الثدييات التي غزت البحار
توضِّح التحاليل الحديثة للأحافير والدنا DNA
التاريخَ التطوريَّ الرائع للحيتان.
<K. وُنْگ>
قبل 48 مليون سنة، انبلج الفجر فوق بحر تيثيس Tethys وتلألأت المياه الخضراء الزرقاوية مع أول ضوء للنهار. ولكن بالنسبة إلى أحد الثدييات الصغيرة انتهى هذا اليوم الجديد تقريبا بمجرد أن بدأ. كان إيوتيتانوپس Eotitanops، وهو حيوان شبيه بالسِّناد(1)، يتجول تجولا محفوفا بالمخاطر بالقرب من حافة الماء، متجاهلا نداء أمه له بالتحذير. وكان هناك وحش يرقد متربصا بلا حراك بين أشجار المنگروڤ، وقد سنحت له فرصة جيدة لن يتركها تفوت، ويندفع باتجاه اليابسة مستخدما طرفيه الخلفيين القويين ليغرز أسنانه المخيفة في العجل الصغير، جارّاً إياه باتجاه الأمواج المتكسرة. وهنا يبدأ الكفاح المسعور للضحية يتلاشى بينما هو يغرق وجسده عالق بين فكيْ صائده اللذين يشبهان المِلْزمة (المِنْجلة) vise، ويخرج الوحش من الماء ويمشي متثاقلا مزهوا بانتصاره، لِيلْتَهِم فريسته على أرض صلبة. وللوهلة الأولى فإن هذا المفترس المخيف يشبه تمساحا بأرجله القصيرة المكتنزة وذيله القوي وخطمه الطويل وعينيه الواقعتين في أعلى جمجمته. ولكن المزيد من التدقيق عن قرب يظهر أن له فراء وليس درعا، وحوافر وليس مخالب. كما تُظهر النتوءات فوق تيجان أسنانه أنه حيوان ثديي وليس زاحفا. وفي الحقيقة، إن هذا المخلوق الغريب هو حوت قديم يعرف باسم أمبولوسيتوس Ambulocetus، وهو واحد من سلسلة الحيوانات "البَيْنِيّة" intermediates التي تربط بين أسلاف الحوتيات التي عاشت على اليابسة وبين الثمانين نوعا (أو نحو ذلك) من الحيتان والدلافين وخنازير البحر التي تسود المحيطات هذه الأيام.
"يقولون إن البحر بارد، ولكن البحر يضم أحرَّ الدماء على الإطلاق وأكثرها وحشية
وأجدرها بالاهتمام."
"<H .D. لورنس>" في كتابه بعنوان: "الحيتان لا تبكي!"
وحتى عهد قريب، كان نشوء الحيتان يشكل واحدا من أعقد الأمور الغامضة التي تواجه علماء البيولوجيا التطورية؛ فبسبب انعدام الفراء والطرفين الخلفيين، وكذلك عدم قدرتها على اللجوء إلى الشواطئ ولو لبرهة قصيرة لارتشاف الماء العذب، تمثل الحوتيات الحالية تباعدا مثيرا عن القاعدة السلوكية للثدييات. وفي الواقع، أدى شكلها السمكي بالعالِم <H. ميلڤيل> في عام 1851 إلى أن يصف الحوت موبي دِك Moby Dick وأقرانه من الحيتان بأنها أسماك. أما بالنسبة إلى علماء الطبيعيات في القرن التاسع عشر من أمثال <Ch. داروِن>، فإن هذه الحيوانات ذات الدم الحار والتي تتنفس الهواء وتُرْضِع صغارها حليبًا، قد تم تصنيفها مع الثدييات. ولأن الثدييات السليفة كانت تعيش على اليابسة، فقد أصبح من الواضح أن الحيتان إنما انحدرت أساسا من سليف أرضي. أما كيف حدث ذلك بالضبط فإنه أمر حير العلماء؛ حتى إن داروِن ذكر في كتابه "حول أصل الأنواع" أن دُبا سابحا فاغر الفم من أجل التقاط الحشرات، مثّل نقطة بداية تطورية مقبولة لنشوء الحيتان. ولكن هذا الافتراض أثار الكثير من السخرية، إلى حد جعل دارون يكتفي في طبعات الكتاب اللاحقة بالقول بأن مثل هذا الدب "يكاد يشبه حوتا."
