن تحول إلى القطاع الخاص، وإذا تركنا جانبًا موضوع العمولات، وما أشبه في التجارة الخارجية والتعاقدات المحلية، فإنه يكفي أن نشير إلى قطاع المقاولات، فقد كان متوقعًا أن يتعاظم دور قطاع المقاولات الخاص بنفس معدلات زيادته في منطقة القناة (مباشرة أو من الباطن) وحجم إنتاج التشييد في الخطة الانتقالية، كان مقدرًا أن يصل إلى 654.6 مليون جنيه، وكان الحجم المقابل في خطة 1974
لا يتجاوز 391 مليون جنيه، ورغم أن هذه الزيادة الهائلة تبلغ 68% فقد تمت تصفية شركتين من شركات القطاع العام في مجال المقاولات، ورفع حد التعاقد – في نفس الوقت – مع مقاولي القطاع الخاص من 100 ألف جنيه إلى 500 ألف جنيه. ويعني ذلك أن الإجراءات العملية كانت تتيح للقطاع الخاص فرصة التوغل في ميدان استراتيجي يتسع باتساع القطر، وهو في هذا الميدان يشتغل بمال الدولة وتسهيلات بنوك الدولة، ويحقق تراكمًا خرافيًا. ويستحيل تقديم أرقام محددة عن الأرباح، ولكن أحد القريبين من الصورة (محمود أبا وافية) اضطُرَّ إلى "المطالبة بإعادة النظر في العلاقات بين شركات المقاولات وأصحاب الدخول الطفيلية الذين يريدون أن يثروا دون مجهود أو تعب" (155). وقد أشارت لجنة الرد على بيان الحكومة إلى نفس المعنى حين أعلنت "أنه قد أصبح من الضروري أن تمتد أحكام قانون الكسب غير المشروع إلى المتعاملين مع القطاع العام من الأفراد". وقالت: "إن الفساد والثراء يرجع - في معظمه - إلى علاقات في أحد طرفيها موظف اؤتِمن على أموال عامة، فخان الأمانة، وفي الطرف الآخر فرد يسعى إلى التأثير على ذمة الموظف العام؛ ليتقاسما معًا الربح الحرام". إن هذه الفقرة كانت تتسع لفئات أخرى غير المقاولين، ولكن لا شك أن أعمال المقاولة التي تحركت في نطاق 655 مليون جنيه، كانت من أكثر المجالات إسالة للعاب. وقد دلَّت الخبرة المصرية أثناء الخطة الخمسية الأولى (60/ 1961 – 64/ 1965) على أن قيام القطاع الخاص بنصيب كبير من إنتاج التشييد، أدَّى إلى مضاعفة التكلفة، واستنزاف المال العام، وإرباك المواعيد، وكان هذا الكلام معروفًا ومعلنًا، والخبرة الحالية المتجددة أكدت نفس الشيء.

(4) هيكل التمويل المشوَّه:
أ- ننتقل بعد هذا إلى هيكل التمويل: وقد حددنا الأبعاد الشاذة لاختلال الهيكل، وقال تقرير الخطة هذا الاختلال يبرز "بعض الصعاب والمشاكل التي تصاحب جوانب التنمية خلال عام 1975، إلا أن التقدير الموضوعي لآثار حرب أكتوبر في رفع مكانة مصر، وتأكيد التضامن العربي والتغيير الإيجابي في مواقف بعض الدول الأجنبية، والنتائج السياسية النشيطة التي تمارسها الحكومة بتوجيه من السيد الرئيس لدعم كل أشكال التعاون العربي والدولي، وتزايد الثقة في الاقتصاد المصري، واستقراء ما تم عقده بالفعل من اتفاقات وما هو بسبيل الإبرام، كل ذلك يجعل التخطيط يطمئن إلى أن بوسعنا مواجهة هذا العجز بمواردَ خارجية في هذه الفترة الاستثنائية، التي تبرر في ذاتها الاعتماد الكبير على تلك الموارد. كما أن النتائج المتوقعة عن تنفيذ الخطة من شأنها أن تضع الاقتصاد المصري في وضع أفضلَ عند بداية الخطة الخمسيَّة".
وهذا التبرير – من أوله لآخره – لا يبدو مقنعًا؛ فمن حيث المبدأ، من يحتكر التمويل يملك التخطيط، يملك إملاء الأولويات، وتحديد المشروعات، وهذه بدَهيَّة لا تحتاج عناء الإثبات. وقد بنت الحكومة توقعاتِها بتوفير التمويل – ووفق شروطها هي – على فرض تزايد الثقة في الاقتصاد المصري، ولا ندري كيف تتزايد الثقة في اقتصاد تعلن الخطة أنه مفلس وعاجز تمامًا عن تمويل تنميته؟ أيضًا بُنيت التوقعات على تغير الظروف السياسية، واستقراء ما تم من اتفاقات. ويلاحظ هنا أن الخطة كانت تدرك أن أولوياتها جعلت الانحياز غربًا جزءًا من بنيتها (ورغم نقدها بالكلام للمبالغة في هذا الاتجاه في مواضعَ متفرقة من تقرير الخطة) فالمكون الأجنبي في إجمالي الاستثمارات العينية قُدِّر
بـ 468 مليون جنيه، وكان نصيب التمويل الأجنبي الحر (أي من الدول الغربية) 408.4 مليون جنيه، ونسبته 87.3%. وأرجعت الخطة "هذا الارتفاع الملحوظ في الاعتماد على التمويل الأجنبي الحر إلى احتياجات التعمير المعطاة أولوية في خطة 1975 والتي لم يسبق تضمين معظمها في أيَّة افتقادية دفع"، والحقيقة أنه لا سبق ولا كان متوقعًا أن تتضمن اتفاقيات الدفع مع الدول الاشتراكية إسهامًا في عمليات التعمير التي اعتُبرت جزءًا من السلام الأمريكي، ولكن لم تكن مشروعات التعمير وحدها المسئولة عن هذا الانحياز في هيكل تمويل الخطة.

وإذا كان من أسباب هذا الانحياز تفاؤل راجع إلى "تغير الظروف السياسية، واستقراء ما تم من اتفاقيات" مع الأصدقاء الجدد، فقد ثبت الآن أن هذه التقديرات كانت جزءًا من أحلام الفترة، بل كان واضحًا – حتى في تلك الأيام – أن استقراء ما تم فعلاً من اتفاقيات، كان يؤدي إلى غير التفاؤل؛ فوفقًا لتصريحات الرئيس السادات وقت إعداد الخطة، كانت الوعود (الوعود وليس الاتفاقيات المحددة) التي حصلت عليها السلطات المصرية كالتالي: إيران 100 مليون دولار – ألمانيا الغربية 30 مليون دولار – الولايات المتحدة 250 مليون دولار – البنك العربي الدولي 50 مليون دولار (156).
ب- ومع هذا الصورة لإمكانيات التمويل الميسرة لم يكن يعني تنفيذ الخطة، إلا لجوءًا للاقتراض الصعب لسد الفجوة التمويلية، أي تدهورًا متزايدًا في وضع الاقتصاد المصري، وقد أشار تقرير لجنة الخطة والموازنة – في مجلس الشعب– في ذلك الحين إلى أنه لا يعترض على تمويل عجز يصل إلى نحو 1100 مليون جنيه بالاقتراض من الخارج، وقال إنه ليس هناك عيب أو خطر في ذلك، ولكنه أشار إلى أن الخطة تقترض نوعين من القروض:
1- قروض إنتاجية قصيرة الأجل.
2- قروض استثمارية طويلة الأجل.
أما النوع الأول من القروض، فإن الخطة تقوم بالحصول عليه؛ لتمويل شراء جانب كبير من السلع الوسيطة، خصوصًا تلك التي تدخل في تشغيل الطاقات العاطلة، وهذه القروض يجب سدادها بعد فترة قصيرة. ولكي يمكن سدادها يجب أن نكون قادرين على تصدير جزء من الإنتاج الذي تحقق نتيجة لعملية الاقتراض من الخارج، فإذا كانت أرقام الخطة تتوقع جمودًا في حجم صادراتنا؛ فإن هذا يعني أننا لن نتمكن من سداد فوائد وأقساط القروض الإنتاجية قصيرة الأجل، التي سنقترضها لتشغيل الطاقات العاطلة، ومعنى ذلك أن هذه الطاقات العاطلة التي سيتم تشغيلها عام 1975 نتيجة للاقتراض، ستعود طاقة عاطلة مرة أخرى؛ لأنه لن يكون هناك من يقرض دون انتظار سداد قرضه وفوائده، وإن عدِم سداد القروض التي ستمول الطاقات العاطلة؛ سيضر بالمركز الائتماني للدولة، وسيضعف قدرتنا في الحصول على القروض الإنتاجية التي نموِّل بها إنتاجنا العادي، وبذلك ستظهر الاختناقات في اقتصادنا القومي بصورة أكثر عنفًا في عام 1975.
كان هذا موقف لجنة الخطة والموازنة في مجلس الشعب من ضوابط الاقتراض لتشغيل الطاقات العاطلة (وسبق أن ذكرنا معارضتها لقروض التعمير)، وقد كان هامًا أن نثبت هذا الموقف؛ لأنه قُدِّر بعد ذلك لكاتب تقرير اللجنة - أحمد أبي إسماعيل - أن يصبح وزيرًا للمالية بعد هذا الكلام بأربعة أشهر. وكل ما كان واعيًا به وحذِرًا منه، قام هو بتنفيذه، بل بوسعنا أن نقول إن الوزير المسئول عن صياغة الخطة الانتقالية كان يتوقع – بناء على الاتصالات السياسية– أن هناك احتمالات قوية للحصول على قروض ميسرة (157)، وقد يصلح هذا كتبرير ما، لخطة تعتمد أساسًا على التمويل الخارجي، ولكن ما هي حجة المسئولين الذين اتضح لهم أن الموارد الخارجية الميسرة غير متوافرة بالقدر الذي كان متوقعًا، ما هي حجتهم في الاستمرار؟ لقد سجلت (الطليعة) أيامها، أننا - من حيث المبدأ - ضد الاعتماد على الإقراض الخارجي كمصدر أساسي لتمويل التنمية، ويزداد اعتراضنا– مثل تقرير لجنة الخطة والموازنة – إذا كان محتملاً أننا لن نستطيع سداد هذه القروض الكبيرة، وبالتحديد إذا كانت قصيرة الأجل (158).
(5) السياسات العامة المصاحبة للخطة:
أ- بالنسبة للسياسات العامة التي اعتمدت عليها الحكومة لتنفيذ الخطة، ذكرنا أنها كانت مرتكزة على الدور القيادي للقطاع العام كمعطي، ولكن كان مفهومًا أن هجوم الجهات الخارجية على القطاع العام، ذو شُعَبٍ ثلاث: شُعبة تستهدف ضرب سيطرة الدولة على التجارة الخارجية والبنوك؛ باعتبارها أكثر المواقع أهمية – والشعبة الثانية تستهدف إنهاء التنظيم المركزي للقطاع العام – والشعبة الأخيرة تستهدف تقليص حجم القطاع العام المنتج بشكل عام.
وقد تناولنا ما حققته شعبة الهجوم الأولى – ونوضح هنا أن الحكومة حاولت أن تقف ضد شُعبة الهجوم الثانية خلال عام 1974، وحين أثار مصطفى كامل مراد (بتوارد خاطرٍ غريب مع المطالبات الدولية) قضيةَ إلغاء المؤسسات النوعية رد رئيس مجلس الوزراء "بأن إلغاء المؤسسات العامة، يضع كل المكاسب التي حققناها من خلال إدارة القطاع الاقتصادي، ومن أجل هذا؛ فإنني أؤيد تأييدًا كاملاً بقاء المؤسسات العامة الاقتصادية؛ باعتبارها الشركات الأم (شركات قابضة)" (159).
ولكن هذا الموقف كان – كالعادة – يتراجع سريعًا؛ فبعد أيام من التصريح السابق، صدر قرار بإعطاء 20 مصنعًا سلطاتٍ مطلقة في الإنتاج والاستيراد والنقل البحري، وفي التعامل مع البنوك لتدبير العملات الأجنبية؛ لاستيراد مستلزمات الإنتاج، وأعلن أن هذه القائمة دفعة أولى، وأن كافة الوزراء كُلِّفوا بتقديم أسماء الشركات التي يطبق عليها هذا النظام في قطاعاتهم. وصرح وزير التعاون الاقتصادي بأنه لا يرى مانعًا في تطبيق هذا النظام على كل الشركات العامة. وصحيح أن هذا الإجراء ظل محدود الأثر من الناحية العملية، ولكنه كان مؤشرًا واضحًا إلى أن الحكومة في موقف الدفاع، وتستعد للتراجع. ويعزز هذا الاتجاه أن قطاع الاستثمار المشترك كان مقررًا (وفق القانون 43) معاملته كقطاع خاص، ويعني هذا – ضمن ما يعني – أنه لا يخضع لسلطة المؤسسات النوعية. إن صيغة المؤسسات النوعية
لم تراعِ - في كل الأحوال - طبيعة العلاقات الاقتصادية الموضوعية بين الشركات العامة، ويمكن أن يقال إن أسلوب ممارستها لمهامها التنظيمية والإشرافية، كان يحتاج تطويرًا يزيد من استخدامات المُحفِّزات المعنوية والاقتصادية.

