كثيرا ما يأتي الظن في القرآن الكريم بمعنى اليقين, ويكون للتعبير بالظن في كل موضع من القرآن دلالة تختلف باختلاف سياق الآية, وأزعم أنى في هذا البحث وقفت عند جل المواضع التى ورد فيها الظن بمعناه أو بمعنى اليقين, وحاولت الوقوف على دلالاته المختلفة مستعينا بكتب التفسير وكتب اللغة وبخاصة كتاب الجامع لأحكام القرآن للقرطبي وكتاب إعراب القرآن وبيانه للعلامة محيى الدين الدرويش, فإن أصبت فبتوفيق الله عز وجل, وإن جانبنى الصواب فبتقصير منى لم أتعمده, نسأل الله ألا يؤاخذنا عليه, وأسأله تعالى أن يكون هذا البحث معينا في فهم آيات القرآن الكريم وتدبر معانيه, وأن يكون سببا في أن يغفر الله لنا ما بدر منا من ذنوب وخطايا وأن يتجاوز عما اقترفنا من سيئات أعمالنا إنه هو السميع العليم وإنه مجيب الدعوات برحمته التى وسعت كل شىء.
يقول الحق تبارك وتعالى في سورة الإسراء {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)}, جاء في تفسير القرطبى : [{وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً}. يعني بين النفختين؛ وذلك أن العذاب يُكفّ عن المعذَّبين بين النفختين، وذلك أربعون عاماً فينامون؛ فذلك قوله تعالى{مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} (يۤس: 52) فيكون خاصاً للكفار. وقال مجاهد: للكافرين هَجْعة قبل يوم القيامة يجدون فيها طعم النوم، فإذا صِيح بأهل القبور قاموا مذعورين. وقال قتادة: المعنى أن الدنيا تحاقرت في أعينهم وقلّت حين رأوا يوم القيامة. الحسن: (وتَظُنُّون إن لبثتم إلا قليلاً) في الدنيا لطول لبثكم في الآخرة.] انتهى, فالظن هنا بمعناه, أى أنهم غير متيقنين من مدة لبثهم في الدنيا, ولكن لطول لبثهم في الآخرة يظنون أن مدة لبثهم في الدنيا كانت قليلة, وهى لم تكن كذلك. وقد ورد الظن بمعناه أيضا في قوله تعالى في سورة الحج {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)} الناصر هو الله عز وجل والمنصور هو محمد صلى الله عليه وسلم, والذى يظن أن الله لن ينصر نبيه في الدنيا والآخرة هو الذى لا يؤمن بالله إلها وناصرا ومعينا ولا بمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا, وأحسن ما قيل في تفسير هذه الآية كما ورد في تفسير القرطبى [من كان يظن أن لن ينصر الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأنه يتهيأ له أن يقطع النصر الذي أوتيه. {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى ٱلسَّمَآءِ} أي فليطلب حيلة يصل بها إلى السماء. {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} أي ثم ليقطع النصر إن تهيّأ له. {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ} وحيلته ما يغيظه من نصر النبيّ صلى الله عليه وسلم. والفائدة في الكلام أنه إذا لم يتهيأ له الكيد والحيلة بأن يفعل مثل هذا لم يصل إلى قطع النصر] انتهى. فالذى يظن – مجرد ظن- أن الله لن ينصر نبيه صلوات الله وسلامه عليه هو من لم يتمكن الإيمان من قلبه, فما بال من يقطع بذلك أو يكون متيقنا منه, فالتعبير بالظن هنا أفاد أننا لا يجب أن نترك أنفسنا نهبا للظنون بما نرى من أسباب على أرض الواقع لأن هناك أسباب أخرى بيد الله عز وجل لا نعلمها. والمولى جل وعلا يطلب من عباده المؤمنين به أن يظنوا بأنفسهم خيرا إذا وقع بينهم ما يفت في عضدهم ويفرق كلمتهم, وفى حديث الإفك يقول الحق تبارك وتعالى في سورة النور{لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)} أي كان ينبغي عليكم أن تنكروه ولا يتعاطاه بعضكم من بعض على جهة الحكاية والنقل، ولولا هنا بمعنى هلا, وقيل: المعنى أنه كان ينبغي أن يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات الأمرَ على أنفسهم؛ فإن كان ذلك يبعد فيهم فذلك في عائشة أم المؤمنين أبعد. «القرطبى»
