العودة   شبكة صدفة > المنتديات الاسلاميه > رمضان شهر الخير

رمضان شهر الخير منتدى يطرح كل ما يخص شهر مضان الكريم من صوتيات ومحاضرات و لقاءات رمضانية .

إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 08-06-2011, 01:27 AM رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
ابو عمر المصرى

الصورة الرمزية ابو عمر المصرى

إحصائية العضو









ابو عمر المصرى غير متواجد حالياً

 
إرسال رسالة عبر Yahoo إلى ابو عمر المصرى

افتراضي انتصارات رمضانية

من آفات العقل العربي والإسلامي المعاصر الوقوع في فخ النسيان، وفي فخ الاختزال، وهو ما أدعو القارئ الكريم إلى التسليم معي به؛ مما يدعونا إلى أن نقرر أننا في حاجةٍ ماسةٍ إلى التذكر.

أقول هذا من قسوته على مسامع القارئين، وعندي دليل مبدئي موجز هنا على صحة دعواي، وهي أن محمدًا الفاتح يختزل في العقل المسلم إلى فاتح القسطنطينية، وحسبك بهذا فخرًا وشرفًا ومجدًا، لكنه ليس كل الأمر في تقدير وزن الفاتح رضي الله عنه، وهو الأمر الذي يوشك مع تكرار والإلحاح عليه أن يكون مملولاً، مستهانًا به مع استمرار الاحتفاء به وحده، معزولاً عن كبريات الإنجازات التي أجراها الله -سبحانه وتعالى- على يد هذا الفاتح العادل العظيم.

والقرم شبه جزيرة داخلة في نطاق جغرافية روسيا، وهو ما يلفت النظر إلى أن الإسلام امتدَّ سلطانه حتى يسيطر على عدد ضخم من مدن أوربا من جهة روسيا والمجر وبولندا، وهو ما ينبغي تفهمه في إطار صناعة العلاقات على الجمهوريات الروسية المختلفة، باعتبار أن الإسلام ظلَّ واحدًا من الروافد المهمة التي شكلت ثقافة هذه البلاد حتى مشارف العصر الحديث.

وقد شكلت القرم التي فُتحت في (رمضان 889هـ/ 1474م) بما عاش فيها من شعوب أسلمت على أثر فتحها جزءًا من العالم الإسلامي، ما يتضح من كتاب بروكلمان "تاريخ الشعوب الإسلامية".

ومن هذا الذي نذكره من فتح القرم وتحويل شعبها إلى الإسلام بأثر ما وجدوه من عظمة الدين نلاحظ ما يلي:

أولاً: حاجة العقل المعاصر فتح الملف المتعلق بتاريخ الدولة العثمانية، وتصحيح الصور الشائهة التي روَّج لها الغرب بعد صراعه الطويل معها، وخسارة الرهيبة من ضرباتها وفتوحها، فما تزال أوربا المسلمة -إن صح هذا التعبير- في ألبانيا وكوسوفا وروسيا وبولندا والمجر وغيرها بعضًا من منح الدولة العثمانية، وهو بعض المفهوم من كتاب المنح الرحمانية في الدولة العثمانية وذيله لمحمد بن أبي السرور البكري الصديقي.

ثانيًا: ضرورة إعادة النظر في المناهج الدعوية والتربوية المتعاطية مع أعلام الإسلام العظام لتغذية الوجدان الإسلامي المعاصر، بعد أن اتضح أن منجز محمد الفاتح ليس مقصورًا على فتح القسطنطينية على جلال قدرها هذا الفتح، وإنما ينبغي أن تجاوزه إلى قراءة المنجز الحضاري والحربي الذي حققه للإسلام لما فتحه من بلدان روسيا وأوربا معًا، فقد رصد الدكتور سالم الرشيد -في كتابه المهم عن المهم عن محمد الفاتح (طبعة الحلبي 1956م)- له الفتوحات التالية: صربيا، والبوسنة والهرسك، فتح أثينا، والمورة، وغيرها.

ثالثًا: ضرورة تقديم نماذج بجوار النماذج الأولى محمد الفاتح وغيره من قيادات العالم الإسلامي المتأخرين لا يصح أن يغيبوا لمصلحة عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وغيرهم؛ لأن الإسلام صاحب حضارة ولود منتجة.

رابعًا: تأمل تفاصيل فتح القرم والتعامل مع ثقافة التتار المسلمين، وطبيعة الجغرافية والأرض المجاورة للدولة العثمانية، قائد إلى أمور مهمة جدًّا تصب في ضرورة إعادة فتح ملف التعليم في العالم العربي والإسلامي؛ لأن واحدًا من الأسباب التي عزاها المؤرخون للمقدرة والعبقرية الحربية التي أظهرها محمد الفاتح راجع إلى الثقافة الممتازة التي حصلها محمد الفاتح في نطاق نسق تعليمي متقدم جدًّا، وهو ما يؤكده الدكتور سالم الرشيدي عندما يقرر أن عناية محمد الفاتح بالعلم والعلماء هو السبب الخطير في تقدمه الحربي والحضاري.

خامسًا: برز الإسلام عاملاً مهمًّا في قيادة حركة الفتوحات التي قادها محمد الفاتح وهو الأمر الذي حاول ولم يزل بعض أنصار القومية التركية بعد مد أتاتورك العلماني أن يعزو التقدم العثماني بتفسير خصائص القومية التركية، وهو الأمر الذي يكذبه المؤرخون، يقول سالم الرشيدي ص280: "وإذا صح أن يقال: إن العرب إنما قامت دولتهم ومجدهم بفضل الإسلام، وأنهم ما كانوا ليكونوا شيئًا في التاريخ لولا هذا الدين، صح أن يقال: إن العثمانيين إنما قامت دولتهم ومجدهم بفضل الإسلام، وأنهم ما كانوا ليكونوا شيئًا في التاريخ لولا هذا الدين".

هذا الصوت الأخير هو الأمر المستقر في أدبيات الذين عرفوا تاريخ الدولة العثمانية من قبل محمد عنان، ونادية مصطفى، والصلابي، وعبد الرزاق بركات، ومحمد حرب، وغيرهم.

باسم الإسلام وباسم الثقافة الإسلامية الممتازة، وباسم التربية على تقدير جلال العلم والعلماء، امتد سلطان محمد الفاتح فحرر وفتح ما لم يتم فتحه خلال تاريخ ممتد مع توافر المحاولات؛ ليقوم الدليل مجددًا على أن مواهب الله -سبحانه وتعالى- ليست حكرًا على عصر بعينه، وأن عطاءاته تتنزل دومًا بحسبان الإسلام هو الدين الخاتم.






آخر مواضيعي 0 وحشتونى
0 قـالـوا : هل رأيت من هو أسخى منك ؟ قـال : نـعـم
0 أمراض لا يراها الناس
0 كيف تجعلين زوجك يصغي اليك
0 الخروج من اللوحهَ
رد مع اقتباس
قديم 08-06-2011, 01:28 AM رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
ابو عمر المصرى

الصورة الرمزية ابو عمر المصرى

إحصائية العضو









ابو عمر المصرى غير متواجد حالياً

 
إرسال رسالة عبر Yahoo إلى ابو عمر المصرى

افتراضي رد: انتصارات رمضانية

عرفت الأدبيات المعنية بالتأريخ للتشريع الإسلامي وفلسفته؛ أن واحدًا من دلالات الأمر الإلهي بصيام رمضان كان منصرفًا إلى كونه إعدادًا حقيقيًّا، وتمهيدًا بديعًا للتوصل إلى الأمر بالقتال، وهو ما يدعمه توالي الأمرين معًا في تاريخ التشريع؛ إذ نزل الأمر بصيام شهر رمضان، ثم أعقبه التشريع بالإذن بالقتال.