ولكن لم يكن الحل أبدًا لعلاج الصداع قطعَ الرقبة. ودور المؤسسات العامة كان في الأساس – ورغم كل التحفظات – إيجابيًّا، وكان ضرورة لتكامل الجهود في تنفيذ التنمية المخططة، ولترشيد تخصيص الموارد على مستوى مركزي، وللتنسيق بين الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية (على مستوى الوحدات) منعكسة في تحديد الأهداف، وفي السياسة السعرية.. إلخ. وكذلك كانت المؤسسات العامة أداة ضرورية لدعم القطاع العام في مواجهة التحديات الخارجية. وقد تذرعت الجهات الأجنبية بتبرير غريب لهجومها على المؤسسات النوعية، فادَّعت أن المؤسسة المركزية تسيء بالضرورة إلى إنتاجية المشروعات التابعة؛ لأنها بالضرورة أداة بيروقراطية، تعوق إطلاق المبادرات في الوحدات المنتجة، وهذا ادعاء مفضوح الكذب، فقائلوه على بيِّنة من وضع الشركات العابرة للجنسية، التي تدير - من مقر قيادتها في واشنطن أو بون أو أيَّة عاصمة مركزيَّة - فروعًا في أستراليا وزئير وبوليفيا، ويعلمون أن فروع هذه الشركات إذا جاءت في مصر، ستكون حلقة تابعة لهذه المؤسسات المتشعبة والمتكاملة. وهذه المؤسسات تقوم نطاق صلاحياتها– وبكفاءة عالية – بنفس المسئوليات التي تقوم بها المؤسسات المتشعبة والمتكاملة. وهذه المؤسسات النوعية داخل الاقتصاد المصري، ولكن في محاولة للتمركز حول الذات. ويصعب – على ما أعتقد – تفسير هجوم الجهات الخارجية على المؤسسات النوعية للقطاع العام، إلا إذا قلنا إن حيثيات دفاعنا عن هذه المؤسسات، هي نفس الحيثيات الحقيقية التي تدفع الجهات الأجنبية إلى المطالبة بتصفيتها؛ إذ يكفي أنها تنظيم مناسب لقيادة القطاع العام للتنمية المستقلة؛ كي تكون التصفية واجبة. وقد حاولت الحكومة – كما سجلنا أن تعترض.
وحاولت الحكومة أيضًا أن تقف ضد شعبة الهجوم الثالثة، التي تستهدف تقليص حجم القطاع العام. كانت المطالبة ببيع جزء من القطاع العام، قد تفجرت لأول مرة في تقرير لجنة الخطة والموازنة لمجلس الشعب (أبو إسماعيل – ديسمبر 1973). قال التقرير "إنه من الممكن فتح باب للاستثمار الخاص (العربي والمصري) في 49% من أسهم شركات القطاع العام". وأضاف أن هذه الوسيلة ستمكن من توفير النقد الأجنبي للشركات فيزداد إنتاجها، وتزداد إمكانيات التصدير، وأيضًا ستزداد أرباح العمال وتفتح منافذ لاستثمار المدخرات المصرية (160). ويعلم الله ما إذا كان الأمر هنا أيضًا مجرد توارد خواطر، أو شيئًا آخر. ولكنْ معروفٌ أن هذا المطلب، قدمته الجهات الخارجية. ومعروفٌ أيضًا أنها لم تكن من الإلحاح عليه، وتسايرها في الصحف وداخل مجلس الشعب جوقة عالية الصوت. ووقفت الحكومة أيامها مع الرافضين لهذا الاتجاه. ولكن توصيات الجهات الخارجية حول تقليص القطاع العام، كانت لا تقتصر على طرح بعض الأسهم لاكتتاب القطاع الخاص. فلمساندة هذا الاتجاه، كانت التوصيات تلِحُّ على الحد من إنشاء القطاع العام لمشروعات جديدة؛ كي يتولى القطاع الخاص (الأجنبي والمصري) هذه المهمة، فينخفض - مع الزمن - الوزن النسبي لناتج القطاع العام. وقد لاحظنا أن الخطة الانتقالية ركزت اهتمامها على مشروعات الإكمال والإحلال والتجديد، وجعلت البدء في مشروعات جديدة استثناء. وأيامها كان الموقف مبررًا بأنها خطة إنعاش (انتقالية)، ولَكَم - مع ما كشفته التطورات اللاحقة - يمكن أن نفترض أن هذا التوقف عن بدء مشروعات جديدة، قد يكون أيضًا بتأثير الضغوط الخارجية.
ونضيف في نهاية هذه الفقرة، أن أشد ما أصاب القطاع العام في تلك السنة، لم يكن الإجراءات المحددة والمباشرة. أفعل ما تحقَّق، كان انهيار المعنويات، والثقة بالنفس لدى قيادات القطاع العام والعاملين فيه. فالحملة الشرسة ضد الناصرية والتأميمات، تركزت أيضًا ضد القطاع العام؛ باعتباره رمزًا للفشل والتبديد. ونتائج هذه الحملة كانت رصيدًا هامًا استخدمه الأعداء بكفاءة في السنوات التالية.
ب- وإذا كنا قد تناولنا في هذا الفصل مجملَ الممارسات التي أشاعت الفوضى، وخلخلت أساس النظام الاقتصادي، فإن أخطر من كل ما ذكرنا – على المجتمع ككل – فتح الباب بلا ضوابطَ أو ترتيباتٍ، لتصدير قوة العمل المصرية للخارج. تناولنا هذه القضية أثناء الحديث عن قطاع الإنشاء والتعمير، ونذكر الآن أن التصريحات والسياسات الرسمية كانت تعارض أي تخطيط في هذا المجال. كان وزير الإسكان والتعمير آنذاك (عثمان أحمد عثمان) يتحدث مثلاً عن نقص عمال البناء فيقول: "إن هذا قائم فعلاً، وكانت الدولة تمنع سفر عمال البناء إلى الدول العربية، ولكنني عارضت ذلك، وصار الآن يُسمح لعمال البناء بالهجرة (...) فبِالبلاد وفرةٌ من الأيدي العاملة، ولا خوف من نقص عمال البناء المهرة (...) وأودُّ أن أوضح، أننا لو لم نتمسك بحرية الفرد الكاملة في ظل المنافسة، فلا يمكن أن نحقق أي تقدم، فمن شاء السفر من البلاد، فليسافر (...) وعلينا ألا نعتقد أن قلة العمال تعوق معركة التقدم، فهذا غير صحيح، والحرية والتنافس يجلبان الرخاء"(161)... (كلام يبدو كالهذيان، ولكننا نعلم أن عثمان بالذات لا يهذي)، وعبد العزيز حجازي تحدث في نفس الاتجاه "فالعمالة المصرية قوة تصديرية ضخمة، بدأنا تصديرها فعلاً إلى بعض دول أوروبا. ولكن لكي أدعمها كقوة تصدير؛ لا بد من توسيع قاعدة التعليم والتدريب. لا بد من مشروعات في هذا الشأن. لا بد من دعم التعليم الأجنبي، وتعليم اللغات؛ حتى يكون العامل المصري مرغوبًا في الخارج في أيَّة دولة"(162).
وفي مناسبة أخرى قال رئيس مجلس الوزراء: إنه "لا بد أن يكون هدفنا بالنسبة لتصدير العمالة واضحًا؛ كهدفنا بالنسبة لتصدير القطن والأرز، وأن نكسر الكلام الخاص بقيد الهجرة وعدم تصدير البشر؛ لأن هناك ندرة؛ ولأن ذلك يكلف كذا؛ ولأننا محتاجون لهذه الخبرات. بالعكس، فإن العملية التصديرية ضرورة لشعب ينمو، ولا تتوازن إمكانياته مع النمو البشري الموجود".
وعلَّقنا أيامها بأننا لا نعتقد "أن تصريحًا من هذا النوع قد ظهر في أيَّة دولة نامية أو غير نامية، فكافة الدول تجزع من مشكلة استنزاف العقول والمهارات البشرية، عن طريق الهجرة، وقد صرح بعض المسئولين في الدول الأخرى بأنهم عاجزون عن منع هذه الظاهرة الخطيرة، ولكنهم بالقطع
لا يذكرون أنهم يخططون لتشجيعها!

إن المهارات البشرية هي المحرك الأساسي لتسارع التنمية. هذه المسألة أصبحت من المسلمات الآن، ومعروف أن عدد اليد العاملة المثقفة والمدربة في مصر، لا يزيد عن احتياجاتنا. فنسبة الأميين - كما نعلم - أكثر من 70%، وما يبدو أحيانًا في شكل فائض، هو في الحقيقة نتيجة لسوء التخطيط أو سوء التوزيع. فقد يتزايد عدد عرض المؤهلين في مهنة أو مناطق أخرى. وفي التحليل النهائي سنجد أن الطلب أكثر من العرض. ومع ذلك.. ليس مطلوبًا أن نمنع التصدير المؤقت في بعض المهن إلى الدول العربية مثلاً
أو الأفريقية. هذا مطلوب، ولكن ليكن مفهومًا أن هذا يمثل تضحية من جانب مصر في الجزء الأكبر من هذه التخصصات؛ فالمدرسون الذين نرسلهم إلى الدول العربية يؤثرون بالسلب على مستوى الأداء في المدارس المصرية، والأطباء يؤثرون على مستوى مستشفياتنا ووَحَداتنا الصحيَّة.. وهكذا، وفي الحقيقة ينبغي أن تعالَج هذه القضايا مع الدول الشقيقة، في إطار تصور عام للتكامل الاقتصادي وتبادل الموارد النادرة على أسس من المصلحة المتبادلة"(163).

إنني موقنٌ الآن، أن فتح الباب بلا ضوابطَ أمام نزوح قوة العمل المصرية إلى الخارج، والذي بدأ على نطاق غير مسبوق منذ 1974، كان أخطر - في آثاره - من فتح الباب
بلا ضوابط أمام الاستيراد أو الاستثمار الأجنبي، ولا أعتقد أن عدم التخطيط في هذا المجال لم يكن "مخططًا"؛ فالنتائج كانت موجعة جدًا، وهي نتائج لم يقتصر نطاقها على الاقتصاد – بمعنى التأثير على الإنتاجية والاختلالات العشوائية في هيكل الدخول والأجور مثلاً – فالنتائج المجتمعة والاجتماعية والسياسية، كانت أبعدَ أثرًا (انظر الفصل العاشر).

خامسًا – عودة للإطار العام و.. ختام:
(1) نعود إلى التذكير بتطورات الموقف في جبهة الصراع المصري/ الإسرائيلي؛ فبعد الوقائع والتغيرات المؤسسية المحققة في اتفاقية فض الاشتباك على الجبهة المصرية، (ثم على الجبهة السورية) استخدمت الولايات المتحدة سياسة التسويف قبل أن تبدأ الخطوة التالية المرتقبة، بحجة أزمة الرئاسة في الولايات المتحدة، ولكن دون أن تغفل طبعًا عن استخدام الوقت لإحداث التغيرات المطلوبة بهمة محمومة، بل كان التسويف، وتعليق الخطوة التالية، عنصرًا مواتيًا لفرض التغيرات على القيادات التي تريد أن تثبت للولايات المتحدة "حسن سيرها وسلوكها".
وبعد تولي جيرالد فورد منصب الرئاسة، تتابعت تصريحاته المنذرة، فأعلن في سبتمبر مثلاً "أن الأمم ذات السيادة لا يمكن أن تسمح بأن تكون سياساتها مملاة عليها،
أو مصيرها مقررًا بتدابير مفتعلة، ولا تسمح بتشويه الأسواق العالمية للسلع" (164)، وهذه التصريحات جزءًا من محاولة تحطيم الأوبك نفسه، ولكنها كانت في الوقت موجهة إلى الأقطار العربية النفطية التي عبرت عن ضيقها من جمود الموقف الأمريكي في الصراع العربي الإسرائيلي، وكان السادات يعبر أيضًا عن تململه، وعبرت تصريحاته عن لهجة نقدية لأول مرة منذ أكتوبر 1973، فوصف موقف الولايات المتحدة بأنه "لم يتبلور بعد"، وأضاف أن الولايات المتحدة ساعدت مساعدة فورية ومجانية في إزالة العوائق من قناة السويس، ولكن لم يزل هناك مشروع لمنح 250 مليون دولار، وهو المشروع الموجود في الكونجرس (165)، وعاد إلى تأكيد نفس الشكوى أمام التلفزيون الأمريكي، فقال: إنه "لا يتوقع غير 250 مليون دولار وهو مبلغ لا يمكن مقارنته بما تقدمه أمريكا لإسرائيل. مصر تخسر سنويًا مثلاً 300 مليون دولار من بترول سيناء (أي 2000 مليون خلال السنوات السبع الماضية) وسوف أطالب أمريكا بهذا" (166). وكل هذا كان يؤكد أن سيطرة الولايات المتحدة على الموقف لا زالت هشة، ويتطلب التدعيم (إلى جانب التهديد) الإسراع بالخطوة المرتقبة. وبالفعل بدأت الرحلة السادسة لكيسنجر إلى الشرق الأوسط.

وكان يتوقع في هذه الجولة – كما صرح دبلوماسي كبير من مرافقيه "أن يصل إلى نتائجَ محددة خلال مباحثاته؛ حتى لا يتخذ مؤتمر القمة العربي القدم في الرباط (29 أكتوبر) مواقفَ متشددة". كانت الولايات المتحدة تخشى من انعقاد هذا المؤتمر في جو من نفاذ الصبر؛ ولذا أعلن في ختام الجولة (14 أكتوبر) وعدًا محددًا لتهدئة "المعتدلين" وقال "سوف أعود إلى المنطقة في الأسبوع الأول من نوفمبر؛ للعمل على تحقيق التقدم نحو السلام في الشرق الأوسط، على أسس قوية ومحددة".
(2) ومعروف الآن أن الأسس القوية، كانت تعني تحركًا ثانيًا على الجبهة المصرية. وتأجيل أي تحرك على الجبهة الفلسطينية، مع تسليمها للملك حسين. وهذا التوجه قبلته القيادة المصرية، فهدد بتفجير الشكوك والتناقضات العربية، وبعزل مصر. ولم يكن ذلك يزعج كيسنجر بطبيعة الحال، ولكن حدث أن قلب مؤتمر الرباط هذه الحسابات، كان المؤتمر تحركًا في الاتجاه المضاد تمامًا، إذا وضع القضية الفلسطينية في مقدمة الصورة؛ كهدف لأيَّة خطوة محتملة، وقرر أن منظمة التحرير هي الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني، وبعث رسالة تحية إلى القيادة السوفيتية، وكانت المفاجأة (أو هكذا بدت للمراقبين الخارجيين) أن الملك فيصل بحسِّه الإسلامي العميق نحو فلسطين والقدس، كان مع كل هذا الاتجاه بلا تحفظ. ولم تعترض القيادة المصرية.
كان مؤتمر الرباط كما كتب شيهان: "أول هزيمة كبرى تلحق بكيسنجر منذ اندلاع حرب أكتوبر، واعتبره بمثابة عقبة كبرى في سبيل دبلوماسية المراحل" (167). وأبلغت القاهرة أن الاستمرار في سياسة الخطوة خطوة - لتحقيق اتفاق جديد لفض الاشتباك - أصبح متعذرًا. وكانت الولايات المتحدة تعتقد أن التلويح بوقف الدور الأمريكي، ورقةُ ضغط حاسمة، ولكن القيادة المصرية لم تكن قد فقدت زمام المبادرة السياسية تمامًا، فقام وزير الخارجية المصري (إسماعيل فهمي) بزيارة الاتحاد السوفيتي، مع وزير التخطيط (إسماعيل صبري) الذي أعلن بعد عودة الوفد أن السوفييت تعهدوا بتقديم قروض تبلغ 151 مليون دولار لمشروعات تنمية 1975، 1980، وتشمل مشروعات التوسع في مجمع الألومنيوم (نجع حمادي) ومجمع الحديد والصلب في حلوان، بالإضافة إلى إقامة مجمع جديد في الإسكندرية (3 ملايين طن سنويًّا) كما وافقوا مبدئيًّا على المقترحات المصرية لتوجيه القروض السابقة غير المستخدمة إلى مشروعات جديدة (حوالي 373.3 مليون دولار) (168).
(3) وغير معروف طبعًا ما جرى في الاتصالات السرية، ولكن معروف أن الموقف الأمريكي – كما عبر عنه كيسنجر في زيارته لمصر (5 نوفمبر) – لم يتغير. وقد يعني هذا تصورًا من الولايات المتحدة، أن التحرك المصري لا يمثل اتجاهًا جديدًا. ولكن حدث في النصف الثاني من ديسمبر، أنْ استقبل السادات وفدًا من قيادات الشباب السوفيتي (بمناسبة أسبوع الصداقة العربية السوفيتية) وقال: "إن شعبنا في مصر وشبابنا أيضًا يعلم مدى نمو وازدهار العلاقة بين البلدين، ولقد تعاونا سويًّا في بناء القاعدة الصناعية في مصر، وتعاونا أيضًا في بناء السد العالي. كما تعاونا في مجال تزويد مصر بالأسلحة السوفيتية، وما زالت مجالات التعاون واسعة بين البلدين.
لقد صمدت الصداقة السوفيتية المصرية للمصاعب والعواصف الكثيرة، وأثبتت أنها متينة. ومن الطبيعي أن يحدث خلاف أو يقع نوع من سوء الفهم في أية مرحلة من المراحل، ولكن الأسس الراسخة والمتينة للصداقة بين البلدين كفيلة دائمًا بأن تتغلب على هذه المشاكل. وأوضح السادات أن المساعدات التي قدمها الاتحاد السوفيتي لمصر أمر يعرفه كل مصري، وكل شاب مصري. وكما قلت في مناسبة سابقة، إن ظهور الكتلة الاشتراكية بعد الحرب الثانية، كان له أكبر الأثر في حركات التحرر في العالم الثالث، ومن أجل ذلك نريد أن تتم هذه المسيرة بفهم كامل على كل المستويات في بلدينا، وسوف تتيح لنا زيارة صديقي العزيز الرفيق بريجنيف، أن يعبر الشعب المصري عما يُكِنُّه نحو الاتحاد السوفيتي، ولا شك أن الزيارة ستكون نقطة تحول في الصداقة في بلدينا، ولكي تتم المسيرة التي بدأناها سويًّا"(169).
كان هذا الحديث آخر مرة يذكر فيها الاتحاد السوفيتي بكل هذه الحفاوة والحرارة، ولكن أدركت الإدارة الأمريكية أيامها، أن سيطرتها على الموقف ليست كاملة بعد، وأنه
لا بد من خطوات جديدة قبل استخدام التحذير والتهديد،
أو على الأقل لا بد من بعض الإغراء مع إعلان التحذيرات، فعادت الاتصالات. وكما يقول الرئيس السادات فإن "الأمريكان رغم كل ظروفهم الداخلية السيئة بعثوا يقولون إنهم يريدون استئناف الحركة من أجل السلام".

