يا ليت والدي وقومى يعلمون
هذا فتى مات في ريعان شبابه اختطفه الموت وهو أوسع الناس أملاً في العيش وأكثرهم رجاءً في متاع الحياة الدنيا
مات على إسراف منه بالمعاصي ، فماذا عساه أن يقول لأبيه المفرّط في تربيته لو لقيه في هذه الدنيا لعله أن
يقول : يا أبتي لقد رأيت ثمار ذنوبي وهي آثار تربيتك رأيت هذه الثمار ناراً تلظى وجحيماً لا يطاق
يا أبتي لقد كنت في حياتي تُعنى كثيراً بلباسي ومأكلي ومشربي ولكنك لم تكن تُعنى بقلبي وروحي لقد أهملتني في بداية مراهقتي ، فلم توجهني إلى أصدقاء صالحين،لم تكن تهتم بما أصاحب من أقاربي وجيراني وزملاء دراستي ، لقد كانت فترة التأثير المثالي هي ما بين سن السابعة إلى سن الخامسة عشر وكنت تعلم وقتها
يا أبتي أن هذه المرحلة هي مرحلة تصويب الولد نحو الهدف الصحيح
، كنتُ أنا السهم وكنتَ أنت اليد والقوس والوتر ،
في هذه المرحلة كنا يـا أبتي نتلقن كل شيء ونحب كل شيء ونستطلع كل شيء
في هذه المرحلة كنا نقلب أنواع الأصدقاء في معرض الدنيا العريض ، أيهم ننتقي وأيهم نصاحب
كنا في هذه المرحلة العجيبة عجينةً غضةً تستطيع توجيهنا الوجهة الصالحة
يـا أبتي لكنك كنت وقتها تقضي أكثر أيام أسبوعك مع الأصدقاء أو مع الزملاء أو مع الأقارب وفي مرات كنت تتابع تجاراتك التي لم تزد من سعادتك بل حولت وجهك البشوش إلى صحراء من العبوس والتشاؤم
لم تكن يـا أبتي تهتم باهتمامات مباحة لذلك كُنت أبحث عنها عند أيّ أحد مهما كان مقصده في توفيرها لي ،
ثم إنك جعلت علاقتي بك كعلاقة مدير مؤسسة فاشل بمرؤسيه ، كانت علاقة الغطرسة والرسمية حتى أصاب علاقتي معك جفافاً وجفاءً وفجوة فلم أعد أقبل منك توجيهاً ولا نصيحة بسبب هذا الجفاء
، يـا أبتي لوأنك جعلتني صديقاً من أصدقائك لكان تأثيرك فيّ أكبر ولكنك كنت تعتبر هذه الصداقة مع أولادك ضرباً من التنازل الذي لا يليق برئيس مؤسسة محترمةٍ على حد زعمك ،
يا أبتي لو كنت أستطيع أن أقول غفر الله لك إهمالك في تربيتي لفعلت ، ولكنني حينما فارقت هذه الدنيا بذنوب ثقيلة فإنني لا أملك أن أستغفر لنفسي من ذنب واحد من ذنوبي فكيف بذنوب غيري
، ولكنك أنت الذي لازلت في دار المُهلة وتستطيع أن تستغفر لي ولنفسك ،
يـا أبتي : إن تسببك في انحرافي لن يخفف عني شيئاً من العذاب الذي لقيته ولكنني أدعوك إلى التوبة من إهمالك لي وأدعوك إلى أن تتدارك الأمر مع بقية أخوتي قبل فوات الأوان
، يـا أبتي تدارك نفسك بالتوبة وتدارك إخواني بحسن التربية فلعل صلاحهم أن يكون سبباً في نجاتي يوم الدين .
تصور لو أن أهل القبور خرجوا من قبورهم ، خرجوا بأكفان بالية ووجوه مغبرة ، خرجوا من سكون القبور وظلمتها إلى ضجيج الأرض وأضوائها ، فركوا عيونهم ، عركوا آذانهم ثم انطلقوا في أنحاء المدينة أشباحاً مهيبة ليحدثونا عن هول ما رأوا فماذا عساهم أن يقولوا بعد هول المطلع وسؤال منكر ونكير وحساب عسير ، وكيف يا ترى سيكون حديث الأموات للأحياء .
(م.ن)