لَمَّا كَثُر الجدَل في مسألة رؤية الهلال، وتعالَتِ الأصوات بأهميَّة الحساب، واعتِباره دليلاً قطعيًّا على دخول الشهر، وتكلَّم في الموضوع مَن ليس أهلاً للكلام فيه، حتى تخرَّص بذلك الكُتَّاب والصحفيُّون، ومَن لا دِراية لهم بنصوص الشرع ولا بضَوابِطه، ممَّا لم تكن الحاجة مع هؤلاء مُلِحَّة في بيان حكْم الشرع وأدلَّته؛ إذ إنَّ العِلم بالمسألة واضحٌ ومنشور، والدليل عليه مشهور، ولم يُخالِفه مَن يُعتَدُّ بقوله.
لكن لَمَّا تكلَّم بهذا الأمر مَن يُنسَب إلى العلم وإلى الدعوة إلى الله، ممَّن وقَع في زلَّةٍ عظيمة، وهوى في القول بالرأي المُعارِض في حقيقته لدلالات الشَّرع، والمُخالِف لما أجمَعَ عليه أهلُ الدِّرايَة والعلم، وكان سببُ ذلك ما تبنَّاه بعضُهم من أصولٍ فاسدة ترتَّب عليها هذا الاجتِراء، وقادَتْهُم أصولُهم إلى البعد عن الصواب ومُفارَقة طريق الاتِّباع.
ولقد طارَتْ بأقوالهم النقَّال، وانتَشرَتْ هذه الآراء على صفحات المواقع العنكبوتيَّة بين مُؤيِّد ومُعارِض؛ ممَّا حَدَا إلى ضَرورة البيان لهذا الأمر الجليِّ، والحق الصُّراح الذي ورَد فيه النصُّ الصريح، وجزَم به العقلُ الصحيح.
فكان لا بُدَّ من بَيان طريقة السَّلَف في إثبات المَواقِيت والأهلَّة، البعيدة كلَّ البعد عن طريق العصريِّين الحديثة في فرْض مذهبهم وتحسينه للسامِعين؛ إذ إنَّ طريقة السَّلَف وسلوكهم في هذا الباب هو عينُ ما سلَكَه النبيُّ محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصحبه الكرام في البعد عن التعنُّت، ورفْع الحرَج عن الأمَّة.
وكانت هذه الكلمات في العناصر التالية:
في أنَّ القول باعتِبار الحساب دون الرؤيا أو مقيِّدًا للرؤيا ليس هو طريق السلف، ولا يَتماشَى مع صريح النصِّ، ولا مع ما أجمَعُوا عليه، مع إمكانيَّة ذلك في عصرهم، غير أنهم طرَحُوه ولم يعتدُّوا به.
فيما يلي سنُبيِّن أنَّ القول باعتِماد الحِساب الفلكي في إثبات الشهر أو في رَدِّ شَهادة الشُّهود برؤية الهلال، هو قولٌ يُخالِف النصَّ والإجماع والنظَر.
أولاً: في ورود النصِّ بإبطال الحساب في الإهلال ومعرفة دخول الشهر:
• حديث عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - يُحدِّث عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّا أمَّةٌ أميَّةٌ لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا - وعقَد الإبهامَ في الثالثة - والشهر هكذا وهكذا وهكذا - يعني: تَمام ثلاثين))
[1].
يقول شيخُ الإسلام: "قوله: ((إنَّا أمَّة أميَّة لا نكتُب ولا نحسب)) هو خبرٌ تضمَّن نهيًا؛ فإنَّه أخبَر أنَّ الأمَّة التي اتبعَتْه هي الأمَّة الوسط، أميَّة لا تكتُب ولا تحسب، فمَن كتَب أو حسب لم يكن من هذه الأمَّة في هذا الحكم؛ بل يكون قد اتَّبَع غيرَ سبيل المؤمنين، الذين هم هذه الأمَّة، فيكون قد فعَل ما ليس من دينها، والخروج عنها محرَّمٌ منهيٌّ عنه؛ فيكون الكتاب والحساب المذكوران محرَّمينِ منهيًّا عنهما"؛ "
مجموع الفتاوى" ج25.