وكان آلون (وزير الخارجية الإسرائيلي) في زيارة لواشنطن خطوة انسحاب تالية على الجبهة المصرية.
ويبدو أن السوفييت استشعروا اتجاه القيادة المصرية – مرة أخرى – إلى قبول تحرك أمريكي منفرد، بعيدًا عن مؤتمر جنيف؛ إذ عاد الفتور إلى العلاقات المصرية السوفيتية، وجرى لقاء في موسكو حول الموقف الجديد مع وزيري الخارجية والدفاع المصريين، وأعلن بعد هذا اللقاء إلغاء زيارة برجينيف للقاهرة (30 ديسمبر). لم يحمل الإلغاء مجرد احتجاج على قبول القيادة المصرية لإبعاد الاتحاد السوفيتي عن التسوية، ولكنْ ترتب على الإلغاء أيضًا، تأجيلُ بحث جدولة الديون، وتزويد القوات المسلحة بالعتاد.
(4) في هذا الإطار العام، وعلى ضوء ما جاء في هذا الفصل، نلخص النتائج في القطاع الاقتصادي. لقد قطعت الولايات المتحدة شوطًا هامًا في إخضاع الاقتصادي المصري، ولكنها لم تكن قد أنهت مهمتها بعدُ على نحو يطمئنها، واستخدمت الولايات المتحدة في هذا كافة الوسائل والفرص المتاحة بكفاءة عالية، وحققت التالي:
1. اختراق للقطاع الخارجي أسفر عن الإغراق في الديون، وتقليص العلاقات مع الدول الاشتراكية، وإصدار قانون الاستثمار، وفتح الباب بالذات أمام البنوك الأجنبية.
2. فرض أولوية التعمير بممارساتها ونتائجها الاقتصادية المدمرة (بالإضافة إلى أهميتها السياسيَّة).
3. إفشال سياسة الحكومة في السيطرة على الأسعار، وارتفاع معدلات التضخم.
4. فتح باب العمل في الخارج بلا حدود.
5. حدث مع كل ذلك، ومن خلاله، توسع سريع في الفئات الاجتماعية المستفيدة، والمساندة للانفتاح الأمريكي والتي تحتل مواقعَ سياسية واقتصادية فعالة.
ومن الناحية المقابلة ظلت السلطات تقاوم على مستويات مختلفة، وفي معاركَ دفاعية غير متماسكة، فواصلت الحكومة رسميًّا رفض مطالب الحكومة الأمريكية وصندوق النقد والبنك الدولي والشركات العابرة للجنسية، في تخفيض السعر الرسمي للجنيه، وواصلت محاولاتها للسيطرة على هيكل الأسعار المحلي، وواصلت أيضًا، ومعها الفنيون الوطنيون، الدفاع عما في حوزتهم من معلومات، وعن مصالح القطاع العام.
ولكن كان الأعداء في نهاية العام في الموقف الأقوى، وكانوا يستعدُّون لمرحلة الهجوم الجديدة، مستفيدين من زيادة التدهور في حالة التسهيلات المصرفية، ابتداء من سبتمبر (راجع فقرة الديون الخارجية في هذا الفصل)، والتي أدت إلى توقف عن السداد بشكل حاد، وتراكم المتأخرات، (ويلاحظ أن هذه الفترة – بالمناسبة – هي نفس فترة الإنذارات التي سبقت وصاحبت أزمة الرباط). وحاول رئيس مجلس الوزراء أن يحصل على معونات نقدية عاجلة من دول الخليج (من خلال جولة في ديسمبر) لإطفاء الأزمة، وكان قد سبقها بزيارة لإيران (أبريل)، ولكنه عاد بوعود للمشاركة في مشروعات استثمارية طويلة الأجل، وصفر اليدين بالنسبة لأية معونات نقدية عاجلة. وفي آخر العام، كان عامل جديد يتدخل في الموقف؛ إذ انتقلت معارضة الانفتاح إلى الشارع، فتحركت جماهير ساخطة على الانفتاح الذي لم يجلب الأموال، وإنما نشر الفساد واللصوصية والغلاء.

هوامش الفصل السادس
(1) صدر عديد من الدراسات في الغرب حول دور المخابرات المركزية ضد التجارب الثوريَّة في الخمسينيات والستينيات. ولا نستبعد أن المخابرات المركزية كانت خلف بعض ما سرب من معلومات (أو ما أُشيع كمعلومات) بهدف التخويف والحرب النفسية. في المكتبة العربية، يمكن الرجوع إلى ترجمة كتاب دافيد وايز – توماس روس: الحكومة الخفية، (القاهرة: دار المعارف، 1965)، ترجمة جورج عزيز – أيضًا اقرأ عن دور المخابرات المركزية، وأجهزة التخريب الأخرى ضد تجربة شيلي في: مجدي نصيف، شيلي – الثورة، والثورة المضادة، (القاهرة: دار الثقافة الجديدة، 1976).
(2) Philip Agee, CIA Diary, op. cit. وبالنسبة للشركات العابرة للجنسية. انظر مجدي نصيف – شيلي – مرجع سابق، أيضًا:
A. Sampson. The Sovereign State, The secret History of ITT, London: Coronet Books, 1975).
وأيضًا يمكن الرجوع إلى عديد من الكتب المعروفة التي تتناول تاريخ وأسلوب عمل شركات النفط.
(3) Victor Marchetti and John D. Marks, The CIA and the Cult of Intelligence, (N. Y: Alfred A. Knoff, 1974). The first book the U.S. Government ever went to court to censor before publication.
هذا الكتاب مرجع هام فعلاً، وقد حكم بحذف عدد من الفقرات من الكتاب؛ لكي يُسمح بنشره، وكانت أغلب الفقرات المحذوفة تتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، أي: بمنطقة الصراع العربي الإسرائيلي.
(4) علوي حافظ، "مهمتي السرية بين عبد الناصر وأمريكا"، الأخبار، (31/ 7-7/8 سنة 1976).
(5) M. Heikal, The Road to Ramadan, (Fontana: Collins, 1976), pp. 198-202 Ibid, p. 247.
bid, P. 247. (6).
(7) حسني مبارك، حديث إلى علي حمدي الجمال، "4 مفاجآت في حياتي آخرها منصب نائب رئيس الجمهورية"، الأهرام، (5/6/1975).
(8) في قضية عبد الحكيم عامر (1967) سُئل صلاح نصر – في التحقيق معه – عن صِلاته بالمخابرات المركزية، فقال إنه كان على صلة منتظمة بها؛ بالمخابرات السوفيتية، كجزء من مسئولياته؛ كمدير للمخابرات العامة المصرية. وبالنسبة لدور المخابرات المركزية الأمريكية في أوروبا الغربية (لجمع المعلومات، وللتأثير في السياسات) انظر:
Philip Agge and Lowis Wolf, Dirty Work, The CIA in Western Europe, 1978.
دور المخابرات المركزية في التخريب داخل الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية، نُشر عنه الكثير، وأيضًا عن الدور المشابه، وفي اتجاه مضاد للمخابرات السوفيتية، ولكن لم ينشر – في حدود علمنا – عن دور المخابرات كأجهزة للاتصالات التحتية بين الدولتين. ومعروف أن الاتصالات السرية وقواعد العلاقات (خاصة في ظل الانفراج الدولي)
لا تقتصر على شبكة المخابرات. ولكن لم تنشر أيضًا معلومات محددة عن ذلك.

