روضة المحبين ونزهة المشتاقين
لابن قيم الجوزية
بسم الله الرحمن الرحيم
درب يسر يا كريم الحمد لله الذي جعل المحبة إلى الظفر بالمحبوب
سبيلا ونصب طاعته والخضوع له على صدق المحبة
دليلا وحرك بها النفوس إلى أنواع الكمالات إيثارا لطلبها وتحصيلا وأودعها العالم العلوي السفلي لإخراج كماله من القوة إلى الفعل إيجادا وإمدادا
وقبولا وأثار بها الهمم السامية والعزمات العالية
إلى أشرف غاياتها تخصيصا لها وتأهيلا
فسبحان من صرف عليها القلوب كما يشاء ولما يشاء بقدرته
واستخرج بها ما خلق له كل حي بحكمته
وصرفها أنواعا وأقساما بين بريته وفصلها تفصيلا
فجعل كل محبوب لمحبه نصيبا مخطئا كان في محبته
أو مصيبا وجعله بحبه منعما أو قتيلا فقسمها بين محب الرحمن ومحب الأوثان
ومحب النيران ومحب الصلبان ومحب الأوطان
ومحب الإخوان ومحب النسوان ومحب الصبيان
ومحب الأثمان ومحب الإيمان ومحب الألحان ومحب القرآن وفضل أهل محبته ومحبة كتابه ورسوله على سائر المحبين تفضيلا
فبالمحبة وللمحبة وجدت الأرض والسموات وعليها فطرت المخلوقات
ولها تحركت الأفلاك الدائرات وبها وصلت الحركات إلى غاياتها
واتصلت بداياتها بنهاياتها وبها ظفرت النفوس بمطالبها وحصلت على نيل مآربها وتخلصت من معاطبها واتخذت إلى ربها سبيلا وكان لها دون غيره مأمولا وسولا وبها نالت الحياة الطيبة وذاقت طعم الإيمان لم رضيت بالله ربا
وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مقر بربوبيته شاهد بوحدانيته منقاد إليه لمحبته مذعن له بطاعته معترف بنعمته فار إليه من ذنبه وخطيئته مؤمل لعفوه ورحمته طامع في مغفرته
بريء إليه من حوله وقوته لا يبتغي سواه ربا
ولا يتخذ من دونه وليا ولا وكيلا عائذ به ملتج إليه لا يروم عن عبوديته انتقالا ولا تحويلا وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرته من خلقه
وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده أقرب الخلق إليه وسيلة وأعظمهم عنده جاها وأسمعهم لديه شفاعة وأحبهم إليه وأكرمهم عليه أرسله للإيمان مناديا وإلى الجنة داعيا وإلى صراطه المستقيم هاديا
وفي مرضاته ومحابه ساعيا وبكل معروف آمرا وعن كل منكر ناهيا رفع له ذكره وشرح له صدره ووضع عنه وزره وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره وأقسم بحياته في كتابه المبين وقرن اسمه باسمه فإذا ذكر الله
ذكر معه كما في الخطب والتشهد والتأذين فلا يصح لأحد خطبة ولا تشهد ولا أذان حتى يشهد أنه عبده ورسوله شهادة اليقين أغر عليه للنبوة خاتم % من الله ميمون يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبي إلى اسمه % إذ قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله % فذو العرش محمود
وهذا محمد أرسله على حين فترة من الرسل
فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل
وافترض على العباد محبته وطاعته وتوقيره والقيام بحقوقه وسد إلى الجنة جميع الطرق فلم يفتح لأحد إلا من طريقه فلا مطمع في الفوز بجزيل الثواب
والنجاة من وبيل العقاب إلا لمن كان خلفه من السالكين ولا يؤمن عبد حتى يكون احب إليه من نفسه وولده ووالد .