قبائل الفايكنج ..
كانت المنطقة التي تعرف اليوم بالنرويج والدنمرك والسويد وأجزاء من روسيا الحالية هي الموطن الأساسي للمجموعات البشرية التي عرفت في التاريخ باسم الفايكنج . وكانت هذه المجموعات وثنية ، ولم يحدث أن إحتكت أو اتصلت بعد بأي من أصحاب الديانات السماوية ، لتحدد موقفها من هذه الديانات ، وكان الاتصال التبشيري المسيحي بهذه الدول متأخر عنه في بقية البلدان الغربية ، لذلك فإن تحول هذه المجموعات للمسيحية ومن بعدها أحفادها جاء متأخرا ، إذ أن عمر المسيحية كديانة رسمية ، لا يزيد في هذه البلدان عن ألف عام ، وكان رجال الدين الذين قاموا بالبعثات التبشيرية الأولي ، ينظرون للفايكنج بخوف شديد ، لما عرف عنهم من إرتياد أعالي البحار والمحيطات للتجارة والقرصنة ، وقد غلبت عليهم الصفة الأخيرة مقترنة بوثنيتهم البدائية التي طغت عليها السلوكيات العنيفة ، وهذا كله مصدره كتابات الغربيين أنفسهم عن الفايكنج وسلوكياتهم . وفي جانب آخر ، تركت مجموعات الفايكنج البشرية ، بعض آثارها وعلاماتها الشكلية ، في بعض البلدان التي زارتها أو أقامت فيها بشكل مؤقت ، كما في أسماء بعض الأماكن في إنجلترا أو إسم روسيا الحالية فهو منسوب إلي اسم قبيلة من قبائل الفايكنج (روس) ، لذلك فاسم روسيا الدولة الحالية يكتب في اللغات الاسكندنافية الآن ( روسلاند ) أي بلاد ( آل روس) نسبة إلي تلك القبيلة الفايكنجية . كل هذا المشهد الفايكنجي في عاداته وتقاليده ، في علاقاته زمن السلم والحرب ، كيف عاشها ابن فضلان ؟ ، وماذا يبقي من ذلك الوصف لدى أحفاد الفايكنج اليوم ؟.
رحلة إبن فضلان
تنفيذا لأوامر الخليفة المقتدر بالله ، بعد وصول كتاب المش بن يلطوار ملك الصقالبة ، طالبا الدعم والمساعدة ، تم تشكيل وفد الخليفة المقتدر بالله كما سبق أن اشرنا متضمنا أحمد بن فضلان ، لتكون مهمته ضمن الوفد قراءة الكتاب عليه وتسليم ما أهدي إليه والاشراف علي الفقهاء والمعلمين .
غادر الوفد المذكور ، مدينة السلام بغداد يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر ، سنة تسع وثلاثمائة هجرية الموافق حزيران 921 ميلادية ، متوجها نحو البلغار عاصمة ملك الصقالبة ، واعتمادا علي توليف خط سير الرحلة من كافة النسخ والمقاطع التي تكون منها الشكل الأخير لرسالة ابن فضلان يكون خط السير كالتالي ، وهو الذي إعتمده الدكتور حيدر غيبة في الطبعة العربية للرسالة ...