(9) نعتمد في الصفحات التالية على ما تناثر من معلومات في كتب أمريكية وإسرائيلية. وأيضًا على ما جاء على لسان الرئيس السادات، وفي كتاب حسنين هيكل. وفي ذهننا طبعًا أن المعلومات في كافة هذه المصادر سرية بحساب دقيق، ومبتورة أو محورة لخدمة مصالح معينة. وبالتالي استخدمناها بعد مضاهاة ومحاكمة، وبمساعدة المفاهيم النظرية التي نعتبرها صحيحة.
(10) Heikal, The Road to Ramadan, op. cit., p. 202.
(11) Mattei Golan, The Secret Conversations of Henry Kissinger. Step – by – Step Diplomacy in the Middle East, (New York: Bantam edition. 1976), pp. 144–155.
(12) Marvin Kalb and Bernard Kalb, Kissigner, (Boston: Little brown, 1974), p. 456.
(13) الرقم الإجمالي للدبابات المحطمة خلال 15 يومًا من القتال، وصل إلى 3000، وللمقارنة فإن الخسائر في معركة من أكبر معارك الدبابات خلال الحرب العالمية الثانية، بين رومل ومونتجمري في الشمال الأفريقي، لم يتجاوز 650 دبابة خلال ستة أشهر (هيكل – الطريق إلى رمضان، مرجع سابق، ص157).
(14) انظر مثلاً: د. جمال حمدان، 6 أكتوبر في الاستراتيجية العالمية، (القاهرة: عالم الكتب، 1974)، الفصل التاسع.
(15) Kalb, Kissinger, op. cit., 475.
(16) M. Golan, The Secret Conversations. op. cit, p. 66.
(17) حسنين هيكل تساءل في كتابه أيضًا عن سر هذين الموقفين، وبدا أنه يعللهما بنقص الخبرة فيما يتعلق باختيار اللحظة المناسبة لوقف القتال، وبممارسة سياسات ما بعد الحرب عمومًا – وبالنسبة لوقف التقدم نحو المضايق، كان التعليل بالحذر الزائد لدى القيادة العسكرية وقصور الخيال. وكان اللواء مصطفى الجمل (المدير السابق لأكاديمية ناصر العسكرية العليا) صريحًا جريئًا في نشر وجهة نظره بخصوص التوقيت في وقف إطلاق النار. كتب: إننا "نجد القيادة السياسية في تشرين أول/ أكتوبر 1973 تعطي القيادة العسكرية الفرصة كاملة دون تدخل، ولم تذعن للضغوط الدولية لوقف إطلاق النيران، إلى أن حققت القوات المسلحة أهدافها... ولو أنني في الوقت نفسه آخذ على القيادة السياسية أنها لم تقبلْ وقف إطلاق النار عندما عرض يوم 13 أكتوبر بعد أن حققت هدفها المرحلي من الحرب، وبعد أن أغدقت أمريكا أسلحتها المتطورة على إسرائيل بلا حساب. ولو كان قد حدث ذلك؛ لما حدثت الثغرة التي شوهت انتصارنا الكبير" ("رسالة إلى زكي نجيب محمود"، الأهرام، (17/2/1977).
(18) كرر الرئيس السادات في عديد من خطبه وأحاديثه أن الملك فيصل طلب منه أن يواصل القتال أطول مدة ممكنة؛ حتى يتهيأ له الإعداد لعمل مشترك من الدول النفطية.
(19) "من أوراق الرئيس السادات"، مجلة أكتوبر (30/1/1977)، العدد 14.
(20) M. Golan, The secret Conversations, op. cit., pp. 86-87.
(21) يقول كتاب الأخوين كالب: إن كيسنجر أبلغ دينتز (السفير الإسرائيلي) محرم صباح 24 تشرين أول/ أكتوبر (قبل إعلان رفع حالة التأهُّب) أن وقف إطلاق النار ينبغي أن يحترم، وطلب السماح بقوافل الطعام والماء والعلاج؛ لكي تصل إلى الجيش الثالث (p. 488) – وأشار هيكل إلى أن السادات تلقَّى رسالتين من نيكسون (في 24 تشرين أول/ أكتوبر)، ولكنه كشف فقط عن محتويات الرسالة التي نقلنا مضمونها (البند 8). ووفقًا لجولان، فإن نيكسون أرسل رسالة سريَّة إلى السادات (24 أكتوبر) قال فيها: إن الولايات المتحدة لن تسمح - تحت أي ظرف من الظروف - بتحطيم الجيش الثالث أو تجويعه. ويقول ماتي إن كيسنجر التزم بنفس الشيء أمام الاتحاد السوفيتي (p. 89 and 104(.
(22) جاء في الندوة السنوية السادسة عشرة للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية بلندن، التي عُقدت في 12/15 أيلول/ سبتمبر 1974: "لقد امتدت حرب أكتوبر رغم أنها من أقصر حروب القرن العشرين – إلى آفاق أبعدَ بكثير من مجالها وأبعادها ومدتها القصيرة نسبيًا. وفي حين أنه من السابق لأوانه التنبؤ بآثارها النهائية، إلا أنها قد أحدثت فعلا تحولات في توازن القوى بالمنطقة، وفي علاقتها ببقية العالم. ورغم أن الحرب قد أثرت بدرجة كبيرة على جميع الأطراف المتحاربة، إلا أن معظم نتائجها المباشرة كانت تلك التي أثَّرت على إسرائيل، والتي يبدو أن موقفها قد أصابه الضعف في ثلاث نواحٍ رئيسية: فعلى المستوى العسكري، فإن الصورة التي كانت تتمتع بها إسرائيل على مدى واسع في المجتمع الدولي، كقوة ذات استقلال ذاتي ونفوذ قد اهتزت بشدة؛ حيث أكدت الخسائر الأولية لإسرائيل في الجو، والهزائم التي مُنيت بها في معارك سيناء، مدى تعرضها عكسريًّا، بينما كشفت حاجتها إلى إمداد ضخم من الأسلحة والذخيرة والمعدات في أثناء سير القتال، عن مدَى اعتمادها على معاونة الولايات المتحدة. ولقد نتج عن ذلك مراجعة جادة لقيمة التفوق الإسرائيلي، وخاصة في الولايات المتحدة؛ حيث تغير العديد من المفاهيم الرسمية بالنسبة للدور الاستراتيجي الذي تستطيع إسرائيل أن تلعبه في الشرق الأوسط.
كما نتج عن حرب أكتوبر إمعان النظر جيدًا في سياسات إسرائيل السابقة تجاه العرب، مما نشأ عنه عزلة دبلوماسية دلت على خطر المبالغة والتهويل في تقدير قوتها. وحتى الولايات المتحدة – السند والحليف الرئيسي لإسرائيل – انتهزت الفرصة التي قدمتها الحرب لتحسين مركزها في العالم العربي واتخاذ دور أكثر انصافًا وعدلاً كوسيط وصانع سلام.
ومن الناحية النفسية، انعكست آثار الحرب داخل إسرائيل في ضعف الثقة بالقيادة السياسية، وفي فقد الجيش. ولقد وصف المعلِّقون الإسرائيليون الحربَ بزلزال هزَّ إسرائيل من جذورها، واوجب البحث عن منافذَ جديدة للتخلص من هذا الموقف الصعب، وزادت الخلافات في الرأي مع سياسة الحكومة؛ سواء من ناحية اليمين أو اليسار، فعلى المستوى القومي قويت أحزاب اليمين، بينما بلغ الأمر في بعض الدوائر العسكرية، إلى حد التشكك في قدرة الصهيونية نفسها على البقاء. ولقد أظهرت الانتخابات التي أُجريت بعد حرب تشرين أول/ أكتوبر تزايدًا في عدد الشبان الإسرائيليون الذين تبخرت أحلامهم في الحياة في إسرائيل، والذين يرغبون في الهجرة منها إذا أُتيحت لهم الفرصة، كما أعادت الصحافة اليومية إلى الأذهان أصداء عقدة مسعدة"، (نقلاً عن: اللواء مصطفى الجمل، استراتيجية إسرائيل بعد حرب أكتوبر (القاهرة: مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية – مؤسسة الأهرام، أكتوبر 1976)، ص14 – 15، التشديد في النص السابق من المؤلِّف ع. ح.
(23) Heikal, The Ropad to Ramadan, op. cit., p. 232 and p. 247.
(24) Ibid., p. 231.
(25) Kalb, Kissinger, op. cit., p. 507.
(26) M. Golan, The Secret Conversations, op. cit., p. 108.
(27) نقلاً عن جولان، المصدر السابق، فإن كيسنجر قال لمساعديه أن منهجه في مفاوضات الشرق الأوسط، كان وفقًا لنموذج المفاوضات في فيتنام. وقد أوضح الارتباط بين الحالتين على النحو التالي: "إن التشابه بين المفاوضات في فيتنام والشرق الأوسط، يتمثل في أن الولايات المتحدة ساعتها كانت كإسرائيل في نهاية 1973 أي كانت في وضع أدنى. كان كل شيء ضد الإدارة في واشنطن: الرأي العام، ومجلسا الكونجرس. كان واضحًا أن الولايات المتحدة ستُضطر إلى الخروج من فيتنام عاجلاً أو آجلاً. وكانت المشكلة هي كسب الوقت، وكان علينا – إذن - إنهاك الجانب الآخر للحصول على اتفاق أفضل. والاستراتيجية كانت بسيطة: اسبق خصمك دائمًا (في المفاوضات) باقتراح، وعند أي اقتراح مضاد، كن مستعدًا باقتراح جديد. وبهذه الطريقة يمكنك أن تتأكد دائمًا، من أن اقتراحَك أنت، سيكون موضع المناقشة. وبموازاة ذلك، وقعت هانوي فيما تمنته واشنطن حين شرعت في هجوم مكَّن الولايات المتحدة من العودة إلى قصف الشمال، فازداد إنهاك هانوي" (p. 176).
وبغض النظر عن نتائج هذا التكنيك في مفاوضات فيتنام، فإن الملاحظ أن هذا التكنيك استخدم فعلاً مع الجانب العربي، ومع مصر بشكل خاص، ونجح عندنا فيما فشل فيه هناك. وأعتقد أن كيسنجر لم يكن في هذا الكلام يقترح منهجًا مناسبًا للإسرائيليين فقط؛ إذ كان يحدد أيضًا منهجًا للدبلوماسية الأمريكية. وقد استخدمه الاثنان على أية حال، فساعد في إحكام السيطرة الأمريكية، وفي تحسين الموقف التفاوضي الإسرائيلي.
(28) انظر في هذه النقطة: عادل حسين، "الموقف الأمريكي من الصراع العربي الإسرائيلي"، الطليعة، عدد (يناير 1974).
(29) محمد حسنين هيكل، حديث خاص مع كيسنجر، مقال "بصراحة" الأهرام، (16/11/1973).
(30) Golan, The Secret Conversations, op. cit, p. 153.
(31) Ibid, p. 14.
(32) Kalb, Kissinger, op. cit., p. 541.
(33) "لأمر ما، لسنا نفهمه، تأخر الفصل بين القوات المتحاربة على جبهة الجولان طويلاً، ولم تبدأ المحادثات الجديدة حوله بالكاد، بينما قد تم تنفيذ الفصل على جبهة سيناء نهائيًا منذ بضعة أشهر، بل وتم رفع الحظر عن البترول إلى أمريكا، وعن خفضه بالنسبة للدول الأخرى. وكان الظن أن يترابط الفصل على الجبهتين في اقتران وتزامن شرطي، وأن ينتظر رفع الحظر كلتيهما" هكذا كتب د. جمال حمدان (6 أكتوبر، مرجع سابق)، ص319. وأعتقد أن أسباب التأخر أصبحت مفهومة الآن تمامًا. وعلى رأس الأسباب تمزيق الصف العربي – سألت محطة التلفزيون الأمريكية في تلك الفترة – على سبيل المثال – "يتصور البعض أنكم قد تخليتم عن سوريا بعض الشيء؛ لقبولكم الفصل بين القوات في سيناء، وأن ذلك خفف من الضغط على الإسرائيليين، وأن السوريين يشعرون بأنهم قد تُركوا وحيدين هنا دون أن تمارسوا أنتم ضغطًا على الإسرائيليين. فهل هذا صحيح؟ - وأجاب الرئيس السادات: "لا يدور ذلك في بعض الدوائر في سوريا فقط، بل إنه ليدور أيضًا في بعض الدوائر العربية، ولكن هذا ليس صحيحًا".
(34) يُذكر أن الملك فيصل - رحمه الله - كان لا يخفي مخاوفه من هنري كيسنجر؛ بسبب أصوله اليهودية، وصارحه تقريبًا بذلك. فقد نقلت كافة المراجع عن كيسنجر أن الملك فيصل أوضح له أن اليهود سبب "مصائب الدنيا" جميعًا؛ بدءًا من البلشفية، وانتهاء بربيبتها الصهيونية. وقال إن اليهود يلعبون في الغرب دورًا خطيرًا لمصلحة إسرائيل.
(35) صرح هنري كيسنجر في 26 يونيو 1970 (سانت كليمنت): نحن نحاول تحقيق تسوية في الشرق الأوسط على النحو الذي يدعم الأنظمة المعتدلة، وليس الأنظمة الراديكالية. نحن نحاول طرد الوجود العسكري السوفيتي "نقلاً عن:
J. Waterbury. Egypt 1976, North East Africa Series, Africa, Vol. XX, N". 3 Field Staff Reports, p. 4.
(36) يختلف موقفنا هذا عن تصوّر د. فؤاد مرسي الذي بالغ في دور القوى الاجتماعية المحلية في إحداث الردة "إن مشكلة المشاكل، هي أن هناك وضعًا اجتماعيًا معيَّنًا (...) يتمثل في أن هناك طبقة عليا جديدة قد نمت، وصار لها وجودها المحسوس، بل صارت لها تطلعاتها لفرض سيادتها على المجتمع بأسره"، (هذا الانفتاح، مرجع سابق، ص132/ 133) ويعود المؤلف بهذه الظاهرة إلى الستينيات، وخاصة بعد الهزيمة؛ حيث "تبلورت في قمة المجتمع من جديد فئات وأقسام عليا تشكل رأسمالية كبيرة، ذات كيان طبقي مستقل عن الرأسمالية الوطنية، وذات اتجاهات مختلفة عنها، وفي أحيان كثيرة متعارضة معها" (ص136). والمؤلف لا يربط تطورات الانفتاح بالمخطط الأمريكي، وقضية الصراع العربي الإسرائيلي، واختيارات القيادة السياسية، وارتبط بهذا– كما سبق أن لاحظنا – عدم تنبه البحث إلى خطورة الدين الخارجي؛ كأداة أساسية لفرض التبعية.
(37) Document of the World Bank, Arab Republic of Egypt, Economic Report, Report N. 870 a-EGT, (Not for Public Use), January 1976, pp. 4 – 5.
(38) Yusuf Ahmed, Absorptive Capacity of Egyptian Economy, (Paris: OECD, Development Centre, Restricted 30 th May 1975) CD/-AG (75) 1117-1, p. 45
(39) إدوار ر. ف. شيهان، العرب والإسرائيليون وكيسنجر، (القاهرة: وزارة الإعلام، الهيئة العامة للاستعلامات، 1976)، ص66 وص113، كتب مترجمة (722).
(40) Yusuf Ahmed, Absorptive Cop., op. cit., p. 47
(41) قانون استثمارات المال العربي والأجنبي والمناطق الحرَّة – مجموعة الأعمال التحضيرية، (مجلس الشعب – اللجنة التشريعية)، ص ص 104 – 105.
(42) المرجع السابق، ص118.
(43) المرجع السابق، ص386.
(44) راجع مداخلات عبد العزيز حجازي في مناقشات مجلس الشعب، مضبطة الجلسة 35، الفصل التشريعي الأول، المرجع السابق.
(45) حديث للرئيس السادات إلى مجلة نيوزويك، نقلاً عن الأهرام، (10/3/1974).
(46) الأهرام، (19/3/1974).
(47) الأهرام، (13/4/1974).
(48) نقل علي أمين هذا الحديث على لسان الرئيس، "أخبار الغد"، الأهرام، (8/2 سنة 1974).
(49) صرح نيكسون بأنه "تأثر جدًا، ليس فقط بعدد الجماهير التي استقبلتنا، فالأهم من ذلك الحماسة التي أبدتها هذه الجماهير (...) ومن جانب آخر، فإن الشيء الذي يدعو إلى التأثر، أن هذه الجماهير تبدي شعورًا عميقًا بالمودة والصداقة لأمريكا". وحين سأله بعض مرافقيه: ألا تعتقد أن وجودك هنا قد يزيد من آمال الجماهير، وأن هذه الآمال قد يصعب تحقيقها؟ قال نيكسون: إن الرئيس السادات، وأنَّا قد أجرينا محادثاتٍ مكثفة جدًا، تناولت مطالب مصر وكيف نواجه هذه الجماهير بطريقة فعالة، ودون أن نبالغ في الوعود. وفي نفس الوقت دون أن نخيب آمالهم؛ كنتيجة طبيعية لعدم الاستجابة للتطلعات التي أثرناها فيهم. إن المشكلة أعقد من أن يُتصوَّر معها، أن زيارة رئيس أمريكي تعني بالضرورة حلاً سريعًا وفوريًّا للمشاكل. إن الرئيس السادات أراد مني مثلاً أن أزور ما يسميه بأحياء القاهرة الفقيرة، وأراد مني أيضًا أن أرى الدلتا أخصب أراضي مصر، وإن كان الفلاحون من الفقراء، وكان من المهم أن نلاحظ أن الشعب في أحياء القاهرة الفقيرة، وفي أخصب أراضي مصر على السواء، يظهرون الصداقة كما كانوا يظهرونها حول قصرَي القبة والطاهرة. ولقد كنا حريصين في خطبنا العلنية، على أن نتكلم فقط عمَّا يمكن تحقيقه".
مؤتمر صحفي للرئيس نيكسون في القطار إلى الإسكندرية– الأهرام، (14/6/74).
(50) نصوص البيان المشترك، نُقِل عن:
Yusuf Ahmed, Absorptive Capacity, op. cit, Annex 5 (Text of the Joint Statement).
(51) كان رأي عدد من الفنيين الوطنيين كالتالي:
أ- إنتاج احتياجاتنا من الطاقة الكهربائية، يمكن أن يتحقق عبر بدائلَ مختلفة: 5 محطات حرارية (تستخدم المازوت أو الغاز الطبيعي) مخطات غازية (تستخدم السولار أو النافتا) – محطات نووية – محطات كهروماتية. وفي اختيار البديل الأمثل لا بد من دراسة مدى جدوى المشروعات الجديدة، ودراسة الآثار الجانبية المُحتملة.
ب- بالنسبة للمحطات النووية بالذات، تدل تجربة الدول المتقدمة صناعيًّا على أنها مُكبَّلة بالمشاكل؛ لذا تباطأت الإنشاءات في مواقع محطات القوى عبر الولايات المتحدة؛ بسبب تضاعف تكلفة الإنشاءات بالإضافة إلى انخفاض كفاءة أداء هذه المحطات (طبقًا لبيانات هيئة الطاقة النووية بأمريكا عام 1975، فإن محطات القوى النووية، اشتغلت في الولايات المتحدة بنصف طاقتها في المتوسط، كما أن الزيادة في تكلفة تشغيل هذه المحطات 30.2 مليون دولار، في عام 1974). وكذلك ثبت ارتفاع نسبة الحوادث في كثير من المحطات، وارتفعت أسعار الوقود النووي من 17 دولار للكيلوجرام من أكسيد اليورانيوم عام 1973 إلى 66.57 دولار للكيلوجرام عام 1975.
جـ- ولا تقتصر المشاكل على اقتصاديات العملية؛ فأهم من ذلك أخطار التلوث الكبيرة بالنفايات الذرية (تصادف الدول المتقدمة صناعيًّا – رغم إمكانياتها – مشاكلُ كبيرة غير محلولة في هذا المجال).
د- إقامة المحطات النووية له مخاطرُ استراتيجية تهدد السيادة؛ لأن الدول العظمَى تحتكر بيع الوقود النووي، وهي تملك رفع الأسعار، أو الامتناع عن البيع لأسباب سياسية.
هـ- ويبين من كل هذه المحاذير الاقتصادية والفنية والسياسية، أن بديل المحطات النووية ليس أفضل المتاح لإنتاج الطاقة الكهربائية.
(انظر: د. راجية عابدين خير الله، "مستقبل الطاقة الكهربائية في مصر حتى عام 2000"، سيمينار معهد التخطيط القومي، (القاهرة: 21 مارس سنة 1978).
ويروي ماتي جولان رواية ذات دلالة عن هذه المفاعلات؛ ففكرة منشآت نووية في يد العرب، كانت كافية لإثارة الانزعاج لدى القيادة الإسرائيلية؛ إذ يدرك الأخصائيون إمكانيةَ تحويل مثل هذا المفاعل إلى أغراض عسكرية. ولكن الأمر الأكثر إزعاجًا، هو أن الإسرائيليين
لم يعلموا عن هذا الموضوع إلا من الصحف؛ إذ يعني ذلك (وهو ما لم يذكره جولان صراحة) إصرار الولايات المتحدة على أسلوب جديد في التعامل مع إسرائيل بعد حرب تشرين أول/ أكتوبر.

