انتقام الجغرافيا لثورة عبد الناصر
بقلم : مسعد غنيم
صباح جميل كنت أستمع فيه إلى كونشرتو براندنبرج لـلموسيقار الفذ "باخ" فإذا بالطبيعة تضيف إليه سيمفونية طبيعية رائعة. شكلت أصوات أسراب العصافير النغمات الحادة لتلك السيمفونية وشكلت قرارها صيحات عائلات الغربان، وملأت المساحة الصوتية فيما بين النغمتين هديل اليمام وتغريد البلابل المصرية السمراء، وذلك استعدادا ليوم جديد من السعي والكد. وعبر شباك غرفتي في مصيف قرية فايد داعبت بصري انعكاسات متراقصة لأشعة شمس الصباح الآتية من صحراء سيناء في الشاطئ الآخر على سطح البحيرة المرة الكبرى جنوب الإسماعيلية، لا يقطع ذلك المشهد الطبيعي إلا مرور طابور من السفن العابرة لقناة السويس وعبر البحيرات المرة.
استدعاء للتاريخ
طابور السفن العابرة لقناة السويس أمامي استدعى فجأة إلى ذاكرتي سلسلة من الصور السريعة الخاطفة.
الصورة الأولي لجيوش أحمس وهي تعبر هذه الأرض قبل أن تصبح بحيرة لتطارد الهكسوس الذين استعمروا مصر 150 عاما.
الصورة الثانية لأجدادي من الفلاحين المعدمين وهم يحفرون القناة تحت سياط سخرة الخديوي و"المستثمر" الأجنبي، ولتخرج مصر مدانة بنهاية هذا المشروع الهندسي الكبير!.
الصورة الثالثة تحمل صوت جمال عبد الناصر وهو يعلن تأميم قناة السويس شركة مساهمة مصرية ضد جبروت الاستعمار الغربي.
الصورة الرابعة شاركت فيها بنفسي مع جيش مصر وهو يعبر القناة في ملحمة العبور في أكتوبر 73 أيام كان لنا وطن ندافع عنه!.
أما المشهد الأخير، فلم أستوعب أبعاده وأعماقه الجيوسياسية إلا فيما بعد من خلال كتب الجغرافيا السياسية والتاريخ، وتمثل رائعة جمال حمدان "شخصية مصر" علامة مميزة وفارقة فيما قرأت من الفكر العالمي.
استشراف للمستقبل
مشهد وخواطر جعلتني أسرح بخيالي لأستشرف مستقبل أبنائي وأحفادي الذين تترامي أصوات لهوهم في مياه البحيرة إلي أذني تحت الشمسية أحاول أن أكتب هذا المقال، وأتساءل: ترى كيف ستشكل مستقبلهم السياسات الفاشلة جيوسياسيا للنظام الحالي لحكم مصر؟ هل سيأتي زمان تحرم عليهم مياه هذه البحيرة بعد أن يبيعها النظام الحاكم إلى من يدفع أكثر ممن يملكون المال من أحفاد روتشيلد وروكفيلر في أرض مصر وعرضها، وهل سيأتي اليوم الذي يدفعون فيه ثمن مياه النيل التي يشربونها الآن من حنفيات الشاطئ التي تغذيها ترعة الإسماعيلية المتفرعة عن النيل النجاشي؟
صمت الجغرافيا أبلغ من مزيفي التاريخ
عقب انتصار أكتوبر 1973 كانت نفس هذه الغرفة التي بدأت فيها كتابة هذا المقال على شاطئ البحيرة المرة الكبرى تقع في نطاق موقعي كمقاتل من مقاتلي أكتوبر على شاطئ القناة والبحيرات بعد محادثات فض الاشتباك الأولى والثانية والتي أجراها بكل عزة وشموخ المقاتل المصري المشير الجمسي. ذلك كان قبل أن يفاجأنا السادات بزيارته التاريخية لكيان الصهاينة (إسرائيل) في 1977، قمنا بعدها بلملمة خرائطنا وخططنا لاستكمال القتال وتحرير باقي سيناء، ورحنا ننتظر (السلام) ولكنه لم يأت بعد أكثر من ثلاثة عقود! وإنما الذي أتى هو الفساد والذي ذهب هو ثروة مصر!. فها هي سيناء خاوية على عروشها وبيعت أجمل أراضيها للمستثمرين الجدد وليعيد تاريخ حفر القناة نفسه، فأجمل مواقع شطوط سيناء أصبحت منتجعات للمستعمرين الجدد وللمستوطنين المحليين، وهاهم بدو سيناء وقد فاض بهم الكيل من حرمانهم من المشاركة في "غنائم" ذلك السلام، ومن منازعتهم في حقوقهم في أرض مراعيهم التاريخية، هذا غير حرمانهم من أي تنمية حقيقية تربطهم بواديهم على النيل. كل ذلك على خلفية جيواستراتيجية غامضة من "الاعتدال" مع الأصدقاء الإسرائيليين و"الصراع" مع الأشقاء الفلسطينيين في غزة المحاصرة خلف جدار فولاذ "واطي"، يتم بناؤه بمعرفة مهندسي الإمبراطورية الأمريكية!.
واقع جغرافي على صمته فهو أعلى صوت من أي مزايدات إعلامية من نظام الحكم المصري الحالي، مزايدات لا تستر عورته الجيوسياسية بعد أن فضحتها بامتياز رياح أسطول الحرية القادم من الشمال لنصرة غزة الفلسطينية المحاصرة، ذلك بعد أن صحح أحمد كمال أوجلو مهندس السياسة الخارجية التركية من موضع تركيا الجيوسياسي ليتسق مع موقعها الجغرافي. جاء هذا الحراك التاريخي في توقيته المناسب من التاريخ بالقراءة الصحيحة للجغرافيا والتاريخ معا. وفي تزامن مدهش لانتقام الجغرافيا لثورة عبد الناصر، هبت أخبار تمرد دول حوض النيل على اتفاقيات تخصيص مياه النيل لتهديد مستقبل مصر المائي كما لم يتم طوال تاريخها الطويل.