فالظن هنا ورد بمعناه والمؤمنون مؤاخذون عليه وكذلك المؤمنات, فلا ينبغى لأحد أن يظن بنفسه ولا بغيره إلا خيرا, طالما أن المسألة لم تتعد حدود الظن إلى ما يقطع بصحتها, وفى غزوة الأحزاب حين احتدمت الأمور وبلغت غاية شدتها, بدأت الأراجيف والأقاويل تنتشر بين الناس وفى ذلك يقول الحق تبارك وتعالى في سورة الأحزاب{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)} قيل في تفسير هذه الآية «ظن المنافقون أن المسلمين يُستأصلون، وظن المؤمنون أنهم يُنصرون» وقيل «هو خطاب للمنافقين, إذ قالوا هلك محمد وأصحابه» فالظن هنا ورد بمعناه لأن الأمر لم يكن قد حسم بعد, والله يأمرنا أن نحسن الظن به, ولا نيأس من رحمته حتى إذا بلغت الأمور غاية الشدة.
نأتى إلى قول الحق تبارك وتعالى في سورة يوسف {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)} جاء في تفسير القرطبى [«ظن» هنا بمعنى أيقن، في قول أكثر المفسرين وفسره قتادة على الظن الذي هو خلاف اليقين؛ قال: إنما ظنّ يوسف نجاته لأن العابر يظن ظنًّا وربك يخلق ما يشاء؛ والأوّل أصح وأشبه بحال الأنبياء وأن ما قاله للفتيين في تعبير الرؤيا كان عن وحي، وإنما يكون ظنا في حكم الناس، وأما في حق الأنبياء، فإن حكمهم حق كيفما وقع.] ونقول وبالله التوفيق إن الظن هنا بمعنى اليقين وإنما جاء التعبير بلفظ الظن لأنه يظل في حكم الظن طالما أن الفتى لا يزال مسجونا, والظن عند عباد الله المقربين منه في مرتبة اليقين, وفى التعبير بالظن تأدب مع الله, فالذى ينجى هو الله, ولا يصل علم عبد إلى علمه سبحانه وتعالى, فظلت مسألة نجاة الفتى في دائرة ظن يوسف عليه السلام وإن كان على يقين من أنه ناج. ومثل هذا نجده في قوله تعالى في سورة ص {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)} فالظن هنا يرقى إلى مرتبة اليقين, مما جعل سيدنا داوود عليه السلام يستغفر ربه ويخر راكعا وينيب إلى الله, ولكن لأن المسألة متعلقة بالله جل وعلا إذ أنه هو الذى فتنه, ظلت المسألة في حيز الظن تأدبا معه سبحانه, ولهذا الموضوع شرح مستفيض في كتب التفسير لمن أراد الاطلاع. هذا وقوله تعالى في سورة البقرة {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)} فيه وصف للخاشعين بأنهم يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم راجعون إليه, مع أنهم على يقين من ذلك إلا أن التعبير جاء بلفظ الظن ليدلنا على عمق إيمانهم بالله عز وجل فقد خشعت قلوبهم فلم يستصعبوا الصبر ولم يستثقلوا الصلاة وهم يظنون أنهم ملاقو ربهم ولا يفعل ذلك إلا من كان على يقين من أنه سوف يلاقى ربه, فظنهم بالله ارتقى إلى مرتبة اليقين, أو نقول إن إيمانهم بلغ حدا تلاشت عنده حدود الظن واليقين, فظنهم كيقينهم. وتأكيد ذلك ورد في قوله تعالى في سورة البقرة أيضا {.... فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)} فالذين يظنون أنهم ملاقو الله كانوا أكثر قربا إليه من غيرهم الذين قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده, لأن ظنهم بالله ارتقى إلى مرتبة اليقين فأقبلوا على ملاقاة أعدائهم ولم يستهولوا عددهم ولم تخفهم عدتهم, لأنهم تيقنوا من حقيقتين الأولى أن الفئة القليلة تغلب الفئة الكثيرة بإذن الله والثانية أن الله مع الصابرين, فصبروا وأقبلوا على ملاقاة أعدائهم وهم على يقين من نصر الله فنصرهم. أيضا في هذا المقام نجد قوله تعالى في سورة التوبة {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)} فهؤلاء الذين خلفوا كانوا على يقين من أنه لا ملجأ لهم من الله إلا إليه, وإنما ذكر بلفظ الظن ليدل على عمق الإيمان وتمكنه من قلوبهم, ذلك لأنه قد حدث لهم ما حدث فشعروا كأن الأرض قد ضاقت عليهم وضاقت عليهم أنفسهم فوقعت حقيقة أنه لا ملجأ من الله إلا إليه في دائرة ظنهم, فتوجهوا إليه تائبين منيبين وهم على هذه الحال من الترقب المشوب بالخوف والفزع والهلع فتاب الله عليهم لأنهم أحسنوا الظن به, وارتقى ظنهم إلى مرتبة اليقين.
يقول الحق تبارك وتعالى في سورة الأعراف {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)} ما تتحدث عنهم الآية هم قوم آمنوا برسالة نبيهم, ولكن شاب إيمانهم نوع من اللجاجة والعصيان, إنهم بنو إسرائيل الذين كانوا يكثرون من السؤال, ويستزيدون من الأدلة والبراهين على صدق الرسالة, وقد وضح ذلك في أكثر من موضع من القرآن الكريم وبخاصة في سورة البقرة, وقد أجابهم الله إلى كل ما طلبوا, وآتاهم كل ما يتمنون, إلى أن وصل بهم الأمر إلى أن طلبوا من سيدنا موسى عليه السلام أن يرووا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة, ثم أحياهم الله بفضله ونعمته, فهل كان ذلك رادعا لهم, كلا .. لقد عادوا إلى المراوغة واللجاجة - فكما ورد في تفسير القرطبى - حين جاءهم موسى عليه السلام من عند الله بالألواح فيها التوراة قال لهم: خذوها والتزِموها. قالوا: لاٰ إلا أن يكلّمنا الله بها كما كلّمك. فصُعِقوا ثم أُحْيُوا. فقال لهم: خذوها. فقالوا لا. فأمر الله الملائكة فٱقتلعت جبلا من جبال فلسطين طوله فرسخ في مثله؛ وكذلك كان عسكرهم؛ فجُعل عليهم مثل الظُّلة، وأُتُوا ببحرِ من خَلْفِهم، ونار من أقبَل وجوههم، وقيل لهم: خذوها وعليكم الميثاق ألا تضيّعوها،وإلا سقط عليكم الجبل. فسجدوا توبةً لله وأخذوا التوراة بالميثاق. (انتهى)
حينما رأى بنو إسرائيل الجبل فوقهم ظنوا أنه واقع بهم فأخذوا التوراة بالميثاق, هذا ما حدث ولكن هل لمجرد الظن أطاعوا نبيهم وأخذوا التوراة بالميثاق؟ .. كلا .. فالخوف الذى تملكهم حين رأووا الجبل فوقهم, ارتقى بظنهم إلى مرتبة اليقين, ولكن جاء التعبير بالظن هنا لأنهم اعتادوا على التكذيب, ولم يستقر في يقينهم إلا ما وافق هواهم, وكل ما يأتيهم من عند الله يظل عندهم في دائرة الظن لا يتخطاها إلى دائرة اليقين, ومن هنا كان عصيانهم ومراوغتهم ولجاجتهم, ومثل هؤلاء نجد قوما اعتادوا على البغى في الأرض بغير الحق, اعتادوا على ألا يشكروا الله على نعمه التى لا تعد ولا تحصى, فلما تعرضوا لموقف تقطعت فيه بهم الأسباب اضطروا أن يدعوا الله لينجيهم مما هم فيه يقول المولى جل وعلا في سورة يونس {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)} فمن نعم الله على الخلق أنه يحملهم في البر على الدواب, وفى البحر على الفلك, فلما كان هؤلاء القوم في الفلك وجرت الفلك بهم وسعدوا بما