مثالٌ يُحتَـذَى بِـه
صحابيةٌ فاضِلةٌ ، وامرأةٌ رشيدةٌ عاقِلةٌ ، اجتمعت فيها جُملَةٌ مِن خِصال الخير .
امرأةٌ مِن أهل الجنة ، داعِيةٌ إلى اللهِ ، مُجاهِدةٌ في سبيل الله ، صابِرةٌ على المصائب ، سائلةٌ عن دينها ، كريمةٌ في بيتها ، مُوفيةٌ لِمَا عاهَدَت عليه اللهَ ورسولَه .
• هِيَ أمُّ سُلَيْم رَضِيَ الله عنها ، وهي الغُميصاء بنت ملحان ، أم أنس بن مالك رضيَ اللهُ عنه ، وزوجة أبي طلحة .
قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : (( أُريتُ الجنةَ ، فرأيتُ امرأةَ أبي طلحة )) (1) .
وفي روايةِ : (( دخلتُ الجنةَ ، فسَمِعتُ خشفةً ، فقلتُ : مَن هـذا ؟ قالوا : هـذه الغُميصاء بنت ملحان أُم أنس بن مالك )) (2) .
• أما دعوتُها إلى الله ، فتظهرُ جليةً في قصة زواجِها .
أخرج النسائي (3) بإسنادٍ صحيحٍ مِن حديث أنس بن مالك – رضيَ اللهُ عنه - قال : خطب أبو طلحة أُمَّ سُلَيْم ، فقالت : واللهِ ما مِثلُكَ يا أبا طلحةَ يُرَدُّ ، ولكنَّك رجلٌ كافِر ، وأنا امرأةٌ مسلمة , ولا يَحِلُّ لي أنْ أتزوَّجَكَ ، فإنْ تُسلِم فذاك مَهري وما أسألُكَ غيرَه ، فأَسلَمَ ، فكان ذلك مَهرَها .
قال ثابت : فما سَمِعتُ بامرأةٍ قط كانت أكرمَ مهرًا مِن أُمِّ سُلَيْم : الإسلام . فدخل بها فولَدت له .
وأخرج ابن سعد (4) في (( الطبقات )) (8/ 312) بإسنادٍ صحيحٍ عن أنس أيضًا ، قال : جاء أبو طلحة يَخطِب أُمَّ سُلَيْم ، فقالت : إنَّه لا ينبغي لي أنْ أتزوَّجَ مُشرِكًا ، أمَا تعلمُ يا أبا طلحة أنَّ آلِهَتَكم التي تعبدون يَنحِتُها عبد آل فلان النَّجَّار ، وأنَّكم لو أشعلتم فيها نارًا لاحترقت ؟! قال : فانصرف عنها وقد وقع في قلبِهِ مِن ذلك موقِعًا ، قال : وجعل لا يَجيئُها يومًا إلَّا قالت له ذلك ، قال : فأتاها يومًا فقال : الذي عرضتِ عليَّ قـد قبِلتُ ، قال : فما كان لها مَهرٌ إلًَّا إسلام أبي طلحة .
• أما جِهَادُها في سبيل الله ، فإنَّها قـد خرجت في عِـدَّةِ غزواتٍ مع رسول الله .
فأخرج مسلم (5) في (( صحيحه )) من حديث أنس – رضيَ اللهُ عنه – قال : كان رسولُ الله – صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - يغزو بأُمِّ سُلَيْم ونِسوةٍ مِن الأنصار معه إذا غزا ، فيَسقين الماءَ ويُداوين الجَرحى .
