تطور أسماك إلى حيوانات رباعية الأرجل
تلقي الاكتشافات الحديثة للأحافير(1) الضوء
على تطور أسماك إلى حيوانات رباعية الأرجل.
A.J.كلاك
نظرة إجمالية/ أصل رباعيات الأرجل
كان ظهور الفقاريات المتحولة إلى اليابسة حدثا يعتبر حجر الزاوية في تطور الحياة على الأرض.
لعقود، أربك السجل الأحفوري (الإحاثي) الرديء الجهود المبذولة لتتبع الخُطى التي أدت إلى إنتاج رباعيات الأرجل الأرضية هذه من أسلافها السمكية.
سدت الأحافير (المستحاثات) المكتشفة على مدى ال15 سنة الماضية الكثير من الثغرات في القصة، وأحدثت ثورة فيما هو معروف عن تطور رباعيات الأرجل وتنوعها وجغرافيتها الحيوية وإيكولوجيتها القديمة. وتدل هذه المكتشفات الحديثة على أن رباعيات الأرجل قد طورت الكثير من خصائصها وهي لاتزال تعيش في الماء، كما أنها تبين أن الأفراد المبكرة للمجموعة كانت أكثر تخصصا وأكثر انتشارا جغرافيا وإيكولوجيا عما كان معتقدا.
في خلال نحو أربعة بلايين سنة منذ بدء الحياة على الأرض، أحدث التطور بعض التحولات المدهشة. ومن المؤكد أن أحد أكثر هذه التحولات إثارة هو ذلك الذي أدَّى إلى ظهور مخلوقات تحمل أرجلا وأصابع من أسماك مرتبطة بالماء ولها زعانف. وفي عصرنا الحالي فإن هذه المجموعة ـ رباعيات الأرجل ـ تشمل كل شيء بدءا من الطيور وأسلافها من الدينوصورات حتى العظايا والثعابين والسلاحف والضفادع والثدييات بما فيها نحن. وقد حورت بعض هذه الحيوانات أطرافها أو فقدتها، غير أن سلفها المشترك كان يملكها ـ اثنين في الأمام واثنين في الخلف ـ حيث كانت الزعانف تضرب بدلا منها.
وقد كان إحلال الأطراف محل الزعانف خطوة حاسمة في هذا التحول، ولكنها لم تكن ـ بأية حال ـ الخطوة الوحيدة. فعندما غامرت رباعيات الأرجل بالانتقال إلى الشاطئ واجهت تحديات لم يصادفها أي حيوان فقاري من قبل، فلم يكن ذلك مجرد نمو أرجل ومشي، فاليابسة وسط يختلف اختلافا جوهريا عن الماء، وفرض غزوه على رباعيات الأرجل أن تطور وسائل جديدة لكي تتنفس وتسمع وتقاوم الجاذبية... وتمتد القائمة. وما إن اكتملت هذه التحولات البالغة، أصبحت اليابسة ملكا لها لتستثمرها.
وحتى 15 عاما مضت لم يكن علماء الأحافير (الإحاثة) يفهمون سوى القليل عن تسلسل الأحداث التي أدت إلى التحول من الأسماك إلى رباعيات الأرجل. لقد عرفنا أن رباعيات الأرجل تطورت من أسماك لحمية الزعانف تماثل الأسماك الرئوية والأسماك المجوفة الأشواك coelacanth الحالية، وهي علاقة كان أول من اقترحها عالم الأحافير الأمريكي <D.E.كوب> في أواخر القرن التاسع عشر، إلا أن تفاصيل هذا التحول الأساسي ظلت مختفية عن الأنظار. إضافة إلى ذلك، إن التقديرات عن متى أصبح هذا الحدث معروفا وظاهرا تختلف كثيرا وتتراوح من 400350 مليون سنة مضت خلال العصر الديکوني. وقد تمثلت المشكلة في أن السجل الأحفوري الوثيق الصلة بالموضوع كان ضئيلا، ويتألف أساسا من سمكة وحيدة من هذا النوع ـ يوسثينوپتيرون Eusthenopteron ـ ورباعي أرجل من العصر الديکوني ـ إكثيوستيگا Ichthyostega ـ وكان متقدما جدا يصعب معه توضيح أسس رباعيات الأرجل وجذورها. مليون إلى
الصعود من أجل الهواء: كانت الأكانثوستيگا، وهي حيوانات رباعية الأرجل مبكرة، تصعد إلى السطح في مستنقع (فيما يعرف حاليا بشرقي گرينلاند) قبل نحو 360 مليون سنة. ومع أن هذه الحيوانات كان لها أربع أرجل، فإنها لم تكن قادرة على حمل أجسامها على اليابسة. وبناء على ذلك فبدلا من تطوير الأرجل كتكيف للحياة على اليابسة، يبدو أنها في البداية عملت على مساعدة الحيوان على رفع رأسه خارج المياه الفقيرة في الأكسجين لكي يتنفس، وأنها في وقت لاحق اكتشفت استخدامها للوصول إلى الشاطئ.