لم يقدِّم سجل أحافير (مستحاثات) الحوتيات ما يسهم في تقدم الدراسات عن أصول الحيتان. فمن بين البقايا القليلة المعروفة لا يوجد ما هو مكتمل أو بدائي بما يكفي لإلقاء مزيد من الضوء على هذا الموضوع. كما أن التحاليل اللاحقة فيما يخص التشريح الغريب للحيتان الحالية لم تُفْضِ إلا إلى مزيد من الحيرة للعلماء. وهكذا، تبقى هذه الحيوانات المائية ـ حتى بعد قرن من الزمن بعد داروِن ـ أُحجية تطورية. وفي الواقع، ذكر عالم الأحافير الشهير <G .G. سمسون> في تصنيفه للثدييات في عام 1945 أن الحيتان نشأت في المحيطات منذ زمن طويل، بحيث لم تتبقَ أي معلومة عن نسبها السليفي ancestry. وبقوله عنها "إنها على العموم أغرب الثدييات وأعجبها،" يكون <سمسون> قد أدخل الحوتيات، على نحو اعتباطي، بين الرتب orders الحيوانية الأخرى. ويبدو أن انتماء الحيتان إلى شجرة نسب الثدييات وانتقالها إلى البحار يفتقران إلى تفسير.
ومع ذلك، ففي العقدين الماضيين، أخذ الكثير من أجزاء هذا اللغز المحير يتكشف؛ إذ أماط علماء الأحافير اللثام عن ثروة من أحافير الحيتان تعود إلى العصر الأيوسيني الذي غطى الفترة قبل 55 مليون و34 مليون سنة، تلك الفترة التي تم في أثنائها انتقال الحيتان القديمة (أو الأركيوسيتاتarchaeocetes) من اليابسة إلى البحر. كما اكتشف هؤلاء العلماء بعض الدلائل التي تعود إلى العصر الأوليگوسيني، الذي نشأت خلاله الرُّتَيْبات suborders الحديثة من الحوتيات، أمثال الحيتان البلينية (الميستيسيتات mysticetes) والحيتان ذات الأسنان (الأودونتوسيتات odontocetes). إن تلك المادة الأحفورية، إلى جانب تحاليل الدنا المأخوذة من الحوتيات الحية الحالية، مكنت العلماءَ من رسم صورة عن متى وأين وكيف تطورت الحيتان من أسلافها التي عاشت على اليابسة. ويمثل اليوم هذا التحول (من ساكنات لليابسة إلى ساكنات ضخمة للبحار) واحدا من أبرز التحولات في سجل التطور.
يتناول حوت قديم يدعى روضوسيتوس (اليمين واليسار في الأمام) أطيب الطعام من هِبات البحر، في حين يهاجم الحوت أمبولوسيتوس (في الخلف) حيوانا ثدييا أرضيا صغيرا قبل 48 مليون عام وذلك فيما يسمى الآن پاكستان.
أفكار متطورة
تقريبا في نفس الوقت الذي أعلن سمسون أن العلاقة بين الحيتان والثدييات الأخرى غامضة من حيث الأساس التشريحي، ظهرت مقاربة مقارنة جديدة تبحث في تفاعلات الضد والمستضد antibody-antigen لدى الحيوانات الحية الحالية. واستجابة لتأكيد سمسون، قام <A. بويدن> [من جامعة رَتْگرز] وأحد زملائه بتطبيق هذه التقانة على مسألة الحيتان. وقد أظهرت نتائجهما على نحو مقنع أن الحيتان تُعَد أكثر الحيوانات الحية الحالية قَرابةً للثدييات الحافرية الزوجية الأصابع (أو ما يطلق عليها اسم أرتيودأكتيلات artiodactyls)، وهي مجموعة تضم بين أفرادها الجَمل وفرس النهر والخنزير والمجترات مثل البقر. ولاتزال الطبيعة الدقيقة لتلك القرابة غير واضحة؛ فهل كانت الحيتان ذاتها حافريات زوجية الأصابع؟ أو أنها شغلت فرعا خاصا بها في شجرة نسب الثدييات كان متصلا بفرع الحافريات الزوجية الأصابع عبر سليف مشترك قديم؟
وفي ستينات القرن المنصرم جاء الدعم لهذا التأويل الأخير من خلال دراسات على ثدييات حافرية بدائية (تعرف باسم اللُّقْمِيّات condylarths) لم تكن قد طورت الخصائص المميزة للحافريات الزوجية الأصابع أو الرتب الثديية الأخرى. ونشير إلى أن عالم الأحافير <L. ڤان ڤالين> [وكان حينها في المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي بمدينة نيويورك] قد اكتشف تشابهات مدهشة بين الأسنان الثلاثية النتوءات three-cuspid teeth في الأحافير القليلة المعروفة للحيتان، وأسنان مجموعة من اللُّقْمِيّات اللاحمة (آكلة اللحوم)، تدعى الحافريات الوسطى (الميزونيكيدات mesonychids). وبالمثل، وجد ڤان ڤالين خصائص سنية مشتركة بين زوجيات الأصابع ومجموعة أخرى من اللقميات تدعى الكلبيات الدبية (الأركتوسيونيدات arctocyonids)، وهي أقارب وثيقة للحافريات الوسطى. واستنتج ڤان ڤالين أن الحيتان انحدرت من الحافريات الوسطى اللاحمة الشبيهة بالذئاب (الذئبية الشكل)، وبذلك تكون مرتبطة بزوجيات الأصابع عبر اللقميات.
