المبذرون
لربما يتبادر الى اذهان البعض لأول وهلة عند سماعهم لكلمة التبذير انها تعني" كل مادة تنفق فوق الحد المعقول" ولكن يبقى هذا التصور عائما متقطعا غير متماسك مالم يحدد بحدود ويضبط بضوابط فليس كل مادة تنفق فوق الحد المعقول تعتبر من التبذير اما الانفاق نوعان: انفاق للحق وانفاق للباطل . وبهذا الصدد قال مجاهد:" لو انفق انسان ماله كله في الحق لم يكن مبذرا ولو انفق مدا في غير حق كان مبذرا".
ولنرجع الى الرعيل الاول قليلا فنرى اعلم الناس بكتاب الله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال:
" لقد علم اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اني اعلمهم بكتاب الله ولو اعلم ان احدا اعلم مني لرحلت اليه
وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما نزلت الآية " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا اذا ما اتقوا وآمنوا " الى آخر الآية "
قيل لي انت منهم" هذا الصحابي الجليل هو عبد الله بن مسعود الذي عندما عرف التبذير جاء تعريفه شاملا دقيقا عندما قال فيه انه " ما انفق بغير حق" بلي كل شيء انفق بغير حق من مال ووقت وكلام فهو من التبذير وهذه صفة من صفات الشيطان وزمرته انهم ينفقون دون ملل ولكنها نفقات باطلة فمنهم من يتلذذ بهذا العطاء الباطل فتراه يحدث الناس بالباطل حتى يسرف فيه ويرمي اصحاب الحق بما ليس فيهم حتى انه يكون سببا في تجنب الكثير من الالتحاق بعصبة الحق خوفا مما حيك حولهم . وكيف يعيش هؤلاء وقد اصبحوا اخوة للشيطان
" ان المبذرين كانوا اخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا" ترى ما النهاية التي تنتظر ذلك الانسان الذي يحمل بين يديه برميلا من الزيت لا يريد ان يلقيه وهو يعلم ان الطريق الذي يسير فيه موصل الى نار؟؟؟
نعم يكون اخاً للشيطان كل من انفق من ماله ووقته وكلامه بغير الحق وهو من اخطر الامراض التي تصيب الدعاة فنرى بعضهم ينفقون اوقاتا كثيرة ساعات تلو الساعات على الموائد يناقشون بها مواضيع تبدو في ظاهرها انها حق وما هي الا ضرب من اللغو الذي لا يبنى عليه عمل كأن يتناقشوا في الفتنة التي حدثت بين الصحابة او في تأويل بعض الآيات والاحاديث اكثر مما تحتمل او في خلافات فقهية حول احكام لم تقع او في التنقيب عن اخطاء بعض المفكرين الاسلاميين لا من اجل دراسة الاخطاء والابتعاد عنها ولكن للتجريح فقط والتشهير.
ذلك ما انتبه اليه الشيخ حسن البنا وعلم ان من بين صفوف الدعاة من يتخذ ذلك النوع من الكلام هواية له فقال:" وكل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها من التكلف الذي نهينا عنه شرعا ومن ذلك كثرة التفريعات للاحكام التي لم تقع والخوض في معاني الآيات الكريمة التي لم يصل اليها العلم بعد والكلام في المفاضلة بين الاصحاب رضوان الله عليهم وما شجر بينهم من خلاف ولكل منهم فضل صحبته وجزاء نيته وفي التأول مندوحه.
وصنف آخر ينفق ذلك الوقت بتناول مواضيع لا خير فيها ولا نفع.
وعلى هذا يتبين ان التبذير ينقسم الى ثلاثة اقسام.
أولاً - تبذير المال:
قال الله تعالى:" ولا تبذر تبذيرا"
" قال الشافعي رضي الله عنه: والتبذير انفاق المال في غير حقه ولا تبذير في عمل الخير وهذا قول الجمهور.
وقال اشهب عن مالك: التبذير هو اخذ المال من حقه ووضعه في غير حقه وهو الاسراف وهو حرام لقوله تعالى: " ان المبذرين كانوا اخوان الشياطين"
وقوله اخوان يعني انهم في حكمهم اذ المبذر ساع في افساد كالشياطين او انهم يفعلون ما تسول لهم انفسهم او انهم يقرنون لهم غدا في النار"
ثانياً - تبذير الصحة:
وذلك في قول الرسول صلى الله عليه وسلم :
" نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ"فنجد كثيرا من الناس اعطاه الله الصحة الكاملة وابعد عنه الاسقام ولكنه ينفق هذه الصحة التي اعطاها الله اليه في معصية خالقه كأن يستخدم رجليه في الخطو الى اماكن المعصية ويديه في مسك ورفع ما حرم الله والبطش بالناس وعينه في النظر الى ما حرم الله واذا مرض تندم وقام يتمنى ان لو عمل صالحا في صحته.
ثالثاً - تبذير الوقت:
وذلك واضح ايضا في الحديث السابق ذكره - فان هذا المرض لم يقتصر على العامة فقط ولكنه تسرب الى مجتمع الدعاة انفسهم. يقول الامام ابن الجوزي:
قد يكون الانسان صحيحا ولا يكون متفرغا لشغله بالمعاش وقد يكون مستغنيا ولا يكون صحيحا فاذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون وتمام ذلك ان الدنيا مزرعة الآخرة وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط ومن استعملها في معصية الله فهو المغبون لان الفراغ يعقبه الشغل والصحة يعقبها السقم.
من كتاب البيان فى مداخل الشيطان عبد الحميد البلالي