1 ـ بلاد العجم والترك
2 ـ بلاد الصقالبة
3 ـ الروسية
4 ـ الاسكندنافية
5 ـ بلاد الخرز
وهذه الطبعة ، تضمنت الجزء الخاص بزيارة ابن فضلان لاسكندنافيا ، التي خلت منها الطبعة الأولي التي حققها الدكتور سامي الدهان ، رغم أن هذا الجزء يعادل في حجمه ثلثي صفحات الرسالة تقريبا . ولما كان الهدف من هذه الدراسة استقصاء الكتابات العربية حول اسكندنافيا ، سوف تقفز عن المحطات أو الأقطار الثلاثة الأولي في رحلة ابن فضلان ، لتصل إلي إسكندنافيا . الاتصال الأول بالفايكنج
أطلق ابن فضلان اسم الروسية علي السكان الذين إلتقاهم في بلاد روسيا الحالية ولكن الاسم كان قد اطلق علي البلاد نسبة إلي قبيلة روس الفايكنجية التي استوطنت تلك البلاد قديما ، وهي القبيلة الاسكندنافية الأولي التي إلتقاها إبن فضلان . كيف كان الإنطباع الأول له إزاء مناظرهم وملابسهم الخارجية ؟
" ..رأيت الروسية وقد وافوا في تجارتهم ، ونزلوا علي نهر إتل ، فلم أر أتم أبدانا منهم كأنهم النخل ، شقر حمر ، لا يلبسون القراقط و لا الخفاتين ، ولكن يلبس الرجل منهم كساءا يشتمل به علي أحد شقيه ، ويخرج إحدي يديه منه ، ومع كل واحد منهم فأس وسيف وسكين ، لا يفارقه جميع ما ذكرناه وسيوفهم صفائح مشطبة افرنجية ، ومن حد ظفر الواحد منهم إلي عنقه مخضر شجر وصور وغير ذلك " .
تلك كانت صورة أو منظر الرجل من الفايكنج قبل ألف وثمانين عاما ، أما صورة أو منظر المرأة منهم ..( وكل امرأة منهم علي ثديها حقة أو وعاءا معدنيا أو خشبيا مشدودة إما من حديد و إما من فضة أو من ذهب علي قدر مال زوجها ومقداره ، وفي كل حقة حلقة فيها سكين مشدود علي الثدي أيضا ، وفي أعناقهن أطواق من ذهب وفضة ، لأن الرجل إذا ملك عشرة آلاف درهم صاغ لامرأته طوقا ، وإن ملك عشرين ألفا صاغ لها طوقين ، وكذلك كل عشرة ألاف درهم يزداد طوقا ، فربما كان في عنق الواحدة منهن الاطواق الكثيرة " .
علاقاتهم الاجتماعية
( ... ويجتمع في ا لبيت الواحد العشرة والعشرون والأقل و الأكثر ، ولكل واحد سرير يجلس عليه ، ومعهم الجواري الروقة للتجار ، فينكح الواحد جاريته ورفيقه ينظر إليه ، وربما اجتمعت الجماعة منهم علي هذه الحال بعضهم بحذا بعض وربما يدخل التاجر عليهم ليشتري من بعضهم جارية فيصادفه ينكحها فلا يزول عنها حتى يقضي إربه ..) و ( .. يعير أهل الشمال أهمية كبري لواجب المضيف ، فهم يحيون كل زائر بحرارة ويحسنون وفادته ويقدمون له الكثير من الطعام والثياب ، ويتبارى الأعيان والنبلاء من أجل الحصول علي هذا الشرف ، وقد مثل فريقنا أمام "بوليويف" حيث أولمت لنا وليمة عظيمة ، وقد أشرف بيوليويف بنفسه عليها ... تظاهر فريقنا بالاستمتاع بالطعام ، تقديرا لشرف الوليمة ، رغم أن الطعام كان رديئا ، وتخلل الحفل كثير من قذف الطعام والشراب ، ومن الضحك والمرح ، وقد كان شائعا وسط هذا الاحتفال الجامح أن تري أحد الأعيان يمارس الحب مع إحدي الجواري على ملء النظر من زملائه .. أمام هذا المنظر ، إستدرت وقلت .. استغفر الله . فضحك رجال الشمال كثيرا على إرتباكي ، وقد ترجم لي أحدهم أنهم يعتقدون أن الله ينظر بعين الرضا إلي المسرات المفتوحة ، وقال لي ( إنكم يا معشر العرب ، مثل عجائز النساء ، توجفون وترتجفون أمام منظر الحياة ..)