فجأة وبلا مقدمات .. تغيرتْ معاملته.
تحوُّلٌ مباغت وانعطاف حاد، يشبه الصفعة على الوجه من شخصٍ لم تكن تتوقع منه غير ابتسامة ودودة أو عناق حميم ..
بدأ يدخل عابساً، ويخرج مقطب الجبين وينتقد كل صغيرة وكبيرة.
فارقت الابتسامة وجهه ، وحلتْ محلها تقطيبة وجه مستديمة.
يعاف الأكل ويأتي وقد تناول كل وجباته خارج المنزل، وهو الذي كان يمتدح ما تصنعه يديها.
تجلس بجانبه وهي في حيرة من أمره، فيبعدها بتلويحة من يده ..
فتبتعد عنه والحزن يذبحها ويزلزل كيانها ..
تسأله فلا تجد إجابة ..
أيُعْقَل أن يكون هذا هو زوجها وحبيبها ..؟
وهو الذي كان يدخل ويخرج وراءها كطفل مدلل، من المطبخ إلى غرف الأطفال، إلى الصالة، يتبعها كظلها وهي تقوم بأعباء المنزل يبثها النجوى ويحكي لها كل أحداث يومه، ويشاورها في كل صغيرة وكبيرة ..
كانت تعاتبه ضاحكة : ( خليني أشوف شغلي بعدين نتونس ) ..
ولكنه كان يصر على تتبعها كظلها ..
أما الآن ..
ها هو يصرخ في وجه الأطفال إن علا صوتهم في صخبِ لعبهم.. فيهرعون إلى حضنها فزِعين .. وتمتد يده بالضرب إن جاءه أحد أطفاله شاكياً .. وهو الذي كان تدمع عيناه إن رأى طفلاً يبكي.
ثم جاءت الطامة الكبرى ..
يأتي قبيل الفجر ويتسلل إلى غرفة نائية ويغط في نوم عميق ...
بينما هي ساهرة تتجاذبها الشكوك والظنون قلقا عليه..
صارحتْ صديقة عمرها وغصة تقف في حلقها ودمعات عصية تقف على أطراف المآقي.
ارتمت على كتف صديقتها الحميمة وانفجرت باكية.
صديقتها المحنكة وفي نبرة الواثق همست في أذنها: أتريدين نصيحتي؟
قالت كالمتشبثة بقشة بين أمواج متلاطمة : طبعا بلا شك.
فقالت صديقتها بنبرة الخبيرة : أتركية .... امتصي كل غضبه ولا تناقشيه... رددي إثر كل خلاف جملة واحدة ( أنا غلطانة .. حقك على ) .. وحاولي أن تبعدي الأطفال عنه .. ولا تسأليه لم تأخر أو أين كان؟
قالت وصورة زوجها المتغيرة تتراقص أمامها : حسنا ... سأصبر وأرى.
فأسكتتها صديقتها بأن وضعتْ يدها على فمها : ليس لديك غير العمل بنصيحتي والصبر ..
طبَقتْ نصيحة صديقتها بحذافيرها ... وضعتْ كل أعصابها في ثلاجة .
وهو يزداد ثورة وهيجاناً و كأنه يريد سبباً لينفجر غضبا .
تمتص غضبه في صبرٍ وأناة، وتمد له حبال الاعتذار بالرغم من أنها لم تخطيء..
تتلقى إهاناته .. وكأنها لم تسمع شيئاً ..
تسهر الليالي .. ثم تغمض عينيها إن سمعتْ صوت المفتاح يدور في الباب كأنها غارقة في سباتٍ عميق.
لمدة طويلة لم تسمع منه كلمة تخفف عنها هذا العذاب اليومي ..
والحيرة تكبر في دواخلها ..
تيأس أحياناً من نصيحة صديقتها وتفكر في ترك البيت .. فيصيبها الهلع لهذه الفكرة المجنونة القاتلة ..
تارةً يشدها حبها له ولأطفالها .. فتلوك الصبر وتبلعه مع مرارتها صباحا ومساء ..
تصالحتْ مع حالتها .. وتيقنَتْ أن حياتها السابقة أصبحت ذكرى طواها النسيان.
قبعت منزوية في إحدى أركان بيتها تنتظر أوامره اليومية .. وتفلتاته المستمرة ..
خَدَرَها الألم تماماً .. وفقدتْ الأمل ..
يبِستْ روحها .. وتضعضع إيمانها ..
وذبلتْ زنابق كثيرة كانت تزين قلبها ..
جفَتْ ابتسامتها .. ونضب معين ضحكاتها التي كانت تملأ أرجاء البيت.