أنعم الله عليهم جاءتها ريح عاصف وكان من نتيجتها أن جاءهم الموج من كل مكان فوقع في ظنهم أنهم سيهلكون حتما, لأن الذين اعتادوا على ألا تكون لهم مرجعية دينية في أعمالهم, يقبلون على الحياة الدنيا ولا يأبهون بنهايتها, وكأنهم مخلدون فيها, حتى إذا أحيط بهم وحاصرهم الموت لا يدخل ذلك في دائرة يقينهم ولكن يظل في دائرة الظن, فيظنون أنهم هالكون كما جاء في التعبير القرآنى البديع (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ), ومن منطلق هذا الظن تذكروا أنهم كانوا لا يشكرون الله على نعمه, فدعوا الله أن ينجيهم مما هم فيه من كرب, وسوف يكونون من الشاكرين, فلما أنجاهم الله عادوا لبغيهم وجحودهم, وهم لا يعلمون أنما بغيهم يرتد عليهم, وسوف يحاسبون عليه حين يرجعون إلى الله فينبئهم بما كانوا يعملون. وفى قوله تعالى في سورة الكهف{ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)} توضيح لما نود أن نقول فيوم القيامة يرى المجرمون النار فيظنون أنهم مواقعوها والمواقعة ملابسة الشىء بشدة, وقيل المعنى ملاقوها أى مجتمعون فيها, فهم على يقين من أنهم مواقعوها ولكن ظل ذلك في دائرة ظنهم لأنهم كذبوا به في الدنيا ولم يأخذوه مأخذ الجد فضلا عن أن يتيقنوا منه, فلما رأوه واقعا لابسهم فيه بعض الشك فظل في دائرة ظنهم, ولكن لم يجدوا عنه مصرفا أى ملجأ أو مهربا. ومثل هذا المعنى ورد في سورة فصلت في قوله تعالى { إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آَذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)} فيوم القيامة ينادى الحق جل وعلا المشركين (أَيْنَ شُرَكَائِي) فلا يملكون إلا أن يقروا بأن أحدا منهم لا يشهد بأن لله شريكا سبحانه, وبطل ما كانوا يدعون من قبل في الحياة الدنيا, وأيقنوا أنه لا مخرج لهم مما هم فيه, وإنما جاء التعبير بلفظ الظن لأنهم لم يتيقنوا من ذلك في الحياة الدنيا فلما وقع لم يتجاوز حيز الظن عندهم, كأنهم غير مصدقين ما يرونه بأعينهم, وهكذا حال الذين طمس الله على قلوبهم, ولم يشرح صدورهم للإيمان. هؤلاء هم الكفار الذين يكذبون رسلهم من منطلق ظن يساورهم أن هؤلاء الرسل كاذبون قال تعالى في سورة الأعراف {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66)} فما يقول به الملأ كان في دائرة ظنهم ولكن لأنهم كفار قد طمس الله على قلوبهم تعاطوا معه على أنه يقين, وكذبوا نبيهم فيما أرسل به من عند ربه, ولو أنهم أعملوا عقلهم فيما يرون من آيات النبوة, وتفكروا فيما يأمرهم به نبيهم وما ينهاهم عنه لآمنوا بما أرسل به إليهم ولكن جرى على هؤلاء قدر الله أنهم لا يؤمنون قال تعالى في سورة البقرة {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}, فهم يرون نبيهم في سفاهة ويظنونه من الكاذبين, يرونه على غير ما هو عليه من حال, ويظنونه كاذبا, الآية نزلت في قوم عاد وقد بعث الله إليهم أخاهم هودا برسالة التوحيد (يَاقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ) فكذبوه واستمرؤوا حال الكفر التى هم عليها. ومثل هذا الرد جاء على لسان فرعون حين جاءه موسى عليه السلام بالآيات الدالة على صدقه قال تعالى في سورة الإسراء {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)} فالآيات واضحة الدلالة على أنها من عند الله, ولا سبيل إلى إنكارها, ولكن لا سبيل إلى تصديقها أيضا من قِبل من جعل من نفسه إلها, فهو لا يتصور أن يكون هناك إله غيره, فماذا هو قائل فيما يرى من آيات؟ إنه لم يجد أمامه إلا أن يتهم موسى عليه السلام بأنه مسحورا من منطلق ظن ساوره, فهو لا يستطيع أن يؤكد ذلك, ولكن اتخذ منه سببا للتكذيب وكفى, "ومسحورا هنا بمعنى ساحرا, كما جاء في تفسير القرطبى فوضع اسم المفعول مكان اسم الفاعل كما نقول مشؤوم وميمون بمعنى شائم ويامن, وقيل مسحورا أى مخدوعا", فرد عليه موسى عليه السلام بأنه يعلم يقينا أن هذه الآيات من عند الله أنزلها بصائر للناس, ثم أتبع ذلك بقوله (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) "ومثبورا كما جاء في تفسير القرطبى أى هالكا خاسرا وقيل ملعونا", وسيدنا موسى عليه السلام على يقين من أن فرعون مثبور ولكنه قال بلفظ الظن على سبيل السخرية من فرعون أى كما كان ظن فرعون فيه أنه مسحور ظن موسى عليه السلام أنه مثبور, ولكن فرعون ليس على يقين مما يقول أما موسى عليه السلام فهو على يقين مما يقول, لأنه يستند إلى معطيات واقعية, ويستند فرعون إلى وهم أنه إله, إذ ظل يتوهم ذلك ويوهمه المنافقون من الناس أنه كذلك إلى أن صدق نفسه وصدق من يوهمونه, فلما جاءه موسى بالبينات وجد نفسه بين أن يصدق موسى عليه السلام وبهذا ينهار عرشه ويتيقن من أنه عاش على الوهم طيلة هذه السنين, أو يكذب موسى عليه السلام ويظل على حاله ينعم بمغالطة نفسه وبإيهام الآخرين إياه بأنه إله, فاختار الأخيرة, ولكن لأنه على يقين من أن موسى عليه السلام صادق فيما جاء به من عند ربه, كذبه من منطلق ظن ساوره أنه مسحورا, ليس هذا فحسب ولكن دفعته الحالة التى يعيشها بين التصديق والتكذيب إلى أن يأمر هامان أن يوقد له على الطين فيصنع به الطوب الآجر ثم يبنى صرحا عاليا, يستطيع من فوقه أن يطلع إلى إله موسى, قال تعالى في سورة القصص {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)} بيد أن فرعون قبل أن يصعد إلى قمة الصرح بل قبل أن يُبدأ في البناء قال (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ) أى أنه مازال يستند إلى ظن يساوره بأن موسى عليه السلام كاذب, ودفعه هذا الظن هو وجنوده إلى الاستكبار في الأرض, ظنا منهم أنهم لن يرجعوا إلى رب العالمين, ولكن كانت العاقبة أن أُخذ هو وجنوده فنُبذوا في اليم, وهكذا تكون نهاية الظالمين. وقد ورد هذا المعنى أيضا في سورة غافر قال تعالى {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)}, وقوله تعالى (وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ) يفسره أنه تعاطى مع ظنه السيئ على أنه يقين وكذب موسى عليه السلام فيما جاء به من عند ربه. والكفار جبلوا على سوء الظن حتى امتد ظنهم إلى أن الله قد خلق السماء والأرض باطلا سبحانه وتعالى عما يظنون علوا كبيرا, قال تعالى في سورة ص {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)} وفى سورة فصلت يقول الحق تبارك وتعالى {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)}أى بلغ بهم الكفر حد أنهم ظنوا أن الله سبحانه لا يعلم كثيرا مما يعملون, وقد أهلكهم ظنهم وجعلهم من الخاسرين, فقد تعاطوا مع هذا الظن على أنه يقين واستحلوا حرمات الله, حتى أنهم كانوا يجاهرون بذنوبهم ولا يستترون مخافة أن تشهد عليهم أعضاؤهم. الغريب أن طبائع الأشياء وحقائق الكون لا تقترب من حيز الظن عند أولئك الذين ختم الله على سمعهم وعلى