... كيف يصوم القلب ...
الحمد لله والصلاة السلام على رسول الله وآله وصحبه وبعد .
يقول الله تبارك وتعالى : ( ومن يؤمن بالله يهدِ قلبه ) , وهداية القلب أساس كل هداية ومبدأ كل توفيق وأصل كل عمل ورأس كل فعل .
صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : (( ألا و إن في الجسد مُضغةً إذا صلحت صلح الجسدُ كله , وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب )) .
فصلاح قلبك سعادتك في الدنيا والآخرة , وفساده هلاك محقّق لا يعلم مداه إلا الله عز وجل , يقول الله تعالى : ( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيدٌ ), ولكل مخلوق قلب , ولكنهما قلبان , قلبٌ حيٌّ نابضٌ بالنور مشرق بالإيمان ممتليء باليقين عامر بالتقوى , وقلب ميّت سقيمٌ فيه كل خراب ودمار .
يقول سبحانه وتعالى عن قلوب المعرضين اللاهين : ( في قلوبهم مرضٌ فزادهم الله مرضاً ) , وقال تعالى : ( وقالوا قلوبنا غلفٌ , بل لعنهم الله بكفرهم فقليلاً ما يؤمنون ) , وقال سبحانه : ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبهم أقفالها ) , وقال عنهم : ( و قالوا قلوبنا في أكنةٍ مما تدعون إليه و في آذاننا وقرٌ ) .
فالقلوب تمرض ويطبع عليها , وتقفل وتموت .
إن قلوب أعداء الله عز وجل معهم في صدورهم , ولكن لهم قلوب لا يفقهون بها , لذلك كان يقول عليه الصلاة والسلام كما صح عنه : (( يا مقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك )) .
قلب المؤمن يصوم في رمضان وغيره , وصيام القلب يكون بتفريغه من المادة الفاسدة من شركيات مهلكة , ومن اعتقاد باطل , ومن وساوس سيئة , و من نوايا خبيثة , ومن خطرات موحشة .
قلب المؤمن عامر بحب الله , يعرف ربه بأسمائه وصفاته , كما وصف سبحانه وتعالى نفسه , فهذا القلب يطالع بعين البصيرة سطور الأسماء و الصفات , وصفحات صنع الله في الكائنات , ودفاتر إبداع الله في المخلوقات .
وكتابي الفضاءُ أقرأُ فيه **** صوراً ما قرأتها في كتابي
قلب المؤمن فيه نورٌ وهّاجٌ لا تبقى معه ظلمة , نور الرسالة الخالدة , و التعاليم السماوية , و التشريع الرباني , يُضاف هذا إلى نور الفطرة التي فطر الله عليها العبد , فيجتمع نوران عظيمان , قال تعالى : ( نورٌ على نور , يهدي الله لنوره من يشاء , ويضرب الله الأمثال للناس و الله بكل شيءٍ عليم ) .
قلب المؤمن يزهر كالمصباح , ويضيء كالشمس , ويلمع كالفجر , يزاد قلب المؤمن من سماع الآيات إيماناً , ومن التفكر يقيناً , ومن الاعتبار هداية .
قلب المؤمن يصوم عن الكبر لأنه يفطر القلب , فلا يسكن الكبر قلب المؤمن لأنه الحرام , و الكبر خيمته ورواقه , ومنزله في القلب , فإذا سكن الكبر في القلب أصبح صاحب هذا القلب مريضاً سفيهاً , وسقيماً أحمق , ومعتوهاً لعّاباً .
يقول سبحانه كما في صحيح الحديث القدسي (( الكبرياء ردائي , و العظمة إزاري , من نازعني فيهما عذبته )) , وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : (( من تكبر على الله وضعه , ومن تواضع لله رفعه )) .
قلب المؤمن يصوم عن العجب , والعجب تصور الإنسان كمال نفسه , و أنه أفضل من غيره , وأن عنده من المحاسن ما ليس عند الآخرين , وهذا هو الهلاك بعينه , صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : (( ثلاثٌ مهلكاتٌ : إعجاب المرء بنفسه , وشحٌ مطاع وهوىً متبع )) , ودواء هذا العجب النظر إلى عيب النفس , وكثرة التقصير , وآلاف السيئات و الخطايا التي فعلها العبد , واقترفها ثم نسيها , وعِلمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى .
قلب المؤمن يصوم عن الحسد , لأن الحسد يحبط الأعمال الصالحة , و يطفيء نور القلب , ويعطل سيره إلى الله سبحانه وتعالى , يقول سبحانه : ( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ) , ويقول عليه الصلاة والسلام أنه : (( لا تحاسدوا و لا تباغضوا و لا تدابروا و لا تناجشوا ولا يبع بعضكم على بيع بعض )) حديث صحيح .
أخبر عليه الصلاة والسلام ثلاث مرات عن رجل من أصحابه أنه من أهل الجنة , فلما سئل ذاك الرجل بما تدخل الجنة ؟ قال : لا أنام و في قلبي حسد أو حقد أو غش على مسلم , فهل من قلب يصوم صيام العارفين :
صيام العارفين له حنينٌ **** إلى الرحمن رب العالمينا
تصوم قلوبهم في كل وقتٍ **** و بالأسحار هم يستغفرونا
اللهم اهد قلوبنا إلى صراطك المستقيم , وثبتها على الإيمان يا رب العالمين .