وفي (( صحيح مسلم )) (6) أيضًا من حديث أنس – رضيَ اللهُ عنه - أنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ اتخذت يومَ حُنَيْن خِنجرًا ، فكان معها ، فرآها أبو طلحة ، فقال : يا رسولَ الله ، هـذه أُمُّ سُلَيْم معها خِنجرًا ، فقال لها رسولُ الله : (( ما هـذا الخِنجر ؟ )) قالت : اتخذتُه إنْ دَنَا مِنِّي أحدٌ مِن المُشركين بَقَرتُ به بطنَه فجعل رسولُ الله - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - يضحك ، قالت : يا رسولَ الله , اقتُل مِن بعدنا الطُّلَقاء (7) انهزموا بك (8) , فقال رسولُ الله : (( يا أمَّ سُليم ، إنَّ اللهَ قـد كَفى وأحسن )) .
• أما صبرُها على المصائب ، فيظهرُ جليًّا لَمَّا مات ولدُها مِن أبي طلحة .
فأخرج البخاريُّ ومُسلم (9) من حديث أنس بن مالك – رضيَ اللهُ عنه – قال : كان ابنٌ لأبي طلحة يشتكي ، فخرج أبو طلحة فقُبض الصَّبِيُّ ، فلَمَّا رَجَعَ أبو طلحة ، قال : ما فعل ابني ؟ قالت أم سُليم : هو أسكن ما كان ، فقرَّبَت إليه العَشاءَ ، فتَعَشَّى ، ثُمَّ أصابَ مِنها ، فلَمَّا فَرَغَ قالت : وَار الصَّبِيّ . فلَمَّا أصبحَ أبو طلحة أتى رسولَ الله - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - فأخبره ، فقال : (( أعرستُم الليلة ؟ )) (10) قال : نعم . قال : (( اللهم بارِك لهما في ليلتِهما )) ، فولَدَت غُلامًا . قال لي أبو طلحة : احفظه حتى تأتيَ به النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، فأتى به النبيَّ – صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - وأرسلتُ معه بتمراتٍ ، فأخذه النبيُّ – صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - فقال : (( أمعه شيء ؟ )) قالوا : نعم ، تمرات , فأخذها النبيُّ – صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - فمضغها ، ثُمَّ أخذ مِن فِيه ، فجعلها في الصَّبِيِّ ، وحَنَّكَه به ، وسَمَّاه عبد الله .
• أما سؤالُها عن دينِها ، فقد أخرج البخاري ومسلم (11) من حديث أم سلمة أم المؤمنين - رضي الله عنها - أنَّها قالت : جاءت أُمُّ سُلَيم امرأة أبي طلحة إلى رسول الله – صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - فقالت : يا رسولَ الله , إنَّ اللهَ لا يَستحيي مِن الحَقِّ , هل على المرأةِ مِن غُسلٍ إذا هي احتلمت ؟ (12) فقال رسولُ الله : (( نعم ، إذا رأت الماء )) .
• وفي رواية لمسلم (13) من حديث أم سليم أنها سألت النبيَّ – صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل ، فقال رسول الله : (( إذا رأت ذلك المرأةُ فلتغتسل )) , فقالت أم سليم : واستحييتُ مِن ذلك ، قالت : وهل يكونُ هـذا ؟ فقال نبيُّ الله : (( نعم ، فمِن أين يكونُ الشَّبَه ، إن ماء الرجل غليظٌ أبيض ، وماء المرأةِ رقيقٌ أصفر (14) ، فمِن أيّهما علا أو سَبَقَ يكونُ منه الشَّبه )) .