ومنذ هذا التاريخ والوعي الجمعي الإسلامي يربط بين هذا الشهر وبين تجليات النصر فيه، باعتبارهما من متلازمات القضايا في التصور الشعبي والثقافي عند المسلمين.

وهو الأمر الذي نحتاج إلى ترسيخه؛ لأن الانطلاق نحو تجديد وعي الأمة بمكانتها إذا انطلق من هذه الأجواء المنبثقة من شهر رمضان كان وعيًّا جديرًا بأن يختزل المسافات وتقترب بالأمة الإسلامية من المثال الذي طالما عُرِفَ عنها في تاريخ الحضارة قديمًا من أنها وهبت الإنسانية ما لم تستطع حضارة أخرى أن تهبه لها.

وشهر رمضان في هذا العام يأتي في أجواء تحتاج فيها الأمة إلى التذكير بعالمية رسالتها، وبأن اختلال التراتب في قوائم القيادة، والسيادة بين الدول مما انعكاسه سيئ على عالمنا الإسلامي، لا يصح أن يهزمنا نفسيًّا، ولا يصح أن ينسينا أننا أصحاب رسالة تتجاوز حدودها المحلية والإقليمية؛ ذلك أن الإسلام في التصور القرآني والتاريخي دين عالمي بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم للناس كافة!

ولقد فهمت الأمة كلها على امتداد جغرافيتها ذلك الأمر، واستمر حاضرًا في حركة نشره في العالم من خلال الفتوحات الإسلامية التي استمرت حتى هجوم الغرب على ديارنا مع حركة الاستعمار الأوربية لبلادنا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين.

ومن أجل ذلك فإن التوقف أمام فتوحات المسلمين للبلدان الغربية ربما يُسهم في دعم التذكير بعالمية هذا الدين من جانب، ومقاومة لطوفان اليأس الذي يغمر قطاعات كثيرة من أبناء عالمنا العربي والإسلامي تحت ضغط التفوق الأمريكي والأوربي معًا.

ولقد كان هذا الوعي بعالمية الرسالة ظاهرًا جدًّا مع بواكير الدعوة الإسلامية، ومن أمثلته الباكرة فتح سرقوسة التي فُتحت في رمضان (264هـ/ 878م).

وسرقوسة في الجغرافية العربية القديمة: "أكبر مدينة بجزيرة صقلية" على ما يقدره ياقوت الحموي في معجم البلدان (3/214)، وقد رصد لها الجغرافيون القدامى ما يعكس تقدمها وعمرانها.

ومن المهم أن نذكر أن فتح سرقوسة كان مرحلة شبه مستقلة من حركة الحروب التي استهدفت فتح جزيرة صقلية كلها.

وفي هذا السياق ينبغي أن نتأمل مجموعةً من العلامات الدالة على خط حركة الفتوحات الإسلامية وما قدمته للإنسانية في النقاط التالية:

أولاً: برهن المسلمون عن وعيهم بعالمية رسالتهم في الأقطار كافة، وهو ما نلمحه من خلال معرفتنا بأن الذي تم له فتح سرقوسة كان هم الأغالبة، بمعنى أن حركة الفتوحات الإسلامية لم تكن حكرًا على مسمى المشرق الإسلامي في يومٍ من الأيام، كما يحلو لبعض الدارسين أن يتصوروا أن حركة الفتوحات كانت حركة عربية قومية، على ما يشيع في كثير من كتابات المؤرخين المعاصرين الذين تشكلت أفكارهم في أثناء المد القومي!

ثانيًا: اعتراف مؤرخي الحضارات بالأثر الجبار الذي خلَّفه المسلمون في المدينة برمتها، وفي مدة وجيزة جدًّا على ما يقرره مثلاً كارل بروكلمان في "تاريخ الشعوب الإسلامية"؛ حيث يقرر ص249: "وفي الحق أن سنوات السلام التي قُدِّر العرب أن ينعموا بها في صقلية (سرقوسة) منذ ذلك الحين كانت كافيةً لنشر حضارتهم، والتمكين لها في ربوع الجزيرة إلى درجة بعيدة، حملت النورمانديين الذين (خلفوا العرب في حكم هذه البلاد) على أن يأخذوا عن العرب نظامهم الإداري ويقتبسوا العناصر الأساسية للثقافة الإسلامية في حياتهم الفكرية والعينية أيضًا". ففي هذه الشهادة التي يشهد بها واحد من أساطين الاستشراق الغربي كافية في هذا السياق لإعادة التمكين لجلال الفكرة الإسلامية التي حركت الفتوحات بدافع ديني وحضاري معًا يستهدف الخير للبشرية.

وهذا الوجه المضيء هو الوجه الذي ينبغي أن نواجه به أوربا والولايات المتحدة الأمريكية في مواجهاتها للعالم الإسلامي.

ثالثًا: إن القدرة الحربية المبكرة التي مكنت دولة الأغالبة (من المغرب العربي) من فتح هذه الجزيرة بما فيها سرقوسة بحصونها الطبيعية والصناعية تعيد فتح ملف التقدم العلمي في أواخر القرن الثالث الهجري، أي بعد ما يقرب من مائتي سنة فقط من عمر الدين الجديد باسم المعرفة الحديثة التي حازتها من فتح بلدان في عمق بحار عريقة جدًّا.

وهذه النقطة تعيينًا تفتح ملفًا مهمًّا ومهملاً معًا من جانب المعاصرين يتعلق بضرورة استثمار تخصص أصيل عُرِفَ في الأدبيات التاريخية والجغرافية باسم السفن الإسلامية، وهو تخصص له تاريخه ومصطلحاته للدرجة التي صنفت فيها كثير من المعاجم التي تعترف بما كان للعرب من تقدم هائل في مجال صناعة السفن والبحار.

هذه ثلاث نقاط فقط تبعث على التأمل والعمل معًا من أجل إيجاد آلية لدعم ما يُسمَّى به سقور الوحدة الثقافية بين أبناء العالم الإسلامية على امتداد بقاعه الجغرافية، وهو الأمر الذي كان موجودًا في ظل غياب ما هو قائم الآن من ثورة في الاتصالات غير مسبوقة، وهذه الوحدة قد تجلت أبعادها في أن حركة الفتوحات الإسلامية صنعها المسلمون جميعًا، من المشرق العربي ومن المغرب العربي، من المسلمين ذوي الأصول العربية ومن المسلمين ذوي الأصول غير العربية معًا.

باسم الإسلام وحضارته ووحدة شعوبه تقدم الفتح لينعم العالم تحت ظلاله، وفي أجواء رمضان الذي هو شهر الله تعالى تمت هذه الفصول البيضاء الرائعة.






