(1)
حكايا البحر..
تسافرُ من بحرٍ إلى بحر, تؤويك نوارسُ الصّبح, وتهدهدُ أحلامك أمواج المساء, فإذن كانت رحلتي نحو الغامض, الماتعِ, الجميل, المتباهي بنفسه, الذاهبُ طولاً وعرضاً, الراسم لإبداع الله وحسنِ خلقه أروع الأمثلة, إنّه ذلك المتلوّن بألوان الحبِّ والهوى والشوق, متى ما جئته, احتضنكَ! ولست تدري ما وراء احتضانه, أحبٌّ وهناء, أم ضياعٌ وغرق...! إنّه سيّد الاحتمالات والحبُّ الذي يعيشُ بين الصحوِ والغيم, بين الارتفاع والانخفاض, لطالما تكلّموا عن ذلك الضخم العظيم كثيراً إلى درجةٍ أصبح فيها هو مسامرهم ورفيقهم, يلقون إليه بهمومهم, يناجونه, يتبادلون معه أطراف الحديث كأنّه هو الصديقُ المحافظ على العهدِ والوعدِ دوماً وأبداً, ليس كمثله خليل ولا رفيق...! إنّه ذلك الصامتُ المتكلّم, الجليل الوقور, منظرهُ الّذي يأخذُ باللبِّ, يجعلكَ تفكّر كثيراً, وتعيدُ نجواكَ وتسردُها أمام عظمته, ليحتفلَ بكَ وبها, اضطراب موجٍ ورقصُ ماء..! كثيرٌ من الأفكار تواردت إلى خاطري حينما رأيته بعد شوقٍ له, جميلٌ هو الانتقالُ من صحراءٍ إلى بحر, كالانتقال من لا حبٍّ إلى حبّ, كالعيش بين الجفاف والقَطر, إنّها لحظات التناقض التي تجعلكَ بين الشيئين, شيئاً يفكّرُ ويحنُّ ويشتاق, إنّها متعة المقارنة وقياس المتناقضات, يُعجبني تبدّلُ الطبيعة وأفعالها المتطرّفة, واختلافها من مكانٍ لآخر, هذا لا يعني أنني لا أحبُّ الصّحراء, بمثلثاتها الذهبيّة وحكاياها الجميلة, التي تجعل عيني تمدُّ النظر, وترجعني إلى امرئ القيس وحبّي له لا عليكم من تخيّلاتي نعود للبحر..! تلك الطبيعةُ تمارسُ لعبة التغيّرُ والإبداع, ليقفَ هذا الإنسان الضّعيف أمام هذه الأطنان من الرّوعة, ليقولَ: سبحانكَ اللهم ما خلقتَ هذا عبثاً ..! لكلِّ شيءٍ في هذه الحياة جمال, وهناك فرق بين الإنسان الذي ينظرُ للأشياء بجمالِ وبين آخر يضع التشاؤم والقبح في عينه وفؤاده, كل شيء في هذه الحياة هو مدعاة للتفكير والأخذ والردّ والتأمّل, إحدى نعم الله علينا "نعمة التأمّل" تلك الّتي تتقلص مع قادم الزمن, وسيره نحو الأمام, ما أجملَ قرص الشّمس عند المغيب وكأنه يختفي خلف البحر فقد كان طوال النهار مستيقظاً ملأ جفونه, والخلق منهم من يحيا ومنهم من يختصم ومنهم من يتململ منه..! فيتدرّج هذا القرص بالنزول شيئاً فشيئاً حتّى يذهب لِمَا وراء البحر, حتّى لكأنها تلك لشمس تأوي لحبيبها الأجمل والأفخم "البحر" فتلتحفُ بهِ لعلّه هو أمانها, ولعلّها هي حرارته ودفئه, كلاهما يكمّل الآخر, وإلا لما استطاعا هذان الثنائيّان أن يُخرجا منظر الغروبِ البحري بكلِّ هذا الجمال والأبهة والإدهاش, ما يغري بالشمس الملتحفة ببحر أو العكس, هو تدرج لونها عند المغيب من الأصفر للبرتقالي, للأحمر الغامق قليلاً, وكأنّها عروسٌ تُظِهرُ جمالها كُلَّ يومٍ وتقيمُ حفلةَ عُرسٍ كُلَّ شروق وغروب, حيث أنّها لا تشيخ ولا تكبر, تلك حقيقيّة التأنيث لا مجازيته ولا أيّ شيء, إنّها الأنثى الأجمل..! وعلى الرغم من ذلك فإنّ لها أشعّة تخرج وقت الذّروة فقد تصيب بضربة شمسٍ أو ما إلى ذلك هي كتلك الحسناء التي تملك الجمال وتتمنع وتأبى أيّ محبّ, فليس أيُّ أحدٍ يصلُ إليها, فأشعّتها كفيلة بإقصاء الدّخيل واللامستأهل بهذا الكون الأجمل, لحظات الشروق والمغيب برفقة البحر لها رومانسيتها الخاصّة وتأمّلها الجميل, كان لي اعتقاد والآن توثّق بأنّ أهل البحر ومن يكونون بجانبه قد ولدوا بجانبه بصرخاتهم يعلنون ميلادهم مع اضطراب أمواجه ليسوا كأهلِ الصّحراء, هم جميلون بفطرة البحر, شعراء بفتنة الموج والمدِّ والجزر, لا شكّ أنّ أهل البحر لهم الكثير من طِباعه وجنونه, يحملون كثيراً من صفاته ويعلّقون أسمال تجاربهم على هيجانه واضطرابه, كيف يكون البحر وأهله..؟! هل لديهم حوريّات مثلاً..؟! وهم بشر ..! وإذا أراد أحدهم أن يتزوّج كان المهرُ أن يبحث العريس لعروسه عن أجمل لؤلؤة وأحلى مُرجانة, لتكون عربون حبّ وجمال..!