• أما كَرَمُها في بيتها ومعرفتُها أن الله - عز وجل - يُخلِفُ على المُنفِقِ ، فيتضحُ جليَّا من قصة مجيء رسول الله – صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - مع أصحابه إلى بيتها ، ففي (( صحيح البخاري ومسلم )) (15) من حديث أنس - رضي الله عنه - قال : قال أبو طلحة لأم سُليم : لقد سمعتُ صوتَ رسول الله - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - ضعيفًا أعرف فيه الجوع ، فهل عندكِ من شيء ؟ قالت : نعم . فأخرجت أقراصًا من شعير ، ثم أخرجت خِمارًا لها فلَفَّت الخُبز ببعضِه ، ثم دسَّته تحت يدي ولاثتني ببعضه ، ثم أرسلتني إلى رسول الله – صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - قال : فذهبتُ به ، فوجدتُ رسولَ الله – صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - في المسجد ومعه الناس ، فقُمتُ عليهم ، فقال لي رسولُ الله : (( آرسلَك أبو طلحة ؟ )) فقلتُ : نعم ، قال : (( بطعام ؟ )) قلتُ : نعم . فقال رسولُ الله - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - لمَن معه : (( قُوموا )) . فانطلق وانطلقتُ بين أيديهم ، حتى جئتُ أبا طلحة فأخبرتُه ، فقال أبو طلحة : يا أُمَّ سُلَيم قـد جاء رسولَ الله – صلَّى اللهُ عليه وسلَّم – بالناس ، وليس عندنا ما نُطعِمُهم . فقالت : اللهُ ورسولُهُ أعلم . فانطلق أبو طلحة حتى لَقِيَ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، فأقبل رسولُ الله – صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - وأبو طلحة معه ، فقال رسول الله : (( هَلُمِّي يا أُمَّ سُلَيْم ما عندكِ )) . فأتت بذلك الخبز ، فأمر به رسول الله – صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - فَفُتَّ ، وعَصَرَت أُمُّ سُلَيْم عكة فأدمته ، ثم قال رسولُ الله – صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - فيه ما شاء اللهُ أن يقول ، ثم قال : (( ائذن لعشرة )) . فأَذِنَ لهم ، فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ، ثم قال : (( ائذن لعشرة )) ، فأَذِنَ لهم ، فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ، ثم قال : (( ائذن لعشرة )) ، فأَذِنَ لهم ، فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ، ثم قال : (( ائذن لعشرة )) ، فأكل القوم كلهم حتى شبعوا ، والقومُ سبعون أو ثمانون رجلاً .
• فانظر إلى ثباتِها ، وثِقَتِها باللهِ ، وبأنَّ اللهَ - سُبحانه - سيُبارِكُ في الطعام ، ولن يفضحها ، ولن يُخزيها في الأضياف ، وهي تقول : اللهُ ورسولُه أعلم . ألَا فليَذكُـر ذلك النساء !!
• أمَّا وفاؤها بما عاهَدَت اللهَ عليه ، فقد أخرج البخاري ومسلم (16) من حديث أم عطية - رضي الله عنها - قالت : بايعنا النبيَّ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - فقرأ علينا : ﴿ أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا ﴾ الممتحنة/12 . ونهانا عن النِّيَاحَةِ ، فقبضتْ امرأةٌ مِنَّا يدَها ، فقالت : فُلانة أسعدتني ، وأنا أريدُ أن أجزيها ، فلم يقل شيئًا ، فذهبت ثم رجعت ، فما وَفَّت امرأةٌ إلَّا أم سليم وأم العلاء وابنة أبي سبرة امرأة معاذ _ أو ابنة أبي سبرة وامرأة معاذ _ .
______________________________
(1) أخرجه مسلم (2457) من حديث جابر بن عبد الله .
(2) أخرجه مسلم (2456) من حديث أنس بن مالك .
(3) النسائي حديث (6/ 114) .
(4) ابن سعد في ((الطبقات)) حديث (8/ 312) .
(5) مسلم حديث (1810) .
(6) مسلم حديث (1809) .
(7) هم الذين أسلموا من مكة يوم الفتح سُمُّوا بذلك ؛ لأن النبي – صلَّى اللهُ عليه وسلَّم - منَّ عليهم وأطلقهم ، وكان في إسلامهم ضعفٌ ، فاعتقدت أم سُليم أنَّهم مُنافقون ، وأنهم استحقوا القتلَ بانهزامِهم وغيره .
