أخميم .. مدينة التسامح بين نسيج الأمة الواحد
· خرج منها إثنا عشر ألف من سحرة فرعون يوم ألقى موسى بعصاه !
· المقريزى يصف معبد أخميم بأنه إحدى عجائب الدنيا الثلاثين .
· كانت فى أخميم كنيستان يخرج الأقباط منهما إحتفالاً بعيد الشعانين وهم يحملون البخور والصلبان والأناجيل والشموع ومعهم الأعيان من المسلمين .
· تعاقب عليها اليونان والرومان .. وعرف فيها الاقباط تسامح المسلمين .
لما جاء العرب إلى مصر وشاهدوا آثارها وحضارتها من أهرامات شامخة وتماثيل ضخمة لم يشهدوا لها مثيلاً من قبل ومعابد ومصانع وهياكل ومدن معمورة وحضارة مزدهرة دُهشوا لما رأوا ووقفوا أمامها مشدوهين . ولم يسعهم إلا أن يسموها عجائب . فها هو "المقريزي" يقول : إن عجائب الدنيا ثلاثون . وعد «بربا» أى أخميم من هذه العجائب بما فيها من صور وأعاجيب. وقد حاول المؤرخون أن يعرفوا سر أعجوبة «بربا» أو معبد أخميم . وبالتالي حاولوا أن يعرفوا نشأة هذه المدينة أخميم وذهب بعضهم إلى أن الذي بناها ملك يسمى «أخميم». ومن المؤرخين من ربط نشأة المدينة وبناء المعبد البربا.
وذكر المقريزي أنه كان بها اثنا عشر ألف عريف من السحرة يُقال أن فرعون استعان بهم يوم ألقى موسى العصا.
كانت أخميم تمثل المقاطعة التاسعة من مقاطعات جنوب مصر. وكانت مصر كلها تنقسم الى 42 مقاطعة منها عشرون مقاطعة بالوجه البحري والباقي بالوجه القبلي .
وهذا العدد (42) يماثل عدد القضاة الذين يجلسون في محكمة الآخرة . ليحاكموا الميت على ما قدمه من أعمال خيرة أو شريرة في حياته .. وتبدأ هذه المقاطعات من الجنوب إلى الشمال تماماً كما يجري النيل من الجنوب الى الشمال .. والمقاطعة عبارة عن منطقة زراعية تحكمها العاصمة التي يتبعها عدد من البلاد والقرى .. وكانت المقاطعة التاسعة هي «خنتامين» أو «برمين» يعني بيت الإله «مين» وهذا هو الاسم الديني «لأخميم».. أما الإسم السياسي فهو «آبو» وكانت هذه المقاطعة تشمل «أدريبة» التي تقع بالقرب من الدير الأبيض دير أبي شنودة غربي سوهاج .. وكانت تسمى «حات ربيت» كما كانت تشمل جرجا التي كانت تسمى «مري آمون رعمسيس» ومعناه مؤسسة رمسيس الثاني محبوب أمون . وقد أشار الدكتور سليم حسن في الجزء السابع من كتابه مصر القديمة إلى أن تحتمس الثاني وهو من ملوك الأسرة الثانية عشرة كلف رئيس معبد أوزوريس «بالعرابة» أن يشرف على كهنة الإله «حور» في معبد «مين» بأخميم . ولاشك أن هذا المعبد لم يبنَ في عصر واحد .. بل توالت عليه العصور والسنون بالزيادة حتى أصبح معبداً كبيراً يزيد حجمه مرتين ونصف عن معبد الكرنك بالأقصر ، الذي يعتبر أكبر معبد في العالم .
معابد "المرمر" :
وقلما تُذكر مدينة أخميم في كتاب من كتب الخطط أو الرحلات إلا وتذكر معابدها التي أُعجب بها الأقدمون ، ونزحوا إليها من جميع الأقطار ، ووصفوها بإعجاب شديد . يقول «المقريزي» أنها كانت مبنية بحجرالمرمر , وقد بلغ طول الحجر الواحد خمس أذرع في سمك ذراعين .. وهي سبعة دهاليز .. سمي كل دهليز على اسم كوكب من الكواكب السيارة .