ومع هذه المفاتيح الضئيلة والقاصرة لم يكن أمام العلماء سوى الحدس والظن في طبيعة ذلك التحول. وربما كان أكثر السيناريوهات المعروفة الناتجة من هذا العمل التخميني ذلك الذي قاده عالم الأحافير الفقارية <Sh.A.رومر> [من جامعة هارکارد] الذي اقترح في الخمسينات أن أسماكا مثل «يوسثينوپتيرون» جنحت تحت ظروف الجفاف واستخدمت أطرافها العضلية لتحريك نفسها إلى مساحة مائية جديدة. وبمرور الوقت، هكذا اتجهت الفكرة، تم انتقاء (انتخاب) تلك الأسماك القادرة على تغطية مسطحات أرضية أكثر والوصول إلى مصادر مائية أبعد، مما أدى أخيرا إلى نشأة أطراف حقيقية. وبمعنى آخر، إن الأسماك خرجت من الماء قبل أن تتطور لها أرجل.
ومن ناحية أخرى، ظهرت منذ ذلك الحين إلى حيز الضوء أحافير كثيرة تدعم هذا التحول. وقد وسعت هذه الاكتشافات مفهومنا لهذه المرحلة الخطيرة من تاريخ الحياة على الأرض على نحو متزايد، وهاجمت الأفكار القديمة الغامضة عن التطور المبكر لرباعيات الأرجل وتنوعها وجغرافيتها الحيوية وإيكولوجيتها القديمة.
إيجاد موطئ قدم
كان بين أولى الأحافير المكتشفة التي تمهد الطريق لمفهومنا الحديث عن أصول رباعيات الأرجل، تلك لمخلوق يسمى «أكانثوستيگا» عاش قبل نحو 360 مليون سنة فيما هو حاليا شرقي گرينلاند. وكان أول تعرّفه عام 1952 بوساطة <E.چارفيك> [من المتحف السويدي للتاريخ الطبيعي باستوكهولم] على أساس سقفي جمجمتين غير كاملين، إلى أن عثرتُ وزملائي عام 1987 على عينات توضح الهيكل خلف القرنيومي(2) للأكانثوستيگا.
إن الكثير من المبتكرات الحاسمة نشأ فيما كانت هذه الحيوانات بَعْدُ مائية على نطاق واسع.
ومع أن هذا الحيوان أثبت في كثير من الوجوه أنه تشريحيا وسطٌ بين الأسماك ورباعيات الأرجل الكاملة النضج كما تخيلها الخبراء، فإنه كشف عن قصة مختلفة عما كان متنبّأ به. فها هنا كان مخلوق له أرجل وأقدام، ولكنه فيما عدا ذلك لم يكن مجهزا للحياة على الأرض. فأطراف الأكانثوستيگا كان ينقصها رسغيات القدم ankles الحقيقية التي تدعم ثقل الحيوان على اليابسة وتبدو أكثر شبها بمجاديف للسباحة، ورغم أنه كانت لها رئات فإن ضلوعها الصدرية كانت قصيرة جدا لدرجة لا تسمح بمنع انهيار تجويف الصدر عند خروجها من الماء. وفي الواقع لا يمكن إنكار أن الكثير من مظاهر الأكانثوستيگا وخصائصها كانت تشبه الأسماك، فقد أوضحت عظام الساعد نِسَبًا تذكر بالزعنفة الصدرية لسمكة اليوسثينوپتيرون، كما أظهرت مؤخرة الهيكل ذيلا عميقا يشبه المجداف تبدو به أشعة عظيمة طويلة كانت مجهزة غالبا كهيكل للزعنفة. هذا إضافة إلى أنه كانت للحيوان خياشيم إلى جانب الرئات.
