المعادل التراثى وألم الذات والوطن
قراءة نقدية فى ديوان ( فى بقايا الحلم كانت ) للشاعر محمد على عبادى
بقلم / محمد على احمد عواجه _ عضو اتحاد كتاب مصر
لا يعدل الألم الانسانى تعبير أو مقال ,ولكن الآهة الحرى تخفف الألم , أو هكذا يظنها المتعبون جين تنقطع بهم سبل السلوى , وتشتد سهام الأوجاع فى وقع طعناتها ,عندها يلجأ البشر الى الشكوى , وفتح منافذ لحرارة الجراح المكبوتة, وتخرج الزفرات محملة بمرارات المهانة, وضيق الصدر, فإذا التحمت هذه الحالة بنفس شاعرة , جعلتها فيضا من السحر الشعرى ,ومزيجا من الأدوية لأصحاب الأدواء , وحينها تصبح الآهة الشاعرية مفتاح رى للظمأ النفسى للتوجع , وفيض سلسبيل عذب يطهر جرح المتعبين من أدران الحياة وصديد صراعاتها .
والظاهرة اللافتة للنظر _ فى عصرنا _ أن الشباب تتفتق لديهم مسارب الأحزان مبكرة , وتصطدم رهافة أحاسيسهم ونقاء سريرتهم بخبائث العصر الملوث بروائح العفن المادى , والانحدار الاخلاقى ,فتسيطر على إبداعاتهم نغمة الشجن ,وبوح الأنفس المعبأة بالوجع الذاتى والقومى , وحالة الاغتراب عن الذات والوطن , وقد يصل الأمر الى جلد الذات الجمعية الحاضرة,وتسفيه السلوكيات والتصورات السائدة فى المجتمع العربى اذ تنصب المقاصل فى إبداعاتهم للمسئولين عن تردى النخوات وانهيار القيم والمثل العليا , ويستحضر التراث كمعادل تعويضى فى وجه معطيات الغيبوبة الإنسانية, وكأن الحياة الحاضرة لاتحمل من قيم الحق والخير والجمال شيئا يذكر .
ولعل ظروف المجتمع البشرى فى انقلاب أوضاعه , وسيطرة التقييم المادى على مقدرات الحياة الإنسانية هى الدافع الأول لتشاؤم المبدعين , فالواقع المر بقيوده وتصوراته يلجم جركة التصور المثالى ويربك التطلع المنطلق الى رحابة التحسن المعيشى , والرقى السلوكى , لان الوعي العام تشبع بمظاهر الأثرة وعلو الأنا , ولم يعد أمام المحبطين الا اجترار آلامهم , والسخط علة هذا التردى الانسانى فى نظم مادية تقتل المشاعر وتميت القلوب.
لقد بهرنى عنوان هذا الديوان بما يمكن أن يحمل من دلالات وإشارات ( فى بقايا الحلم كانت ) وحاولت تصفية ما فيه من خلاصات الشاعرية , فإذا بها تتقاطر حسرات ومرارات ودموع وإذا بها ثمالة من حلم ضاع بزوال الصبا, وجف بجفاف المكان والزمان , وانعكس الجفاف على الذات , فلم يعد فى وعيها غير ما كان , أما الحاضر فبقايا من أمنيات وذكريات وحسرات
إن قصيدة المحور التى تحمل العنوان ذاته تبدأ بالوصف المبهر , والإشراق المبشر بحالة عشق تستغرق وعى صاحبها حيث يقول ص_9:
فى رباها لاح لحن العندليب وجمال قد تبدى من قريب
عود بان قد تمطى فى دلال يستبى العشاق بالسهم المصيب
وانصهار التوت فى الخدين نفح فوقه التفاح ينداح بطيب
ويخال القارئ لهذه القصيدة أنها إحدى الغزليات البارعة , لكن الشاعر يوقظه قبل ان يسبح فى عالم الحوريات والجنات والنسيم المطيب بالألحان , وإذا به أمام صورة تلوح على سطح الذاكرة بعد أن طوي الدهر معالمها فتلاشت ولم يبق منها سوى سطر عشق فى سجل الذكريات , يقول ص_101:
أيقظ العصفور صبحى فاستعاثت كل أحلامى ولكن من مجيبى
فى بقايا الحلم كانت سطر عشق فيه يخلو كل حب بالحبيب
إن بدء الديوان بهذا الانكسار العاطفى , واستفحال لغة الفقد الفردى للأمان والتواؤم,وانفصال الذات الشاعرة عن هذاه القطيعة باستحضار الذكريات , ومناجاة الماضى, كل هذا مهد تمهيدا جيدا لطرح انكسارات الذات الجمعية على صفحات الذاكرة الشعرية , لأن استقامة العود الجمعى , ينعكس على الأفراد بتحسن أوضاعهم العاطفية والمادية , أما زيادة الكبوات , والترهل الأخلاقي , وفساد الحكام , وشح الأنفس , وطغيان القياسات المادية وحب لحياة ,فإنه يورث النفس النقية حسرة وإحباطا قد يصل بها إلى ذروة الجنون , إذا لم تجد متنفسا لمشاعرها المكبوتة.
