{ سبحان الله عما يشركون}
ليس من طبيعة الدين الحنيف أن ينفصل عن الدنيا...
وأن يكون في ركن ضئيل يسمى بالأحوال الشخصية..
وسائر الأركان الأخرى تسلم لآلهة أخرى يضعون لها المناهج دون الرجوع إلى شرع الله تعالى.
ليس من طبيعة الدين أن يشرع طريقا للآخرة لايمر بالحياة الدنيا..
نعم ليس من طبيعة الدين أن نمنعه من التدخل في شؤون حياتنا ونفتري عليه ونقول:
" لاتدخلوا الدين في كل شيء"..
ونقول:
" خل دينك لنفسك"..
أو نقول على سبيل المثال:
" إن قضية حجاب المرأة واختلاطها بالرجال ليست قضية دينية"...
لا، ليس دين الله هكذا أنزل...
بل أنزل ليحكمنا في كل صغيرة وكبيرة، رجالا ونساءا، وكل قضايانا دينية...
لكن من أين جاء هذا المسخ إذن؟..
من أين جاء الزعم بأن من الخطأ إدخال الدين في كل شيء؟..
وكيف وقع هذا التصادم والفصام بين الدين وقضايانا الحيوية كالاقتصاد والاجتماع والثقافة والعلم والأخلاق؟..
كيف وقع هذا الفصام بين الدين والحياة، ومن أين بدأ؟..
هل بدأ عندنا؟، أم أنه بدأ عند غيرنا ثم انتقل إلينا؟...
لقد وقع هذا الفصل في أوربا في ظروف نكدة، وكانت له آثاره المدمرة على أوربا، ثم في الأرض كلها حين طغت التصورات والأنظمة الغربية على البشرية كلها..
لنفهم كيف وقع الفصل لنعد بالحديث إلى عهد موسى عليه السلام..
لقد جاء موسى بالتوراة لتكون منهجا لحياة بني إسرائيل..ثم جاء عيسى عليه السلام بالإنجيل ليكون المنهج المعدل لبني إسرائيل..
ولكن اليهود لم يقبلوا رسالة المسيح، ومن ثم قاوموه، وانتهى بهم الأمر إلى إغراء بيلاطس الحاكم الروماني على الشام يومئذ بقتله وصلبه، لولا أن الله رفعه إليه..
ثم سارت الأمور بعد ذلك بين اليهود وأتباع عيسى عليه السلام سيرة بائسة، انتهت بانفصال أتباع المسيح عن اليهود، وانفصال النصرانية عن اليهودية، مع أن عيسى جاء تكملة لما جاء به موسى عليهما السلام..
وقد اضطهد أتباع المسيح من اليهود ومن الرومان، مما اضطر الحواريين وأتباعهم إلى التخفي والعمل سرا فترة طويلة، تناقلوا خلالها نصوص الإنجيل وتاريخ عيسى عليه السلام وأعماله تناقلا خاطفا في ظروف لاتسمح بالدقة ولا بالتواتر، وأقدم هذه الأناجيل كتب بعد المسيح بنحو 40سنة، وبهذا لم يحفظ الأنجيل، ولم يسطر كما أنزله الله، فكانت هذه الخطوة الأولى في طريق تحريف الدين، ومن ثم نبذه فيما بعد..
ثم تلتها الخطوة الثانية:
فقد دخل بولس في النصرانية، وبولس كان يهوديا من ألد أعداء المسيح، وفجأة انقلب فصار من أتباعه، وذلك بعد موت المسيح، وتبوأ مركزا هاما في النصرانية، حتى صار في مقام الرئيس وسمي بـ "الرسول"، فتسنت له الفرصة ليدخل فيها ماشاء من الوثنية الرومانية والفلسفة الإغريقية، ومن ذلك عقيدة الحلول، فكانت هذه الخطوة كارثة كبرى على النصرانية..
ثم تلتها الخطوة الثالثة في طريق نبذ الدين في أوربا..
وهي اعتناق قسطنطين الحاكم الروماني للنصرانية وسيطرة الحزب النصراني على الحكم..
كان قسطنطين لايبال بالدين، فسهل على المنافقين أن يمزجوا بين الوثنية والنصرانية مستغلين مناصبهم العالية، وكانت من نتيجة ذلك أن ظهر دين جديد تتجلى فيه النصرانية والوثنية سواء بسواء..