وسقفها من الحجارة ، طول الحجر منها ثماني عشرة ذراعاً في عرض خمس أذرع ، مطلية جميعها باللازورد وغيره من الأصباغ التي يحسها الناظر كأنها فرغ الدهان منها في ثوان .. وكانت جميع جدرانها منقوشة بصور مختلفة الهيئات فيها رموز العلوم من الكيمياء والسيمياء والطلسمات والطب والنجوم والهندسة وغيرها . ويقول الأندلسي في تحفة الألباب " "وكان لبربا أخميم أربعة أبواب يدخل الواحد من بابها فيجد بيتاً كبيراً مربعاً ، له أربعة أبواب أخرى ، من أي باب خرج يجد بيتا مثله .
وهم آلاف من البيوت المظلمة لا يدخلها شمس ولا قمر , ولا يصلها الضوء إلا من الباب الذي دخل منه ، فكانوا يدخلونها وبأيديهم السرج والشموع . يقيدونها في منتصف النهار، ويصعدون في مواضع في حيطانها درجات كالسلم فيصلون الى بيوت أخرى كالغرف فوق هذه البيوت على قدها وهيئتها" . ويقول ابن جبير : "ومن أعجب الهياكل المتحدث بغرابتها في الدنيا هيكل عظيم في شرقي أخميم طوله مائتا ذراع وعشرون ، وسعته مائة وستون ذراعا يُعرف عند أهل هذه الجهة «بالبربا» وكذلك يُعرف كل هيكل عندهم وكل مصنع قديم" .
وقد قام هذا الهيكل العظيم على 40 سارية عمود قطر كل منها خمسون شبرا وبين كل سارية وأخرى مسافة 3 أشبار . ورأسها في النهاية من العظم ، قد نحُتت نحتا غريباً فجاءت بديعة الشكل كأن الخراطين تناولوها وهي كلها مزركشة بأنواع الطبقة اللازوردية وسواها ، وكلها منقوشة من أسفلها الى أعلاها ، وقد انتصب على كل سارية منها إلى رأس صاحبتها التي تليها لوح عظيم من الحجر المنحوت طوله 56 شبراً طولا , وعشرة أشبار عرضا وثمانية اتساعا.
هذا الهيكل كله من أنواع الحجارة المنتظمة. فجاءت كأنها فرش واحد . وقد انتظمت جميع التصاوير البديعة والأصباغ الغريبة حتى يخيل للناظر أنها سقف من الخشب المنقوش والتصاوير على أنواع في كل بلاطة من بلاطاته . فمنها ما قد جللته صور لطيور رائعة باسطة أجنحتها ، تُوهم الناظر إليها أنها تهم بالطيران , ومنها ما قد غطته صور آدمية رائعة المنظر والشكل ، وداخل الهيكل العظيم وخارجه وأعلاه وأسفله تصاوير كلها مختلفة الأشكال والصفات ، فمنها تصاوير هائلة المنظر خارجة عن صور الآدميين . يستشعر الناظر إليها رعبا ، ويمتلئ عجباً .