حيتان قادرة على المشي
ومضى عقد من الزمن، أو نحو ذلك، قبل أن يبدأ علماء الأحافير أخيرا بالعثور على أحافير تكون قريبة من نقطة التفرع التطوري للحيتان بما يكفي للسماح لهم بالتعامل مع فرضية الحافريات الوسطى التي أعلنها ڤان ڤالين. وحتى حينذاك، استغرق الأمر زمنا حتى أمكن تفهم مغزى هذه الاكتشافات، فقد بدأت حين سافر عالم الأحافير <Ph. گينگريتش> [من جامعة متشيگان] إلى پاكستان عام 1977 للبحث عن ثدييات أرضية من العصر الأيوسيني، وقام بزيارة منطقة سبق أن أُعلن عن إيوائها لهذه البقايا. ولكن هذه الحملة خيبت الآمال، إذ تبين احتواء تلك المنطقة على أحافير بحرية فقط. ولكن العثور على آثار لحياة بحرية قديمة في پاكستان بعيدا عن الشاطئ الحديث للبلاد لم يكن أمرا مستغربا، ففي العصر الأيوسيني كان بحر تيثيس الشاسع يغطي ـ بصفة دورية ـ رقَعا عظيمة مما يؤلّف الآن شبه القارة الهندية [انظر الإطار في الصفحة المقابلة]. ومع ذلك فمن المثير للاهتمام أن هذا الفريق اكتشف، بين بقايا تلك الأسماك والقواقع القديمة، قطعتين من عظم حوض pelvis بدا أنهما تعودان إلى وحوش كبيرة نسبيا قادرة على المشي. ويستذكر جينجريتش، ضاحكا، بقوله: "لقد سخرنا من فكرة حيتان قادرة على المشي، فقد كان ذلك أمرا غير قابل للتصور." وكما كانت الغرابة في العثور على قطعتي الحوض هاتين، كانت الأحفورة الوحيدة التي جمعناها خلال ذلك الموسم البحثي وبدت على جانب من الأهمية حينذاك، عبارة عن فك jaw بدائي لأحد الحافريات الزوجية الأصابع تم اكتشافه في مكان آخر من نفس البلد.
دليل المصطلحات
الحوتيات Cetacea: هي رتبة من الثدييات تضم الحيتان الحية الحالية والدلافين dolphins وخنازير البحر porpoises وأسلافها المنقرضة المعروفة باسم الحوتيات القديمة (الأركيوسيتات archaeocetes). وتقع الأفراد الحية في رُتَيْبَتَين suborders، هما: الحيتان ذات الأسنان (الأودونتوسيتات odontocetes) (بما في ذلك حوت العنبر sperm whale والحوت المرشد pilot whale والدلفين الضخم beluga وجميع الدلافين وخنازير البحر)، وكذلك الحيتان البلينية (الميستيسيتات mysticetes) (بما في ذلك الحيتان الزرقاء والحيتان الزعنفية). وغالبا ما يطلق اسم "الحوت" للدلالة على جميع الحوتيات.
الحافريات الوسطى (الميزونيكيدات) mesonychids: هي مجموعة ثدييات بدائية ذات حوافر، تشبه الذئب، كان يظن في يوم من الأيام أنه نشأت عنها الحيتان.
الحافريات الزوجية الأصابع (الأرتيوداكتيلات) artiodactyla: هي رتبة من ثدييات حافرية زوجية أصابع القدم، وتضم الجمال والمجترات (مثل الأبقار)، وكذلك فرس النهر Hippos، إضافة إلى الحيتان، بحسب ما يتفق معظم الباحثين.
الإيوسين eocene: هو العصر الواقع بين 55 مليون و34 مليون سنة خلت، الذي جرى خلاله انتقال الحيتان من اليابسة إلى البحر.
الأوليگوسين oligocene: هو العصر الواقع بين 34 مليون و24 مليون سنة خلت، الذي تطورت فيه الأودونتوسيتات والميستيسيتات انطلاقا من أسلافها الأركيوسيتية.