آخر مواضيعي 0 وحشتونى
0 قـالـوا : هل رأيت من هو أسخى منك ؟ قـال : نـعـم
0 أمراض لا يراها الناس
0 كيف تجعلين زوجك يصغي اليك
0 الخروج من اللوحهَ
رد مع اقتباس
قديم 08-06-2011, 06:47 AM رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
ملكة بإحساسي

الصورة الرمزية ملكة بإحساسي

إحصائية العضو








ملكة بإحساسي غير متواجد حالياً

 

افتراضي رد: انتصارات رمضانية

سلمت استاذ ابو عمر
وجزآكَ آلله خيرآ وبآرِك آلله فيك

وثابك الجنة واسعدك فيالدارين
وجعلها في موازين حسناتك
لك لك الشكر والاحترام












آخر مواضيعي 0 برنامج DuDu Recorder v4.90 الافظل في تسجيل المكالمات والملاحظات
0 كن بشرا وليس اشباه بشر
0 كيف تجعل عطرك يدوم طوال السهرة
0 ازياء رائعه وانيقة للمحجبات
0 فساتين قصيرة وناعمة للسهرة
رد مع اقتباس
قديم 08-06-2011, 06:27 PM رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
ابو عمر المصرى

الصورة الرمزية ابو عمر المصرى

إحصائية العضو









ابو عمر المصرى غير متواجد حالياً

 
إرسال رسالة عبر Yahoo إلى ابو عمر المصرى

افتراضي رد: انتصارات رمضانية

شــــكرا لك
على مروركـ الرائـــــــــع

و الـــــــــــرد الجميـــل
بـــــــــــــــــارك الله فيك و
جزاك الله ألـــــف خيـــر






آخر مواضيعي 0 وحشتونى
0 قـالـوا : هل رأيت من هو أسخى منك ؟ قـال : نـعـم
0 أمراض لا يراها الناس
0 كيف تجعلين زوجك يصغي اليك
0 الخروج من اللوحهَ
رد مع اقتباس
قديم 08-06-2011, 06:28 PM رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
ابو عمر المصرى

الصورة الرمزية ابو عمر المصرى

إحصائية العضو









ابو عمر المصرى غير متواجد حالياً

 
إرسال رسالة عبر Yahoo إلى ابو عمر المصرى

افتراضي رد: انتصارات رمضانية

فتح شذونة


هل ثمة فاروق يمكن أن نتلمسه في حركة الفتوحات الإسلامية التي فتحت المشرق العربي الذي صار إسلاميًّا بما ضم إليه من العراق وما وراءها والشام إلى مصر عن أختها حركة الفتوحات التي توجَّهت إلى الأندلس وبلدان أوربا؟!

ٍهل كانت أجيال الفاتحين في عهد الخلافة الراشدة مختلفة عن أجيال الفاتحين في عهد الخلافة الأموية؟ وهل ثمة اختلاف في ثقافة كلٍّ من الجيلين؟

إني أريد أن أسعى إلى توجيه سؤال يريد أن يتوارى خلف هذه المقدمات، وهو: لماذا سقطت الأندلس بعد هذا العمر الطويل من سيطرة العرب عليها؟!

أحسب أن الاحتكام إلى مقولة احتواء الإسلام لأبناء الشرق والتعاطي مع ما بقي ثقافتهم غير المخاصمة للإسلام، كان هو كلمة السر في بقائه "هنا"، ورحيل المسلمين عن "هناك"!

لم تفرد الأدبيات التاريخية مساحة واسعة لفتح شذونة (رمضان 92هـ)، وهي من البلدان الحدودية المطلة على البحر المتوسط من جنوب الأندلس، كما حدث مع القادسية باب فارس في الجاهلية، وهو أول فارق في فلسفة الفتح يفاجئك في قراءة التعاطي مع بلدان الحدود في فتوحات جيل الدولة الراشدة وفتوحات جيل الدولة الأموية، وهو ما انعكس بدوره على تعامل الأدبيات التاريخية العربية مع كلا الفتحين.

كانت آثار المعرفة الجغرافية والتاريخية ببلدان فارس وتقدير خطرها عاملاً حاسمًا في حماية مكاسب فتح فارس الذي تجلَّى في تمصير مدن عربية كاملة من العدم تكون عمقًا استراتيجيًّا يمنع من استرداد فارس لبلدان إمبراطوريتها الذاهبة.

كان قرب جيوش الفتح من عصر النبوة بما استقر في نفوسهم من فعل الهجرة ذا أثر حاسم في الهجرة إلى بلدان جديدة سلكها العرب في البصرة والكوفة في الطريق إلى القادسية وفارس، لقد كان مسكن القبائل العربية في الطريق إلى الأمم المفتوحة عاملاً حاسمًا في تغيير الخريطة الديمغرافية السكانية التي حمت مكتسبات الفتح الراشد؛ لأنها ذوبت العناصر الثقافية عن طريق الاحتواء السكاني، وهو ما لم يحدث في فتوحات دولة بني أمية للأندلس.

وربما كان البربر -وهم أغلبية في جيش فتح الأندلس- سببًا آخر في عدم استدامة الفتح وانهياره بعد ثمانية قرون!

هل فَتُرَت ثقافة الهجرة فغاب الأندلس؟!.. ربما!

أمر آخر نلمسه في قراءة أحداث فتح شذونة (أول ما يقابل من بلاد الأندلس من جهة البحر قادمًا من بلدان المغرب)؛ هو أن حركة الجيوش كان أبعد عمق لها هو القبائل المتأخرة لمضيق جيل طارق من بلاد المغرب، وهي مسافة بعيدة جدًّا عن مقر الحكم المركزي في الشام لدولة بني أمية؛ مما يوحي بغياب أو خفوت الصوت العربي من أبناء الصحابة والتابعين، وهو أمرٌ له أثار سلبية على توجيه حركة الإعمار الفكري في داخل الأندلس نفسها..

وهو ما ظهر في بقاء عدد ضخم من النصارى يعملون بما يسمى استرداد الأندلس، ولو أن العنصر العربي الإسلامي الذي ظهر في فتوحات أبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم- كان بارزًا في حركة فتوحات الأندلس بما يميزه من تقديرٍ لقيمة المَعْلم، وبما يميزه من القدرة على التغير باسم المعايشة، لربما تغير أمر الأندلس، ولربما لم تنجح حركة ما يسمى باستيرادها.

ثمة أمر آخر لا أحب أن أقف أمامه طويلاً، وهو: هل كان لحظ النفس أثر في البدايات انعكست على نهايات الوجود المسلم في الأندلس؟!

تقول الأدبيات التاريخية: إن طارق بن زياد بدأ فتح الأندلس وبدأ فتح شذونة، ثم حسده سيده موسى بن نصير فأسرع ليتم الفتح معه، وهو ما ظهر في غير مصدر تاريخي قديم وحديث في تعبيره!! وأتم موسى بن نصير فتح شذونة.

وأنا بطبيعة الحال أقلق من مثل هذه التفاسير مع إمكان وجودها، لكن المهم هو أن التعامل مع الأندلس في لحظة من اللحظات تمَّ على اعتبارها جزءًا معزولاً عن جسد الخلافة في المشرق، وربما دعم هذا قيام الدولة الأموية في الأندلس بعد سقوطها في المشرق، واستمرت إلى أوائل القرن الخامس الهجري (403هـ) على التعيين.

فتح شذونة (رمضان 92هـ) وما أثير حوله من كتابات قليلة يفتح الباب إلى أن نتعلم من أخطاء ما كان ينبغي أن تقع.

باسم الإسلام فُتحت الأندلس، وفُتحت أولى محطاتها في شذونة، وباسمه تم تعميرها زمانًا طويلاً، لكن الفتح لم يَدُمْ سوى ثمانية قرون، وهو أمر ندعو إلى قراءة أبعاده وتجلِّياته.

ثمة فارق بين فتوح القارئين وفتوح المقاتلين، وهو ما أدعو المتخصصين في حركة الفتوح الإسلامية إلى أن يولوه فضل عناية.

بقلم: د. خالد فهمي[1]






آخر مواضيعي 0 وحشتونى
0 قـالـوا : هل رأيت من هو أسخى منك ؟ قـال : نـعـم
0 أمراض لا يراها الناس
0 كيف تجعلين زوجك يصغي اليك
0 الخروج من اللوحهَ
رد مع اقتباس
قديم 08-06-2011, 06:29 PM رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
ابو عمر المصرى

الصورة الرمزية ابو عمر المصرى

إحصائية العضو









ابو عمر المصرى غير متواجد حالياً

 
إرسال رسالة عبر Yahoo إلى ابو عمر المصرى

افتراضي رد: انتصارات رمضانية

فتح السند والهند

د. خالد فهمي
قراءة التاريخ لا يصح فيها- لا سيما في باب التقييم لأعمال أحد أو لأعمال دولة- أن تكون قاصرة النظر، مجتزأة الصورة.. أقول هذا الكلام لما شاع واشتهر في الكتابة عن دولة بني أمية، والإسهاب في عدّ مثالب رجالها العظام، ومثالب نظامها الحاكم.