قلوبهم فصاحب الجنتين لا يظن أن جنتيه إلى زوال أبدا ولا يظن أن الساعة قائمة, قال تعالى في سورة الكهف {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـٰذِهِ أَبَداً (35) وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبي لأَجِدَنَّ خَيْراً منْهَا مُنْقَلَباً (36)} فمن وهم إسناد ما هو عليه من حال إلى أسباب دنيوية نسى أن كل شىء إلى زوال وأن مقاليد الأمور بيد الله سبحانه وتعالى, نظر ذلك الرجل إلى جنته قائلا (مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـٰذِهِ أَبَداً) كأنه ضمن لها أسباب وجودها, ولم يتصور أن تبيد في يوم من الأيام, ثم أعطته هذه النظرة الاستعلائية نظرة أخرى أشد خطرا فكذب باليوم ألآخر إذ قال (وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً) ليس هذا فحسب ولكنه ظن أنه أثير عند ربه الذى وهبه في الدنيا هاتين الجنتين (وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبي لأَجِدَنَّ خَيْراً منْهَا مُنْقَلَباً). ويخبرنا الحق تبارك وتعالى عن مثل هذا الكافر الجاحد بنعمة الله فيقول في سورة فصلت{لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)} والمقصود بالإنسان هنا الكافر, جاء في تفسير القرطبى «والإنسان هاهنا يراد به الكافر. وقيل: الوليد بن المغيرة. وقيل: عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية بن خلف» فقد أنكر البعث ولم يتطرق حتى إلى ظنه أن الساعة قائمة, ثم هو على يقين من أنه إن رجع إلى ربه فله عنده الحسنى وكذلك كان ظن صاحب الجنتين, في سورة الجن ورد الظن بمعناه في قوله تعالى {وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ ٱلإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً (5)}, فالمتحدثون في الآية نفر من الجن آمنوا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم, وسمعوا القرآن وتبين لهم الحق بعد أن صدقوا ما قيل بأن لله صاحبة وولدا من منطلق ظنهم أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا, وقوله تعالى {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)} هو من كلام الله عز وجل للناس, أى كان ظن الجن كظن كفار قريش أنه لن يبعث االله لخلق, ولقد آمن الجن بالبعث فالأولى أن تؤمن قريش, وقد يكون المقصود لن يبعث الله رسولا إلى خلقه, وفى كل حال إيمان الجن أصبح حجة على كفار قريش هذا والله أعلى وأعلم. وأما فى قوله تعالى {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12)} فاظن هنا بمعنى اليقين, أى أن الجن كانوا على يقين من أنهم لن يعجزوا الله في الأرض ولن يعجزوه هربا, فهم في قبضته وسلطانه لا يستطيعون منه هروبا, وجاء التعبير بلفظ الظن ليدل على عمق إيمانهم أى لم يتطرق إليهم شك في أنهم لن يعجزوا الله ولن يستطيعون منه هربا. أخيرا كان ظن إبليس أنه سوف يضل عباد الله ويصدهم عن سبيل الحق, وظل ذلك في حيز الظن إلى أن اتبعه من اتبعه من الخلق الذين قال الله فيهم في سورة سبأ {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)}, وبعد .. كانت هذه سياحة قرآنية مع الآيات التى ورد فيها الظن بمعناه أو بمعنى اليقين, وقد اعتمدت في هذا البحث كتاب الجامع لأحكام القرآن للقرطبي في تفسير ما التبس على الفهم من المعاني التى وردت اشتملت عليها تلك الآيات والله الموفق والمستعان والهادي إلى سواء السبيل