يومياً عند المساء أخرجُ من منزلي قاصداً فرن المعجنات كعادتي كل يوم ....
( زعتر .. جبن .. لبنة من فضلك ..) ، يعطيني إياها الفران وأذهب إلى بيتي ..
كل يوم أمر بجوار ذاك الرصيف .. آه كم آسي لحاله ..., كنت أرثيه : نعم أرثيه أشد الرثاء , ولو كان له كتف لربتّ عليه وطبطبته , لكنه رصيف , مثل ملايين الأرصفة الموجودة بلا سبب إلا لكي يدهسها الناس بأقدامهم ..!
هل سبق وتخيلت نفسك رصيفاً يضع الآخرون أقدامهم عليك ؟ هذا هو حال الأرصفة , إنها مدعوسة مذمومة , ولا أحد يكترث بها , حتى جئت أنا ..
جئت إلى هذا العالم لأتكلم عن الأرصفة وما يجري لها , إنها بلا لسان , وليس لها عقل , ولكن هذا لا يعني انعدام الشعور فيها !
وهي تشعر وتحس وتدرك بيد أنها تعجز عن ترجمة هذا الإحساس إلى كلمات فاتخذتني مترجماً لها , لأن عندي " وصال " معها , فقد كنت أقضي أياماً طويلة من حياتي جالساً فوق رصيف معلوم , رصيف أعرفه جيداً , وأتأمل حاله وهو يصرخ بصمت , يحتج بصمت , يبلع ألمه بصمت مرعب , وهو يقول لي خلسة :
- " اسمعني , أرجوك ! " .
وأنا أسمعه , يخبرني عن نكده , عمّا يجري له .
قال لي الرصيف وهو يبكي بحرقة :
- شعور سيء ذلك الشعور الذي يخامرني حينما يدهسني الناس , إنهم لا يبالون , تجدهم يركضون مسرعين تارة , تجدهم يمشون ببطء تارة أخرى , ولا يسألون عن الكائن الذي يتألم تحت أقدامهم . حتى جئت أنت , أيها النبيل , وبدأت تعرف سرّي , فحسك المرهف يفوق الوصف , ومثلك هو من يُعول عليه لقوّة شعوره وسمو روحه , إننا معاشر الأرصفة هُضمت حقوقنا ولا أحد يعترف لنا بشيء , كأننا لم نوجد قط , كأننا جمادات !
وقتها قلت لصديقي الرصيف :
- عذراً على وقاحتي , ولكن يبدو أنكم جمادات حقاً , أعني أنكم جمادات بنظرنا ..
قاطعني الرصيف وهو يزجرني :
- نعم نعم ها أنت قلتها , بنظركم فقط , فمن أنتم بالله عليكم ؟ أنتم مجموعة من القساة الطغاة المتجبرين , أنتم حيوانات ناطقة تسيّدتم الطبيعة وتعتبرون أن كل ما لا ينطق هو جماد أخرس , نحن لنا نطقنا , وطريقتنا الخاصة بالعيش , لكنكم لا تفهمونها , فأرجوك أيها الإنسيّ , لا تجعلني أغير نظرتي تجاهك , لقد أصابني الاطمئنان لمّا رأيتك فلا تجعلني أشعر بالندم على ثقتي بك .
أخذت أفكر في كلام الرصيف البليغ والذي أدهشني وأذهلني ومن ثم أخبرته :
- اطمئن يا صديقي فكلامك كله أضعه في الميزان وكفته ترجح على كل كفة !
كان الرصيف متشائماً , متجهّماً , وهو يبكي , وينظر إلى الأشجار المجاورة له , كانت أشجاراً يابسة وليس لها لحاء , كانت أغصانها تتهدّل وتوشك على ملامسة الأرض , وفيها شوك حاد يُدمي اليد المتطفلة التي ستلمسه , ذهبت إلى الشجرة , كان الرصيف ينهاني ويحذرني من ملامستها , ولكني أمسكت بها بكلتا يدي حتى نزفتا دماً , كسرت الأغصان البلهاء كلها , قمت بهز الشجرة حتى أوشكت على السقوط , ثم ذهبت إلى الرصيف ومددت له يدي لأقول :
- ماذا ترى ؟
- أرى دماً أحمر , لماذا تفعل ذلك بنفسك ؟
مسحت الدم على الرصيف , وقلت له :
- هذا ما يحدث حينما تكون إنساناً , فكف عن النواح , واعرف أنك محظوظ , محظوظ جداً لأنك رصيف من الأرصفة . إنك جماد , ويجب أن تكون صلباً , وأن تتحدى , وأن تتجاهل الأقدام الداهسة لحين حيازتك لقدم ضخمة تدهس بها كل من يجرؤ على الاقتراب منك , ستقول لي أنك رصيف , ومن المستحيل أن تملك قدماًَ في يوم ما , ولكن إن لم تكن لديك قدم في هذا الوجود فحاول , وإن لم تستطع , فانتقل إلى العدم أحسن لك ! صدقني أيها الرصيف الذي اصطفاني للكلام من بين جميع بني الإنسان , صدقني أن الجميع مدهوسون في هذا الوجود الأحمق .
اقتنع الرصيف بكلامي ..
شاهدني أبتعد عنه , أذهب إلى مكان آخر , ليس فيه أرصفة ولا شوارع ولا شجيرات بلهاء ولا حتى سماء ولا غيوم , كنت أختفى ببطء , أذوب في فراغ مطبق , وكان الرصيف صامتاً يرمقني وليس عنده نية في معارضة قراري , تلاشيت , اختفيت , ذُبت مثل قطعة ثلج في ماء ساخن , تبخرت تماماً حتى افتقدني رصيفي وهو يقول :
- لقد انتقلَ هذا الإنسي اللطيف إلى العدم , وخسرت بذلك أهمّ صديق لي !