ساعد على هذه تعميق الانحراف في هذه الخطوة الخلافات السياسية والعنصرية، فقد أصبحت العقيدة النصرانية عرضة للتغيير والتنقيح لتحقيق أهداف سياسية..
فهذه ثلاث كوارث حلت بالنصرانية..
اضطهاد أتباعها منذ الأيام الأولى مما منعهم من تسطير الإنجيل تماما كما أنزل بالدقة..
واختلاط الوثنية بها على يد بولس أولاً..
ثم على يد قسطنطين الحاكم الروماني ثانيا..
ومن ثم صارت النصرانية غريبة كل الغرابة على طبيعتها كدين إلهي منزل، فلم تعد قادرة على أن تعطي التفسير الصحيح لحقيقة الوجود وصلته بالخالق، وحقيقة الخالق وصفاته، وحقيقة الإنسان والغاية من وجوده، والنتيجة أن الدين النصراني لم يعد صالحا لأن يكون منهجا للحياة..
ومع ذلك فقد كان الرجل الأوربي يعيش تحت مظلته، يشعر بحرمته ووجوب الخضوع لتفسيراته وأحكامه مهما كانت غير منطقية..
ثم..
حلت الكارثة الرابعة..
والتي تمثلت في الخطوة الرابعة في طريق نبذ الدين..
وذلك أن الكنيسة أرادت أن تقف في وجه الترف الروماني وسعار الشهوات التي كانت الامبراطورية قد غرقت فيها، لكنها لم تسلك طريق الفطرة السوية لغياب المنهج الصحيح، فاندفعت في رهبانية عاتية، لعلها كانت أشأم على البشرية من بهيمية الرومان الوثنية، فأصبح الحرمان من الطيبات وسحق الغريزة عنوان الكمال والفضيلة، وغرق الرهبان في نوع من البدعة من الزهد مقابل الفجور الذي غرق فيه المترفون، فامتنعوا من الطيبات وحرموا الزواج على أنفسهم، ولم يكن علاجا لذلك الانحلال، بل كان عاملا من عوامل الفصل بين الدين والحياة في نهاية المطاف..
الخطوة الخامسة:
وكانت الطامة الكبرى يوم اكتشف الناس أن حياة رجال الكنيسة تعج بالفواحش في أشد صورها، مما أفقد الثقة برجال الدين، والدين من ثم..
وإذا أضفنا إلى ذلك تعدي الكنيسة على حقوق الناس باسم الدين، بفرض الضرائب والخدمة بلا مقابل والإذلال الكبير إلى مهزلة صكوك الغفران، أدركنا طرفا من الملابسات التي أدت في نهاية الأمر إلى فصل الدين كليا عن الحياة في أوربا..
رافقت هذه الخطوة خطوة أخرى كانت تسير معها جنبا إلى جنب..
فقد كانت الكنيسة تنازع الأباطرة السلطة والنفوذ، ولأجل ذلك كانت الأباطرة في سخط كبير، ومن ثم استغلوا أخطاء الكنيسة ليثيروا الرأي العام ضدها، واستخدموا لهذه الغاية كل وسيلة، منها فضح رجال الكنيسة وكشف أقذارهم، مما ولد في نفس الإنسان الغربي النفور من الدين ورموزه..
ثم تلتها الخطوة السادسة..
والتي تعتبر القاصمة التي بها تم الفصل بين الدين والحياة..
فقد احتكرت الكنيسة لنفسها حق فهم الكتاب المقدس وتفسيره، وحظرت على كل عقل من خارج الكهنوت أن يتجرأ على ذلك، ثم قامت بإدخال معميات في العقيدة لاسبيل إلى إدراكها أو تصديقها، مثل الثالوث والعشاء الرباني، وفرضت على الناس قبول كل ذلك ومنعتهم من المناقشة وإلا تعرضوا للطرد والحرمان..
هذا المنهج المتعسف المنحرف اتبعته الكنيسة كذلك في المسائل العلمية وأحوال الكون، فادعت آراء ونظريات جغرافية وتاريخية وطبيعية مليئة بالخرافة والخطأ وجعلتها مقدسة لاتجوز مناقشتها...