ويوحي التشابه السمكي بأن أطراف الأكانثوستيگا لم تكن مكيفة للاستخدام في الماء فحسب، وإنما كانت أيضا الحالة السليفية لرباعيات الأرجل. وبمعنى آخر، إن هذا الحيوان رغم كونه رباعي أرجل بوضوح، فقد كان في البداية مخلوقا مائيا، أسلافه المباشرة لم تترك الماء قط. وقد أجبر الاكتشاف الدارسين على إعادة التفكير في كيفية تسلسل حدوث قائمة التغيرات في الهيكل. لقد أثبتت الأحافير الجديدة أن رباعيات الأرجل طورت هذه الخصائص وهي لاتزال تعيش في الماء، وأنها اختارتها للمشي لاحقا، بدلا من تصور أن مخلوقا مثل يوسثينوپتيرون زحف على اليابسة، ثم اكتسب أرجلا وأقداما؛ كما افترض <رومر>. ومن ثم، فهذا يعني أن الباحثين كانوا بحاجة إلى إعادة النظر في الظروف الإيكولوجية التي أدت إلى نمو الأطراف، لأن الأكانثوستيگا أوضحت أن متطلبات الحياة على الأرض ربما لم تكن هي القوة الدافعة في تطور رباعيات الأرجل.
احتلت الأكانثوستيگا مكانة الحلقة المفقودة بين رباعيات الأرجل الأرضية وأسلافها المائية؛ بيد أن خاصية من خصائص الأكانثوستيگا لم تكن تدعو إلى التذكير برباعيات الأرجل ولا بالأسماك. كان كل طرف من أطرافها ينتهي بقدم تحمل ثماني أصابع حسنة التكوين بدلا من الخمس المألوفة. وكان هذا عجيبا حقا، حيث كان يعتقد علماء التشريح قبل هذا الاكتشاف أنه في أثناء التحول من الأسماك إلى رباعيات الأرجل نشأت القدم ذات الأصابع الخمس مباشرة من العظام المكونة لزعنفة اليوسثينوپتيرون أو مخلوق مشابه له. وكان من الجائز أن يصرف العلماء النظر عن ذلك، كالمعتاد، باعتباره عينة شاذة؛ غير أن هيكلا جزئيا غامضا للتيوليرپيتون Tulerpeton، وهو رباعي أرجل مبكر من روسيا سبق معرفته ـ كانت له قدم ذات ست أصابع، وعينات أخرى للأكانثوستيگا تم العثور عليها في أثناء بعثتنا إلى شرقي گرينلاند كشفت أيضا عن قدم بأكثر من خمس أصابع.
لقد ساعدت أبحاث البيولوجيا التكوينية على إزالة بعض هذا الغموض. فنحن نعلم حاليا أن العديد من الجينات بما فيها سلسلة هوكس Hox والقنفذ الصوتي Sonic Hedgehog تتحكم في عناصر تكوين الزعانف والأطراف. وهذه المجموعات نفسها من الجينات توجد في الأسماك ورباعيات الأرجل ولكنها تؤدي وظائف مختلفة في كل منهما. فعلى سبيل المثال يبدو أن مثيلاتها Hoxd 11 و Hoxd 13 تقومان بدور أكبر في رباعيات الأرجل، وحيث تكون مناطقها في برعم الطرف أوسع ومنحرفة مقارنة بمثيلاتها في برعم الزعنفة بالأسماك. وتتكون الأصابع في هذه المناطق ويبقى تحديد كيف تتطور القدم ذات الخمس أصابع من القدم ذات الثماني أصابع للأكانثوستيگا؟ ولكنْ لدينا تفسير مقبول للكيفية التي صارت بها القدم ذات الخمس أصابع هي نمط رباعيات الأرجل الخطأ: وهو أنه ربما ساعدت على تكوين روابط للرسغيات يتوافر فيها ثبات يكفي لحمل الوزن، ومرونة تكفي للسماح بطريقة المشي التي ابتدعتها رباعيات الأرجل فيما بعد.
التحول إلى رباعيات الأرجل
إن تطور رباعيات الأرجل الأرضية من أسماك مائية فصِّية الزعانف تضمن تحولا جذريا في الهيكل. فمن بين تغيرات أخرى أصبحت الزعانف الصدرية والحوضية أطرافا لها أقدام وأصابع، وأصبحت الفقرات متشابكة بعضها مع بعض، واختفت الزعنفة الذيلية وسلسلة من العظام التي ربطت الرأس بحزام الكتف (هياكل)، وفي الوقت نفسه استطال البوز واختفت العظام التي غطت الخياشيم والحلق (جماجم).