فيحسب الناظر استعظاما له أن الزمن لايكفي لمجرد نقش رقعة صغيرة من هذا الهيكل .. وعلى أعلى هذا الهيكل سطح مفروش بألواح الحجارة العظيمة وهو في غاية الارتفاع . وداخل هذا الهيكل من المجالس والزوايا والمداخل والمخارج والمصاعد ما تضل فيه الجماعات من الناس . وعرض حائطه يبلغ 18 شبراً وهو كله من حجارة مرصوصة بنظام بديع. ولم يبق من هذه المعابد إلا بعض حجارة عليها نقوش من الأسرة الثانية عشرة وبعض أطلال من عصر البطالسة ، وكذلك لم يبق من المحراب الثاني الذي أقامه «تراخان» لبرسيه «برسيوس» في الجهة البحرية الغربية إلا بعض أحجار . أما المصلى التي أحتفرها الملك «آبي» من الأسرة الثانية عشرة بالجبل ، لايزال باقيا الى الآن ، وفي سنة 1844 اُكتشفت جبانة واسعة فوق الجبل على مسافة ساعة من أخميم من الجهة البحرية ، وعلى مسافة 6 كيلو مترات من قرية الحواويش فاستخرج منها كثير من التوابيت وصفائح القبور والتماثيل الصغيرة وغيرها ، ويوجد فيها وراء الحواويش فوق الجبل مقابر كثيرة بعضها من الدولة القديمة وبعضها من الدولة الحديثة .
مقصورة الملك آبى
وعن مقصورة الملك «أبي» في قرية السلامون بالجبل يقول سليم حسن : "إن «حور ماع خرو» قد أصلح هذه المقصورة وهو رئيس كهنة الإله «مين» في عهد «بطليموس الثاني» "وأورد ترجمة نقوش هذه المقصورة ويتضح منها كيف تعانقت الآلهة المصرية مع الآلهة الاغريقية ، ونعود للاكتشافات التي بدأت في 1981 حيث عثر على تمثال «ميريت آمون» وقد وُجد مكسور الساقين ولم يُعثر عليهما ويبلغ طوله بدون الساقين حوالي سبعة أمتار ويقول البعض أنه أطول تمثال لملكة أو أميرة مصرية .
أما عن صاحبة التمثال فيقال أنه في بادئ الأمر لم يتأكد علماء الآثار من شخصية صاحبته ، فاتجه العلماء إلى الاعتقاد بأنها الملكة«تي» لأنها منحدرة من أخميم وقد عاشت مدللة لها الأمر والنهي وكلمتها أشبه بالقانون إبان عصر زوجها « أمنوفيس»الثالث من حوالي 3300 عام . وهما والدا «أخناتون» . وعلى رأس من قال بهذا الرأي د. سيد كريم , أما الرأي الثاني اتجه الى أنها ربما تكون نفرتاري الجميلة . بينما ذهب علامة المصريات لبيب حبشي والدكتور أحمد قدري رئيس هيئة الآثار وغيرهم إلى أنها إبنة رمسيس الثاني ، والتي تزوجها في كهولته ، إذ حكم مصر 67 عاما , ومن المعروف أن لديها 150 ولداً وبنتاً تزوج منهن ثلاثاً .. ويقول العلماء عن ميريت أمون أنها جميلة المحيا مضيئة لقصرها كلما خطت ، حبيبة سيد القطرين، تقف دائما الى جانب مليكها «رمسيس الثاني» كما يجاور نجم الشمال الجوزاء عازفة شخشيخة سيستروم للآلهة «موت» وعازفة الهارم للآلهة حتحور منشدة طروب لباقي الآلهة ، وهذا ما جاء في الكتابات المنقوشة على التمثال.
أخميم فى عصر البطالمة
ونعبر نحو ثلاثين قرناً من الزمان حكمت فيها مصر ثلاثون أسرة مصرية وإن كان الفُرس قد فتحوا مصر عام 525ق. م إلا أنه تخلل حكمهم فترات كانت تحكم فيها مصر أسرات وطنية لمدد قصيرة ، مثل الثلاث أسر الأخيرة للفراعنة .. ثم فتح الإسكندر الأكبر مصر عام 332ق. م . وعقب وفاته اقتسم قادة جيشه مُلكه ، فكانت مصر من نصيب «بطليموس» . ومنذ ذلك الوقت قامت دولة البطالمة أو «البطالسة» في مصر والتي استمرت حتى عام 30 ق. م وبهذا انتقلت مصر من العصر الفرعوني إلى العصر اليوناني ، وفي هذا العصر نسمع ذكراً لمدينة أخميم التي سماها اليونانيون« بانوبوليوس» وتعني مدينة « بان» أحد آلهة اليونان القدماء .. كما وردت في كتاب هيرودوت في مصر. وقد زعم هيرودوت أن أهل أخميم كانوا يحبون الشعائر اليونانية ويقيمون المباريات الرياضية من أجل «بربسيوس» ويعتقدون أن أصله من مدينتهم ، على أن ما حدثنا به «هيرودوت» عن مدينة أخميم يدل على أن اليونانيين حاولوا أن يصبغوا المصريين بالصبغة اليونانية ، لكنهم لم يستطيعوا أن ينزعوا حب الوطن من نفوسهم ، وسجل التاريخ لمدينة أخميم ثورتها على الحكم اليوناني ، على الرغم من وجود حامية عسكرية يونانية فيها تسمى «هيرموتيب» وامتدت هذه الثورة حتى شملت الصعيد بأكمله.
