وا شوقاً إلى النخيل!!
د. علي بن عمر بادحدح
لست عاشقاً للنخيل عشق الشعراء والبلغاء ، ولا محباً لأجل أنواع رطبه وأصناف تمره ، ولكنني متعلق بالنخيل ومشتاق إليه لما ورد في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم ،حدثوني ما هي ؟ ثم أجاب فقال: هي النخلة ) وفي رواية أخرى ( لا يتحات ورقها ولا ولا ولا .. ) قال أهل العلم في شرحه: " ولا ينقطع ثمرها ،ولا يعدم فيؤها، ولا يبطل نفعها "، فالنخلة إذن تشبه المسلم ويشبهها ،فما وجه الشبه بينهما ؟
1- إن النخلة في العادة عالية مرتفعة ،تراها شامخة منتصبة ،تبدو للرائين عن بعد، وتلوح لهم كما تلوح الواحة الخضراء في الصحراء فإذا هي بارقة الأمل ،وهكذا المسلم الحق شامخ مرتفع بإيمانه [وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] {آل عمران:139} وهو منتصب كمعلم النجاة للحيارى التائهين في صحراء الجاهلية ،وأعماله المرتفعة عن سفاسف الأرض ، وحظوظ النفس المتصلة بأسباب الوحي ومصلحة الناس تجعله قدوة تحتذي ، مناراً للهدى .
2- والنخلة ثابتة راسخة ،ضاربة بجذورها في أعماق الأرض فلها من ذلك قوة وصلابة لا توجد في غيرها ، والمسلم ثابت بإيمانه ،راسخ بيقينه، قوي لا ضعيف ،راسخ لا يتزحزح، ويجمع هذين المعنيين من الرسوخ والشموخ رواية ابن حبان : (من يخبرني عن شجرة مثلها مثل المؤمن أصلها ثابت وفرعها في السماء ) ومثلها رواية البزار في تفسير قوله تعالى [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ] {إبراهيم:24}
3- والنخلة تأخذ زادها فتثمر رطبها وتمرها بما فيه من نفع عجيب وطعم لذيذ ومنظر جميل ،والمؤمن ينعكس إيمانه ويثمر أخلاقاً فاضلة ،والقرطبي يجمع بين الشبيهين بقوله: " فوقع التشبيه بينهما أن أصل المؤمن ثابت ، وأن ما يصدر عنه من العلوم والخير قوت للأرواح مستطاب ".
4- والنخلة لا ينتفع بثمرها فحسب بل نواها علف للدواب ،وليفها مادة لصنع الحبال ،وجذوعها أعمدة البناء وجريدها سقوف فكل شئ منها مفيد ،والمسلم كذلك بصره تأمل ،وفكره تدبر ،وصمته ورع، وكلامه علم، منظره هيبة ،وملبسه قدوة ،كلمته الطيبة صدقة، وابتسامته المشرقة صدقة، وكل شيء فيه نافع مفيد .
5- والنخلة يدوم الانتفاع بثمرها فيؤكل بسراً ، ثم رطباً، ثم تمراً مع تعدد الأنواع واختلاف الطعوم وكثرة الفوائد، والمسلم لا ينقطع خيره قولاً وصمتاً ، ووصفاً وحالاً ، وسراً وجهراً ،وشدة ورخاءً إلى ما شاء الله صغيراً وكبيراً ،رجلاً وامرأة ،عالماً ومتعلماً في كل حال وأنه كما قال ابن حجر : " وكذلك بركة المسلم عامة في جميع الأحوال ، ونفعه مستمر له ولغيره ".
6- والنخلة يتفرع جريدها إلى كل الجهات ،فيبقي ظلها في سائر الأوقات، من طلوع الشمس إلى غروبها ،والمسلم يفئ الناس إلى ظله ،يفيئون من شمس الشك إلى ظلال اليقين، ومن لظى العبودية للبشر إلى برد العبودية لرب البشر، ومن نار الظلم والطغيان إلى سكينة العدل والإحسان، ومن مطاردة الخوف إلى طمأنينة الأمن ومن ويلات الإباحية والرذيلة إلى خيرات الخلق والفضيلة ،فظلال المسلم وارفة في العقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملات، والناس - غير المسلم- في شقاء وعناء تحت لهب شمس الجاهليات لا يمكن أن يجدوا ظلاً إلا عند المسلم [وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا] {طه:124} [مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً] {النحل:97}