والمعنى في قوله: ((
لا نكتب ولا نحسب)) هو نفي احتِياج الأمَّة في أمر الهلال إلى كتابٍ ولا حسابٍ؛ إذ هو تارة كذلك، وتارة كذلك.
يقول شيخُ الإسلام: "وقد قدَّمنا فيما تقدَّم أنَّ النفي وإنْ كان على إطلاقه يكون عامًّا، فإذا كان في سِياق الكلام ما يُبيِّن المقصود علم به المقصود أخاصٌّ هو أم عامٌّ، فلمَّا قرَن ذلك بقوله: ((
الشهر ثلاثون، والشهر تسعة وعشرون))، بيَّن أنَّ المراد به: أنَّا لا نحتاج في أمر الهلال إلى كتابٍ ولا حساب؛ إذ هو تارة كذلك، وتارة كذلك، والفارق بينهما هو الرؤية فقط، ليس بينهما فرقٌ آخَر من كتاب ولا حساب كما سنبيِّنه؛ فإنَّ أرباب الكتاب والحساب لا يقدرون على أنْ يضبِطُوا الرؤية بضبطٍ مستمرٍّ؛ وإنما يُقرِّبون ذلك، فيُصِيبون تارةً، ويُخطِئون أخرى.
وظهَر بذلك أنَّ الأميَّة المذكورة هنا صفةُ مدحٍ وكمالٍ من وجوه؛ من جهة الاستِغناء عن الكتاب والحساب بما هو أبيَنُ منه وأظهَرُ، وهو الهلال، ومن جهة أنَّ الكتاب والحساب هنا يدخُلهما غلطٌ، ومن جهة أنَّ فيهما تعبًا كثيرًا بلا فائدة، فإنَّ ذلك شغلٌ عن المصالح؛ إذ هذا مقصودٌ لغيره لا لنفسه، وإذا كان نفيُ الكتاب والحساب عنهم للاستِغناء عنه بخيرٍ منه وللمَفسَدة التي فيه، كان الكتاب والحساب في ذلك نقصًا وعيبًا، بل سيِّئة وذنبًا، فمَن دخَل فيه فقد خرَج عن الأمَّة الأميَّة فيما هو من الكمال والفضل السالم عن المفسدة، ودخَل في أمرٍ ناقصٍ يُؤدِّيه إلى الفساد والاضطراب...".
إلى أنْ قال: "فالكمال والفضل الذي يَحصل برؤية الهلال دون الحِساب، يَزُول بِمُراعاة الحِساب لو لم يكن فيه مفسدة"؛ "
مجموع الفتاوى" ج25.
• حديث النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أنَّه ذكَر رمضان فقال: ((لا تَصُوموا حتى تروا الهلال، ولا تُفطِروا حتى ترَوْه، فإنْ أُغمِيَ عليكم فاقدروا له))
[2].
فهذا مثل جميع أوامر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - التي يجب الامتِثال لها؛ مثل أمره للرُّماة ألاَّ يَنزِلوا من الجبل وإن رأيتمونا تخطفنا الطيرُ، وقد قال - تعالى -: ﴿
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63].
قال ابن تيميَّة: "ما دلَّتْ عليه الأحاديث ما في قوله ((لا تصوموا حتى ترَوْه، ولا تُفطِروا حتى تروه))، كما ثبَتَ ذلك عنه من حديث ابن عمر، فنهى عن الصوم قبل رؤيته، وعن الفطر قبل رؤيته، ولا يخلو النهي إمَّا أنْ يكون عامًّا في الصوم فرضًا ونفلاً، ونذرًا وقضاء، أو يكون المراد: فلا تصوموا رمضانَ حتى تروه، وعلى التقديرين فقد نهى أنْ يُصام رمضان قبل الرؤية، والرؤية الإحساس والإبصار به، فمتى لم يره المسلمون كيف يجوز أنْ يُقال: قد أخبَر مُخبِر أنَّه يُرَى؟ وإذا رُئِي كيف يجوزُ أنْ يُقال: أخبَر مُخبِرٌ أنَّه لا يُرَى؟ وقد علم أنَّ قوله: ((فلا تصوموا حتى ترَوْه، ولا تُفطِروا حتى ترَوْه)) ليس المراد به أنَّه لا يَصومُه أحدٌ حتى يَراه بنفسه، بل لا يَصومُه أحدٌ حتى يراه أو يراه غيره".