وحتى بعد أن اعتنق الأباطرة الرومان المسيحية ظهر الاضطهاد في صورة أخرى لتشمل الخلاف المذهبي بين المذهب المالطاني الذي يعتنقه الرومان والمذهب اليعقوبي الذي يعتنقه المصريون .. لهذا نلحظ كثرة الأديرة التي أسسها قدماء الرهبان ومنها دير أخميم الذي أنشأه باخميوس ليقاوم النزعات الفلسفية التي كانت شائعة في أخميم في هذا الوقت ، ومنها دير أبي شنودة ، المسمى بالدير الأبيض ويقع بالجبل الغربي بمحافظة سوهاج .. ويُقال أن في هذا الدير جسد «برتولوماوس» و «سمهان القناني» من تلاميذ المسيح .. أما « أبوشنودة» فهو أخميمي ولد باحدى القرى وترهب في دير قريب .
كان خاله رئيسا له . وكان شديد العداوة للوثنية التي كانت لاتزال قائمة في بعض مناطق الوجه القبلي . فكان يقود جيشا من الرهبان للإغارة على المراكز الوثنية ويدمرها ويغنم ما فيها من الغنائم ومن ثم أصبح «أبوشنودة» ذا مكانة عالية في التاريخ القبطي .. ومازال الأقباط حتى اليوم يقيمون له مولدا في كل عام . وفي العصر الروماني المسيحي نُفيَّ الى أخميم زعيم من زعماء المسيحية هو «نسطورس» بطريرك القسطنطينية سنة 531م فعاش في أخميم سبع سنوات ، وتوفي ودُفن بها وكان قبره معروفا في القرن العاشر الميلادي كما يقول المسعودي في كتابه التنبيه والاشراف .
ومن أديرة هذا العصر « دير أبي هرمينة» الذي حدد المقريزي موقعه فقال : "إنه بحري «قاو» الخراب بالقرب من «برباها» ودير «السبعة جبال»" الذي يقول عنه المقريزي : "هو دير عال بين جبال شامخة داخل سبعة أودية ، ودير القرقس داخل الدير السابق ، ودير صبرة نسبة إلى عرب يقال لهم «بنو صبرة» ودير «أبي بشادة» على الضفة الشرقية للنيل" .
وكان في أخميم كنيستان ذكرهما المقريزي هما : كنيسة «اسبوتير» ومعناها المنقذ أو الخلاص وكنيسة «الملك ميكائيل» وهي التي يقول عنها المقريزي : "إنه كان من العادات المتبعة في هاتين الكنيستين أن الأقباط كانوا عندما يحتفلون بعيد الزيتونة المعروف بعيد «الشعانين» يخرجون بالمجامر والبخور والصلبان والأناجيل والشموع المشتعلة ، ويقفون على «باب القاض» ومعهم الأعيان من المسلمين ، فيبخرون ويقرأون من الانجيل ، ثم يطرحون له طرحاً" ، يعني يمدحونه . الى هذا الحد بلغت علاقة المسيحيين بالمسلمين في هذا المكان المصرى الرائع