كل ذلك صحيح، ولكن الصحيح كذلك، أنَّ هذه الدولة المغبونة في تقييمها هي أعظم دولة قادت حركة الفتوحات الإسلامية، وانتشلت مساحات شاسعة من الكفر إلى الإسلام.

يقول ابن كثير -في البداية والنهاية (12/460) في أحداث سنة أربع وتسعين-: "وفيها فتح الله على الإسلام فتوحات عظيمة في دولة الوليد بن عبد الملك على يدي أولاده وأقربائه وأمرائه، حتى عاد الجهاد شبيهًا بأيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه".

هذه شهادة واحد من كبار مؤرخي الإسلام، وليس فيها شبهة ممالاة؛ لأنه لم يكتب ما كتب إلا وبينه وبين دولة بني أمية ما يربو على ستمائة سنة!

والنص السابق يهز وينال من الصورة التي طالما عرضت للنيل من أبناء هذه الدولة ورجالها، فلم يكن رجالها غارقين في النعيم كما تصورهم الأعمال الدرامية، بل كانوا يقودون حركة جهادية وصفها المؤرخ الكبير بأنها شبيهة بأيام عمر!

وفي هذه السنة افتتح القاسم بن محمد الثقفي أرض الهند، ومن الأمور التي يجب الوقوف أمامها في أحداث هذا الفتح ما يلي:

أنه لما رأى أهل المدن الهندية تقدم محمد بن القاسم وقدرته على دحر مدن "راور"، "برهمناباذ"، وسقط من القتلى الآلاف، قابله أهل "ساوندري" طالبين الأمان فأعطاهم إياه، واشترط عليهم ضيافة المسلمين، ومثل ذلك حدث مع "بسمد" في صلحه معهم.

وهذا الذي قاله البلاذري في فتوح البلدان يعكس مدى التزام المجاهد المسلم بأوامر الله سبحانه، فلم يكن المجاهدون المسلمون يُحركهم اشتهاء الدم، أو الظفر بالأرض، أو جمع الكنوز والغنائم، لقد خرج المجاهد المسلم يملؤه الشوق الجارف لإخراج الناس من الظلمات إلى النور.

والعجيب أن يشترط محمد بن القاسم في مصالحته لأهالي هذه المدن أن يضيفوا المسلمين، الرجل يطلب ضيافة المسلمين مع أنه صاحب البلد الأعلى، ولو سلب أو نهب ما رده أحد، لكن الجيش المسلم يريد أن يمكث ضيفًا في إقامته، وضيفًا في مطعمه ومشربه، إنه لا يريد أن يُقيم إقامةً أبديةً مستبدًّا طاغيةً يسير فيهم بمنطق الغالب القاهر.

شروط الصلح تُوحي بأن الفتح هو لتوصيل كلمة الله، والمجاهدون بعدما تمت عملية البلاغ لا مجالَ لمكثهم، هذا هو المفهوم من الضيافة؛ ولذلك تقول الأدبيات التي أرَّخت لهذا الفتح إن أهلها انقلبوا مسلمين.

مسألة أخرى جديرةٌ بأن نقف أمامها وهي: أنه لما تقدَّم المسلمون إلى السند لإتمام فتحها وصلوا إلى مدينة الراور فحوصرت، ثم فتحها المسلمون صلحًا على شرطين: هما عدم قتلهم، وعدم خراب بدهم (والبد: بيوتهم التي يتعبدون فيها).

هذا الشرطان يقدمان صورة بالغة النصاعة في تأمين معتقدات أصحاب البلاد المفتوحة، لقد كان شغل المسلم الشاغل هو بناء مسجد وتمكينه من إبلاغ دعوة الله، من غير قهرٍ للآخرين أو محو هوياتهم.

إن ترك هذه المعابد التي يقول عنها البلاذري إنها كنائس النصارى واليهود وبيوت النار التي للمجوس، يدل على أن هذه الأمة تجاهد وهي تحترم معتقدات الآخرين، ولو كان معتقدهم التعبد للأصنام!

أمر أخير هو أن جند المسلمين كانوا يتحركون بأخلاق الإسلام من الرحمة والعفة والبذل، ودليل ذلك أن محمد بن القاسم لما مات الوليد بن عبد الملك وتولى سليمان عزل محمد وتولى غيره، فحُمِل القائد الفاتح مقيدًا، فبكاه أهل الهند؛ يقول البلاذري: "فبكى أهل الهند على محمد".

فأي شيء حرَّك عاطفة هؤلاء نحو قائدٍ بلَّغ كلمة الله؟! إننا لم نسمع ولن نسمع عن غازٍ قاهرٍ يُبكيه مَن غزاهم وقهرهم، إنَّ بكاء بلاد الهند والسند (التي فُتحت في رمضان 94هـ/ 713م) على محمد بن القاسم أكبر دليل على رحمة الفاتح المسلم وبذله وكريم خلقه، بل إنَّ أدبيات ذلك الفتح تقرر أنهم صوروه وصنعوا له ما يُشبه التمثال.

هذه بعض عظمة الفتح الإسلامي وجدت طريقها إلى أنفس شعوب الأرض، فعانقت دين الله.






آخر مواضيعي 0 وحشتونى
0 قـالـوا : هل رأيت من هو أسخى منك ؟ قـال : نـعـم
0 أمراض لا يراها الناس
0 كيف تجعلين زوجك يصغي اليك
0 الخروج من اللوحهَ
رد مع اقتباس
قديم 08-07-2011, 06:27 PM رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
ابو عمر المصرى

الصورة الرمزية ابو عمر المصرى

إحصائية العضو









ابو عمر المصرى غير متواجد حالياً

 
إرسال رسالة عبر Yahoo إلى ابو عمر المصرى

افتراضي رد: انتصارات رمضانية

معركة النوبة .. فتح من الفتوحات الرمضانية


من ضمن المعارك والفتوحات العظيمة التي حفل بها شهر رمضان المبارك معركة فتح النوبة التي حدثت في العام الحادي والثلاثين من الهجرة النبوية المباركة، والتي كان من أهم آثارها معاهدة القبط التي كانت فاتحة خير على المسلمين في البلاد الإفريقية.

لما قام عمرو بن العاص بفتح في مصر في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أرسل عمرو بن العاص حملة عسكرية بقيادة عقبة بن نافع لفتح بلاد النوبة التي تقع في جنوب مصر، لكن المسلمين فوجئوا في هذه المعركة بأن النوبيين يجيدون رمي السهام، فقد أصاب النوبيون من المسلمين عددًا كبيرًا بتلك السهام، وأصيب كثير من المسلمين في حدق عينهم من جرَّاء النبل، فسموا (رماة الحدق).

وكان من نتيجة هذه الحملة أن تم التوافق على هدنة بين المسلمين والنوبيين، واستمر الصلح حتى كان عصر خلافة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، وكان قد عزل عمرو بن العاص عن مصر وولّى مكانه عبد الله بن أبي سرح، فنقض النوبيون الصلح وهاجموا صعيد مصر، فما كان من ابن أبي سرح إلا أن خرج في جيش تعداده عشرون ألف مقاتل، وسار إلى دنقلة عاصمة النوبيين وحاصرها وضربها بالمنجنيق حتى استسلموا وطلبوا الصلح.

وتصالح المسلمون والنوبيون في شهر رمضان من العام الحادي والثلاثين بعد الهجرة على بنود من أهمها:
1- حفظ من نزل بلادهم من مسلم أو معاهد حتى يخرج منها.
2- رد من لجأ إليهم من مسلم محارب للمسلمين وإخراجه من ديارهم.
3- حفظ المسجد الذي بناه المسلمون في فناء المدينة وألاّ يمنعوا منه مسلمًا.
4- أن يدفعوا للمسلمين كل عام ثلاثمائة وستين رأسًا من أوسط رقيق بلادهم، وكان القوم مشهورين بكثرة الرقيق عندهم.
5- في مقابل ذلك لهم عند المسلمين أمان فلا يحاربونهم ولا يغزونهم.

وقد قيل إنه في مقابل الرقيق الذي يأخذه المسلمون منهم يعدونهم بدلاً منه قمحًا وعدسًا، هذا كان العهد الذي تم بين المسلمين وأهل النوبة، وقد رفع هذا الصلح إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه فأقره.

وإن هذا لعهد -إن أمعنَّا النظر فيه وتأملناه جيدًا- نرى في بنوده معالم للسياسة الشرعية في الإسلامية، ومعالم واضحة للعلاقات الخارجية للدولة الإسلامية.

فنرى أن رد النوبيين المسلم المحارب للمسلمين وإخراجه من ديارهم يعد أمرًا مهمًّا جدًّا، فهو يمنع من تكتل وتجمع الخارجين عن النظام الشرعي للدولة الإسلامية وعلى ولاة الأمر الذين يحكمون بما أنزل الله، وبالتالي لا تكون هذه الجهة مركزًا للاعتداء على الدولة الإسلامية من بعض الأفراد الخارجين على ولاة الأمر، وبالتالي حماية الدولة الإسلامية والتأكيد على وحدتها.

ونرى أن حفظهم للمسجد الذي بناه المسلمون في فناء المدينة هو الأثر الأهم والنتيجة العظمى لهذا الصلح الطيب؛ فوجود المسجد وعدم التعرض للمسلمين في المدينة يعني انتشار الإسلام بين الناس، ولأن المسجد في الإسلام مكانته عظيمة وهو منطلق الدعوة ومركزها، وكان أول شيء يقوم به المسلمون في أي مكان يدخلونه هو بناء المسجد؛ اقتداءً بنبيهم صلى الله عليه وسلم الذي بنى مسجدًا بالمدينة بمجرد وصوله إليها. ومع اشتراط حفظهم لمن يدخل بلادهم من المسلمين فهذا يعني انتشار الإسلام بسهولة ويسر؛ حيث إن تجار المسلمين والمسافرين الذي لا يتوقفون عن الحركة على مدار العام سيعملون على دعوة الناس إلى الإسلام، في حين أن هؤلاء الدعاة من التجار وغيرهم يكونون في مأمن، طالما كانوا في أرض النوبة فلا يتعرض لهم أحد.

وهنا شبهة يرددها الصليبيون الحاقدون على الإسلام وأهله، يجب أن نفندها ونبيِّن كذبهم وافتراءهم فيها، فهم يدعون أن هذه الاتفاقية كانت تجبر أهل النوبة -وهم نصارى على حد زعمهم- على بيع أولادهم للمسلمين كي يتقوا شرهم، فيحاولون إيهام الناس أن ذلك العدد من الرقيق الذي يجب على النوبيين إرساله للمسلمين سنويًّا، كانوا أبناء النصارى، وهذا كذبٌ وافتراء؛ فالاتفاقية تنص على تسليم ثلاثمائة وستين رأسًا من أوسط رقيقهم، ولا تنص على ثلاثمائة وستين رأسًا من أوسط فتيانهم أو شبابهم. والمعنى واضح والفرق شاسع بين اللفظين، فشتان شتان بين الرقيق والفتى أو الشاب.

لقد كان لهذا الصلح أثر عظيم في انتشار الإسلام في بلاد السودان وجنوبها، لقد استغل المسلمون الأوائل هذه المعاهدة في نشر الإسلام في تلك البلاد، وكان المسجد الذي بناه المسلمون في فناء دنقلة مركزًا لنشر الإسلام في بلاد النوبة وجنوبها، وإن هذا الصلح ليؤكد كذب الذين يدعون بأن انتشر بحد السيف! فليخبرونا إذن كيف أسلم أهل النوبة والسودان وتلك البلاد النائية في إفريقيا التي لم تصلها جيوش المسلمين في أي عصر من العصور؟!

إن هذا الصلح ليؤكد براعة وذكاء وفهم المسلمين الأوائل للواقع الذي يعيشونه وكيفية التعامل مع هذا الواقع بشكلٍ يخدم مصالح الأمة الإسلامية ويعمل على نشر الدين الإسلامي ولا يتعارض مع أحكام شريعة رب السماء جل في علاه، ولا سُنَّة نبيه المصطفى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وإن هذه هي السياسة التي يجب أن نتعامل بها ويجب أن نتعلمها؛ فلن يعود للإسلام عزه ومجده ولن تعود للأمة كلها القيادة والريادة في هذا العالم إلا باتباع هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، والنظر في أفعال سلفنا الصالح الصحابة والتابعين.
المراجع:

- من معارك المسلمين في رمضان للعبيدي.
- الكامل في التاريخ لابن الأثير.
- فتوح البلدان للبلاذري.






آخر مواضيعي 0 وحشتونى
0 قـالـوا : هل رأيت من هو أسخى منك ؟ قـال : نـعـم
0 أمراض لا يراها الناس
0 كيف تجعلين زوجك يصغي اليك
0 الخروج من اللوحهَ
رد مع اقتباس
قديم 08-08-2011, 11:51 PM رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
ابو عمر المصرى

الصورة الرمزية ابو عمر المصرى

إحصائية العضو









ابو عمر المصرى غير متواجد حالياً

 
إرسال رسالة عبر Yahoo إلى ابو عمر المصرى

افتراضي رد: انتصارات رمضانية

فتح مكة.. لحظة فارقة في التاريخ

يعد فتح مكة لحظة فارقة حقيقية في تاريخ المسلمين بل في تاريخ الأرض والعالم، حتى إنه إذا ذُكر الفتح معرفًا انصرف الذهن مباشرة إلى فتح مكة، مع أن كل انتصارات المسلمين كانت فتحًا، غير أن ما قبْل فتح مكة شيء وما بعده شيء آخر، حتى إن الرسولكان يقول: "لا هجرة بعد الفتح". ويقول رب العالمين: {لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10].
فتح مكة وسنن التغيير

وهذا الفتح تميز بسنن التغيير والنصر والتمكين في الأرض، ونستخلصها في التالي:
السنة الأولى: الله لا يعجل بعجلة عباده

منذ واحد وعشرين عامًا من أصل ثلاثة وعشرين هي عمر البعثة النبوية واللات والعزى ومناة وهبل تُعبد من دون الله داخل مكة المكرمة!

والبعض تمنى أن تفتح مكة مبكرًا، وأن يحكم الرسولالدولة الإسلامية من مكة؛ وذلك ليرى حكمه وأثره في العالمين وهو ممكَّن في الأرض؛ لكن الحقيقة أنه لو حدث مثل هذا لوقعت مخالفة للسُّنَّة الإلهية، وهذا لا يكون أبدًا، {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43].. والانتظار الطويل حتى يعلِّمنا جميعًا أنه I لا يعجل بعجلة عباده.
السنة الثانية: التغيير والنصر والتمكين يأتي من حيث لا نحتسب

أي أن المسلمين لو أرادوا أن يفتحوا مكة فلا شكَّ أنهم سيضعون أكثر من احتمال أو تصور لهذا الفتح، ولو أنهم وضعوا ألفًا من هذه الاحتمالات لجاء التغيير من طريق آخر.. وما حدث هو أن قبيلة مشركة أغارت على قبيلة أخرى مشركة، فتمَّ الفتح للمؤمنين.

وقد يتساءل المرء: ما علاقة هذا بذاك؟ إلا أننا إذا راجعنا بنود صلح الحديبية خاصة البند الثالث، وجدنا أنه إذا أرادت قبيلة أن تنضم إلى حلف المسلمين فلها ذلك، وإذا أرادت قبيلة أن تنضمَّ إلى حلف قريش فلها ذلك، وعلى إثر هذا دخلت خزاعة في حلف الرسول، ودخلت بنو بكر في حلف قريش، فكانت القصة بين المسلمين وقريش، ولم يكن لخزاعة ولا لبني بكر دخلٌ فيها، ومع ذلك فدخولهم في المعاهدة هو الذي أدى إلى الفتح كما سنرى.
بنو بكر وقريش وخيانة العهد

بتحليل منطقي فإنه إذا حدثت هذه المخالفة وأغارت بنو بكر على خزاعة قبل الحديبية، فما كان يحدث أيُّ نفع للمسلمين، إذ الحالة أن قبيلة مشركة اعتدت على قبيلة أخرى مشركة.

وقد تكون هي نفس النتيجة أيضًا إذا حدث هذا الأمر بعد الحديبية مباشرة؛ فلعل المسلمين لم تكن لهم طاقة لغزو مكة أو لفتحها آنذاك.. وما حدث هو أن قريش أعانت بني بكر على حرب خزاعة في تهوُّر عجيب.. وهذا هو تدبير رب العالمين {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 15، 16].

هجمت بنو بكر على خزاعة تلك التي لم تكن مستعدة للقتال، خاصة أن هناك صلح الحديبية، وفيه هدنة عشر سنوات، وقتلتْ من خزاعة الكثير من الرجال.. لم تجد خزاعة إلا أن تفرَّ إلى أقرب مكان آمن وهو الحرم المكي ومساكنها قريبة جدًّا منه، فخرجت رجالاً ونساءً وصبيانًا إلى مكة المكرمة، ودخلت بالفعل داخل الحرم، ومن ورائها بنو بكر تطاردها بالسلاح.. ووقع القتال داخل الحرم، أو قُلْ إنه داخل قريش، التي كثيرًا ما كانت تتشدق بأنها حامية الحُجَّاج والمعتمرين وحامية المنطقة بكاملها، وأنها التي توفِّر الأمان فيها.

وقامت قريش في تهور عجيب وأعانت بني بكر وأمدَّتهم بالسلاح لحرب خزاعة، وهذا غير مبرَّر بالمرة لقريش، وليس هناك أي علاقة للمسلمين بالقصة؛ فهو تصرف غير مفهوم لكنه يضع أعيننا على شيء في غاية الأهمية، وهو أن الخيانة أمر متوقع من المشركين، قال تعالى في كتابه الكريم: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 100].

والعجب أن هذه الخيانة وقعت منهم والرسولما زال على وفائه لهم بالعهد الذي بينه وبينهم، حتى إنه ردَّ من جاء من المدينة المنورة مؤمنًا من مكة إلى قريش وفاءً ببنود المعاهدة، كما أعاد أبا بصير إلى مكة رغم خطورة هذه الإعادة على إيمان أبي بصير، وهو الأمر الذي لم تفعله قريش.. والمشكلة الكبيرة الأخرى هي أن بني بكر كانت تلعب بالقوانين، وقريش تشاهد ذلك الأمر وتقبله، بل يقبله الجميع؛ فالقتال داخل مكة البلد الحرام، في داخل البيت الحرام، وهو أمر خطير؛ إذ الجميع كان يؤمِّن كل زائري هذه المنطقة.. ودخلت بنو بكر مكة المكرمة لتقتل خزاعة في داخل الحرم، الأمر الذي أدهش جيش بني بكر نفسه من استمرار القتل في داخل الحرم، حتى نادوا على زعيمهم نوفل بن معاوية الديلي من بني بكر، نادوا عليه وقالوا: يا نوفل، إلهك إلهك.. يعنون قوانين (اللات والعزى وهبل وغيرها) لم تشرع القتال داخل البيت الحرام.. هنا ردَّ عليهم قائدهم هذا بكلمة فاجرة، قال: لا إله اليوم، لا إله اليوم! ثم قال: يا بني بكر، أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه؟!

فشجعهم على استمرار عملية القتل؛ لتحدث الجريمة الكبرى، وقريش لا تشاهد هذا الأمر فقط، بل تساعد عليه، فكان هذا خرقًا واضحًا للبند الثالث من بنود صلح الحديبية.
خزاعة تستنجد بالرسول

أسرعت خزاعة إلى المدينة المنورة تستغيث بالرسول، وكان عمرو بن سالم أول من جاء إليه من خزاعة، وكان رد فعل الرسولعندما سمع منه ما حدث قوله: "نصرت يا عمرو بن سالم".

ولم يحدد الطريقة التي سينصر بها عمرو بن سالم، لكنه أخذ على الفور قرار النصرة؛ وذلك لأنه كان بينه وبين قبيلة خزاعة اتفاقية وحلف، وهذا بغض النظر عن ملة قبيلة خزاعة مسلمة أو مشركة؛ فهناك حلف بينهم وبين المسلمين يقضي بأن يدافع كل طرف عن الطرف الآخر إذا ما تعرض ذلك الآخر إلى أي اعتداء.
السنة الثالثة: النصر يأتي من حيث يكره المسلمون

أمر غريب جدًّا لكنه متكرر إلى الدرجة التي تجعله سُنَّة: لا يأتي النصر فقط من حيث لا يتوقع المسلمون، إنما يأتي من حيث يكره المسلمون.. كره المسلمون لقاء المشركين في بدر فجعل الله I في باطنه النصر، يقول تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال: 5]. وكره المسلمون صلح الحديبية وقالوا: لِمَ نعطي الدنية في ديننا؟! وكان في باطنه الخير كله الخير.

تُرى لماذا هذه السنة؟ ولماذا يأتي النصر من حيث نكره؟ ولماذا لا يأتي النصر من حيث نحب؟ أو بالطريقة التي نريد؟ أو بالطريقة التي نخطِّط لها؟ هذا الكلام يتكرر كثيرًا في مراحل التاريخ؛ لأن الله يريد لنا ألا نُفتن بنصرنا، ونعتقد أن النصر جاء من حسن تدبيرنا، ودقة خطتنا، وبراعة أدائنا، ولذكاء عقولنا، ولسرعة تصرفنا.. يجب ألا ننسى أن الذي نصرنا هو الله القوي؛ لذلك يأتي النصر من حيث لا نحتسب، بل من حيث نكره؛ وليعترف الجميع أن الناصر هو الله، لذلك يقول الله سبحانه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1].. النصرُ نصر الله، والفتح فتح رب العالمين للمسلمين.
كل الظروف مهيأة لفتح مكة

عدة عوامل ساعدت المسلمين في القيام بهذا الفتح العظيم لمكة المكرمة؛ وهي:
1- الوضع السياسي والعسكري للمسلمين قبل فتح مكة

كان الوضع السياسي والعسكري للمسلمين قبل فتح مكة قويًّا فعلاً، فأعداد المسلمين تتزايد والجيش الإسلامي مدرب تدريبًا جيدًا، وليس تدريبًا في لقاءات وهمية، ولكن في لقاءات حقيقية مع اليهود والمشركين، بل مع الرومان في مؤتة، وكانت معنويات الجيش الإسلامي في السماء كما رأينا، فقد رُفعت معنويات الجيش الإسلامي، وارتفعت سمعة المسلمين على مستوى الجزيرة العربية، بل على مستوى العالم كله.
2- الوضع العسكري والسياسي لقريش قبل فتح مكة

على الجانب الآخر كان الوضع العسكري لقريش ضعيفًا، ويزداد ضعفًا مع مرور الوقت، والرسولكان يرى هذا من عامين وأكثر، ولا ننسى في صلح الحديبية أنه قال في المفاوضات: "إن قريشًا قد وهنتهم الحرب وأضرت بهم". وبعد رجوع الأحزاب إلى قبائلهم قال الرسول: "الآن نغزوهم ولا يغزونا، نحن نسير إليهم"؛ لأن الرسوليرى الدولة الإسلامية في علو واضح، وقريش في هبوط واضح..

والوقت الذي مر بعد صلح الحديبية لم يكن في مصلحة قريش؛ إذ رأينا المسلمين يتزايدون، وكل رجل أو امرأة يتحول من الكفر إلى الإيمان هو إضافة إلى الدولة الإسلامية، وفي نفس الوقت نقص في الدولة الكافرة.. فهذا خالد بن الوليد t الذي كان سببًا في انتصار غزوة أحد، انضمَّ إلى المعسكر الإسلامي، وكان مكسبًا كبيرًا جدًّا، وإضافة هائلة للدولة الإسلامية.. وعمرو بن العاص وهو من أعظم دهاة العرب، فقدت قريش قوته وأضيفت قوته للمسلمين، وكذلك عثمان بن طلحة ليس من الفرسان الأشداء فقط، ولكنه من بني عبد الدار، وحامل مفتاح الكعبة، وإضافته للدولة الإسلامية إضافة في غاية القوة.
3- واجب المسلمين الأخلاقي والديني والسياسي في القيام فتح مكة

كان هناك واجب أخلاقي وقانوني وسياسي على المسلمين في أن يقوموا بفتح مكة، هناك واجب أخلاقي برفع الظلم عن المظلومين؛ فخزاعة ظُلمت ولا يجب أن تترك هكذا، ثم إن هذا الواجب ليس أخلاقيًّا فقط، بل هو واجب شرعي وقانوني؛ أي فُرض على المسلمين أن يساعدوا خزاعة، لأنه التزام إسلامي مؤكد في صلح الحديبية.

وعلى الفور اختارت قريش أبا سفيان ليذهب إلى المدينة المنورة ويطلب العفو من النبي، وأبو سفيان هو سيد مكة وزعيمها، وهو ليس مجرد سفير ترسله مكة، ولكنه زعيم مكة، وزعيم بني أمية، وله تاريخ طويل وحروب متتالية مع المسلمين. وهنا يتنازل أبو سفيان عن كبريائه، وعن كرامته، ويذهب إلى المدينة المنورة، ويطلب من الرسولأن يطيل الهدنة مع قريش.
خروج الجيش الإسلامي وظهور بشريات النصر

ولكن مجيء أبي سفيان لم يغير من الأمر شيئًا.. خرج المسلمون بالفعل من المدينة المنورة، وكان هذا الخروج في العاشر من رمضان سنة 8هـ، واتجهوا مباشرة إلى مكة المكرمة، وفي الطريق بدأت بشريات النصر تهبُّ على المسلمين؛ إذ لقي المسلمون العباس بن عبد المطلب عم الرسولومن أحب الناس إلى قلبه مهاجرًا قبل أن يصل الرسول إلى مكة المكرمة؛ وذلك أسعد الرسول، وسُرَّ سرورًا عظيمًا برؤية العباس، وانضم العباس إلى قوة المسلمين، وسوف يكون له دور إيجابي في فتح مكة المكرمة.

وأكمل الرسول الطريق فوجد المسلمون أبا سفيان بن الحارث وعبد الله بن أمية، أحدهما ابن عم رسول الله، والثاني ابن عمة الرسول، وكانا من أشد الناس على رسول الله، وجاءا من مكة المكرمة إلى المدينة ليعلنا إسلامهما بين يدي رسول الله.. ومن شدة إيذائهما للرسول رفض في البداية أن يقابلهما، ولولا أن السيدة أم سلمة رضي الله عنها -وكانت مصاحبة لرسول الله في الفتح- قد توسطت لهما، فقابلهما وأعلنا التوبة الكاملة بين يديه.. وهذه كانت بشريات لفتح مكة.

وصل الصحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم- إلى مر الظهران، ومر الظهران تبعد عن مكة المكرمة حوالي اثنين وعشرين كيلو مترًا، وهناك التقت القبائل المختلفة من قبائل فزارة، ومن قبائل بني سليم، ومن غطفان، ومن مزينة، ومن جهينة، ومن كل مكان عشرة آلاف جندي.. فالوضع عند مر الظهران هو نفس الوضع في غزوة الأحزاب، ولكن بصورة معكوسة، وتلك الأيام نداولها بين الناس؛ فمنذ ثلاث سنوات حوصرت المدينة بعشرة آلاف مشرك، والآن تحاصر مكة بعشرة آلاف مسلم، العدد هو نفس العدد، ولكن شتَّان بين الفريقين.
دخول مكة وعفو الرسول

ثم دخلت الجيوش الإسلامية مكة من كل مكان، ولم تلق قتالاً يذكر إلا عند منطقة في جنوب شرق مكة اسمها منطقة الخندمة، وتزعم عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية أوباش قريش، وقاتلوا في هذه المنطقة خالد بن الوليد t بفرقة قوية من الفرسان، ومع كون خالد t صديقًا قديمًا وحميمًا لعكرمة بن أبي جهل ولصفوان، إلا أنه كان متجردًا تمام التجرد، وقاتل قتالاً شديدًا رائعًا تطاير من حوله المشركون، وما هي إلا لحظات حتى سارت الفرقة المشركة ما بين قتيل وأسير وفارٍّ، وهرب صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل من مكة المكرمة، وخمدت المقاومة تمامًا، وفتحت مكة أبوابها لخير البشر -عليه الصلاة والسلام- يدخلها آمنًا مطمئنًا عزيزًا، ويضرب الرسول للعالم مثلاً إسلاميًّا في الصفح يبقى إلى يوم القيامة، قال: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن".

ومن عبقرية الرسولإعلاء شأن أبي سفيان عند فتح مكة؛ إذ خص الرسول -عليه الصلاة والسلام- أبا سفيان بخصيصة تجعله متميزًا على أقرانه من أهل مكة، وأعطاه رسول الله شيئًا بلا خسارة، ويكسب قلب أبي سفيان بإعطائه شيئًا يفخر به، وهو شيء ينفع ولا يضر.

ولعل هذه هي لحظات السيرة النبوية التي مسحت آثار رحلة طويلة من المعاناة والألم، وهي اللحظة التي انتظرها المسلمون أكثر من عشرين سنة.. وسار الموكب المهيب الجليل حتى دخل صحن الكعبة؛ ليبدأ الرسول -عليه الصلاة والسلام- ومن اللحظة الأولى في إعلان إسلامية الدولة، وربانية التشريع، وليرسِّخ القاعدة الأصيلة {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} [الأنعام: 57].






آخر مواضيعي 0 وحشتونى
0 قـالـوا : هل رأيت من هو أسخى منك ؟ قـال : نـعـم
0 أمراض لا يراها الناس
0 كيف تجعلين زوجك يصغي اليك
0 الخروج من اللوحهَ
رد مع اقتباس
قديم 08-10-2011, 01:58 AM رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
ابو عمر المصرى

الصورة الرمزية ابو عمر المصرى

إحصائية العضو









ابو عمر المصرى غير متواجد حالياً

 
إرسال رسالة عبر Yahoo إلى ابو عمر المصرى

افتراضي رد: انتصارات رمضانية

معركة النوبة .. فتح من الفتوحات الرمضانية


من ضمن المعارك والفتوحات العظيمة التي حفل بها شهر رمضان المبارك معركة فتح النوبة التي حدثت في العام الحادي والثلاثين من الهجرة النبوية المباركة، والتي كان من أهم آثارها معاهدة القبط التي كانت فاتحة خير على المسلمين في البلاد الإفريقية.

لما قام عمرو بن العاص بفتح في مصر في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أرسل عمرو بن العاص حملة عسكرية بقيادة عقبة بن نافع لفتح بلاد النوبة التي تقع في جنوب مصر، لكن المسلمين فوجئوا في هذه المعركة بأن النوبيين يجيدون رمي السهام، فقد أصاب النوبيون من المسلمين عددًا كبيرًا بتلك السهام، وأصيب كثير من المسلمين في حدق عينهم من جرَّاء النبل، فسموا (رماة الحدق).

وكان من نتيجة هذه الحملة أن تم التوافق على هدنة بين المسلمين والنوبيين، واستمر الصلح حتى كان عصر خلافة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، وكان قد عزل عمرو بن العاص عن مصر وولّى مكانه عبد الله بن أبي سرح، فنقض النوبيون الصلح وهاجموا صعيد مصر، فما كان من ابن أبي سرح إلا أن خرج في جيش تعداده عشرون ألف مقاتل، وسار إلى دنقلة عاصمة النوبيين وحاصرها وضربها بالمنجنيق حتى استسلموا وطلبوا الصلح.

وتصالح المسلمون والنوبيون في شهر رمضان من العام الحادي والثلاثين بعد الهجرة على بنود من أهمها:
1- حفظ من نزل بلادهم من مسلم أو معاهد حتى يخرج منها.
2- رد من لجأ إليهم من مسلم محارب للمسلمين وإخراجه من ديارهم.
3- حفظ المسجد الذي بناه المسلمون في فناء المدينة وألاّ يمنعوا منه مسلمًا.
4- أن يدفعوا للمسلمين كل عام ثلاثمائة وستين رأسًا من أوسط رقيق بلادهم، وكان القوم مشهورين بكثرة الرقيق عندهم.
5- في مقابل ذلك لهم عند المسلمين أمان فلا يحاربونهم ولا يغزونهم.

وقد قيل إنه في مقابل الرقيق الذي يأخذه المسلمون منهم يعدونهم بدلاً منه قمحًا وعدسًا، هذا كان العهد الذي تم بين المسلمين وأهل النوبة، وقد رفع هذا الصلح إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه فأقره.

وإن هذا لعهد -إن أمعنَّا النظر فيه وتأملناه جيدًا- نرى في بنوده معالم للسياسة الشرعية في الإسلامية، ومعالم واضحة للعلاقات الخارجية للدولة الإسلامية.

فنرى أن رد النوبيين المسلم المحارب للمسلمين وإخراجه من ديارهم يعد أمرًا مهمًّا جدًّا، فهو يمنع من تكتل وتجمع الخارجين عن النظام الشرعي للدولة الإسلامية وعلى ولاة الأمر الذين يحكمون بما أنزل الله، وبالتالي لا تكون هذه الجهة مركزًا للاعتداء على الدولة الإسلامية من بعض الأفراد الخارجين على ولاة الأمر، وبالتالي حماية الدولة الإسلامية والتأكيد على وحدتها.

ونرى أن حفظهم للمسجد الذي بناه المسلمون في فناء المدينة هو الأثر الأهم والنتيجة العظمى لهذا الصلح الطيب؛ فوجود المسجد وعدم التعرض للمسلمين في المدينة يعني انتشار الإسلام بين الناس، ولأن المسجد في الإسلام مكانته عظيمة وهو منطلق الدعوة ومركزها، وكان أول شيء يقوم به المسلمون في أي مكان يدخلونه هو بناء المسجد؛ اقتداءً بنبيهم صلى الله عليه وسلم الذي بنى مسجدًا بالمدينة بمجرد وصوله إليها. ومع اشتراط حفظهم لمن يدخل بلادهم من المسلمين فهذا يعني انتشار الإسلام بسهولة ويسر؛ حيث إن تجار المسلمين والمسافرين الذي لا يتوقفون عن الحركة على مدار العام سيعملون على دعوة الناس إلى الإسلام، في حين أن هؤلاء الدعاة من التجار وغيرهم يكونون في مأمن، طالما كانوا في أرض النوبة فلا يتعرض لهم أحد.

وهنا شبهة يرددها الصليبيون الحاقدون على الإسلام وأهله، يجب أن نفندها ونبيِّن كذبهم وافتراءهم فيها، فهم يدعون أن هذه الاتفاقية كانت تجبر أهل النوبة -وهم نصارى على حد زعمهم- على بيع أولادهم للمسلمين كي يتقوا شرهم، فيحاولون إيهام الناس أن ذلك العدد من الرقيق الذي يجب على النوبيين إرساله للمسلمين سنويًّا، كانوا أبناء النصارى، وهذا كذبٌ وافتراء؛ فالاتفاقية تنص على تسليم ثلاثمائة وستين رأسًا من أوسط رقيقهم، ولا تنص على ثلاثمائة وستين رأسًا من أوسط فتيانهم أو شبابهم. والمعنى واضح والفرق شاسع بين اللفظين، فشتان شتان بين الرقيق والفتى أو الشاب.

لقد كان لهذا الصلح أثر عظيم في انتشار الإسلام في بلاد السودان وجنوبها، لقد استغل المسلمون الأوائل هذه المعاهدة في نشر الإسلام في تلك البلاد، وكان المسجد الذي بناه المسلمون في فناء دنقلة مركزًا لنشر الإسلام في بلاد النوبة وجنوبها، وإن هذا الصلح ليؤكد كذب الذين يدعون بأن انتشر بحد السيف! فليخبرونا إذن كيف أسلم أهل النوبة والسودان وتلك البلاد النائية في إفريقيا التي لم تصلها جيوش المسلمين في أي عصر من العصور؟!

إن هذا الصلح ليؤكد براعة وذكاء وفهم المسلمين الأوائل للواقع الذي يعيشونه وكيفية التعامل مع هذا الواقع بشكلٍ يخدم مصالح الأمة الإسلامية ويعمل على نشر الدين الإسلامي ولا يتعارض مع أحكام شريعة رب السماء جل في علاه، ولا سُنَّة نبيه المصطفى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وإن هذه هي السياسة التي يجب أن نتعامل بها ويجب أن نتعلمها؛ فلن يعود للإسلام عزه ومجده ولن تعود للأمة كلها القيادة والريادة في هذا العالم إلا باتباع هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، والنظر في أفعال سلفنا الصالح الصحابة والتابعين.
المراجع:

- من معارك المسلمين في رمضان للعبيدي.
- الكامل في التاريخ لابن الأثير.
- فتوح البلدان للبلاذري.






آخر مواضيعي 0 وحشتونى
0 قـالـوا : هل رأيت من هو أسخى منك ؟ قـال : نـعـم
0 أمراض لا يراها الناس
0 كيف تجعلين زوجك يصغي اليك
0 الخروج من اللوحهَ
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر


ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:35 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Content Relevant URLs by vBSEO 3.6.0 (Unregistered) Trans by

شبكة صدفة

↑ Grab this Headline Animator