ويضيف المؤلف الإسرائيلي، أن القادة الإسرائيليين سألوا كيسنجر عن طريقة التثبت من أن المفاعل لن يُستخدم لأغراض عسكرية. فرد كيسنجر بهدوء: "إنه حقيقة لا يعلم ماذا يقترح الإسرائيليون؟" وتلقَّى كيسنجر الرد الذي كان يتوقعه وهو "الإشراف الأمريكي"، فكان تعليقه أن هذه فكرة تبدو معقولة، ولكنها قد تعني إشرافًا أمريكيا مقابلاً على القدرات النووية الإسرائيلية. ويقول جولان: إن تعليق كيسنجر كان كافيًا لإغلاق الموضوع (ص ص215/ 216). ولكن هذه الرواية تجعلنا نفترض أن الموضوع لم يغلق عند هذا الحد، فمن المُؤكَّد أن التحكم في مستقبل الحرب والسلام، وإخضاع الأطراف المحلية للسيطرة الأمريكية، يعارضه استحواذ إسرائيل على قوة نووية مستقلة، بعيدة عن الإشراف الأمريكي. وكان طبَعيًّا في مرحلة إعادة إسرائيل إلى حجم مقبول أمريكيًّا، أن تسعى الولايات المتحدة إلى الحد من الاستقلال النووي لإسرائيل. فهل كان التلويح بحكاية المفاعلات المصرية – في تلك الفترة – ضمن أدوات الضغط لتحقيق هذا الهدف؟ إن إخراج السوفييت من المنطقة كان يتطلب التزامًا أمريكيًّا بتحييد القوة النووية الإسرائيلية المهددة لمصر. ويتحقق ذلك عبْر ثلاثة بدائلَ:-
وضع مصر مباشرة تحت المظلة النووية الأمريكية في مواجهة إسرائيل – إقامة مفاعلات نووية في مصر – ضمان من الولايات المتحدة بألا تستخدم إسرائيل قوتها النووية ضد مصر من خلال إشراف أمريكي على استخدامات هذه القوة وتطورها. ولا شك أن البديل الثالث، هو الأنسب والأكثر فائدة بالنسبة للولايات المتحدة، والملاحظ – كما قلنا – أن الحديث عن المفاعلات النووية لمصر توقفت فترة طويلة – فهل حدث ذلك مقابل بسط إشراف أمريكي على القوة النووية الإسرائيلية؟
(52) د. عبد العزيز حجازي (حين كان رئيسًا لمجلس الوزراء)، حديث للصحافة المصرية نشر في (24 أكتوبر 1974)، وأعيد نشره في جريدة الأنوار اللبنانية في (26 تشرين أول/ أكتوبر 1974).
(53) د. وحيد رأفت، "من أين نبدأ وإلى أين؟" مجلة مصر المعاصرة، (يوليو 1975)، العدد 361، ص85 – 86.
(54) د. عبد المنعم القيسوني، "التطورات العالمية الاقتصادية الأخيرة مع الإشارة بصفة خاصة للعالم العربي ولمصر"، مجلة مصر المعاصرة، (أبريل 1974)، عدد 365.
(55) يقال إن أحمد بهاء الدين وإسماعيل صبري وكمال أبو المجد، كانوا مسئولين عن صياغَة ورقة أكتوبر.
(56) World Bank, Report No 870 a-EGT, op. cit., pp. 1 – 2 وقد أعيد نشر نفس التلخيص بنفس الكلمات في التقرير الشامل الذي أعدَّه البنك الدولي عن الاقتصاد المصري (ستة أجزاء):
Arab Republic of Egypt, Economic Management In a Period of Transition, Report No= 1815 EGT. Novermber 1977; Vol. 1, pp. 13 – 15. Document of the World Bank, for Official Use Only. CONFIDENTIAL.
(57) World Bank, Report No 870 a-EGT, op. cit., p. 3.
(58) Ibid, p. I.
(59) Ibid., p. IV.
(60) عادل حُسَين "ورقة أكتوبر: وجهة نظر في التطبيق"، الطليعة، (يونيو 1974).
(61) بعض الدارسين الجادِّين يهاجم ورقة أكتوبر باعتبارها الإطار النظري لما تمت ممارسته باسم الانفتاح. وأعتقد أن هذا تقويم غير صحيح. انظر مثلاً "بحث د. جودة عبد الخالق حول سياسة الانفتاح"، مرجع سابق.
(62) البيانات التالية عن صندوق النقد مصدرها:
Document of International Monetary Fund and Not For Public Use, SM-74-172, July 1974.
To: Members of the Executive Board.
From: The Acting Secretery.
Subject: Arab Republic of Egypt. Staff Report and Proposed Decision For the Article XIV Consultation. CONTAINS CONFIDENTIAL INFORMATION.
(63) World Bank, Report No. 840 a-EGT, cit., p.I.
(64) Ibid, pp. 22 – 23.
(65) Ibid, pp. 23 – 24.
(66) الخطة الانتقالية يوليو 1974/ ديسمبر 1975، (القاهرة: وزارة التخطيط – جمهورية مصر العربية، أكتوبر 1974)، ص143 و124.
(67) عادل حسين، الطليعة، (أبريل 1974)، مرجع سابق.
(68) د. أحمد أبو إسماعيل: "كيف دخلت حكومة حجازي الثالوث المخيف"؟ جريدة الأخبار، (21/8/1977).
(69) د. أحمد أبو إسماعيل: "حجازي بين خيارين"، جريدة الأخبار، (22/8/77).
(70) World Bank, Report No. 1815 EGT, op. cit., p. 38.
(71) دراسات تلك الفترة حول أسباب التأميمات أشارت إلى التالي:
أ- في غياب سيطرة وتخطيط مركزي يؤدي طلب عروض من الموردين في وقت واحد لنوع معين من السلع إلى رفع هؤلاء الموردين لسعرها، فيتم الاستيراد بسعر يزيد عن السعر الحقيقي، وعن السعر الذي كان ممكنًا الشراء به لو لم يتم الطلب بكميات كبيرة وفي وقت واحد. ويعني ذلك تبديد للنقد الأجنبي، وعبئًا على المستهلك.
ب- تعدد المستوردين للسلعة الواحدة من مصادر مختلفة أدى إلى وجود ماركات مختلفة، دون ضرورة تدعو لذلك، وقد استتبع هذا، توفيرَ قطع الغيار اللازمة بهذه النوعيات المتباينة، وبالاستيراد من أسواق متباعدة (السيارات نموذج يقرب الصورة) ويعني ذلك استيراد قطع غيار بكميات قليلة من كل سوق؛ مما يرفع من تكلفة الاستيراد؛ إذ لو تم الاستيراد بكميات كبيرة؛ لأمكن الحصول على خصم من الموردين.
جـ- رفع المستوردين لأسعار السلع التي كانوا يستوردونها عن الأسعار الحقيقية؛ بقصْد تهريب أموالهم للخارج، أو لبيع الهامش المُضاف بالعملة المحلية (بأسعار مبالغ فيها). كذلك لجأ المستوردون (لنفس الأغراض) إلى التهرب من تحويل النسبة الحقيقية للعمولات التي كان المستوردون يتقاضونها من المُصدِّرين والموكِّلين بالخارج.
د- عدم اهتمام المستورد بالحصول على أقل الأسعار (بل قد يحرص على ارتفاع السعر) حتى يزيد ما يتقاضاه من ربح عند تصريفه للسلع التي يستوردها، فإذا كان المستورد يتقاضى 5% عند تصريفه لهذه السلع بالسوق الداخلي، سيزيد ربحه إذا استورد نفس السلع بمليون جنيه مثلاً بدلاً من 800 ألف جنيه (وهي القيمة الحقيقية لها)، ويقدم المصدرون للمستورد حوافزَ مجزية؛ ليفعل ذلك.
هـ- في حالة استخدام تراخيص الاستيراد كأداة تنظيمية، يحدث أن يبيع بعض المستوردين تراخيص الاستيراد التي يحصلون عليها، و/ أو يتنازلون عنها إلى آخرين، ويؤدي هذا إلى زيادة أسعار السلع على المستهلك النهائي، بالإضافة إلى ظهور فئة من أصحاب الدخول الطفيلية.
و- تخصيص الموارد المحدودة للنقد الأجنبي وفق أولويات ملزمة يتطلب إدارة مركزية تنظيم الاستيراد في الوقت المناسب، وبالأسعار المناسبة (والمستقرِّة قدر الإمكان)؛ وفقًا لخطة التنمية ولاحتياجات القطاع العام، ولضمان توفير سلع الاستهلاك الضروري لمحدودي الدخل.
ز- قيام التكتلات الاقتصادية بين الدول المتقدمة صناعيًا والشركات التجارية والصناعية الكبرى، لغرض سيطرتها على الدول الصغرَى والدول "النامية"، يستلزم تمركز عمليات التجارة الخارجية في مؤسسة تملك القوة والمرونة في مواجهة هذه التكتلات.
انظر: قدرِي الشرقاوي، التجارة الخارجية – الاستيراد والتصدير الأصول العلمية والعملية، (القاهرة: مكتبة التجارة والتعاون، 1976)، ص146 – 148.
* ويلاحظ أن كل الأغراض، والنواقص التي تحدثت عنها هذه الدراسات عادت على نطاق واسع مع الانفتاح.
(72) كان الرئيس الراحل عبد الناصر مُتنبِّهًا إلى هذا الذي أثبتناه. في جلسة مجلس الوزراء (فبراير 1969) وجه حديثه إلى حسن عباس زكي، وقال "في البلد إشاعات عن تصرفات لبعض المسئولين في قطاعَي التجارة والاقتصاد. الإشاعات تقول: إن هناك عمولات ضخمة تُدفع لبعض الموظفين الكبار في هذين القطاعين.
وأنا أرى عدم ترك القيادات في مثل هذه القطاعات لفترات طويلة، ولا بد من تغيرها من آنٍ لآخر. علينا أن نراجع الصفقات والعمليات مراجعة دقيقة ومستمرة؛ لأنه
لا ينبغي أن نفتح للناس سككًا وطرقًا تؤدي بهم إلى الفساد والانحراف. المال السايب يعلم السرقة" – من محاضر اجتماعات عبد الناصر، مرجع سابق، ص161 – 162 – ولكن لم تتخذ إجراءات حازمة في هذا الاتجاه رغم هذا التوجيه المحدد.

(73) ممارسة تعدد أسعار الصرف لها تاريخ طويل في مصر، (فمنذ 1958 نشأت "حسابات التصدير"، و"حسابات حق الاستيراد"، ثم صدر القرار 364 لسنة 1968 الذي منح تيسيرات نقدية للمواطنين العاملين في الخارج أو من يؤدون خدمات للخارج، وفي عام 1971 قرر نظام للعلاوة على الخدمات الفندقية بنسبة 35%، وفي أوائل 1972 عممت العلاوة على حصيلة السياحة، وعلى أساس نسبة الـ 35% وفي عام 1972 تقرر العمل بأسعار صرف تشجيعية أخرى بالنسبة للمدخرات والسياحة تضمنت علاوة نسبتها 50% من السعر الرسمي، ووجهت الحصيلة الناشئة عن ذلك إلى استخدامات منظورة وغير منظورة. وحين أنشئت السوق الموازية بالقرار الوزاري رقم 477 لسنة 1973 قيل إن الهدف إنشاء نظام متكامل لممارسة تعدد سعر الصرف، وقد أوجب القرار أن يتم التعامل في السوق الموازية للنقد عن طريق البنوك التجارية التي يحددها البنك المركزي المصري (وكانت كلها بنوكًا مصرية مؤممة).
وفي الحقيقة ظلت هذه السوق سوقًا شبه رسمية؛ سواء لعدم تلاقي العرض والطلب في السوق، أو بسبب تحديد أسعار الصرف بقرار إداري عن طريق البنك المركزي. والتطوير الحادث عام 74 استحدث نبودًا هامة زادت من حصيلة السوق (الصادرات غير التقليدية وتحويلات مواطني الدول العربية لغير أغراض الاستثمار) كذلك أجاز القرار للأشخاص الطبيعيين والمعنويين المحليين في مجالات السياحة والتصدير - الاحتفاظَ بمتحصلاتهم من النقد الأجنبي ضمن موارد السوق الموازية للنقد، في حساب لدى أحد البنوك التجارية، ويحق لهم استخدام هذه المتحصلات خلال ستة شهور في تمويل الواردات التي يحتاجون إليها،
أو المدفوعات غير منظورة لأزمة لنشاطهم. كما يحق لهؤلاء الأشخاص بيع هذه الحصيلة بالسعر التشجيعي. ولكن التوسع والتطوير في هذا الاتجاه لم يكن ليحول السوق إلى سوق فعليّ، فقط تحقق ذلك في إطار السماح بتحويل الموارد النقدية التي تدخل بطبيعتها ضمن موارد السوق إلى سلع، فقد نصت المادة الخامسة (القرار الوزاري رقم 64 لسنة 1974) على أنه "يجوز للمصريين الحائزين على موارد بالنقد الأجنبي – تدخل بطبيعتها ضمن موارد السوق الموازية، أن يقوموا بتحويلها إلى البلاد في شكل عيني من السلع الواردة بالقائمة بتوريد سلع من تلك الواردة بالقائمة آنفة الذكر إلى البلاد، ويتم قيد المقابل لقيمة هذه السلع بالجنيه المصري على أساس الأسعار التشجيعية". هذه المادة كانت تقنن سوقًا ثالثة وفعلية للنقد الأجنبي، تموّل ما يسمى بالاستيراد دون تحويل عملة.