• حديث ابنِ عُمر - رضي الله عنهما - قال: سمعتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إذا رأيتُمُوه فصُوموا، وإذا رأَيتُمُوه فأَفطِرُوا، فإنْ غُمَّ عليكم فاقْدرُوا له))؛ متفقٌ عليه، ولمسلم: ((فإنْ أُغمِي عليكم فاقدرُوا له ثلاثين))، وللبخاري: ((فأَكْمِلوا العِدَّة ثلاثين)).
"قال ابن بطَّال: في الحديث دفعٌ لِمُراعاة المنجِّمين، وإنما المعوَّل عليه رؤية الأهلَّة، وقد نُهِينا عن التكلُّف، وقد قال الباجي في الردِّ على مَن قال: إنَّه يجوز للحاسب والمنجِّم وغيرهما الصوم والإفطار اعتِمادًا على النجوم: إنَّ إجماع السَّلَف حُجَّة عليهم"؛ "
سبل السلام"؛ للصنعاني.
• عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتحفَّظ من هِلال شعبان ما لا يتحفَّظ من غيره، ثم يصوم لرؤية رمضان، فإنْ غُمَّ عليه عَدَّ ثلاثين يومًا ثم صام"
[3].
• عن ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تَقَدَّموا الشهرَ حتى تروا الهلال أو تُكمِلوا العدَّة، ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تُكمِلوا العدَّة))
[4].
• قال الله - تعالى -: ﴿
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾ [البقرة: 189].
قال الإمام ابن كثير: "وقال أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: بلَغَنا أنَّهم قالوا: يا رسول الله، لِمَ خُلِقَت الأهلَّة؟ فأنزل الله: ﴿
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ ﴾ [البقرة: 189]، يقول: جعَلَها الله مواقيت لصَوْم المسلمين وإفطارهم، وعدَّة نسائهم، ومَحلِّ دَيْنهم، وكذا رُوِي عن عَطاء، والضحَّاك، وقتادة، والسدي، والربيع بن أنس، نحو ذلك"؛ "
تفسير ابن كثير" ج1.
قال الإمام البغوي: "﴿
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ﴾ [البقرة: 189]، وهي جمعُ هلال، مثل رداء وأردية، سُمِّي هلالاً؛ لأن الناس يَرفَعون أصواتهم بالذِّكر عند رؤيته من قولهم: استَهَلَّ الصبي، إذا صرَخ حين يُولَد، وأهلَّ القومُ بالحج، إذا رفَعُوا أصواتهم بالتلبية، ﴿
قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾ [البقرة: 189] جمع ميقات؛ أي: فعَلنا ذلك ليَعلَم الناسُ أوقات الحج والعمرة، والصوم والإفطار، وآجال الدُّيون، وعِدَد النساء، وغيرها؛ فلذلك خالَف بينه وبين الشمس التي هي دائمةٌ على حالة واحدة"؛ "
تفسير البغوي".
قال ابن تيميَّة: "فجعَل الله الأهلَّة مَواقِيت للناس في الأحكام الثابتة بالشرع ابتداءً، أو سببًا من العبادة، وللأحكام التي تَثبُت بشُرُوط العبد، فما ثبَتَ من المُؤقَّتات بشرعٍ أو شرطٍ فالهلال مِيقات له، وهذا يَدخُل فيه الصيام، والحج، ومُدَّة الإيلاء، والعدَّة، وصوم الكفارة، وهذه الخمسة في القرآن...".