وهذا ما وجده الشاعر فى قصيدته الثانية ( فجر الحانات العربية ) إذ استحضر صور الشموخ العربى من التاريخ أمام طغيان الرعونة والضعف فى الحاضر , وحاول معادلة الألم المعاصر بدواء قديم فلم ينفعه الدواء , فما كان منه إلا أن أمعن فى جلد الذات , ثم استعراض حالات الاسترخاء العربى أمام متطلبات الرجولة والنخوة , والدفاع عن الأرض والعرض والشرف والكرامة , حيث يقول ص13, ص16
الى طللى أسوق دموع حالى أنادى الفجر فى صمت الليالى
هنا كم عاش أبنائى طويلا رقــــوا مـجـدا علا قمم الجبال
وكانوا فتية عربا وكانوا أســــودا رنــمـــوا يــوم النزال
فان العرب فى الحانات سكرى مباح ســـكـــرهم . شرع الحلال
لقد تداخل الألم الذاتى مع الألم القومى ,وأضحى نسيج الذاتى العاطفى جزءا من الوطن , يتناوبه وخز الأوجاع من جراح الأقصى وبغداد والقدس , وتنقض عليه أفات الأهل حين قتل الاسترخاء نخوتهم , فلا مجيب ولا حبيب , ولا حياة لمن تنادى . يقول ص 21
يا فؤادى لا تنادى ان من تهوى نيام
جثة قد لفها فى صمته هذا الظلام
فارتشف كاس التسلى لم يعد يجدى الكلام
ثم يتصاعد الزخم التراثى فى حضور يتناسب مع مقاومة المبدع للتراخي العربى , وفتور الهمة وضياع الأصالة العربية المعهودة على مر العصور , وانحدارالاخلاق لمستوى المادية النفعية فحسب , وعودة الفرعنة والتسلط بعد زوال زمان النبوات والانقياء , ويصل التداخل التراثى فى وعى الذات المبدعة إلى حد التلبس بالفن الشعر حزنا وألما وتردادا للمأثورات التراثية فى قصائده , كما هو واضح فى قصائد عفوية الزمن الذى ص 26, من أصداء الذكرى ص43, الرحيل ص64 , مشاهد مكبوتة ص73 , ومقاطع من زمن الموت .
ومن ثم يتبلور المعادل التراثي بصورة جلية , ويتفرع حضوره فى هذا الديوان إلى ثلاثة روافد:
أولها: الحفاظ على فخامة اللغة, وفصاحتها دون إخلال بمقتضيات الوزن الخليلى للقصائد , وسلامة البناء التفعيلى فى قصائد الأسطر الشعرية , والاطراد السلس للصورة الشعرية فى مستواها المجازى ووحدتها العضوية , وجملة شعره تشتمل على هذا العنصر الحيوى إلا بعض الحالات النادرة .
ثانيها: هذا الحضور التلقائى للمأثورات الدينية متمثلا فى السلوكيات اليومية , والمفاهيم الأخلاقية المبثوثة فى متن قصائده, ورد بعضه فى قصيدة ( من أصداء الذكرى ) ص47
قبل النوم فى جنح الظلام...
أما الاقتباس من الحديث الشريف فقد كان ضمنيا فى مواضع كثيرة , وصريحا فى بعض المواضع , ورد ذلك ص30 حيث يقول :
فإنا حواريو هذا الزمان الذى
دعى ما يريبك عند اللقاء .............
فهو يضمن قول الرسول صلى الله عليه وسلم " دع ما يريبك الى ما لا يريبك" ويستخدم آلية الاستدعاء الأسلوبى فى جلب الشخصيات التى ورد ذكرها فى القرآن الكريم , ففى هذه القصيدة يتلو الأسفار , ويعود الى اللوح مع موسى ليستحضر ميعاد ربه أربعين ليلة , وفتنة السامرى لبنى اسرائيل , وعجز هارون عن الوقوف أمام موجات الفتن الجامحة ويسقط هذا الزخم التاريخى على عصر استدار فيه الزمان بعودة فرعون , واستحالت عودة النبيين فيه , فهو عصر الجفاف وعصر الأنا , عصر الفرعنة , وانهيار القيم .
وقد تلبس شعره بفوح الآيات القرآنية المقتبسة فى قصائده , ومنها ما ورد فى قصيدته مشاهد مكبوتة ص 74 يقول :
وتسحبت أضواء مئذنتى على بعد
قد أجهدتهم رحلة الليل الطويلة
الطهر لا ينتج سوى طهر ورزق ونقاء , ومداد ما كتبت على الألواح آيات العطاء , نفس تناهت فى الطهارة فوق من خلقوا نساء , هزت بجذع النخل فاساقط رطب , أما الألى طمسوا هداية رشدهم فطعامهم من جذعها جمر .. غضب . وجهان للحق المباغت وعينا , وجه على الأيام يبقى طهره , والآخر المصنوع من طين الغواية ,يلتهب ... ما أتعس الإنسان فى دنيا العجب ....