(74) I.M.F. SM- 74 – 172, op. cit, p. 18.
(75) في عام 1969، سُمح رسميًّا باستخدام أسلوب الاستيراد الممول ذاتيًا لاستيراد السيارات، أو السلع للاستعمال الشخصي، أو السلع الإنتاجية المملوكة لهيئات مصرية، أو لمصريين في الخارج (قرار وزاري 543 – 1968 وقرار وزاري 1009 – 1969). ولكن الممارسة العملية كانت تملأ الأسواق بكميات وأنماط تتجاوز تمامًا ما سمحت به هذه القرارات. وتفسير ذلك أن القيادة السياسية استجابت أيامها – لتطلعات أصحاب الدخول العليا في استيراد أنماط استهلاك كمالية، وكان مفيدًا سياسيًّا أن تتم هذه العملية عبر قنوات منفصلة عن شركات الاستيراد الرسمية الحكومية، فهذا يتيح للقيادة أن تعلن أمام الجماهير المحرومة أنها غير مسئولة عن هذا "العبث والإجرام"، بل وتتخذ بعض إجراءات الزجر والمصادرة من وقت لآخر. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن عمليات "الاستيراد دون تحويل عملة" اتسعت بسرعة وأصبحت نشاطًا يتطلب "إدارات سرية" ذات كفاءة، لها مكاتب في مصر وفي الخارج؛ لتشرف على تهريب النقد وحسابات المقاصة، وتنظيم شبكة آلاف العاملين من جملة البضائع جوًا وبحرًا، ومن القائمين بالتوزيع. ولكن هذا السوق، الذي كان يتعامل بعشرات الملايين من الجنيهات سنويًا، ظل مستقبله محفوفًا بالمخاطر، وتطلب هذا أن القائمين على هذه العمليات كانوا من العناصر المغامرة، وكانوا مضطرين إلى مشاركة عديد من العناصر ذات النفوذ في مستويات السلطة المختلفة، وهذه البؤرة الفاسدة التي لم تتوقف عن التوسع، لم تلبث أن أصبحت قوة لا تسهل تصفيتها لو أرادت السلطات السياسية.
كان يستحيل طبعًا معرفة الحجم الصحيح لهذه السوق في تلك الأيام أو الآن، ولكن قدرت الغرفة التجارية لمحافظة القاهرة (مارس 1971) أن حجم هذه التجارة في القاهرة وحدها كان 10 مليون جنيه سنويًّا، ولكن بعض المسئولين المصريين في بيروت قدر أن الواردات المهربة من لبنان كان 18 مليون جنيه سنويًّا منها 3 ملايين عن طريق الجو، 15 مليونًا عن طريق البحر. ولا تدخل في هذا الحساب الواردات المهربة من عمان ودمشق وليبيا والكويت وأوروبا الغربية. انظر عادل حسين، جريدة الأخبار، (5/2/1972). وقد حاول د. فؤاد مرسي - حين كان وزيرًا للتموين- محاصرة هذه التجارة؛ فكانت محاولته سببًا أساسيًّا لإقصائه.
(76) في 10 مايو 1974 أصدر مجلس الوزراء قرارات تحدثت عن الاستيراد، دون تحويل عملة بلا قيود، وكالعادة هاجم عبد العزيز حجازي بهذه المناسبة الانحراف بهذا النظام، وأكد أنه لن يسخر لاستيراد الفُستُق واللوز، ولكن لاستيراد السلع التموينية ومستلزمات لإنتاج. وتساءلنا يومها في الطليعة: كيف تتفق هذه التصريحات مع قرار تيسير استيراد سيارات الركوب الخاصة، بل وتيسير استيرادها بهدف البيع (تحت اسم الإهداء) ومهما كان نوعها وحجمها. لقد بلغ عدد سيارات الركوب المستوردة في عام 1972 حوالي 16 ألف سيارة، ومع التيسيرات الجديدة يتوقع أن يرتفع الرقم إلى 20.000 سنويًّا، ويقدر إجمالي الإنفاق المتوقع لإحضار حوالي 60 مليون دولار، ولو أنفق هذا المبلغ في استيراد قطع غيار ومستلزمات إنتاج لزاد إنتاجنا الصناعي حوالي 120 مليون جنيه! والسؤال الآن هو: هل الكماليات التي نقيد استيرادها تقتصر على الفستق واللوز؟ أليست السيارات الخاصة – وبالذات السيارات الفارِهة – من السلع الكمالية التي تستحق فرض أقصى القيود في ظروف اقتصاد الحرب التي تعاني فيها جماهير الشعب؟! بل وبالنسبة للتفاح والفستق.. إن الدولة تمنع استيرادها (في قائمة السلع المسموح بها) ولكننا نلاحظ في نفس الوقت، أن كل أنواع السلع الكمالية تملأ الأسواق بلا أي رقيب، وهذا يعني تبديد جزء كبير من النقد الأجنبي بشكل أو آخر، ويعني أرباحًا خرافية للوكلاء والمهربين لا يدفعون عنها أية ضريبة.
إن السياسة المتبعة لا تريد أن تزعج أصحاب الدخول العالية، وتسمح بوجود السلع الكمالية، وفي نفس الوقت تبدو– مع افتراض حسن النية – كما لو كانت تعاني من إحساس بالذنب، فتمتنع عن السماح رسميًّا باستيراد هذه السلع،






آخر مواضيعي 0 أنا أَيضاً يوجعنى الغياب
0 ﺃﻋﺪُﻙ !
0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 أنا وانتي.. حكاية بريئة
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
رد مع اقتباس
قديم 06-07-2011, 02:18 PM رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
نور

الصورة الرمزية نور

إحصائية العضو







نور غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: الاقتصاد المصريّ من الاستقلال إلى التبعيَّة

(82) وجه هذا السؤال إلى الحكومة في بداية مناقشة مشروع الخطة والموازنة العامة، ولكن رئيس مجلس الوزراء، والوزراء، تجاهلوا الأمر تمامًا، فأعاد عضو مجلس الشعب المحاولة في اليوم التالي: "لم يجب السيد رئيس مجلس الوزراء عن هذا السؤال، وأرجو من الحكومة أن تجيب على سؤالي قبل الانتهاء من مناقشة الخطة والموازنة. والسؤال هو: ما هي أسماء المكاتب التي تقوم بعمليات التوريدات أو الاستيراد والتصدير والتي يديرها أو يشترك في إدارتها، أو يعمل فيها بعض الشباب من أبناء أو أصهار بعض القيادات التنفيذية والسياسية وقيادات القطاع العام؟ وما هو حجم العمليات؟ إلخ".
وقد حاول رئيس الجلسة صرفَ السؤال عن مقصده، فقال: إنه يذكر "أن السيد رئيس مجلس الوزراء، أشار في تعقيبه بالأمس إلى أنه سوف يُحيل كل ما يصل إلى علمه عن تقاضي أيَّة عمولات غير مشروعة إلى النيابة العامة". وكان طَبَعيًّا أن يوضح السائل أن هذا الكلام بعيدٌ عن موضوعه. "إن سؤالي لم يتطرق إلى موضوع العمولات وإنما يختص السؤال بتحديد أسماء أصحاب المكاتب التي تقوم بعمليات التوريدات، أو الاستيراد والتصدير التي يشترك فيها الشباب من أبناء بعض القيادات"، فاضطر وزير الدولة لشئون مجلس الشعب، أن يتدخل أمام هذا الإلحاح، فقال: "إثبات السؤال في مضبطة الجلسة الآن يعتبر كافيًا، وسوف يبلغ الموضوع إلى السيد رئيس مجلس الوزراء؛ لكي يرى رأيه في الإجابة عنه". ولكن وزير المالية أدرك أن زميله تورط فيما يشبه الوعد بالإجابة، فقال إنه يود أن يوضح "أن قيام الحكومة بالتحري عن المكاتب التي تم افتتاحها للاستيراد والتصدير، والعمليات التي قامت بها منذ 1967 حتى الآن، وكذلك الأمر بالنسبة لأسماء القائمين على هذه المكاتب، يحتاج إلى عملية حصر طويلة مما يتطلب جهدًا ووقتًا كبيرين".
واضطر رئيسُ الجلسة إلى التدخل؛ ليخفف من منظر الفزع الذي بدت به الحكومة، والذي فضح إدراكها لخطورة كشف الأسماء، فقال رئيس الجلسة: إنه يرى "أن المسألة في غاية البساطة، وليست على النحو الذي يتصوره السيد الدكتور وزير المالية، فلا بد أن هناك سجِلاً أُنشِئ طبقًا للقانون، اسمه: سجل الوكلاء التجاريين، تُقيِّد فيه جميعُ أسماء الوكلاء التجاريين، وأعتقد أن هذا المقصود من السؤال".
ولكن وزير المالية عاد للتعقيب (على طريق الدُّب الذي قتل صاحبه، وهو يتصوَّر أن يحميه)، فاعترف بأن "التعرف على الأسماء سهل وميسور، ولكنني أتساءل عما ردده السيد العضو في شأن الشباب الذين يديرون هذه المكاتب، فهل هناك تحريم معين على الشباب الذين ينتمون إلى فئات معينة أن يشتغلوا بهذه الأعمال؟" وبالقطع كان التعقيب غاية في الخطورة؛ فهو يكاد يعترف بواقعة أن أبناء المتصلين بفئات الحكام وأصحاب النفوذ، يلعبون دورًا بارزًا في تعاملات الدولة، في التجارة الخارجية وفي غيرها. وأصبحت المسألة: هل هذا مشروع أو غير مشروع؟ وهي طبعًا مسألة غير مشروعة عرفًا وقانونًا، بل هي فضيحة لو حدثت (مع كل ما يُشاع عن الفساد المحيط بهذه العمليات)؛ ولذا بادر رئيس الجلسة إلى التدخل مرة أخرى لاحتواء الموقف، فنصح الحكومة بعدم التعجل في الرد، "وليس هناك ما يلزم الحكومة بالرد، ولكنْ ربما ترى الحكومة من تلقاء نفسها أن من المصلحة العامة، أن ترد على ما يثار من أسئلة أثناء المناقشات".
وتدخل عضوٌ آخر شبه مسئول (محمود أبو وافية) لنفي الشبهات التي ترسبت، فقال: إن سؤال القاضي "في منتهى الأهمية، فإذا كانت هناك انحرافات، فمن الواجب، بل إنه من أوجب الواجبات أن نقضي على تلك الانحرافات؛ ونظرًا لأهمية هذا السؤال، وحيث إن السيد رئيس مجلس الوزراء
لا يحضر جلسة اليوم، فإنني أقترح تأجيل الإجابة عن هذا السؤال إلى جلسة الغد، حتى يحضر السيد رئيس مجلس الوزراء، ويتولى الإجابة بنفسه". ورد محمود القاضي "على أية حال، فقد توجهت بسؤالي طبقًا للائحة، وللحكومة أن تجيب عنه وقتما تشاء".

