بيني وبين نفسي !
= =
استدرجتُ نفسي يوماً إلى خلوةٍ ، اقطعُها بها عن دنياالناس الذي يموجُ بألوانِ الفتن ..!
وهناك سألتها مبتسماً:
ألا ترين أيتها " الفاضلة " أن ملائكةَ الله سبحانه ، متفرغين بالكلية للإقبال على الله تعالى ،
لا ينشغلون بسواه ، ولا يزالون في ذكر متصل وخدمة دائمة ، يتقلبون في جنة قربه ..؟!
انتهبت نفسي إإلى الكمين الذي حاولت أعده لها ،
وعلمت أنني قدأطالبها أن تتشبه بهم ، فبادرت تصيح مولولة :
هييييه !!! على رسلِكَ يا حبيبي !!
لا تنسَ أن هؤلاء ملائكة كرام بررة ، وأنهم قد خلقوا مننور خالص ،
فأنّى لي أن أتشبه بهم ، وأنا المعجونة من
تراب الأرض والصلصالوالحمأ المسنون !!
كظمت غيظي ، وابتعلت ريقي وأخذت نفساً عميقاً ، ثمقلت :
حسناً .. هذه حجة قوية ،
ولكن ما بال رسل اللهعليهم السلام ، أليسو بشراً مثلنا ،
خلقوا كما خلقنا ، وتنفسوا هذا الهواء ،ومشوا على هذه الأرض ،
ومع هذا نجدهم أكثر الناس تشبها بالملائكة بل همخيرمنهم !؟
حمحمت نفسي وجمجمت ، ثم فكرت وقدرت ، ونظرت ثم عبست وبسرت ،
، وارعدت وأبرقت، ثم قالت في حدة :
هؤلاء يا حبيبي لا يُقارن بهم سواهم ،هؤلاء صفوة الصفوة من عباد الله ،
وقدراتهم وطاقاتهم وهممهم لا يماثلها شيء عندغيرهم ..!
كدت أنفجر في وجهها غير أني أمسكت أعصابي بيد من حديد !! وقلت :
دعي هؤلاء إذن ، فما بال جيل الصحابة الكرام .. بل والتابعين ..
وتابعي التابعين .. بل وكل الصالحين والربانيين على مدار العصور ،
حتى يومالناس هذا ..
أحست الخبيثة أني تمكنت منها ، وأني حصرتها في ركن الحلبة ،
وأن لكماتيتنهال عليها متتابعة ، وهي تحاول أن تحمي وجهها بلا جدوى !
ولذا فقد لاذت إلى كهف الصمت ، ثم فجأة قالت في حدة :
اسمع يا هذا !! إنمامثلي ومثل هؤلاء الذين تتحدث عنهم ،
كمثل تلميذ لا زال يدرج في رياض الأطفال ،ولا يزال لسانه يتعثر بمخارج الحروف ،
ولا يحسن حتى التعبير ، ثم أنت تطالبهبكل سهولة أن يتشبه بطلاب الجامعة ..
كيف يعقل هذا !؟ لا يصح هذا منطقا ولا عقلاولا حتى شرعا ،
ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء !!
أذهلني ما قالت ، وعجبت من مناورتها ، واستجمعت أنفاسي ثم أطلقتها كالقنبلة :
هذا اتهام صريح لله عز وجل ..!!
فصاحت مولولة ، فلقد أفزعتها هذه المفاجأةوقالت متلعثمة: كيف ذلك !؟
قلت :
لأن الله سبحانه كلفناأن نتأسى بقمة القمم ، وذروة الهمم ، وسيد العالمين ،
والنجم الذي لا يُجارىولا يُبارى في خلقٍ من أخلاقه ، محمد صلى الله عليه وسلم ،
فلو كانالأمر كما تزعمين لكان الله قد كلفنا بما لا نستطيع ، فهو تكليف بما لا يطاق،
فالأمر على غير ما تتصورين ، ذلك أن الله أرحم بعبده من أمه وأبيه ،
وهولا يكلفه إلى في حدود طاقته ، وما يقدر عليه ،
فكونه كلفنابأن نتأسى ونتقدي برسوله الكريم وهو قمة القمم ،
فذلك معناه أن في مقدورنا أننحاول التشبه به
والتشبث بمحاولة الوصول إلى القمة ، على قدر الطاقة ..
قال تعالى :
(
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌحَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَكَثِيرًا )
سورة الأحزاب..
فما رأيك الآن أيتها الماكرة الذكية !!؟
انكمشت نفسي بوضوح ، وتداخلت بعضها في بعض ، وأخذت تبتلع ريقها ، ولم تتكلم ،
غير أني سمعتها تستغفر الله ، وتقول : الله المستعان!!
تهلل قلبي وانشرحتروحي ، وأمّلت أن تعينني هذه النفس على أن أشمر في الطريق
لأتشبه بركب هؤلاءالصفوة من الخلق ، فقد قيل :
إن لم تكونوا مثلهم فتشبهوا ** إن التشبه بالكرام فلاحُ