(8) انهزموا بك : الباء في ( بك ) بمعنى : عن ، أي انهزموا عنك على حد قوله تعالى : (( فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا )) الفرقان/59 ، أي : عنه . وربما تكون للسببية ؛ أي انهزموا بسببك لنِفاقهم ( التعليق على مسلم ) .
(9) البخاري حديث (5470) ومسلم (ص 1690) .
(10) يعني : هل جامعت أهلَك الليلة .
وفي بعض الروايات أن أم سليم قالت : يا أبا طلحة أرأيتَ أهل بيت أعاروا أهل بيت عارية ، فطلبها أصحابُها ، أيرُدونها أو يَحبسونها ؟ فقال : بل يَردونها عليهم ، قالت : فاحتسب أبا عمير .
وفي روايةٍ أخرى ، وإسنادُها صحيح أيضًا : أن أم سليم قالت : لا تُخبِروا أبا طلحة بموتِ ابنِهِ ، فرجع من المسجد وقد يَسَّرَت له عشاءَه كما كانت تفعل ، فقال : ما فعل الغلام - أو الصَّبِيّ - ؟ قالت : خير ما كان ، فقرَّبَت له عشاءَه ، فتَعَشَّى هو وأصحابُه الذين معه ، ثم قامت إلى ما تقومُ له المرأةُ فأصابَ مِن أهله ، فلَمَّا كان مِن آخِر الليل قالت : يا أبا طلحة , ألم ترَ إلى آل فلانٍ استعاروا عاريةً فتمتَّعوا بها ، فلما طلبت إليهم شَقَّ عليهم ؟ قال : ما أنصفوا . قالت : فإنَّ ابنَكَ فلانًا كان عاريةً مِن الله ، فقبضه إليه ، قال : فاسترجَعَ وحَمِدَ الله ... الحديث .
وفي رواية أخرى صحيحة أيضًا أنها قالت: يا أبا طلحة إن آل فلان استعاروا من آل فلان عارية فبعثوا إليهم: أن ابعثوا إلينا بعاريتنا فأبوا أن يردوها فقال أبو طلحة: ليس لهم ذلك إن العارية مؤداة إلى أهلها قالت: فإن ابنك كان عارية من الله وإن الله قد قبضه، فاسترجع.
وفي روايةٍ أخرى : أنه قال لها : ما فعل ابني ؟ قالت : صالِحٌ ، فأتته بتُحفتها التي كانت تتحفه بها ، فأصابَ منها ، ثم طلبت منه ما تطلبُ المرأةُ من زوجها ، فأصاب منها ، ثم قالت : ما رأيتَ ما صنع ناسٌ مِن جيرتنا كانت عندهم جاريةٌ فطلبوها ، فأبوا أن يَرُدُّوها ، فقال : ( بئس ما صنعوا ) ، فقالت : هـذا أنتَ ، ابنُكَ عاريةٌ من الله ، وإنَّ الله قد قبضه إليه ، فقال لها : واللهِ لا تغلبيني الليلةَ على الصبر ...
وكُلُّ هـذه الروايات عند ابن سعد في (( الطبقات )) وغيره ، وبمجموعِها ، بل وبمُفرداتِها تَصِحُّ بِلا شَكٍّ ولا رَيْب .
(11) أخرجه البخاري (282) ، ومسلم (1/ 608) .
(12) أي : رأت أنَّها تُجامَع .
(13) أخرجه مسلم (311) .
(14) قال النووي - رحمه الله - : وأما مَنِيُّ المرأةِ فهو أصفر رقيق ، وقد يبيض لفضل قوتها .
وله خاصيتان يُعرَفُ بواحدةٍ منهما ؛ إحداهما : أن رائحتَه كرائحةِ مَنِيِّ الرجل ، والثاني : التذاذٌ بخُروجِهِ وفُتورُ ش___ِها عَقِبَ خُروجه .
(15) أخرجه البخاري (3578) ، ومسلم (2040) .
(16) البخاري حديث (7215) ، ومسلم (ص 645، 646) .