وقد كانت هذه القضية بالذات سببا للكفاح المشؤوم بين الدين والعلم والعقل، الذي انهزم فيه الدين لأنه كان محرفا، فقد انفجر بركان العقل في أوربا وحطم علماء الطبيعة والعلوم سلاسل التقليد الديني..
فزيفوا النظريات التي اشتملت عليها الكتب المقدسة، وانتقدوها صراحة، فقامت قيامة الكنيسة وكفروهم وقتلوهم وأحرقوهم، فعوقب ثلاثمئة ألف إنسان، أحرق منهم إثنان وثلاثون أحياءً، منهم "برونو" و "وغاليليو"..
هنالك ثار المجددون وأصبحوا حربا على الكنيسة، ومقتوا كل ما يعزى إليها من عقيدة وثقافة وأخلاق، وعادوا الدين المسيحي أولا، وكل دين ثانيا، وقرر الثائرون أن الدين والعلم ضرتان لاتتصالحان، وأن العقل والدين لايجتمعان..
وبهذه الخطوة تكاملت الخطوات في طريق نبذ الدين وفصله عن الحياة بالكلية، فلم تبق إلا القشة التي تقصم ظهر البعير ليتم الحدث وتدخل أوربا في مرحلة جديدة تتنكر فيها لجميع الأديان..
وقد تحقق ذلك بالثورة الصناعية الفرنسية، التي بها أعلن زوال ملك الأباطرة والإقطاعيين وحكم الكنيسة ومعه الدين أيضا..
وبذلك أصحبت أوربا لادينية .*.
هذه هي أهم الملابسات التي أدت إلى فصل الدين عن الحياة في أوربا، وهذا هو الدين الذي ثارت عليه أوربا، وقد كان لهم الحق في ذلك، فكما رأينا..
كان دينا محرفا أقرب إلى الوثنية، عاجزا عن تلبية حاجات البشر..
ثم إن هذه الفكرة سرت إلى بلاد الإسلام، ونصرها الببغاوات والقرود دون يفرقوا بين دين الإسلام الصحيح ودين النصرانية المحرف، فتلك الملابسات أوربية بحتة، وليست إنسانية عالمية، ومتعلقة بنوع من الدين لا بحقيقة الدين، وخاصة بحقبة من التاريخ..
ومن هنا كان من الخطأ تعميمها على الأرض، خاصة البلاد المسلمة التي قبلت هذه المبدأ الكافر، فأعرضت عن الدين، وحصرته في ركن ضيق..
وإذا كان لأولئك الحق في نبذ دينهم، فقد كان المسلمون على خطأ كبير في نبذ دينهم تقليدا لهم، إذ لم يتحقق على مدى نصف قرن من الإعراض عن الدين أي تقدم في أي مجالات الحياة..
بل لازالت البلدان الإسلامية التي قامت على مبدأ فصل الدين عن الحياة إلى اليوم متخلفة في كافة المجالات عن نظيراتها من البلدان الأوربية، والسبب:
أن الدين المحرف كان يعوق تقدم الغرب، فلما تخلص منه انطلق..
أما الذي يعوق تقدم المسلمين اليوم هو تركهم العمل بدينهم الصحيح المحفوظ من رب العالمين، ولن يصلح حالهم إلا بالدين الكامل الشامل.. والدليل:
أن المسلمين حكموا العالم اثني عشر قرنا لما كانوا يحكمون الدين في كل صغيرة وكبيرة، ثم لما أهملوا العمل به تراجعوا وتقدم غيرهم، فإن أردوا استرداد مكانتهم فيجب عليهم أن يعودوا ويكونوا كما كان الأولون، ورحم الله الإمام مالك حين قال:
" لن يصح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها"..
والذي أصلح أولها هو تحاكمهم إلى الدين في كل شيء، وترك أهوائهم جانبا، ومن هذا نفهم خطأ ما يتردد على ألسنة بعضنا من كلمات مثل:
" خل دينك لنفسك"،..
" لاتدخلوا الدين في كل شيء"،..
" لاتجعلوا كل القضايا دينية"..
وندرك كذلك خطورة ما يفعله من بهر بالغرب من محاولة واجتهاد في تفسير الدين في نطاق ضيق لايتجاوز زوايا المسجد وشعب القلب
مما راق لى فنقلتة لكم