ثم قال - رحمه الله -: "فالمقصود: أنَّ المواقيت حُدِّدت بأمرٍ ظاهِرٍ بيِّن، يشتَرِك فيه الناس ولا يشركُ الهلالَ في ذلك شيءٌ، فإنَّ اجتماع الشمس والقمر الذي هو تحاذِيهما الكائنُ قبل الهلال أمرٌ خفيٌّ لا يُعرَف إلا بحسابٍ ينفَرِد به بعضُ الناس مع تعبٍ وتضييعِ زمانٍ كثيرٍ، واشتغالٍ عمَّا يَعنِي الناس، وما لا بُدَّ له منه، وربما وقَع فيه الغلَط والاختلاف"؛ "
مجموع الفتاوى" ج25 ص132 - 133.
فتبيَّن ممَّا سبَق أنَّ المواقيت التي يَحتاج إليها الناس في عِباداتهم ومعامَلاتهم، جعَلَها الله بأمرٍ ظاهر بَيِّن، وعلامةٍ يشتَرِك فيها أهلُ كلِّ زمان، وتَصلُح لكلِّ أوان، ألاَ وهي الهلال الذي يستهلُّ للناس في السماء، وليس على الحساب الذي لا يَعرِفه كلُّ أحدٍ، وما فَتِئ أهلُ العصر بتعلُّم مَبادِئه حتى شمَّروا لتغيير أحكامٍ انعقدَتْ بنصوص الشرع، وأجمع عليها أعلام الأمَّة وهُداتها على مَرِّ العصور.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله -: "فإنَّا نعلَم بالاضطرار من دِينِ الإسلام أنَّ العمَل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدَّة أو الإيلاء، أو غير ذلك من الأحكام المعلَّقة بالهلال، بخبر الحاسب أنَّه يرى أو لا يرى - لا يجوز، والنُّصوص المستفيضة عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بذلك كثيرةٌ، وقد أجمَع المسلمون عليه".
• قال الله - تعالى -: ﴿
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [البقرة: 185].
على أحد التأوِيلَيْن بأنَّ ﴿
مَن شَهِدَ ﴾ يعني: مَن علم، والعلم هنا علمٌ بدخول الشهر، ولا يكون ذلك إلا بما اعتبَرَه الشرع دليلاً لدخول الشهر، وهذا هو المتحقق في الرؤية.
"ويجوز أنْ يكون ﴿
شَهِدَ ﴾ بمعنى: عَلِم؛ كقوله - تعالى -: ﴿
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ [آل عمران: 18]، فيكون انتِصاب الشهر على المفعول به بتقدير مضاف؛ أي: علم بحلول الشهر"
[5].
• • •
ثانيًا: في إثبات إجماع السلف، وتَوضِيح طريقتهم في هذا الأمر:
أجمع علماء الإسلام الكِرام الذين يُعتَدُّ بإجماعهم على أنَّ المُعتَبَر في إثبات دخول الشهر هو رؤية الهلال، ولا اعتِبار للحِساب في هذا الأمر، بغَضِّ النَّظَرِ عن صحَّة هذا الحساب أم خطئه، ظنيًّا كان أم يقينيًّا.
ومن المعلوم المتَّفَق عليه أنَّ إجماع الأمَّة حجَّة؛ قال ابن حجر: "والذي نرتَضِيه رأيًا، ونَدِين الله به عقيدةً، اتِّباع سلف الأمَّة؛ للدليل القاطع على أنَّ إجماعَ الأمَّة حُجَّة"؛ "
فتح الباري" ج13 ص407.
قال ابن حجر في "
فتح الباري": "وقال ابن الصبَّاغ: أمَّا بالحساب فلا يلزمه بلا خِلافٍ بين أصحابنا، قلت: ونقَل ابن المنذر قبلَه الإجماعَ على ذلك؛ فقال في "
الإشراف": صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا لم يرَ الهلال مع الصَّحْوِ لا يجب بإجماع الأمَّة، وقد صَحَّ عن أكثَرِ الصحابة والتابِعين كراهتُه، هكذا أطلَق ولم يُفصِّل بين حاسبٍ وغيره، فمَن فرَّق بينهم كان محجوجًا بالإجماع قبلَه"؛ "
فتح الباري" ج4 ص121 وما بعدها.
