مخموم القلب
من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام حينما سُئل عن أفضل الناس، فأطلع الجواب بياناً صفصفاً، وأبرزه في بلاغة يسحر لباب العقل، وينشي مدارك السمع، وتستهلّ لطلّه الوجدان. كان بيانه عليه الصلاة والسلام في معيار الأفضلية بين الناس بأنه: "كلّ مخموم القلب صدوق اللسان"، قالوا: صدوق اللسان نعرفه؛ فما مخموم القلب؟ فأثار بيانه سحاب البديع بأن مخموم القلب هو "التقيّ النقيّ الذي لا إثم فيه، ولا بغي ولا غلّ ولا حسد". كلمات تختصر مطوّلات الحديث، وتختزل ساعات من التقويم والتدريب في علم الآداب والأخلاق والسلوكيات، كلها تثير نقعاً من الغبار المتراكم على جوانب القلب، وتنأى بالصدأ الخانق له من كل صوب .
هي في حقيقتها معانٍ عميقة، تحمل دلالات رائدة، وأبعاد سحيقة، وجمالها كامن وسحرها باطن في أن هذه المعاني الخالبة؛ ذات تواصل والتقاء، وتفاعل ومواءمة، إذ لا تتفرد هذه السلوكيات في خبائها بقلب صاحبها وحده، فلا تناجيه بسرها، ولا تحاكيه وحده، بله هي ذات تحليق إلى شط آخر، وبيان عند التقاء بالآخر، لتنهض بقواعد راسخات من التفاهم والتلاقي على بسيطة النقاء، وجادّة المحبة والإخاء، تلكم المعان التي سبكها الحبيب صلى الله عليه وسلم.
وأذرّها في القفار. هي قطب الرحى في التلاقي مع الآخرين، ومدار الأمر في أي شأن نجتلب إليه، فلا تنسأ آثارها، ولا تنهض معانيها ما لم تحتف بالحديث وتنصب إزاءها ردود الأفعال، عندها قد تُستثار رياح الغلّ، وتستشيط الأحقاد من موضعها، فلا يتكشف عمق هذه المعاني لصاحبها ما لم يحسن الطويّة، ويجمل السريرة، في تفرّده وحضوره، في انطوائه واجتماعه، فهي قيم مشتركة لا تلوح آثارها ما لم تتعاطَ مع الآخرين، وتتجاذب معهم أطراف التلاقي، فتجسر بها هوّة الفرقة، وتحسر معها مثالب الجفوة .
وفي جمال الحبكة وروعة السرد من بيان الحبيب -صلوات الله وسلامه عليه -تكمن النُكت وتنحت الفوائد، وسناها في آثار هذه السلوكيات لمن انتحلها منهجاً في التعامل، ومعطى للتواصل، فهي تكشف لما تمتّ بصلة من مآلات وفوائد تحمل بشارات الخير والنقاء، والسعادة والرضا والصفاء، تثير في أجوائها هالات الوئام، وتنزع إلى التواصل والالتحام، عطفاً على ما تثيره هذه المعاني في ذات صاحبها من سكينة ووقار، والارتقاء بالنفس بكل اقتدار، فالقلب يسكن ويصفو، وعن الفتن والخوارم ينحو ويجلو .
بله إن إمعانها يحقق الارتقاء في التعامل، والنهوض بالسلوك إلى أرقى مدارج التميز الأخلاقي، فتبشّ لها النفوس وتُسر، وتبتهج لها الخواطر وتُحضر .
ومن بديع القول أن هذه المعاني السامية ارتباطها وثيق، والتحامها ببعضها حقيق، بله هي ثمرات كل منها تجنى للأخرى، وتنهض بها وترتقي عبر سناها، فانحسار الحسد الناجم منه الغلّ يكبح جمال البغي، ويقصي الجور، ويمسك بلجام الظلم؛ فيثار بذلك جمال النقاء في النفوس، وتعلوها المودة والمحبة والحبور، فتحفظ في ذلك كله من وغر الصدور، وتطرد نقيضها النفوس من الشحناء، وصفاءها من الضغينة والبغضاء، حينها نصل إلى النقاء والجمال، ويبلغ المؤمن حيالها محلة التقوى بالطاعة والامتثال، والصبر والاحتساب، والخضوع والابتذال .
وكما أسلفت إن هذه المعاني مدار أمر جسيم، تفضي إلى غايات ذات منحى عظيم؛ فهي تجلي معها الأخوة في أرق مباهجها متى ما انتفى الحسد والغلّ ونهض النقيض؛ وهي معانٍ خليقة تجسد لمناهض الإخاء: "لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً. المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره". فمن صفت سريرته تجاه الآخرين، وحسنت طويته في قوله وفعله معهم في كل حين؛ فقد غمرت السعادة نفسها في زمرة المتآخين، ولقيت رحابة في هذه الروضة المكتظة بالآداب والسلوك الناهض الرفيع.
ولا تكاد تحصر معانيها وتجمع؛ إذ يكتنفها من البديع الباهر ما يتعثّر معه البنان، وأن تسود في إحاطتها بيان الصفحات. كل هذا قد انضم وظهر عبر مخموم القلب!!
ألا وسمنا قلوبنا بذلك.