المقامة الهلالية
حدثنا يحيى بن جعفر قال: استجممتُ بعض أيام بأرض العجم، فتعرفت أقوامًا وطرحت كثيرًا من السأم. وشهدت ضروبًا من النظام، والدقة والإحكام، وفنونًا من المهارة والإتقان، وأصنافًا من تدبير الخلاف وتكريمِ الإنسان. وفي أواخر شهر شعبان، بدا لي أن أعود إلى أرض العُربان. وقُلتُ: هذا رمضان على الأبواب، وهو شهر يروق باجتماع الأحباب. وعند عودتي سالمًا غانمًا، ألفيتُ جوًّا غائمًا، وخلافًا كما عَهدتُه دائمًا. قومٌ سلكوا النِّجاد، وقوم قصدوا الوِهاد، وطائفة من الناس شرَّقت، وأخرى غرَّبت، فإذا الناس في شتات وشعَث. وإذا هم كقطيع الشَّاء في الليلة الماطرة، وقد غاب راعيهم وطوَّقتهُم السباع الماكرة. وكلُّ الخلاف حول رؤية الهلال، والصيام الحرام والصيام الحلال. ومتى مَبدَأُ رمضان، أهو شهر أم شهران؟
قال يحيى بن جعفر: فقصدت مفتي الديار، ومَن بيده الرأي والقرار، وسألته: إلامَ الخُلفُ بيننا يا شيخ حول شهر الصيام؟ ومتى يُلَمُّ شعث قومِنا والأنام؟ فنمضي إلى العمل ويَقِل عندنا الكلام.
قال الشيخ: أصلُ الخلاف قولٌ في المَطالِع، ولئن كان في الأقوال مغمور وذائع، فليس لنا أن نَحكُمَ بحسب الشائع. فرأيٌ يقول باختلافها، فيكون لكل بلاد رمضانها، بحسب الرؤية وانعدامها. ورأيٌ يقول بوحدة المطالع، فتَلْزَمُ العالَمين رؤيةٌ وقولٌ جامع. ثم أضاف الشيخ: ِزدْ عندك اختلافَ القوم حول الحساب، أيُعتدُّ به أم تركُه الصواب؟ أم يُقرَن بالرؤية فيكون أجدى، أم يكون وحدَهُ أنفعَ وأهدى؟ ثم استرسل الشيخ في حديثه عن الاقتران والرؤية الممكنة، وما استحال منها وما تعسَّر واختلاف الأمكنة.
قال يحيى: فقلت لمفتي الديار: فإنا نصوم بحسب مطالعَ مُقرَّرة، أم بحسب حدود بين الأقطار مُسطَّرة؟ وما القولُ إذا كان القُطر متراميَ الأطراف كثيرَ الثغور؟ أيكون لكل ثَغْرٍ مطلعُه المقدور؟ فيجوز حينئذ أن يكون بحسب المشهور، صومُ ثغرٍ لثغرٍ بعيدٍ يومَ فطور!!
قال الشيخ: تلك فتنة إذن، لعن الله من أيقظها. قلت: فوحدةُ المطالع تخمدها، لا مَقاسِمُ البلدان وحدودُها. ثم قلت: لكن يا شيخ يا مفتي الديار، لِمَ تَخصَّصَ الجدلُ بالصوم والإفطار؟ أليست لنا شعائرُ أُخَر، متعلقة كُلُّها بأحوال القمر؟
قال الشيخ: أفصحْ يا مَن أُشرِبْتَ الجدل، وخُضتَ في الدين بلا عِلَل. قلت: يا شيخ، أَلَيلةُ القدر ليلةٌ أم ليال؟ زيَّنَ الله مقالَك والحال. قال: بل هي ليلة واحدة، أخفاها الله لفائدة. قلت: فمَن أدركَ الليلةَ على الحقيقة؟ الأوَّلون أم مَن بعدهم؟ قال الشيخ: كلٌّ على صواب إن شاء الله، والله يجزي العبدَ بحسب ما أبلاه. قلت: كيف ووِتْرُ الأولين شفعُ الآخِرين، ووترُ الآخِرين شفعُ الأولين؟ أوَليست الليلةُ وترًا يا شيخنا؟ أم تُرانا نهذي دُلَّنا!
قال الشيخ: أنِلتَ بُغيتَك، وأكملتَ ما عندك؟ قلت: والله يا شيخ إن كنتُ أحتار، فليس كحيرتي يومَ حجِّ الأبرار. لا ريب أنك عرفتَهُ يا شيخ وحاجِبُك عرَفه، ذلكم يومُنا المُعظَّمُ يومُ عَرَفة. قال الشيخ: ومِمَّ حيرتُك يا قليل الفقه كثير الوَهم؟ ومتى كان العقل دليلَ الفهم؟
قلت: رفقًا بي وحِلمًا، وأفدني مِمَّا أعطاك الله علمًا! ألسنا نصوم ثامنَ ذي الحِجَّة، حين يكون تاسعَها عند الحُجَّاج وهو الحُجَّة؟ فهل صومُنا صحيحٌ بحسابهم، وما القولُ قي تاسعِنا وهو الأضحى عندهم؟ فهذا التاسعُ أَوْ هي مِنَ الهَيام، فلا هو عيدٌ ولا هو صيام.
قال الشيخ: لَمْ تَستثْنِ غيرَ أيامِ البِيض وعاشوراء. قلت: الحق فيها بائنٌ بلا مِراء. فما قيل عن غيرها من الأيام، يجري على البِيضِ وعاشوراء بالتمام.
قال يحيى بن جعفر: ثم قلت: يا شيخ كلُّ المُحال يأتيك من اختلاف المَطالع، ولو توحَّدَت لارتفع النزاع وغاب المُنازع. ولئن كان للسلف ما يبرر الخلاف، أفيكون للخلف مبررٌ في عصرِ الاكتشاف، وبلوغِ الخبرِ من بقاع الدنيا والأطراف، في لَمْح البصر وكما تزول الأطياف؟!
فأطْرَقَ الشيخُ لحظة ثم قال وكأنه يُحدِّثُ نفسه: مَن قال إنَّ كلَّ خلاف رحمة، والله إن مِنهُ لَنِقمة. والله لن يتوحَّدَ الصيام، حتى يصير الأنام غير الأنام، وتنتفي المآرب والأضغان، وتَخْلُصَ النياتُ ويَصفُوَ الجَنَان.