أصعد فوق سطح منزلنا ذي الأدوار الثلاثة الذي يرقد تحته مقهى صغير .. أمارسهوايتي في مراقبة مجاميع رواد هذا المقهى ..
أجد أصنافاً متنافرة من البشر تتجمع كل فئة في دائرة صغيرة .. شباب الجامعةيبدءون يومهم بكوب الشاي والشيشة التفاح.. عمال بناء ينتظرون المقاول الذي يعطيهمالأوامر بالعمل .. بعض الركاب ينتظرون "الأتوبيس" .. أصحاب معاشات تعودوا الاستيقاظ مبكرا .. وأفراد من عابري السبيل لا أحد يعرف من أين أتوا وإلي أينوجهتهم.
أربعة من أصدقاء المعاش أثاروا فضولي جدا .. فهم أكثر الفئات بقاءً في المكانوأكثرهم ثراءً لإرضاء فضولي.. كنت أجدهم أكثر أناقة وأكثر جدية ووقاراً..
أراقبهم عن بعد .. حتى إذا ما خَفَّتْ القدم عن المقهى ولم تبق إلا دائرتهم الرباعية .. نزلت إلي الدور الأول حتى تكون أذني معهم لتمتزج المشاهدة بالسمع ..
دائما يديرون الحوارات التى يستهويها عقلي.. حتى أصبحوا هم مدرستي الجديدة بعدأن تخرجت حديثا من كلية الآداب .. أتلصص علي عقولهم وأنهل منها الخبرة والوعي دونأن يدري أحدهم بهذا.
وذات يوم مثقل بالأفكار سمعت أحدهم يسأل : ماذا لو وجد أحدنا أكسير الحياة وعدناشبابا ..
قهقه أحدهم قائلا: أنت مثلي تساورك فكرة عودة الشباب؟!!
وتنهد أخر : إييييه .. شباب .. شباب.. ليته يعود يوما كما يقولون .
وطأطأ الأخير رأسه وفرقع أصابعه .. نظر حوله كمن يبحث عن شبابه الذي فارقه .. نقر صلعتهنقرتين كمن يستجلب الإجابة ثم صمت.
فقال صاحب الفكرة : هيا نحلم قليلا .. ولتكن هذه الفكرة لعبتنا اليوم.. كل منايقول ماذا هو فاعل إذا عاد إليه شبابه؟
وسأبدأ بأحلامي أنا .. لو عاد الشباب سأترك مهنة التعليم وسأصبح تاجراً .. فلديطاقات غير عادية في هذا المجال.. أنا أستطيع أن أبيع لكم الهواء معبأً في زجاجات .. ولكن مهنتي كانت تمنعني.. سأجاهد لأكون ثريا وأجلس فوق تلالٍ من الأموال التىتجعلني وصياً علي هذا العالم.. وأُسَيَّرَه وفق إرادتي.
ثم قال الثاني: لو عاد الشباب لعشت حياتي بطولها وعرضها دون معوقات .. دون نكدزوجي.. فالنساء كلهن "نكديات" مُكبِلات مُكمِمات لأفواه أزواجهن .. كنت سأعيش دونأولاد يعشقون نهب كل جنيه أكسبه في حياتي .. وربما تمنيت ألا أكون ضابطا أو منضبطا .. سأشطب حروف (ض – ب – ط) من بين أبجدية لغتنا.. سأكسر قيود البيت والعمل حتى لاأكون كارها ولا مكروها.
اعتدل الثالث وقال: لو عاد الشباب لصنعت بيتاً رائعا تسكنه معي فتاة جميلة .. تحايلت عليَّ في الصبا حتى أتزوجها ولكن تمردي جعل الحياة تمر بى دون أن أدري.. كسبت من الأموال الكثير .. ولبست ثوب الحرية الفضفاض.. اختلط الحلال بالحرامعندي.. وعندما تلفت حولي وجدتني وحيدا بين حوائط باردة وسكون قاتل وأوراق نقدية لاأستطيع بها شراء أحلامي.. فالفتيات الجميلات كُثر ولكنى أصبحت لا أصلح لهن ..لمأحصل علي أجمل لقب "أب" حتى أنني اليوم كلما مر بى شاب أو فتاة خلتهم أبنائي منصلبي واغتصبتني فكرة الاقتراب منهم وفرض أبوتي عليهم.
نظر الرابع إليهم بهدوء وهو مازال ينقر صلعته: تضاربت الأمنيات لتصبح أمنيتيالوحيدة ألا يعود الشباب.. لأنني في النهاية سأصل لنفس المصير وسأعيش مرارة ذهابالشباب مرتين.
ضحك الجميع . . إقراراً بانتهاء اللعبة.