قال المناوي في "
فيض القدير": "وقال ابن تيميَّة: أجمع المسلمون إلا مَن شَذَّ من المتأخِّرين المخالِفين المسبوقين بالإجماع - على أنَّ مَواقِيت الصوم والفطر والنسك إنما تُقام الرؤية عند إمكانها، لا بالكتاب والحساب الذي يَسلُكه الأعاجم من رُومٍ وفُرس وهند وقبط وأهل كتاب، وقد قِيل: إنَّ أهل الكتاب أُمِرُوا بالرؤية لكنَّهم بدَّلُوا".
قال ابن رشد في "
بداية المجتهد": "فإنَّ العُلَماء أجمَعُوا على أنَّ الشهر العربي يكون تسعًا وعشرين ويكون ثلاثين، وعلى أنَّ الاعتِبار في تحديد شهر رمضان إنما هو الرؤية؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((صوموا لرؤيته، وأفطِرُوا لرؤيته)).
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله -: "فإنَّا نعلَم بالاضطرار من دين الإسلام أنَّ العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج، أو العدَّة أو الإيلاء، أو غير ذلك من الأحكام المُعَلَّقة بالهلال، بخبر الحاسب أنَّه يرى أو لا يرى - لا يجوز، والنُّصوص المستَفِيضة عن النبيِّ بذلك كثيرةٌ، وقد أجمَعَ المسلِمون عليه، ولا يُعرَف فيه خلافٌ قديم أصلاً ولا خِلافٌ حديث، إلاَّ أنَّ بعض المتأخِّرين من المتفقِّهة الحادِثين بعد المائة الثالثة زعَم أنَّه إذا غُمَّ الهلال جازَ للحاسب أنْ يَعمَل في حقِّ نفسه بالحِساب، فإنْ كان الحساب دَلَّ على الرؤية صامَ، وإلا فلا، وهذا القول وإنْ كان مُقيَّدًا بالإغمام ومختصًّا بالحاسب، فهو شاذٌّ مسبوقٌ بالإجماع على خِلافِه، فأمَّا اتِّباعُ ذلك في الصَّحْوِ أو تعليق عموم الحكم العام به، فما قاله مسلمٌ"؛ "
مجموع الفتاوى" ج25 ص132 - 133.
"قال ابن بطَّال: في الحديث دفعٌ لِمُراعاة المنجِّمين، وإنما المعول عليه رؤية الأهلَّة، وقد نُهِينا عن التكلُّف، وقد قال الباجي في الردِّ على مَن قال: إنه يجوز للحاسب والمنجِّم وغيرِهما الصومُ والإفطار اعتِمادًا على النجوم: إنَّ إجماعَ السَّلَف حجَّةٌ عليهم"؛ "
سبل السلام"؛ للصنعاني.
هذا، "وقد حكَى الإجماع على مُوجبه غيرُ واحدٍ من أهل العلم في القديم والحديث؛ منهم: ابن المنذر في "
الإشراف"، وسند من المالكية، والباجي، وابن رشد القرطبي، وشيخ الإسلام ابن تيميَّة، والحافظ ابن حجر، والسبكي، والعيني، وابن عابدين، والشوكاني، وصديق حسن خان في تفسيرهما لقوله - تعالى -: ﴿
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ... ﴾ الآية، وملا علي قاري"
[6].
واعلَم أنَّ هذه المسألة لم يقل بخلافها أحدٌ من الصحابة
[7]، وهذا الإجماع الذي بين أيدينا مُنعَقِدٌ في القديم، ولا يَقدَح فيه مُخالفَةُ مَن جاء بعدَه؛ إذ هو حجَّةٌ على المتأخِّرين عنه، كما هو مُقرَّر في علم الأصول.
وأمَّا قول مَن قال من آحادِ أهل العلم بجواز الحِساب في استِهلال الشهر، فقولهم هذا مردودٌ؛ لمصادمته لدلالة الكتاب والسنَّة وإجماع الأمَّة، ومع هذا فقولهم مقيَّدٌ بالغمام ولا يتعدَّى الجواز، ولم يقل بوجوب الحساب أحدٌ من المتقدِّمين ولا المتأخِّرين، إلا أقوال بعض المعاصِرين
[8]، وفي هذا البحث سنَقوم بتوضيح ذلك - إنْ شاء الله تعالى.