إن تداخل الأصوات فى هذه القصيدة , وظهور مساحات الضوء مع ذكر النفح القرانى أمام ركام الظلمات الجاسمة على أنفس المتطلعين للخلاص من حمى الوجع الانسانى فى الاخلاق والمعتقدات , يفتح افاق الوعى على خطورة الخطوة التالية , فهى اما إيغال فى العته العصرى , وجرف لبقايا حطامنا الى بحار العولمة على الطريقة الغربية , حيث نداات الغرائز والشهوات, أو افاقة مقاومة تدفعنا الى طهر وعفاف ونخوة نجر بها الآخرين إلى عالم النور والرشاد ,حيث نصدع بما يأمر ربنا من خير وعدل , يقول الشاعر ص77-78:
فتراقص المذبوح فى الحانات
هكذا تضع الثقافة الإسلامية أجنحتها لطيور الشعر , لتغرد بالآيات والأحاديث والمفاهيم الإسلامية ولتنفرد فى وعى النابهين بمساحات التنوير والإفاقة والمواجهة لالم الذات والوطن بعلاج سلوكى ناجح , وعلاج نفسى يقيم للذات الانسانية وزنها الطبيعى أمام ترهات المغالطين والمرابين , وتجارة المنافع والأحقاد .
أما الرافد الثالث : فهو يتمثل فى تداخل المقتبسات الشعرية مع نسيج العطاء الشعرى للمبدع واتخاذه لهذه المقتبسات كمتكأت دلالية على تناقص الصور الحاضرة للحياة مع الحصيلة التراثية الجمعية فى علو همة أصحابها وقوتهم , وسيطرة السلف أزمة الزمان والمكان وحركة الحياة دون فتور أو تردد أو ضعف .
فهذا صوت عنترة يجئ من سالف الزمن المضمخ بالبطولات صارخا فى مسامع الجبناء :
ولقد ذكرتك والرماح نواهل منى وبيض الهند تقطر من دمى
فوددت تقبيل السيوف لانها لمعت كبارق ثغرك المتبسم
حيث يقول صاحب الديوان ص44:
"ولقد ذكرتك والرماح نواهل"
وأصابع الأطفال فى ذر الرمال
وهناك أسمع طفلة عن أمها جاءت تسائل.
وأرى زجاجات الكحول على الطريق..........
لقد صار التذكر هذيانا ببطولات وهمية لا وجود لها فى عصر هلاك الهمم,وضياع العقول خلف الجرى وراء الشهوات وأطماع التردى فى حبائل العبث الشيطانى ,أما العقلاء فهم يرددون مع الشاعر القديم :
سافر تجد عوضا عمن تفارقهم وانصب فان لذيذ العيش فى النصب
لكن سفر الشاعر حركة مع الزمن لاستعادة وجهه قديم , كانت له هوية وذات وقدر , فقد تحطمت صورة الإنسان قيمة الإنسان وإنسانيته فى عصر لا قلب له ,بل له الف مرشف يمتص به دماء المتعبين, ليروى ظمأ المرابين , وتجار الرذيلة والإسفاف والقهر , يقول ص 46:
سافر تجد عوضا
فى كل حرف سوف ابحث
عن حقيقتك القديمة
لأوزعن الخوف
فى وجه القمر
ولافتكن بكل ذكرى
ترتمى فى حضن ألحاني الجميلة
أنا لست يا محبوبتى ألعوبة
تلقى على قاع المزابل
بين أنات الصفيح ...
لكنما وقع العصر على صاحب الديوان قد ترك ندوب حزن عميق فى كل لمحة من شعره , ووضع بصمة وجع أزلى , يتحمله ذوو النفوس الكبيرة فى كل عصر , ويفيض على أشعارهم بهذه النغمة الأسيانة الجريحة لكنه يقاوم , ويبحث عن رحيق العتق من أوجاعه فى صورة الزمن القديم , وينثر جمال القول لحنا عبقريا , ينبض بالحياة , فى صوره حيث يقول : " أنا ابن النخيل المطأطئ هاماته " , كما ينبض بالعبق الموسيقى جناسا تاما فى قوله ص 51:
فبالله عودى ليخضر عودى "
وقوله ص 52:فبالله جودى ليرقى وجودى يرق حبيب تبدى عصيا
إنه يستخدم المفارقة الحديثة التى تعبر عن حالة فقد الهوية والذاكرة , فهو باحث عن ربيع الكلمة , وربيع الأمة فى استعادة قيمتها باسترداد وجهها المشرق , كما كانت فى زمن الطهارة والنقاء والنهضة الأخلاقية .
سقطات لغوية ونحوية وعيوب فى القافية والعروض:
1-ص10,11 تكرار القافية قبل مرور سبعة أبيات كفاصل بين البيتين المكرر فيهما القافية فى قوله كل حب بالحبيب .
2-ص16,77 خطأ لغوى فى قوله " فلا المجنون فاق برغم ذل " والمقصود أفاق , وكذلك " فق من خمولك لا تعربد " والمقصود أفق .
وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .