نافذة على دار الجحيم
إن المسلم يعلم أن هذه الحياة تنتهي بالموت، ثم يتقرر مصيره إما إلى الجنة أو النار، ولا شكَّ أن العاقل حريص على أن يكون من أهل الجنة، وألا يكون من أهل النار،والمسلم من سلك طريق الجنة وإن كان صعبًا وشاقًّا، وترك طريق النار وإن كان سهلاً ميسورًا؛ فإن دعاة النار قد شقَّوا على جوانب طريق الجنة الوعر طرقًا فرعية عبَّدوا أولها ليخدعوا الناس، وأقاموا على جوانبها المقاهي والملاهي والمطاعم، وتخرج منها أصوات الموسيقا والغناء؛ يحسبها الجاهل مقاهي ومطاعم حقيقية، وما هي إلا أماكن خادعة أعدت لهدم الدين والأخلاق؛ فمن دخلها خرج منها مفلسًا، خسر الدنيا والآخرة، وربما حمل معه الأمراض وخسر صحته وماله، ومع ما في هذا الطريق من الهمِّ والحزن والضيق والنكد، قد ترى فيه كثرة السالكين ولكن نهايته نار جهنم.
على المسلم أن يقف على أهوال النار ويطول فكره فيها؛ فإن من طال فكره في أهوال النار خاف على نفسه فاتقى الله ووقف عند حدوده وأدَّى فرائضه؛ فقد خلق الله الجنة وجعلها لمن أطاعه ولو كان عبدًا حبشيًّا، وخلق النار وجعلها لمن عصاه ولو كان حرًّا قرشيًّا، وقد ضمن الله لمن خافه في الدنيا أن يؤمِّنه يوم القيامة، ومَنْ أمن الله في الدنيا فارتكب حدوده أخافه الله يوم القيامة؛ ولست أعني بالخوف رقَّة كرقَّة النساء تدمع العين ويرق القلب حال السماع، ثم تنساه عن قرب وتعود إلى لَهْوك ولعبك وعنادك لربِّك، لا ثُمَّ لا؛ ولكن مَنْ خاف شيئًا هرب منه، ومن رجا شيئًا طلبه، فلا ينجيك إلا خوفٌ يمنعك من المعاصي ويحثُّك على فعل الطاعات.
إن النار ليس لأحد صبر عليها، ولا لأحد عليها طاقة ولا قوة؛ فليست مصيبتها كالمصيبات، ولا حُزن أهلها كالأحزان، نبؤها عظيم، وشأنها خطير، وحزنها فظيع، وقعرها بعيد، وحرُّها شديد، وحليها حديد، وشرابها صديد، ولا يغفل عن الفرار منها والتعوذ من عذابها إلا سفيه أحمق خاسر؛ خسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين.
وجهنم – أجارنا الله منها – هي دار العذاب وعالم الشقاء؛ العذاب فيها أنواع متنوعة وصنوف مصنفة، وقد جمع الله فيها من صنوف العذاب وضروب الشقاء ما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر.
فيا أيها العاقل عن نفسه المغرور بما في هذه الحياة من ملهيات ومغريات وفتن وشهوات، إن الله جعل النار سجنًا لمن عصاه وتمرَّد على أوامره ونواهيه، وهذا السجن ليس كسجن الدنيا؛ ففي سجن الدنيا تجد الساقي إذا ظمئت، وتجد الراحة إذا تعبت، وتجد الفراش إذا نمت، وتتصل على أهلك إذا اشتقت؛ أما نار جهنم فهيهات هيهات أن تجد الراحة فيها أبدًا؛ فليس فيها شيء من هذا كله ولا ما يقاربه؛ بل يسكنه الله دارًا ضيقة الأرجاء، لا يسمع فيها النداء، ولا يرحم فيها البكاء، وما هم منها بمخرجين.
وإليك بعض ألوان العذاب في هذا السجن لتعرف الفرق بين السجنين، أجارنا الله من جهنَّم وما يقرب إليها من سوء:
كيف يخرجون من قبورهم ويساقون إلى هذا السجن؟ يقول الله تعالى:( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ )[الزمر: 71]؛ فتسوقهم الملائكة رجالاً ونساءً سَوْق الدواب وقطع الغنم زجرًا وضربًا، ولهم بكاء وصراخ وأهوال وغموم وحسرات وزفرات، فلا يدرون إلى أي جهة يتجهون؟ وهذا في الحقيقة صعب على الإنسان أن يُقاد إلى مكان لا يعلم الجهة التي يؤخذ إليها، فإذا وصلوا أمام جهنم وهم فزعون يدفعون فتحت أبوابها السبعة، وزفرت زفرة طيرت عقولهم من رؤوسهم، ثم تلفح وجوههم النار، ويستقبلهم لهبها؛ تصور لو وقفت أمام نار الدنيا وبينك وبينها مسافة ألا تحس بحرارتها؛ فإذا بعُدت منها خفَّت حرارتها، قد يكون بينك وبينها متران أو خمسة أمتار وتجد لفحها، ولكن نار الآخرة تصل حرارتها على بُعد مائة سنة، قال ابن عباس في قوله تعالى
إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ) (الفرقان:آ]ة12)قال: من مسيرة مائة عام فتشوي وجهه، فكيف بمن وقف على أبوابها ووقع فيها.
ومن شدَّة حرارتها لا يتقدمون إليها مع أنهم يضربون ضربًا شديدًا؛فتدفعهم الملائكة دعًّا أي دفعًا، فيخرُّ الواحد منهم على وجهه (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ{ م ن