انظر: "استمرار مناقشة تقرير لجنة الخطة والموازنة عن خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وعن السياسة المالية لمشروع الموازنة العامة للدولة لسنة 1976"، مضبطة الجلسة 16 (28/12/1975)، الفصل التشريعي الأول، مجلس الشعب.
ولكن حدث أن مرَّ أسبوعان، ومناقشات الخطة والموازنة كادت تُختَتم، والحكومة لا تجيب، فأثير الموضوع للمرة الثالثة – ولجأت الحكومة بإصرار للمراوغة، فقال وزير الدولة لشئون مجلس الشعب إنه "نظرًا لأن هذه السجلات كثيرة جدًا، فإن الحكومة مستعدة لاطلاع السيد العضو - ومن يشاء من السادة الأعضاء - عليها في الوزارة؛ نظرًا لضخامة هذه السجلات من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن العمل اليومي في حاجة إليها".
وكان تعليق القاضي أن سؤاله محدد، "وليس مجرد طلب سجلات أو أشياء أخرى. لقد طلبت موافاتي ببيانات محددة، بناء على سؤال محدد بالكلمة، وإنني في انتظار هذه البيانات"، وقال رئيس الجلسة: "إن العبرة بما هو ثابت في المضبطة، فنرجو من الحكومة أن تنفذ ما جاء بها". ولكن الفصل التشريعي الأول انفض قبل أن يتلقى صاحب السؤال إجابة. انظر: مضبطة الجلسة الصباحية (10/1/1976) الفصل التشريعي الأول، مجلس الشعب.
(83) دراسة للدكتوراه عن فئة أصحاب التوكيلات في البنية الاقتصادية والاجتماعية المصرية. الأطروحة مقدمة لجامعة خارجية، وطلب صاحبها عدم نشر اسمه أو تفاصيل دراسته في الوقت الحالي.
(84) الطيِّب علي (رجل أعمال) تصريح للأهرام، (7/8/1976).
(85) عباس المصري: "استمرار مناقشة تقرير لجنة الخطة والموازنة".... مضبطة الجلسة 17 (28/12/1975)، الفصل التشريعي الأول، مجلس الشعب.
(86) "سؤالان لوزير التموين والتجارة"، الأهرام الاقتصادي عدد (أول آب/ أغسطس 1977).
(87) تعاقدت شركة "مالتي تريد" على توريد لحوم ضأن مجمدة إلى سوريا، إلا أن السلطة السورية رفضت إحدى رسائل اللحوم، وتزن 564 طنًا؛ لمخالفتها للمواصفات، بالإضافة إلى أن الذبائح كانت كبيرة السن مع عدم وجود شهادات صحية أو شهادات تقيد المنشأة أو طريقة الذبح، فقامت شركة مالتي تريد بتحويل الرسالة إلى ميناء بورسعيد في أكتوبر 1976 وعرضها على هيئة السلع التموينية بأسعار مغالَى فيها، مستغلة في ذلك ضيق الوقت لحاجة الهيئة إلى استيراد لحوم لتغطية احتياجات البلاد منها في عيد الأضحى المبارك، وقد تم التعاقد على هذه الرسالة بفارق سعر تحملته هيئة السلع التموينية بلغ حوالي 200 ألف دولار تقريبًا بالزيادة عن الأسعار الحقيقية – انظر مذكرة الرقابة الإدارية عن الموضوع بتاريخ (30/11/1976) (غير منشورة بطبيعة الحال).
أيضًا قامت شركة مالتي تريد باستيراد رسالتين من الجبن لحساب هيئة السلع التموينية تزنان حوالي 127 طنًا، وقد تبين أن الجبن مصاب بعفن، وغير صالح للاستخدام الآدمي، فاضطرت الهيئة إلى رفض استلام الجبن؛ حيث تقرر إعدامه رغم المساعي والضغوط التي مارستها الشركة المستوردة (مالتي تريد) لإقناع الهيئة باستلام الجبن" – مذكرة الرقابة الإدارية عن الموضوع بتاريخ (16/12/1976) (غير منشورة).
وقد تعاقدت الشركة الأهلية للصناعات المعدنية مع أحد الموردين عن طريق شركة مالتي تريد على توريد 13 ألف طن حديد خُردة – وقد قام المدير التجاري في الشركة الأهلية بإجراء تعديلات على نسخة العقد التي بحوزته لصالح المورد والشركة الوسيطة، دون إجراء التعديل في العقود الأخرى – خاطبت مالتي تريد منفردة البنك لتعديل شروط فتح الاعتماد؛ بأن سمحت بتوريد حديد خُدرة نمرة 1 وكذلك بآلات من خلطة مكونات الحديد، تقل في الجودة عمَّا هو مُتفَق عليه بالمواصفات – اعترضت الشركة الأهلية، وقبلت التساهل أمام تدخُّل مالتي تريد، وتبلغ مُستحقات الشركة الأهلية 354.6 ألف دولار عن العجز وفرْق النوعيَّة، بالإضافة إلى 130 ألف دولار الخسائر غير المباشرة الناتجة عن استخدام البالات على المنتج النهائي، وعلى عمرات الأفران – مذكرة الرقابة الإدارية عن الموضوع بتاريخ (7/5/1977) (غير منشورة).
(88) ماجدة عطيَّة، "رسالة باريس" المصوَّر، (1/7/1977).
(89) د. محمود القاضي: لقد تقدَّمتُ بسؤال للسيد وزير التجارة والتموين عن شركة "مالتي تريد" لعله أول سؤال قدم في هذا البرلمان الجديد... وللأسف لم يدرَج حتى الآن، علمًا بأن المجلس سبق له أن أدرج في جدول أعمال إحدى الجلسات، جملة أسئلة وطلبات إحاطة للسيد وزير التجارة والتموين، ولم يندرج سؤالي، ولقد سبق أن أشرت لهذا السؤال في تلك الجلسة، والتي كان يرأسها السيد الدكتور السيد علي السيد؛ نظرًا لأهميته.
رئيس المجلس: سوف يدرج هذا السؤال في جدول أعمال أو جلسة يعقدها المجلس.
د. محمود القاضي: شكرًا – مضبطة الجلسة 44 (21/3/1978)، الفصل التشريعي الثاني، مجلس الشعب..
ولكن لم يحدث طبعًا أن أدرج السؤال، فاضطر العضو إلى إثارة الموضوع مرة أخرى:
"د. محمود القاضي: لقد أُدرِج في المناقشة كثيرٌ من الأسئلة وطلبات الإحاطة، وأنا شخصيًّا كان لي سؤال موجه إلى السيد وزير التجارة والتموين، لكن كلام سيادته
لم يتضمن الإجابة عن سؤالي، لا من قريب، ولا من بعيد، إذن فما الحكاية؟ ولماذا لم يدرج السؤال في هذه المناقشة؟ لست أدري، إن عمر هذا السؤال يزيد على سنة ونصف
يا سيادة الرئيس، ولا أحد يريد أن يجيب عنه، وهو متعلق بموضوع خطير، هو موضوع شركة مالتي تريد" – وقد وعد رئيس الجلسة بأن الحكومة لن تتجاهل السؤال. (انظر، مضبطة الجلسة 53 (11/4/1978)، الفصل التشريعي الثاني، مجلس الشعب – ولكن مرَّ عام بعد ذلك، وحتى حل المجلس، دون أن يتلقى السؤال إجابة.

(90) راجع هنا: "لجان البت.. هل تتعرض للضغوط؟ (إبراهيم نافع، باب: أسرار اقتصادية) الأهرام، (9/5/1975). والمعلومات الواردة في هذا الموضوع تتفق مع معلومات المؤلف عمَّا تم في هذه الاجتماعات نقلاً عن بعض المسئولين في مؤسسة التجارة في ذلك الوقت، وأيضًا عن بعض المسئولين في الرقابة الإدارية.
(91) مذكرة الرقابة الإدارية بتاريخ 29/3/1977 (غير منشورة).
(92) Robert Engler, The Brotherhood of Oil, (Chicago and London: The University of Chicago Press, 1977), p. 12.
(93) Yusuf Ahmed, Absorptive Capacity, op. cit., p. 66.
(94) World Bank, Report No 1815 EGT, op. cit., p. 34.
(95) G. Myrdal, The Challenge, op. cit, p. 227 – 252 ميردال رغم الوقائع التي أوردها، لا يربط في تحليله ظاهرة الفساد بقضية التبعية على النحو الذي نتبناه هنا.
(96) د. أحمد أبو إسماعيل، الأخبار (21/8/1977)، مرجع سابق.
(97) نقلاً عن د. سعد الدين إبراهيم، الانتخابات الأمريكية وأزمة الشرق الأوسط، (القاهرة: مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام، ديسمبر 1976)، ص121.
(98) World Bank, Report No 840 a-EGT, op. cit., p. 15.
(99) World Bank, Report No 1815 EGT, Volume Four, Annex 4-3, op. cit, table 16-3.
وكافة بيانات هذا الجزء مصدرها هذا المرجع ما لم يذكر غير ذلك.
(100) البيانات الرسمية للبنك المركزي المصري.
(101) World Bank, Report No 1815 EGT, op. cit., p.16
(102) انظر: لستربيرسون، شركاء في التنمية، مرجع سابق، ص29 وص 131، ص 132.
(103) د. أحمد أبو إسماعيل، الأخبار، (21/8/1977)، مرجع سابق.
(104) انظر الأهرام، أعداد (20 يونيو 1974 – 7 نوفمبر 1974 – 15 ديسمبر 1974) ووفقًا للجهاز المركزي للمحاسبات، تطورت غرامات التأخير على النحو التالي:

السنة مجموع غرامات التأخير بالقطاع العام أو الحكومة
11.6
6.3
16.5
وهي الغرامات التي تمت تسويتها فقط. وهذه المبالغ هي غرامات التأخير المسوَّاة عن طريق التوكيلات الملاحية فقط؛ لذلك فإن المبالغ المُشار إليها تتم زيادتها بمقدار الغرامات التي يتم تسويتها بمعرفة الجهات المستوردة، ومُلاك البواخر مباشرة عن طريق التوكيلات، فالجدير بالذكر أن الانتظارات على الخطاف بميناء الإسكندرية عام 1977 بلغت 22262 يومًا، تقدَّر غرامات التأخير أو كسب الوقت الضائع خلالها بحوالي 67 مليون دولار (محسوبة على أساس متوسط 3000 يوميًا). انظر: الجهاز المركزي للمحاسبات، تقرير عن تكدس المواني المصرية في عام 1977 والنصف الأول من عام 1978 وما تحملته الدولة من غرامات التأخير، (القاهرة: الجهاز المركزي للمحاسبات، الإدارة المركزية للرقابة على الهيئات وشركات القطاع العام – قطاع المال والتجارة والتموين والسياحة والنقل، 19)، ص1، ص2.
سبق للجهاز أن أعدَّ تقريرًا مشابهًا عن تكدس ميناء الإسكندرية في عامي 1974، 1975، ولم تنفذ أغلب توصياته. (تقارير الجهاز سريَّة).
(105) الرقابة الإدارية، تقرير عن ظاهرة الانحراف والتلاعب، خاصة السرقة والاختلاس في الموارد الواردة للبلاد، أثناء مراحل نقلها من مصادر تصنيعها أو توريدها، وحتى وصولها لمخازن الجهة المستوردة (تقرير سري).
(106) تقدَّمت الرقابة الإدارية بتقريرها الخطير في 5/8/1975 إلى الجهات المعينة متضمنًا دور كل جهة في التنفيذ ودور الجهات المسئولة عن التنسيق بين الجهات المنفذة – وفي 15/4/1976 ورد لهيئة الرقابة الإدارية كتابُ مكتب وزير الدولة لشئون مجلس الوزراء والمتابعة والرقابة، مُرفقًا به ردود الجهات المعنية، ولاحظت الرقابة الإدارية من هذه الردود ما يلي: "1- إن الجهات المعنية
لم تقمْ بتنفيذ توصيات اللجنة المشكلة، بمعرفة هيئة الرقابة الإدارية بالرغم من أن ممثلي هذه الجهات – وأغلبهم من رؤسائها، أو من كبار المسئولين بها – قد اشتركوا في الدراسة، وفي وضع التوصيات بصفتهم مندوبين عن هذه الجهات، ورغم أنهم يمثلون رأي الجهات التي ينتمون إليها. 2- إن الطابع الغالب في ردود الجهات المختلفة، هو تشكيل لجان لبحث وسائل تنفيذ التوصيات، دون أن يستتبع ذلك اتخاذ إجراء إيجابي" – وقد عمدت الرقابة الإدارية - على سبيل الضغط - إلى تسريب التقرير إلى الصحف، فنُشِر عرض جيد ومفصل له في الأهرام الاقتصادي.

(107) "الأرقام القياسية لأسعار المستهلكين"، نشرات جهاز التعبئة والإحصاء، (القاهرة: جهاز التعبئة والإحصاء، 1974).
(108) World Bank, Report No 840 a-EGT, op. cit., p. 11.
(109) د. كريمة كريم، "أثر العوامل الخارجية على ارتفاع الأسعار في مصر"؛ بحث مقدم إلى مؤتمر الاقتصاديين المصريين (1976)، مجموعة البحوث والمناقشات، مرجع سابق، ص671.
(110) د. كريم، المرجع السابق، استعرضَت الدراسة حجم الإسهام المباشر والمحتمل لكل عامل من العوامل الخارجية (حسب المصطلح الذي استخدمته) في إحداث التضخم: فلم تكن الزيادة في الطلب الخارجي على المُنتجات المصرية، من العوامل الفعالة في ارتفاع الأسعار، (إذا كانت نسبة التحويلات من الخارج إلى إجمالي الناتج القومي، قد ارتفعت نسبيًّا في السبعينيات، فإنها ظلت عند مستوى منخفض، فلم تتجاوز 4.4 أو 6.8% في عامي 1973، و74 على التوالي. ومعنى ذلك أن نسبة التحويلات إلى مصر من الخارج، لا تمثل سوى نسبة محدودة من إجمالي الطلب الكلي على السلع والخدمات المتاحة في الأسواق المحلية، وبناء عليه، لا نستطيع أن نرجع جزءًا يُعتد به من ارتفاع الأسعار في السبعينيات في مصر، إلى هذا العامل الخارجي" وقد نشير تحفظًا في هذه النقطة؛ حيث إن التحويلات الخارجية (فوائد وأرباح، وإيرادات أخرى كالسياحة، ومتحصلات أخرى، تتضمن الدخول المحوَّلة من الخارج) تستخدم جزئيًّا في زيادة المعروض من السلع والخدمات؛ عن طريق الاستيراد، وبالتالي لا يحسب صافي التأثير التضخمي لهذه التحويلات بمقدار حجمها المُطلَق. ولكن يبقى صحيحًا على أيَّة حال استنتاج البحث بأن هذه التحويلات لا يمكن أن تكون سببًا أساسيًّا في زيادة المعدل العام لارتفاع الأسعار. وبالنسبة لأثر ارتفاع الواردات، ميز البحث بين أثر ارتفاع أسعار الواردات الاستهلاكية ذات الأثر المباشر على الرقم القياسي لنفقات المعيشة، وبين أثر ارتفاع أسعار الواردات الاستهلاكية ذات الأثر المباشر على الرقم القياسي لنفقات المعيشة، وبين أثر ارتفاع أسعار الواردات من السلع الإنتاجية والوسيطة ذات الأثر غير المباشر والمتفاوت على أسعار سلع الاستهلاك النهائي المُنتجة محليًّا، وخلص إلى أن "الوزن النسبي السلع الاستهلاكية) أو الإنفاق الإنتاجي (في حالة واردات السلع الاستثمارية والوسيطة) وزن صغير، وبالتالي يمكن القول - بدرجة كبيرة من الثقة - إن ارتفاع أسعار الواردات ليس هو المصدر الرئيسي لارتفاع الأسعار" وقد نفضل لو استُخدِم في البحث مصطلح مثل "المكون الداخلي لمعدل التضخم" و"المكون الخارجي لمعدل التضخم" بدلاً من "العوامل الداخلية للتضخم" و"العوامل الخارجية".
(111) انظر دراسات: د. فؤاد مرسي "الغلاء المستورد" د. إبراهيم العيسوي "الأسباب الحقيقية للغلاء في مصر"،
د. محمود عبد الرءوف "السياسة الزراعية ومسئوليتها عن الغلاء" – د. رضا العدل "على الموازنة العامة، أن تضبط الأسعار" – محمد حامد الزهَّار "السياسة النقدية والغلاء في مصر" – د. محمد أبو مندور "مواجهة الغلاء: كيف؟ وإلى أين؟" مجلة الطليعة، (ديسمبر 1974).