ليلتها ..
نام الأطفال .. واطمأنت على مرقدهم .. وأطفأتْ الأنوار ..
وهجعتْ إلى مخدعها تتلو آيات الصبر في ظلام غرفتها .. وتنحدر دمعات حارة تبلل خديها ..
وراحت في غفوة .. ما بين النوم واليقظة ..
تتقاذفها حزم من الإحباط وبصيص من قبس الأمل المنزوي بين حنايا حبها له ..
كادت الإغفاءة أن تنزلق إلى مراتب نومٍ تراوده الكوابيس ..
سبحتْ ما بين اليقظة وأضغاث الأحلام ..
أحسَتْ بيدٍ تربت على خدها برفق .. وتمسح عليه بتحنان ..
إنتصب في داخلها إحساس قديم تعرف كنهه .. وتعرف أدق خباياه.
وحتى لا تصحو من هذا الحلم اللذيذ .. لم تفتح عينيها .. ولم تتفوه بكلمة ..
بل إستمرأتْ هذا الشعور اللذيذ وراحت هائمة بين موجاته الهامسة ..
جعلتْ اليد تمشي على خدها ببطء جيئة وذهاباً ..
ثم إنساب ذاك الصوت الدافيء ليغمر كيانها كله ..
الصوت التي تستطيع أن تفرز حباله من بين آلاف الأصوات ..
ثم سمعتْ إسمها في همسٍ ذكَّرها بأول ليلة لها معه .. عندما قال أحبك يا سنا الروح ..
إنتفضتْ مذعورة لتجده بشحمه ولحمه جالساً على حافة السرير ..
ورغم الظلام الدامس .. قرأتْ تعابير وجهه .. وأنفاسه المتلاحقة تلفح وجهها .. تكاد تسمع وجيب قلبه ..
مدتْ يديها ولامست خديه .. فوجدتهما مبللتين ..
وعندما قرّبته إليها برفق وتؤدة .. إرتمى بين أحضانها سريعاً ملبياً نداء الشوق الغامر.. فأحسًتْ ببكائه المكتوم .. وشهقاته المتقطعة .. فراحت تهدهده كطفلٍ جافاه النوم ..
وراحا في عناق طويل ..
عناق يختزل كل الكلام الذي كان لا بد له أن يقال للتعويض عن الشهور الفائتة ..
أحستْ بأن جسدها قد تحرر من ربقة إثمٍ كان مفروضاً عليها .. إثمٌ لم تقترفه ولكنه كان يدلق سمومه على روحها فيغلفه بغلاف داكن ..
غسل بكاؤه كل صدأ روحها .. وحرر عناقه دواخلها من أسْر عبودية إحباطاتها وكآبتها ..
وتلاشى ألمها النازف ..
وسكن جسدها طمأنينة محببة ..... فإرتعشتْ وأهتز كيانها ..
لم تعرف ماذا تريد أن تفعل وقتها .. هل توقظ أطفالها ليشاركوها هذه اللحظة التي لن تنساها .. أم تطلق زغرودة وليحدث ما يحدث.
لم ير عينيها وهما تبرقان في الظلام غير مصدقة أن الذي يرقد مستكيناً بين يديها هو زوجها الذي عاد إليها ..
ولكنه أحس أنها سامحته .. بكل ما تحمل الكلمة من معنى ...
( أعرف أن قلبك كبير .. أرجوك ســامحيني ) .. وأختنق صوته بعبرة فتوقف عن الكلام فعاودت هدهدته وكأنها تقول ( أعرف كل شيء .. المهم إنك رجعت لي ) ..
وشهدتْ نجوم تلك الليلة أروع مناجاة هامسة كزقزقة العصافير عند تباشير الفجر ..
وعادت أهازيج الفرح تملأ أركان البيت ..
سألتْ صديقتها : تُرى ما السبب الذي غيره ثم أعاده لي مرة أخرى ؟
قالت لها صديقتها وابتسامة نصرٍ و ثقة على أطراف شفتيها :
أولاً لا تسأليه عن السبب أبداً .. أتركية و هو بعد فترة سيحكي لك لا محالة، ثانيا : وهو المهم أنه الآن بات يعرف بأن حياته من غيرك .....
وسكتت صديقتها تاركةً لها إكمال هذه الجملة التي يمكن تكملتها بكلمات تملأ عدة صفحات...
فتمتمت الزوجة بكلمة واحدة أكملتْ بها جملة صديقتها، ولكنها كلمة كانت بمثابة بلسم لكل أوجاعها.
***
جلال داود