الأمومة العذراء
في شرود عميق جلست "تهاني" أمام نافذتها الصغيرة تمضغ أيامها الفائتة.. تسيل علي خدودها المتغضنة قطرات ساخنة من عيونها الكسيرة .. لفائف من ذكريات طواها عمرها الطويل يفردها أمامها واقعها الذى تعيشه الآن .. تسمع صوت أمها البعيد يوصيها بأن تكون الأم من بعدها.. ويخفت صوت الأم .. لتسمع ذلك الصوت الخشن الذي أراد لها أن تكون السُلم الذي لابد وأن يصعد عليه إخوتها الصبيان .. ترضخ صاغرة .. تعمل بكل همة لتلبي وصية أمها ..ورجاء أبيها .. دق "العرسان" بابها -خلال انهماكها في المطبخ والأعمال المنزلية وتلبية رغبات كل فرد ممن رضيت أن تحمل مسؤوليتهم- فرِفُضوا جميعهم .
رفضت فكرة الانفصال عن أبنائها التى لم تنجبهم، والتفكير في حياتها إلي حين !! .. ولكن فلتت من بين أصابعها الأيام .. فنسيها العرسان .. لكنها لم تنسهم .. فاليوم الذي أدت فيه رسالتها بحثت حولها عنهم .. فلم تجد سوى أصوات صغار جدد .. ليتوالي بئر العطاء..
صعد كمال ومحمود ويسري علي أكتافها حتى كان منهم المهندس والمحاسب والطبيب.. وتزوج كل منهم وأنتجوا أفواهاً أخري تصرخ بطلباتها .. والكل ينظر إلي تهاني وحال عيونهم يقول: هيا أقيمي سُلمكِ من جديد حتى يصعد الصغار الجدد..
تتقبلهم تهاني قبولاً حسناً وتبدأ دورة جديدة من الأمومة العذراء .. تسقيهم الحب من صدر ضامر .. وحضن جف علي عوده دون أن ينكسر أو يلين..
ويكبر أولاد الأخوة وكأنهم أحفادُها .. يرطنون حولها بكلمات لا تفهمُها .. ومصطلحات ثقيلة علي مسامعها .. تصمت فاغرة فاها .. واسعة عيونها ..
يضحك منها الكبار والصغار وكأنها أتت إليهم من عالم أُبيد وتركها حائرةً لا تعرف أين ملجؤها!!
وفي يوم سمعت حواراً بين حفيد وأخته يدور حول العلم والخالق .. والطبيعة ووجوديتها.. فشعرت بثمةَ خطراً في عقيدتهم .. فأرادت أن تتدخل في الحوار.. فما كان من الحفيد إلا أنه ضحك بملئ فِيه قائلا: انتهت دولتك يا عمتي.. يكفيكِ المطبخ .. حتى مطبخك انتهت نكهاته القديمة الآن يقدم لنا "الشيف" الأكلات الغربية والشرقية الجديدة الرائعة ..
تشجعت الحفيدة وقالت في سخرية: تعرفي "السي فود يا عمتو "؟؟
ضحك الحفيدان وهما ينظران إلي بعضهما فخرا بما يعلمون.. متجاهلين هذه العمة المتفانية المخلصة.
صمتت تهاني قليلا قائلة بصوت رزين: ما أنتم وآباؤكم إلا فتات مائدتي أيها الجاحدون .
ثم قررت أن تغرب عن سماء الجميع ليعرفوا أنها ليست ترساً قديماً في آلتهم الخربة.