(112) "نص القانون" الجريدة الرسمية، (27/6/1974)، العدد 26.
(113) عادل حسين، مجلة الطليعة، عدد (يونيو 1974). مرجع سابق/ انظر أيضًا مساهمات د. رضا العدل، د. أحمد المرشدي – د. أبو زيد رضوان – عادل حسين في ندوة: "الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع لمناقشة مشروع قانون استثمار المال العربي والأجنبي"، مجلة الطليعة عدد (يوليو 1974).
(114) د. علي الجريتلي، 25 عامًا، مرجع سابق، ص 270 – ونشر هنا إلى دراسة د. إبراهيم العيسوي، "مدى واقعية الآمال، المعقودة على تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة ومساهمتها في التنمية في مصر"، مجموعة بحوث مؤتمر الاقتصاديين المصريين بالقاهرة مارس 1976، مرجع سابق.
(115) د. فؤاد مرسي، هذا الانفتاح، مرجع سابق ص ص113 – 114.
(116) عادل حسين، الطليعة، (يونيو 1974)، مرجع سابق.
(117) د. علي الجريتلي، 25 عامًا، مرجع سابق، ص280.
(118) عادل حسين، الطليعة، (يونيو 1974)، مرجع سابق.
(119) بنك مصر، تقرير مجلس الإدارة المقدم للجمعية العمومية، عن أعمال السنة المالية المنتهية في 31/12/1920.
(120) بنك مصر، تقرير مجلس الإدارة المقدَّم للجمعية من أعمال السنة المالية المنتهية في 31/12/1922.
(121) النشرة الاقتصادية للبنك الأهلي المصري – المجلد العاشر، 1975، ص46.
(122) بيان وزير المالية والاقتصاد في مجلس الأمة (27/8/1957)، ص43.
(123) بيان وزير المالية، المرجع السابق، ص ص54–55.
(124) د. عبد المنعم القيسوني، مصر المعاصرة، (أبريل 1974)، مرجع سابق.
(125) موقف محافظ البنك المركزي: انظر قانون الاستثمار – مجموعة الأعمال التحضيرية، مرجع سابق، ص214.
"موقف د. حامد السايح": ندوة الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي، مرجع سابق، ص44.
"موقف حسن زكي أحمد": قانون الاستثمار – محضر الاجتماع الثالث/ ندوة الجمعية المصرية للاقتصاد.
(126) كل الهوامش التي تحمل هذا الرقم مرجعها: قانون الاستثمار الأعمال التحضيرية، مرجع سابق، محضر الاجتماع الثالث.
(127) د. علي الجريتلي، 25 عامًا، مرجع سابق، ص275.
(128) ندوة الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي، مرجع سابق، ص43.
(129) قانون الاستثمار، مرجع سابق، ص ص375 – 378.
(130) المرجع السابق ص496 و500.
(131) تقرير اللجنة المشتركة عن الانفتاح (أبو وافية)، مرجع سابق.
(132) انظر مثلاً مصطفى مراد، مضبطة الجلسة 18 (29/12/1975)، الفصل التشريعي الأول، مجلس الشعب.
(133) حسن زكي أحمد، ندوة الجمعية المصرية للاقتصاد، مرجع سابق ص42.
وقد أوضح "سيهانوك" نفس المعنى – على ضوء تجربته فحذر في 27 – 29 ديسمبر 1969 (قبل إقصائه) من عودة البنوك الأجنبية إلى بلاده، "من أجل إفساد النخبة، وإعاقة اقتصادنا، ومحاولة تغيير النظام، لقد حذرت من دور البنوك الأجنبية التي تخدم مصالح غير مصالح كمبوديا، وتحول إلى الخارج كميات هائلة من النقد، تاركة كمية بالغة الضآلة للدولة".
My War with the CIA, op. cit., p. 41.
(134) انظر مثلاً: Michael Field, A Hundred Million Dollars A Day, (London: Sidgwick and Jackson; 1975), chs. 13, 14 and Conclusion.
(135) حول قضية السوق المالي العربي بشكل عام، انظر الدراسة الهامة لجورج كرم "الأسواق المالية العربية بين الوهم والحقيقة"، منشورة في الاقتصاد العربي أمام التحدي، مرجع سابق.
(136) "هل ستتدفق الأموال العربية والأجنبية أساسًا من خلال قوانين السوق؟ هل إزاحة المخاطر غير الاقتصادية، وتقديم الحوافز والتسهيلات والإعفاءات، قادرةٌ وحدها على جذب فيض من الاستثمارات، وفي المجالات التي نحتاجها بالذات؟ أعتقد أن هذا هو التصور الذي صيغ مشروع قانون 43 وفقًا له، وهذا هو السبب في عدم التفرقة في هذا القانون بين إمكانيات واحتمالات رأس المال العربي، ورأس المال الأجنبي.. فما دامت القوانين "الموضوعية"، للسوق هي أساس انسياب رءوس الأموال، فإن هذه القوانين لا تفرق بين عربي وغير عربي... وكل هذا التصور وما يترتب عليه غير صحيح، إننا وفقًا لهذا التصور نكرر تجارب سبقتنا إليها دول نامية كثيرة. وقد ثبت أن هذه التجارب لم تكن ناجحة" و"التصور المقابل لهذا، هو التصور الذي بلورته حرب أكتوبر. فنتائج هذه الحرب تمثلت في مضاعفة فائض أموال الحكومات العربية المصدرة للبترول من ناحية.. وفي خطورة التحرك العربي الموحد والضغط بالبترول من ناحية ثانية. هذه النتائج تفتح مجالاً واسعًا لاستيراد التكنولوجيا الغربية، ولمشاركة رءوس الأموال الغربية. رغم أنف القوانين (الموضوعية)، للسوق الرأسمالية، والتي لا تشجع على التدفق التلقائي الكبير لرءوس الأموال الأجنبية إلى مصر والدول العربية؛ وفقًا لهذا التصور، فإن الاستعانة برءوس الأموال غير المصرية، يخضع لنوع من الترتيب المنظم، وفي هذا الترتيب نفرِّق – على عكس مشروع القانون – بين موقف رأس المال العربي، وموقف رأس المال الأجنبي. بل إن سعينا يجب أن يبدأ بمحاولة اجتذاب الفوائض الحكومية العربية بالذات (وهي الجزء الأكبر من الفوائض المالية العربية) وذلك بهدف إقامة مشروعات مشتركة عملاقة (...) ولا شك أن نجاحنا في هذه المشروعات، هو أنسب السبل إلى تشجيع القطاع الخاص العربي والأجنبي. ففي ظل المشروعات المشتركة الجبارة سيزداد جو الاطمئنان أمام المستثمر العربي الذي يسعى إلى الاستثمار في مشروعات صغيرة أو متوسطة. وكذلك فإنه في ظل هذه المشروعات المشتركة مع الحكومات العربية سنجبر قدرًا متزايدًا من رءوس الأموال الغربية على المساهمة في مشروعات إنتاجية جادة (...) يعني هذا أن التعاون مع الدول العربية ذات الفائض – على مستوى الحكومات – هو العامل الحاسم في سياسة واقعية لاستخدام رءوس الأموال العربية والأجنبية الخاصة؛ وفقًا لخطة التنمية المصرية".
انظر: عادل حسين، الطليعة عدد (يونيو 1974)، مرجع سابق.
(137) انظر حول المؤسسات العربية القائمة والمقترحة: د. إبراهيم شحاتة، "الثراء البترولي في مواجهة مشاكل التنمية العربية"، مجلة السياسة الدولية، (أبريل/ نيسان 1974)، الاقتباس ص47.
(138) الأهرام، (3/2/1974).
(139) الأهرام، (17/7/1974).
(140) مجلة الطليعة، عدد (نيسان/ أبريل 1975)، ص18.
(141) د. طاهر أمين: "محاضر لجنة الاستماع في مجلس الشعب لمناقشة الانفتاح الاقتصادي"، جلسة 12 آذار/ مارس 1974.
(142) د. إسماعيل صبري عبد الله: تنظيم القطاع العام، (القاهرة: دار المعارف، 1969)، ص ص460 – 461.
(143) قانون الاستثمار، مرجع سابق، ص ص129 – 132.
(144) البيانات عن الخطة الانتقالية مرجعها: الخطة الانتقالية يوليو 1974 – ديسمبر 1975، مرجع سابق.
(145) د. أحمد أبو إسماعيل، البيانان؛ الاقتصادي والمالي – 1976.
(146)World Bank, Report No 840 a-EGT, op. cit., p. 18.
(147) "خطاب الرئيس السادات أمام طلبة جامعة الإسكندرية"، الأهرام، (نيسان/ أبريل 1974).
(148) نقلاً عن عثمان أحمد عثمان:
"Man of the Year", Times, (2-1-1978).
(149)Yusuf Ahmed, Absorptive Capacity, op. cit., p. 65.
(150) Ibid., pp. 55 – 61.
(151) وقعت اتفاقية القرض مع اليابان في 16/4/1975 – ونشرت في الجريدة الرسمية، (21/8/1975)، العدد 344.
(152) تقرير لجنة الخطة والموازنة عن مشروع خطة 1975، والسياسة المالية لمشروع الموازنة العامة للدولة للسنة المالية 1975، ديسمبر 1974، مجلس الشعب (القسم الثاني من التقرير).
(153) قال أحمد حلمي بدر (عضو مجلس الشعب) "إنه عندما نقوم بعملية ترميم على هذا النطاق الواسع الذي قد يشمل نحو 10 آلاف منزل (في السويس) لا بد من أن تكون هناك تكليف محددة مقدَّمًا، وأن تكون هناك مقايسات وأن يكون هناك حصر وبرامج للتنفيذ يجب اتباعها. في الترميم يقدر المسئولين عن التعمير قيمة إصلاح ما بنحو 200 جنيه، فإذا ما طلب منهم صاحب العقار القيام بعملية الإصلاح قاموا بإصلاحه بمبلغ 2000 جنيه، فأي الرقمين هو الصحيح؟ إنني أودّ أن أعرف – والكلام لا زال لعضو مجلس الشعب – ما هي التكاليف التي ستنفق على مدن القناة؟ عند بناء حي الملك فيصل تقرر أن يكون البناء بالحجر، ولم يجدوا العامل الذي يقوم بالبناء، ولو بأجر ستة جنيهات في اليوم، أي ما يعادل مرتب رئيس مجلس إدارة! وكان الغرض من البناء بالحجر خفض التكاليف، ومع ذلك قورنت هذه التكلفة بتكلفة البناء بالطوب الأحمر والحديد المسلح لوجدنا أن تكاليف البناء بالحجارة، تفوق تكاليف البناء بالطوب الأحمر".
انظر: أحمد حلمي بدر: "مناقشة بيان رئيس مجلس الوزراء عن برنامج الحكومة"، مضبطة الجلسة 14 (11/12/1974)، الفصل التشريعي الأول، مجلس الشعب.
(154) وقد أكد د. ميلاد حنا نفس الحقائق حول الإسراف وانعدام التخطيط، فعمليات الحفر كانت تصل إلى أعماق لا تحتاجها ضرورات العمل، واللواري تنقل الأتربة وتلقي بها في هذه الأماكن في مرحلة تالية. وتعجب الرجل من كميات الخرسانة التي كانت تُلقَى في جوف الأرض، ومن المباني التي تُقام فوق أساسات بعرض 50 سم وهو سُمك لم يألفه، أو نسيه المهندسون المعاصرون، وكل هذا من أجل إقامة مساكن اقتصادية، لا يزيد ارتفاعها عن طابق أرضي وثلاثة أدوار فوقه (المساكن المقصودة هنا هي نفس المساكن التي تحدث عنها عضو مجلس الشعب، والتي بُنيت بالحجر الجيري). وسجل ميلاد حنا أنه سأل المسئولين التنفيذين – على اختلاف مستوياتهم عن سر هذا الإسراف، فقالوا: إنهم بدورهم لا يعرفون السبب، وإنهم يتصورون أن هذه سياسة عليا! ففي مكاتب هؤلاء المسئولين رسومات كاملة لنماذج من المباني من الطراز الهيكلي العادي، أي على نمط المساكن الاقتصادية التي نعرفها في القاهرة، وتكلفة الوحدة السكنية المقامة بالحجر الجيري فوق جبل من الخرسانة، كانت تزيد على تكلفة الوحدة السكنية الأخرى التي نعرفها بما لا يقل عن 1000 جنيه، ويعني هذا أننا خسرنا في بناء 4000 وحدة فقط، (كان مقدرًا أن تتم قبل نهاية 1974) ما يقرب من أربعة ملايين جنيه، وسنخسر عشرات الملايين إذا استمر إنشاء السويس كلها بنفس الطريقة".. وقد استمر التعمير فعلاً بنفس الطريقة. عن مقال للدكتور ميلاد حنا، رفضت نشره جريدة الأخبار، وقيل له بصراحة: إنه يعرِّض نفسه للتهلُكة.
(155) محمود أبو وافية: "مناقشة بيان رئيس مجلس الوزراء". مضبطة الجلسة 14. مرجع سابق.
(156) الرئيس أنور السادات، "خطاب أمام جامعة الإسكندرية"، صحف (27 يوليو 1974).
(157) إسماعيل صبري صرَّح في هذه الفترة ليوسف أحمد، بأن الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية وعدوا بتقديم قروض تبلغ 151.04 مليون دولار، والدول الغربية 563.2 مليون دولار، والدول العربية وإيران 990.76 مليون دولار:
Yusuf Ahmed, Absorptive Capacity, op. cit., p. 5.
(158) عادل حسين: "نقد للخطة والانفتاح الاقتصادي"، مجلة الطليعة، (أبريل 1975).
(159) د. عبد العزيز حجازي: "مناقشة بيان رئيس الوزراء"، الجلسة 14، مرجع سابق.
(160) تقرير لجنة الخطة والموازنة عن مشروع خطة 1974 والسياسة المالية لمشروع الموازنة العاملة للدولة للسنة المالية 1974، (مجلس الشعب، القسم الثاني من التقرير، 1973).
(161) عثمان أحمد عثمان: قانون الاستثمار، مرجع سابق، ص ص122 – 123.
(162) د. عبد العزيز حجازي: "حديث إلى موسى صبري"، جريدة الأخبار، (25/3/74).
(163) عادل حسين، الطليعة، (يونيو 1974)، مرجع سابق.
(164) انظر مثلاً:
"Address to United Nations General Assembly, September 18, 1974", also, to "World Energy Conference, Detroit, September 23, 1974". New York Times, (September 19 and 24, 1974).
(165) الرئيس أنور السادات: حديث إلى مجلة الأسبوع العربي – نقلاً عن الأهرام، (9/10/1974).
(166) الرئيس أنور السادات: "حديث إلى تليفزيون A.B.C (الأمريكي)"، نقلاً عن الأهرام، (8/10/1974).
(167) أ. شيهان، مرجع سابق، ص127.
(168) Yusuf Ahmed, Absorptive Capacity, op. cit., pp. 62 – 63.
(169) الأهرام (والصحف المصرية الأخرى)، (18/12/1974).







آخر مواضيعي 0 أنا أَيضاً يوجعنى الغياب
0 ﺃﻋﺪُﻙ !
0 ذاكرة الجسد...عابر سرير ...لاحلام مستغانمي
0 أنا وانتي.. حكاية بريئة
0 إنيِّ طرقتُ البابَ ياربّ
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر

أدوات الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 04:13 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Content Relevant URLs by vBSEO 3.6.0 (Unregistered) Trans by

شبكة صدفة

↑ Grab this Headline Animator