وبعد ذلك بسنتين عثر فريق گينگريتش في سفوح جبال هيمالايا بشمال پاكستان على دليل حوتي غريب آخر، عبارة عن جزء من قحف لمخلوق بحجم الذئب (وهو موجود إلى جانب بقايا حيوان ثديي أرضي يناهز عمرها 50 مليون سنة)، ويحمل بعض الخصائص الحوتية المميزة. وجدير بالذكر أن جميع الحيتان الحديثة تتصف آذانها بخصائص لا تظهر في أي من الفقاريات الأخرى. وعلى الرغم من افتقار هذه الجمجمة الأحفورية إلى البنى التشريحية اللازمة لسمع توجيهي directional hearing في الماء (وهي مهارة حاسمة لدى الحيتان الحالية)، فقد كانت تمتلك بشكل واضح السمات المميزة لآذان الحوتيات. وهكذا اكتشف هذا الفريق أقدم حوت عرفه ذلك الزمان وأكثرها بدائية، وهو حوت لا بد أن يكون قد أمضى جانبا من حياته، إن لم يكن معظمها، على اليابسة. وقد لقب گينگريتش هذا المخلوق باسم پاكيسيتوس Pakicetus نسبةً إلى مكان نشوئه. وما إن أصبح گينگريتش أسير دراسة الحيتان حتى بدأ بالبحث عن الحيتان القديمة بهمة وجدية.
وفي نفس الوقت تقريبا جلبت مجموعة أخرى من الباحثين بقايا إضافية من الپاكيسيتوس المذكور آنفا. واشتملت هذه البقايا على قطعة من الفك السفلي وبعض أسنان منعزلة، دعمت القرابة مع الحافريات الوسطى من خلال تشابهات سنية قوية. ونظرا لأن الپاكيسيتوس كان يعيش قبل نحو 50 مليون سنة، وأن الحافريات الوسطى عُرِفت في الوقت ذاته وفي الجزء نفسه من العالم، فقد تزايدت أرجحية أن تكون الحوتيات قد انحدرت بالفعل من الحافريات الوسطى أو من سليف ما ذي قرابة لصيقة بها. ومع ذلك فلا يزال المظهر الذي كانت عليه الحيتان القديمة من الرقبة حتى نهاية الجسم أمرا غامضا.
ومع ذلك، فقد كان لا بد من تأجيل المزيد من التبصرات في پاكستان. فبحلول عام 1983 لم يعد گينگريتش يستطيع العمل هناك بسبب غزو الاتحاد السوفييتي (السابق) لأفغانستان. فقرر أن يلقي بشباكه في مصر عوضا عن ذلك؛ متجها إلى وادي زوگلودون في الصحراء الغربية على بعد نحو 95 ميلا جنوب غربي القاهرة. وقد سمي ذلك الوادي بهذا الاسم نسبة إلى ما جاء في تقارير في مطلع القرن العشرين عن وجود أحافير لحيتان قديمة في تلك المنطقة أطلق عليها حينذاك اسم زوگلودونات Zeuglodons. وكما هي الحال في پاكستان، فإن جزءا كبيرا من مصر كان ذات يوم مغمورا ببحر تيثيس. واليوم تقبع هياكل تلك المخلوقات التي كانت تسبح في ذلك البحر القديم مدفونة في الصخور الرملية. وبعد بضع جولات ميدانية حظي گينگريتش وطاقمه باكتشافات مفيدة، حيث عثروا على أطراف خلفية صغيرة تعود إلى حوت يشبه أفعى بحرية طوله 60 قدما، يعرف باسم بازيلوصوروس Basilosaurus وعلى أول دليل لأقدام حوتية.
كانت هناك اكتشافات سابقة للبازيلوصوروس (وهو حيوان مائي ضخم تزلَّق في البحار قبل زمن يتراوح ما بين 40 مليونا و37 مليونا من السنين)، غير أنها لم تحتفظ إلا بجزء من عظم فخذ وصفه مكتشفوه وقتذاك بأنه أثري (ضامر/ غير وظيفي) vestigial. ولكن الأرجل والأقدام الحسنة التكوين التي أماط اللثامَ عنها الاكتشافُ الحديث قد أشارت إلى فعاليته الوظيفية. ومع أن هذه الأطراف الصغيرة التي لا تزيد على نصف متر طولا، لم تكن قادرة على مساعدة البازيلوصوروس على السباحة، ولم تُمكِّنه بالتأكيد من المشي على اليابسة، فإنها ربما أفادته في توجيه جسمه الأفعواني أثناء تأديته وظيفته الصعبة في التسافد في الماء. ومهما كانت الغاية من هذه الأطراف الصغيرة (إن وجدت)، فقد حملت مضامين كبيرة. ويستذكر گينگريتش قائلا: "لقد ظننت من فوري أننا في مرحلة تلي مرحلة الپاكيسيتوس بعشرة ملايين سنة؛ فإذا ظلت هذه الحيوانات تمتلك أقداما وأصابع أرجل، فإن علينا النظر في عشرة ملايين من سنوات التاريخ." وهكذا، على حين غرة، بدت الحيتان الماشية walking whales، التي سخروا منها في پاكستان، أمرا معقولا تماما.